الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1)
ما تتلو الشياطين على ملك سليمان: ما كانت تتلوه في عهد ملك سليمان.
(2)
وما أنزل على الملكين: ما ألهموه وما تلقوه.
(3)
بابل: اسم مدينة كانت عاصمة ملك الكلدانيين في العراق الذين كان منهم الملك نبوخذ نصر المشهور باسم بختنصر الذي نسف دولة اليهود في القدس ودمرها وسبى أهلها.
(4)
خلاق: نصيب وحظ.
(5)
شروا به أنفسهم: باعوا به أنفسهم.
(6)
لمثوبة: الجملة بمعنى أنهم لو آمنوا واتقوا لكان ثواب ذلك من عند الله هو خير لهم.
تعليق على آية وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ
…
والآية التالية لها وهما الحلقة التاسعة من السلسلة واستطراد إلى هاروت وماروت والسحر وحقيقته وحكمه
جمهور المفسرين على أن ضمير وَاتَّبَعُوا عائد لليهود والآيتان معطوفتان على ما قبلهما الذي فيه تنديد بأفعال اليهود وأقوالهم مما فيه تأييد لذلك. وهكذا تكون الآيتان حلقة تاسعة من السلسلة. ولقد روى الطبري عن أهل التأويل في
نزول الآية الأولى روايات عديدة منها أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن السحر وجادلوه وزعموا أن كتب السحر مروية عن سليمان. ومنها أنهم لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أن سليمان من أنبياء الله تعجبوا وأنكروا وقالوا ما كان سليمان إلا ساحرا وأنه كان يضبط الإنس والجن والريح. والروايات طويلة، وما تقدم خلاصة لها وليس شيء من الروايات واردا في كتب الصحاح، ويلحظ أن الآية الأولى لم تقتصر على نسبة السحر إلى سليمان وأن الآية الثانية منسجمة مع الأولى وأن الآيتين بسبيل التنديد باليهود لأنهم اتبعوا ما تتلوه الشياطين من السحر ونسبوه إلى سليمان، واتبعوا كذلك أعمال السحر التي يعلمها هاروت وماروت. وهذا ما يجعلنا نتوقف في الروايات كسبب لنزول الآية ونرجح أن الآيتين استمرار في حكاية أفعال اليهود وانحرافاتهم والتنديد بهم، ويجوز أن تكونا نزلتا لحدتهما كحلقة جديدة، ويجوز أن تكونا نزلتا مع الآيات السابقة ونحن نرجح هذا وقد تضمنت الآيتان تقرير كون اليهود لم يقفوا عند نقض كل عهد، وعند نبذ كتاب الله وجحود رسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء مصدقا لما معهم مع معرفتهم صدقه، بل اتبعوا ما كانت الشياطين يتلونه منذ عهد سليمان وأقوالهم وأفعالهم المأثورة التي كانوا يعلمون بها السحر. ونسبوا ذلك إلى سليمان كذبا فنسبوا بذلك إليه الكفر لأن أعمال السحر من الكفر. واتبعوا كذلك ما يتلو الملكان هاروت وماروت في بابل اللذان كانا يعلمان الناس السحر أيضا واللذان كانا مع ذلك لا يعلمان أحدا إلا بعد أن يقولا له إننا أو إن ما نعلمه فتنة وامتحان ويحذراه من الكفر ثم يتعلم منهما بعض الأعمال السحرية التي منها ما يفرق بين المرء وزوجه والتي تضرّ المتعلمين ولا تنفعهم والتي لا تضرّ مع ذلك أحدا إلا بإذن الله.
فاليهود اتبعوا ما يتلو الشياطين وهاروت وماروت وهم يعلمون أن الذي يسير في مثل هذه الطرق والأساليب مستحق لخزي الله وعذابه ومحروم من رضائه في الآخرة. ولبئس ما باعوا به أنفسهم. في حين أنهم لو آمنوا وصدقوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأيدوا الحق واتقوا الله في أعمالهم وأقوالهم ومواقفهم لكان ذلك خيرا ووسيلة قربى وثواب لهم عند الله.
والآيتان قويتا التعبير والتنديد وقد رجحنا أنهما في صدد اليهود السامعين المعاصرين. وينطوي فيهما والحالة هذه أن من هؤلاء من كان يتعاطى السحر ويعزوه إلى سليمان وهاروت وماروت. ولقد أوردنا في تفسير سورة العلق حديثا ذكر فيه اسم ساحر يهودي اسمه لبيد بن الأعصم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مما فيه تأييد لذلك.
ولقد أوردنا في سياق تفسير سورة طه نصوصا من أسفار العهد القديم فيها حكاية عن الله في شجب السحر والعرافة والنهي عنهما ورجم من يتعاطاهما وبهذا يستحكم التنديد الذي تضمنته الآيات باليهود.
وفي تفسير الطبري وغيره بيانات كثيرة معزوة إلى ابن عباس وغيره في صدد السحر الذي كان ينسبه اليهود إلى سليمان متفقة المدى على اختلاف في الصيغ خلاصتها أن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء ويوحون بما يسمعونه إلى الكهان ويزيدون عليه أكاذيب كثيرة وأنهم كانوا يعلمونهم السحر أيضا. وأن الكهان كتبوا ذلك وفشا في الناس حتى علم به سليمان فصادر هذه الكتب ودفنها تحت عرشه وأنذر كل من يتعاطى السحر ويزعم أن الشياطين يعلمون الغيب بالقتل. فلما مات سليمان جاء شيطان إلى الكهنة فقال لهم إني أريد أن أدلكم على كنز لا ينفد، فإن سليمان إنما كان يضبط الناس والجن والريح والطير والوحوش بالسحر. وإن كتب سحره مدفونة تحت عرشه فحفروا فوجدوها وصاروا يتداولونها ويتعاطون السحر على أن ذلك من صنع سليمان وظلوا على ذلك إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومهما كان من أمر هذه الروايات فإن الآية الأولى قد تضمنت حكاية ما كان من تعاطي اليهود السحر ونسبته إلى سليمان. وإن المتبادر أن ذلك مما كان متداولا في أوساط بني إسرائيل ومما كان يسمعه العرب أو بعضهم منهم وفي صدد هاروت وماروت نقول إن في تفسير الطبري وغيره أحاديث وروايات وبيانات كثيرة في ذلك. من ذلك أن اليهود كانوا يزعمون بالإضافة إلى زعمهم أن سليمان كان
يعلم السحر ويعلمه أن جبريل وميكال أيضا كانا يعلمانه. وهناك من قرأ لام الملكين بالكسر وقال إن اليهود عزوا السحر إلى داود أيضا حيث يكون الملكان هما داود وسليمان، وأن العبارة القرآنية بسبيل نفي السحر وتعليمه عنهما أو عن الملكين جبريل وميكال ونسبة السحر وتعلمه إلى رجلين من البشر كانا في بابل وهما هاروت وماروت ومن ذلك أن نعت هاروت وماروت بالملكين هو على سبيل التشبه لأنهما كانا يظهران الصلاح ويعلمان الناس السحر بعد تحذيرهم فشبهوهما بالملائكة أو لأنهما كانا صاحبي سمات ووقار فشبهوهما بالملوك على اختلاف قراءة اللام بالفتح أو الكسر.
وإلى هذا فهناك أحاديث عديدة مختلفة الصيغ والطرق متفقة المدى معزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاء في صيغة يرويها الإمام أحمد عن نافع مولى عبد الله بن عمر عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ آدم عليه السلام لمّا أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة أي ربّ أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) . قالوا ربّنا نحن أطوع لك من بني آدم، قال الله لهم: هلمّوا ملكين منكم حتى نهبطهما إلى الأرض فننظر كيف يعملان. قالوا: ربّنا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض ومثّلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر فجاءتهما فسألاها نفسها فقالت: لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك. فقالا: والله لا نشرك بالله شيئا أبدا. فذهبت عنهما ثم رجعت بصبيّ تحمله فسألاها نفسها فقالت: لا والله حتى تقتلا هذا الصبيّ. فقالا:
لا والله لا نقتله أبدا. ثم ذهبت ورجعت بقدح خمر تحمله، فسألاها نفسها، فقالت: لا والله حتى تشربا هذا الخمر، فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبيّ، فلما أفاقا قالت المرأة والله ما تركتما شيئا أبيتماه عليّ إلّا قد فعلتماه حين سكرتما.
فخيّرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا» . وعقب ابن كثير على هذا الحديث الذي نقلناه عنه بقوله: هكذا رواه أبن أبي حاتم وابن حبّان في صحيحه.
وهو حديث صحيح كل رجاله ثقات من رجال الصحيحين إلا موسى بن جبير، وأورد ابن كثير صيغة أخرى فيها نوع العذاب وهو أن الملكين جعلا في بكرات من
حديد في قليب مملوءة نارا. وهناك رواية تذكر أن الذي أمر بحبسهما وعذابهما في بابل هو سليمان. وبعض الصيغ أن الملائكة لما اعترضوا قال لهم الله إنه ركّب في بني آدم الشهوات فيها يقعون في الآثام فقالوا لو ركّبتها فينا لما وقعنا فيها فركّبها في اثنين منهما هما هاروت وماروت وأهبطهما إلى الأرض فأثما مع المرأة وارتكبا الآثام الأخرى.
وهناك حديث طويل يرويه ابن كثير عن عائشة جاء فيه: أن امرأة من أهل دومة الجندل جاءت إليها عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تريد أن تقصّ عليه أمرها وتستعتبه. فقصّته عليها وهي تبكي خائفة أن تكون أثمت وخلاصته أن زوجها غاب عنها فذهبت إلى عجوز ساحرة لتعيده إليها فأركبتها كلبا أسود وركبت مثله فلم تلبثا أن وصلتا إلى بابل ورأتا هاروت وماروت معلّقين من أرجلهما وطلبت منهما أن يعلّماها السحر فقالا لها إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي فأبت وظلّت تلحّ عليهما حتى علّماها بعض أعمال السحر حيث جعلاها تبذر حبا فينضج فتحصده فتطحنه فتخبزه في يوم واحد.
وليس شيء من هذه الأحاديث والروايات التي اكتفينا بما أوردناه منها- لأنها متماثلة- واردا في الصحاح وفيها ما هو ظاهر من الغرائب التي توجب التحفظ والتوقف. والصيغ الأولى لا تنطبق على فحوى الآية حيث لا تذكر تعليم هاروت وماروت السحر للناس والتلفيق في الصيغة الأخيرة واضح. ولقد أورد ابن كثير الذي لخصنا عنه الروايات قولا عن سالم بن عبد الله بن عمر جاء فيه أن المروي عن أبيه ليس مرويا عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو مروي عن كعب الأحبار. ثم قال وسالم أثبت عن أبيه من نافع عن مولاه. وقال المفسر القاسمي عن جميع الروايات إنها من قصص القصاصين واختلاق اليهود. وأورد هذا المفسر أقوالا للرازي وابن حزم وأبي مسلم فيها تفنيدات قوية في بطلان صحة نسبة السحر وتعليمه إلى الملائكة نقلا وموضوعا. وكلام السيد رشيد رضا في الموضوع في تفسيره متطابق إجمالا مع ذلك. ومهما يكن من أمر فالآيتان هما بسبيل حكاية ما كان يتعاطاه اليهود من أعمال السحر ومزاعمهم وتكذيب لهم والتنديد بهم. وما جاء عن هاروت وماروت
جاء استطرادا، وما دام أنه ليس في ذلك أثر نبوي صحيح فالأولى الوقوف عند ما وقف عنده القرآن وعدم الأبوه للأخبار غير الوثيقة التي فيها ما فيها من غرائب، وإن كانت تدل على أن ما جاء فيها وبخاصة هاروت وماروت كان مما يتداول عند سامعي القرآن من عرب ويهود فاقتضت حكمة التنزيل الاستطراد إلى ذكرهما على سبيل تدعيم التنديد باليهود الذين يتبعون ما عرف عنهما من أعمال السحر.
والمتبادر أن الاسمين معربان عن لفظين أعجميين ونعتقد أنهما معربان بصيغتهما قبل نزول القرآن وفي هذا توثيق لما قلناه من أن خبرهما لم يكن مجهولا والله تعالى أعلم.
والآيتان وإن كانتا في صدد اليهود وآثامهم ومواقفهم فإنهما تنطويان على تلقين مستمر المدى شأن الفصول السابقة والقصص القرآنية عامة. ومن هذا التلقين أنه لا يجوز للمؤمنين أن يعتقدوا أن السحر يضرّ أحدا بغير إذن الله، وأن الذين يتعاطونه آثمون عند الله ولن يكون لهم حظ ونجاة في الآخرة.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيتين بعض الأحاديث المتساوقة مع هذا التلقين منها حديث رواه أصحاب السنن جاء فيه: «من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر» وحديث رواه الإمام أحمد عن جندب الأزدي قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّ الساحر ضربة السّيف» وحديث رواه البخاري عن بجيلة قال: «كتب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كلّ ساحر وساحرة فقتلنا ثلاث سواحر» . وهناك حديث رواه الخمسة ذكر السحر فيه بعد الشرك من جملة الموبقات السبع التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها حيث روي أن النبي قال: اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هنّ يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرّم الله إلّا بالحقّ وأكل الرّبا وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» «1» .
وقد يكون من الحكمة في ما احتوته الآيتان والأحاديث أن الناس إذ يرجعون إلى السحرة لتحقيق مطالب ليست في نطاق الجهد الإنساني العادي، وإذ يتعاطى
(1) التاج ج 4 ص 81.
السحرة السحر بزعم أنهم قادرون على تحقيق تلك المطالب يكون الأولون قد انصرفوا في مطالبهم عن الله عز وجل الذي هو وحده القادر على تحقيق تلك المطالب والذي لا يجوز لمؤمن أن يرجع في تحقيقها إلى غيره ويكون ذلك منهم في معنى الشرك بالله ودعاء غيره. ويكون الآخرون قد ارتكسوا في ما فيه الكذب والتدجيل والضرر الخلقي والحسي والتشجيع على ذلك للانصراف عن الله عز وجل ودعاء غيره.
وفي كتب التفسير وبخاصة ابن كثير استطراد مسهب في السحر وأنواعه وصوره وحقيقته وأثره وحكمه وأقوال المذاهب الإسلامية فيه. والمستفاد منها «1» :
أولا: إن حقيقة السحر وأثره من المسائل الخلافية في المذاهب الإسلامية حيث يذهب المعتزلة والشيعة إلى أنه لا حقيقة له، وكونه تخييلا وتمويها وشعوذة، وحيث يذهب أهل السنة إلى أن له حقيقة وأثرا ولكن أثره لا يكون إلا بإذن الله، وكلا الفريقين يستند إلى النصوص القرآنية. وقد نبه ابن كثير على أن أبا حنيفة يذهب المذهب الأول ويقول إنه لا حقيقة للسحر.
وليس في القرآن نصّ صريح بحقيقته وأثره إلا جملة: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وليس هناك أحاديث صحيحة في حقيقة السحر وأثره إلّا الحديث الذي رواه الشيخان عن عائشة في حادث سحر النبي صلى الله عليه وسلم والذي أوردناه في سياق تفسير سورة الفلق. ولقد قرأنا لابن كثير تخريجا للنصّ القرآني المذكور آنفا يقول فيه إن الساحر يخيل لزوج من الزوجين سوء منظر الزوج الثاني وسوء خلقه فيؤدي ذلك إلى الفراق. ولا يخلو هذا من وجاهة فيما نرى، ويتسق مع مذهب أبي حنيفة والمعتزلة والشيعة. ولقد علقنا على حديث حادث سحر النبي صلى الله عليه وسلم بما فيه وضع الأمر في نصابه المتبادر لنا إن شاء الله بما يغني عن التكرار.
وثانيا: إن حكم السحر مختلف فيه حيث ذهب بعضهم إلى أن تعلم السحر لذاته غير محظور شرعا إذا كان لأجل اتقاء أذاه ولم يعمل به، وحيث ذهب بعضهم
(1) انظر أيضا تفسيري الزمخشري والطبرسي ففيهما مشاركة لما في تفسير ابن كثير.