الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلمين كانوا يقصرون في واجبهم نحو آبائهم والمحتاجين من أقاربهم وغيرهم فاقتضت الحكمة إيجاب الإنفاق عليهم في معرض الجواب على السؤال. توكيدا للحثّ الرباني المتكرر.
وإيجاب الإنفاق على الوالدين والأقربين يأتي لأول مرة، والأسلوب التعليمي يجعل ذلك مستمر المدى شاملا لكل وقت بطبيعة الحال. والمتبادر أن كلمة وَالْأَقْرَبِينَ أوسع من الزوجات والأولاد. بحيث يقال إن الآية حثت على الإنفاق على كل قريب يكون في حاجة من غير الذين تجب على المرء نفقته. ومع أن المتبادر أن الوالدين مما يجب على المرء النفقة عليهم فإن ذكرهما متصل على ما نرجح بمواقف عقوقية كان يقفها بعضهم من والديهم.
وهناك أحاديث عديدة منها ما هو صحيح يحسن أن تساق في هذا المقام، منها حديث رواه أبو داود جاء فيه:«قيل يا رسول الله من أبرّ؟ قال: أمّك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذلك، حقّ واجب ورحم موصولة» «1» . وحديث رواه الترمذي وأحمد والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإنّ صلة الرحم محبّة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر» «2» .
[سورة البقرة (2) : آية 216]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)
.
تعليق على آية كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ
…
إلخ
عبارة الآية واضحة، ولم نطلع على رواية في سبب نزولها وهي كما يبدو
(1) التاج ج 5 ص 8 و 10 ومثراة في المال بمعنى مكثرة له أو مباركة فيه منسأة في الأثر بمعنى مطولة في العمر أو مباركة فيه.
(2)
التاج ج 5 ص 8 و 10 ومثراة في المال بمعنى مكثرة له أو مباركة فيه منسأة في الأثر بمعنى مطولة في العمر أو مباركة فيه.
فصل تشريعي جديد. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآية السابقة فوضعت في ترتيبها أو أنها وضعت في هذا الترتيب للمماثلة الخطابية والتشريعية والآيتان التاليتان لهذه الآية نزلتا على ما يفيده فحواهما وتدعمه الروايات في مناسبة قتال بين بعض المسلمين والمشركين اشتبه أن يكون في الشهر الحرام، وقد رجح الشيخ محمد عبده على ما رواه صاحب تفسير المنار رشيد رضا أن تكون هذه الآية والآيات التالية لها نزلت معا، وهو ترجيح وجيه.
ونص الآية صريح في فرض الجهاد على المسلمين، وإذا كانت جاءت بدون حدود وشروط فإن هذا لا يعني أن على المسلمين القتال بدون حدود وشروط.
فإن هناك آيات عديدة احتوت ذلك، منها ما مرّ ومنها ما سوف يأتي.
وجمهور العلماء على أن الجهاد فرض كفاية إذا قام به البعض كفى، وهذا وجيه ومنسجم مع آيات عديدة أخرى منها آية سورة النساء هذه: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) وآية سورة التوبة هذه: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) .
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن قيام البعض الذي يكفي يجب أن يكون كافيا لحصول المراد من الجهاد وهو دفع العدوان وإرغام العدو وقهره. فإن لم يكن كذلك فلا يجوز لأحد من المسلمين القادرين على القتال أن يتخلّف بحجة أن هناك من يقاتل، ويقع على المتخلّفين في هذه الحالة إثم التقصير في فرض من فروض الإسلام الرئيسية.
وأسلوب الآية ينطوي على علاج نفساني قوي وتلقينات جليلة في صدد فرض القتال: فالقتال مما تستثقله النفوس عادة ولكنه ضرورة لا مناص منها في
مثل حدوده وشروطه الإسلامية. وفيه الخير العميم من مختلف النواحي. وورود الآية في عهد مبكر من الهجرة- ونرجح أنها نزلت في السنة الهجرية الأولى استلهاما من الآيات التالية لها- تبرز حكمة هذا العلاج حيث كان المسلمون ما يزالون قلّة كما يظهر لنا على ما اقتضته حكمة التنزيل من إيجاب قتال أعدائهم حتى يوقعوا هيبتهم في قلوبهم ويشعروهم بعزمهم على مقابلة عدوانهم عليهم بالمثل.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يتولى تنظيم القتال وانتداب الناس إليه. وكان هذا شأن خلفائه الراشدين رضي الله عنهم حيث يصح القول إن أمر تنظيم القتال وتوقيته واستنفار الناس إليه منوط بولي أمر المسلمين وسلطانهم.
ولقد روى الطبري عن عطاء أن الآية نزلت في أصحاب رسول الله فقط، وهو قول عجيب، والجمهور على أنها للمسلمين عامة. وروى عن ابن عباس أنها نسخت حينما قال المسلمون سَمِعْنا وَأَطَعْنا وهو ما حكي عن لسانهم في آخر هذه السورة. وقد فنّد الطبري هذا القول ونرجح أنه منحول لابن عباس فهو أفقه من أن يقول ذلك.
ويروي رشيد رضا عن بعض المفسرين دون ذكر اسم ومصدر أن جملة:
وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ تعني جميع التكاليف التي أمر الله بها، وجملة: وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ تعني جميع ما نهى المسلمون عنه.
وقد فنّد هذا القول قائلا إنه ليس من مسلم صادق يكره تنفيذ ما أمر الله ويحب عمل ما نهى عنه والتفنيد في محلّه. والجملتان بسبيل معالجة نفسية على ما شرحناه آنفا والله أعلم.
ولقد ورد بعد هذه الآية آيات ثم ورد في سور مدنية أخرى آيات أخرى قوية في الحثّ على القتال في سبيل الله وبيان ما للمجاهدين من ثواب ومنزلة وبشارات ربانية لهم في الدنيا بالإضافة إلى الآخرة ثم في التنديد بمن يتباطأ ويتقاعس ويبطىء عن القتال أو يفرّ منه. وفي تقرير كون الجهاد في سبيل الله مقياسا لإيمان المؤمن المخلص مما سوف تأتي نصوصه وشرحه ومداه في مناسباته في هذه
السورة وغيرها ومما ينطوي فيه ما أسبغته حكمة التنزيل على هذا الركن الإسلامي العظيم من عناية وخطورة.
ولقد رويت أحاديث نبوية منها الصحيحة فيها مثل ذلك أيضا منها حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة جاء فيه: «تضمّن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيله وإيمانا به أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر وغنيمة. والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم لونه لون دم وريحه ريح مسك. والذي نفس محمد بيده لولا أن يشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سريّة تغزو في سبيل الله أبدا. ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشقّ عليهم أن يتخلّفوا عنّي.
والذي نفس محمد بيده لوددت أنّي أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل» ولفظ البخاري لوددت أنّي أقتل في سبيل الله فأحيا ثم أقتل فأحيا ثم أقتل فأحيا ثم أقتل» «1» . وحديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي جاء فيه: «من مات ولم يغز ولم تحدّثه به نفسه مات على شعبة من نفاق» «2» .
وهناك حديث رائع متصل بمدى الآية رواه أبو داود عن ثوبان: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قال قائل: ومن قلّة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابة منكم، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن. قال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حبّ الدنيا وكراهية الموت» «3» . وفي كل هذا تساوق بين التلقين القرآني والتلقين النبوي كما هو ظاهر.
هذا، وهناك أمر آخر يحسن أن نذكره في صدد فرض القتال على المؤمنين
(1) التاج ج 4 ص 292 و 293.
(2)
المصدر نفسه ص 295.
(3)
التاج ج 5 ص 295، وفي كتب الحديث أحاديث عديدة أخرى فاكتفينا بما أوردنا.