الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما أوردنا بعض نماذج أخرى من المرويات في سياق آيات القصة في سور الأعراف والحجر والإسراء وطه والكهف. وعلقنا عليها ولذلك لم نر ضرورة إلى إيراد شيء أو التعليق بشيء جديد على هذه القصة إلّا القول إن هذا الفيض من الروايات مهما يكن أمرها تدل كما قلنا قبل على أن قصة آدم وإبليس وحواشيها مما كان معروفا متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
تعليق على الآية وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً والآيات التسع التالية لها
قلنا إن هذه الآيات مجموعتان. ونقول هنا إن المجموعة الأولى جديدة يأتي فحواها لأول مرة وفيها ما يفيد أن الله تعالى قد أراد منذ الأزل أن يسكن الله آدم وذريته الأرض ويعمروها ويكونوا فيها خلفاء. وأن ذلك لم يكن سببا طارئا بسبب مخالفة آدم لأمر الله عز وجل وأكله من الشجرة بإغراء إبليس وإخراجه مع زوجته من الجنة، وأن ذلك إنما كان سببا ظاهريا ومباشرا.
وننبه على أن ما جاء في هذه المجموعة لم يرد شيء منه في سفر التكوين المتداول اليوم الذي ذكر قصة خلق السموات والأرض وخلق آدم وخروجه من الجنة مع زوجته بسبب أكلهما من الشجرة. مما ورد أيضا في سورتي الأعراف وص. ولكن هذا لا يمنع أن يكون شيء منه قد ورد في أسفار أو قراطيس كانت في أيدي الكتابيين كما هو شأن ما لم يرد في سفر التكوين وورد في القرآن مثل أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وسجودهم وامتناع إبليس من مثل ذكر الحية بدلا من إبليس إلخ.
وفي كتب التفسير أحاديث وروايات عديدة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيه في صدد هذه المجموعة. من ذلك في صدد جملة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً حديث عن ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة
تطوف بالبيت فهي أول من طاف به، وهي الأرض التي قال الله إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، وكان كل نبي إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون أتوا إليها فتعبدوا الله فيها حتى يموتوا. وإن قبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام. ومن ذلك عن ابن عباس: أن الأرض كانت معمورة بالجن فأفسدوا وسفكوا الدماء فأرسل الله عليهم جندا من الملائكة بقيادة إبليس فقاتلوهم وألحقوهم بجزائر البحور وأطراف الجبال وذلك أن الله خلق الجن قبل آدم فكفر قوم منهم وسفك بعضهم دم بعض فكانت الملائكة تقاتلهم فقالوا ما قالوه نتيجة للتجربة. ومن ذلك أن الملائكة قالوا ما قالوه لأن الله لما قال لهم إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً سألوه عنها فقال ذرية يخلف بعضها بعضا في الأرض ويفسدون فيها ويسفكون الدماء فقالوا له ما قالوه. ومن ذلك أنه لم يكن أحد في الأرض غير الملائكة فقالوا ما قالوه على سبيل الفرض. ومن ذلك في تأويل كلمة (خليفة) أنها بمعنى أناس يعمرون الأرض ويخلف بعضهم بعضا. أو بمعنى حكام يحكمون الأرض أو أناس يسكنون الأرض بعد الطوائف التي كانت فيها وأبيدوا بسبب فسادهم. ومن ذلك في تأويل جملة: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها أن الله ألهمه أسماء كل شيء في الأرض وفي السماء وأفعال وحركات كل شيء فيهما فصار يسمي كل شيء يراه أو يحس به باسمه من دواب وطيور وزواحف وجن وملائكة وجبال وبحار وأنهار ونجوم وشجر وهواء وماء إلخ، ومن ذلك في تأويل الجملة أن الله علمه إياها تعليما
…
والحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة، وفحواه يسوغ التوقف فيه، والأقوال الأخرى لم توثق بأسناد صحيحة، وكثير منها غفل، وهي مع ذلك اجتهادية وتخمينية وهذه الأمور مغيبة لا يصح الأخذ بها بالاجتهاد والتخمين.
وفي تفسير المنار لرشيد رضا في سياق تفسير الآيات تعليقات صائبة على المجموعتين معا جاء فيها فيما جاء: «إن أمر الخلقة وكيفية التكوين من الشؤون
الإلهية التي يعز الوقوف عليها كما هي. وقد قص الله علينا في هذه الآيات خبر النشأة الإنسانية على نحو ما يؤثر عن أهل الكتاب قبلنا. ومثل لنا المعاني في صور محسوسة. وأبرز لنا الحكم والأسرار بأسلوب المناظرة والحوار كما هي سنته في مخاطبة الخلق وبيان الحق. وقد ذهب الأستاذ- يعني الشيخ محمد عبده- إلى أن هذه الآيات من المتشابهات التي لا يمكن حملها على ظاهرها لأنها بحسب قانون التخاطب إما استشارة وذلك محال على الله تعالى، وإما إخبار منه سبحانه للملائكة واعتراض منهم ومحاجة وجدال وذلك لا يليق بالله تعالى أيضا ولا بملائكته ولا يجامع ما جاء به الدين من وصفهم بأنهم: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] » . ومما أورده الأستاذ رشيد رضا من كلام أستاذه على سبيل تدعيم ما قاله: «إن الأمة الإسلامية أجمعت على أن الله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقات. وقد قام البرهان العقلي والبرهان النقلي على هذه العقيدة فكانت هي الأصل المحكم في الاعتقاد الذي يجب أن يرد إليه غيره. وهو التنزيه، فإذا جاء في نصوص القرآن أو السنة شيء ينافي ظاهره التنزيه فللمسلمين فيه طريقتان، إحداهما طريقة السلف وهي التنزيه الذي أيد العقل فيه النقل كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] وقوله: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: 180] . وتفويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا، ويأتينا في ذلك بما يقرب المعاني من عقولنا ويصورها لمخيلاتنا.
والثانية طريقة الخلف وهي التأويل حيث يقولون إن قواعد الدين الإسلامي وضعت على أساس العقل فلا يخرج شيء منها عن المعقول فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يراد به ظاهره ولا بدّ له من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل، وطريقة السلف هي الأولى بالأخذ في مثل هذه الأمور» .
ومما أورده من فوائد وحكم ما احتوته الآيات:
1-
إن الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في
صنعه وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه ولا سيما عند الحيرة. والسؤال يكون بالمقال ويكون بلسان الحال. والتوجه إلى الله تعالى في استفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها كالبحث العملي والاستدلال العقلي والإلهام الإلهي. وربما كان للملائكة طريق آخر لاستفاضة العلم غير معروفة لأحد من البشر فيمكننا أن نحمل سؤال الملائكة على ذلك.
2-
إذا كان من أسرار الله تعالى وحكمه ما يخفى على الملائكة فنحن أولى بأن يخفى علينا. فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها لأنه لم يؤت من العلم إلّا قليلا.
3-
إن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم وأجابهم عن سؤالهم لإقامة الدليل بعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم. وذلك بعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون ثم علّم آدم الأسماء كلها فعرضهم على الملائكة فعجزوا عن معرفة شيء منها.
4-
تسليته النبيّ صلى الله عليه وسلم عن تكذيب الناس، ومحاجتهم في النبوة بغير برهان على إنكار ما أنكروا وبطلان ما جحدوا. فإذا كان الملأ الأعلى قد مثلوا على أنهم يختصمون ويطلبون البيان والبرهان فيما لا يعلمون، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين، وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين وهذا الوجه هو الذي يبيّن اتصال هذه الآيات بما قبلها وكون الكلام لا يزال في موضوع الكتاب وكونه لا ريب فيه وفي الرسول وكونه يبلغ وحي الله تعالى ويهدي به عباده، وفي اختلاف الناس فيهما.
وفي كل هذا كثير من الصواب والوجاهة، وهو متسق مع ما فتئنا ننبه عليه في مختلف المناسبات السابقة.
وإذا كان من شيء يحسن أن يزاد إلى هذا فهو القول إن فحوى وروح المجموعتين يدلان على أنهما استهدفتا العظة والتدعيم للدعوة النبوية دون بيان