الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أكثر إذا لم يكن له مأرب خاص مغاير لتقوى الله ورضائه. وأمرتهم بتقوى الله على كل حال، ونبهتهم إلى أنهم سيحشرون إليه في النهاية حتى يظلوا من ذلك على علم واستعداد.
تعليقات على الآية الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ
…
والآيات الست التالية لها
الآيات تتمة لفصل مناسك الحج كما هو المتبادر. وفي كتب التفسير والحديث أحاديث وروايات وأقوال عديدة في صددها فيها توضيح وتركيز نوجزها ونعلق عليها كما يلي:
1-
في صدد الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ روى البخاري عن ابن عمر أنه قال:
«أشهر الحجّ شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة» «1» . وروى الطبراني عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحجّ أشهر معلومات شوال وذو القعدة وذو الحجة» «2» . ومن رواة هذا الحديث ابن مخارق وقد ضعفه الدارقطني. والمعلوم اليقيني أنه كان قبل الإسلام ثلاثة أشهر حرم متوالية هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وقد حرمت لتكون هدنة مقدسة يستطيع الناس في ظلها أن يذهبوا للحج ويعودوا منه بأمان على ما شرحناه في سياق تعليقاتنا على الآيات [190- 195] من هذه السورة. وقد أوردنا حديثا صحيحا عن النبي صلى الله عليه وسلم بحرمة هذه الأشهر الثلاثة المتوالية، والذي يتبادر لنا أن تكون الجملة قد قصدت هذه الأشهر والتنبيه فيها يتناسب مع مدى الهدنة المقدسة وهو منع سفك الدم والقتال. وفي آية في سورة المائدة ذكر عدد الأشهر الحرم ونبه على وجوب عدم ظلم المسلمين أنفسهم فيها مما فيه تدعيم لذلك. وحديث ابن عمر الذي يرويه البخاري لم يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم
(1) التاج ج 2 ص 104.
(2)
مجمع الزوائد ج 3 ص 218.
في حين أن أسماء الأشهر الثلاثة وردت في حديث للبخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكرناه في سياق الآية [197] وهذا ما يجعلنا نرى الأرجح أن تكون أشهر الحج المعلومات هي الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية المذكورة. ويلحظ أن حديث ابن عمر يخرج بقية ذي الحجة وكل شهر المحرم، وحديث أبي أمامة يخرج كل شهر المحرم في حين يكون الحجاج ما يزالون في منطقة الحرم وفي طريق عودتهم منها إلى منازلهم. وهذا لا يستقيم في ما نعتقد مع هدف حرمة الأشهر الحرم والمسألة مسألة تحديد الأشهر وليس ما يمنع أن تبدأ رحلة الحج في شوال وقبل شوال أيضا ولكن يظل شوال غير محرم، والله تعالى أعلم.
ولقد شرحنا مدى الأشهر الحرم وحكمتها وخطورتها أيضا في تعليقاتنا على الآية [190- 195] وشرحنا مدى الحج وخطورته وأوردنا ما ورد فيه من أحاديث في سياق الآية السابقة للآيات التي نحن في صددها وفي سياق الآيات [25- 32] من سورة الحج فنكتفي بهذا التنبيه. وإن كان من شيء يصحّ أن يضاف إلى ذلك فهو التنويه بما نبهت عليه الآية الأولى من وجوب اجتناب الرفث والفسوق والجدال في الحج الذي يقوم به المسلم لله تعالى وفي الأشهر الحرم وفي الأمكنة المحرمة حيث يتناسب هذا التنبيه مع كل ذلك.
2-
ولقد ذكرنا قبل أن العرب كانوا يحرمون سفك الدماء والقتال والصيد في الأشهر الحرم التي رجحنا أنها أشهر الحج. ونرجح أن النهي القرآني عن الرفث والفسق والجدل فيها هو تشريع إسلامي جديد. متساوق مع ما جاءت به الرسالة الإسلامية من الدعوة إلى مكارم الأخلاق والنهي عن رذائلها، وقد تبادر لنا حكمة أخرى في هذا التشريع الرائع، فقد علم الله تعالى أنه قد يقوم سلطان يستطيع منع سفك الدم ومعاقبة مقترفه في حين أن الرفث والفسوق والجدال قد تكون أعمالا شخصية لا تطالها يد السلطان وعينه. فشاءت حكمة الله التنبيه على وجوب الامتناع عن ذلك دينا وإيمانا. ونعيد إثبات الحد الذي رواه الشيخان والنسائي والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من حجّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمّه» .
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن النهي عن الرفث والفسق والجدال في أشهر الحج بالإضافة عن النهي عن القتال العدواني وسفك الدم بغير فسق لا يعني إباحة ذلك في غيرها. وإنما هو من قبيل تعظيم فظاعة ذلك وأولوية الامتناع عنه في هذه الأشهر بالإضافة إلى وجوب الامتناع عنه في كل ظرف.
3-
لقد صرف معظم المفسرين كلمة الرَّفَثُ إلى الجماع ودواعيه والتعريض به ومن جملة ذلك خطبة النكاح واستدلوا على ذلك بآية وردت في هذه السورة وهي: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ وهناك من قال إن النهي مقيد بحالة الإحرام وإن الحاج الذي يتمتع بالعمرة يرتفع الحظر أثناء حالة حلّه بين العمرة وعرفات. ويتبادر لنا أن التحذير من الرفث مع الفسوق والجدل جملة وإطلاقا وطيلة أشهر الحج بجعل صرف الرفث عن كل فاحشة منكرة وهو الأكثر وجاهة والله تعالى أعلم.
4-
لقد روى البخاري في صدد جملة وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى حديثا عن ابن عباس قال: «كان أهل اليمن يحجّون ولا يتزوّدون ويقولون نحن المتوكّلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله الآية» «1» . ويلحظ أن الجملة جزء من آية فيها تنبيه على ما يجب أن يكون عليه الحاج من حسن أخلاق وبعد عن كل فحش وفسق. ومع احتمال صحة ما روي عن أهل اليمن فإننا نتوقف في كون الجملة نزلت في شأن عدم اعتيادهم على حمل الزاد. ويتبادر من روح الآية أن كلمة وَتَزَوَّدُوا في مقامها هي بسبيل الحض على الإكثار من عمل الخير والتشديد على تقوى الله واجتناب المعاصي في الأشهر الحرم. وكلمة (الخير) التي سبقت كلمة (وتزودوا) وتكررت بعدها من القرائن على ذلك فيما نرى ونرجو أن يكون الصواب.
5-
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس في صدد جملة: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ قال: «إن الناس في أول الحجّ كانوا
(1) انظر التاج ج 2 ص 101.
يتبايعون بمنى وعرفة وسوق ذي المجاز ومواسم الحجّ فخافوا البيع وهم حرم فأنزل الله الآية» «1» . وروى أبو داود حديثا جاء فيه: «سأل رجل رسول الله عن ذلك فسكت عنه حتى نزلت الآية، فأرسل إليه وقرأها عليه وقال لك حجّ» «2» . ومثل هذا مروي عن ابن عمر حيث سأله رجل كان يكري فقال له لك حجّ «3» . ويلحظ أن الجملة هنا أيضا جزء من آية وفيها وفيما جاء بعدها تعاليم ربانية عديدة للحجاج. ومع احتمال صحة المروي فإننا نتوقف هنا أيضا في كون الجملة نزلت في شأن ذلك خاصة ولحدتها. والآية [196] أمرت المسلمين بإتمام الحج والعمرة لله، فيسوغ القول إن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون الجملة قد جاءت من قبيل الاستدراك والتبشير، ولقد جاءت بعد التنبيه على وجوب تجنّب الرفث والفسوق والجدال في الحجّ حيث يمكن أن يقال أيضا إنما جاءت لاستثناء ابتغاء فضل الله فيه بالاتجار والتكسب. ولا سيما إن ذلك مظنته الجدل والله تعالى أعلم.
وظاهر ما في هذه الرخصة من مراعاة مصلحة المسلمين واتساع أفق الشريعة الإسلامية لمثل هذا الأمر في مواسم العبادة على اعتبار أن البشر لا ينبغي أن يعطلوا مصالحهم وحاجاتهم المتصلة بحياتهم ومعايشهم فيها. ولا سيما إن موسم الحج كان فرصة عظيمة لقضاء الناس فيها مصالحهم وحاجاتهم بأمن وطمأنينة وفي هذا ما فيه من تلقين مستمر المدى.
6-
والإفاضة من عرفات التي ذكرت في الآية الثانية تكون بعد انتهاء نهار التاسع من ذي الحجة الذي يكون وجود الحاج فيه في عرفات ركنا لا يتم الحج إلا به على ما شرحناه في سياق الآية السابقة.
(1) التاج ج 2 ص 103. وفي فصل التفسير في التاج حديث عن ابن عباس برواية البخاري في هذه الصيغة: «كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت الآية» التاج ج 4 ص 52. [.....]
(2)
التاج ج 2 ص 103.
(3)
التاج ج 2 ص 103.
و (عرفات) تطلق على مكان منبسط فسيح محاط ببعض التلال والصخور، ومما قيل في التسمية إنها جمع (عرفة) وهذا المفرد ورد في حديث نبوي أوردناه قبل وفيه «عرفة كلّها موقف» حيث قد يفيد هذا أن جمعها بسبب اتساعها وكون الناس يتخذون فيها منازل متعددة. كذلك مما قيل إن التسمية متصلة بعهد إبراهيم عليه السلام وإن الله لما أمره بذبح ابنه وصف له جبريل مكان عرفات ليذبحه فيه، فلما وصل المكان قال: عرفته من الوصف وليس شيء من هذا واردا في حديث صحيح. والكلمة عربية وإبراهيم لم يكن عربي اللسان. وقد قال رشيد رضا: إن أحسن ما يمكن تعليل التسمية به هو أنها أطلقت على المكان الذي يجتمع فيه الناس من كل صوب ليتعارفوا. والتعليل وجيه وقد كان اجتماع الناس فيه يوم التاسع من ذي الحجة تقليدا سابقا للبعثة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي أوردناه قبل:«الحجّ الحجّ يوم عرفة» «1» .
وجملة: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ في الآية الثالثة من سورة التوبة التي عنت على ما عليه الجمهور يوم عرفة قد يدلان على أن الوقوف في عرفات يوم التاسع من ذي الحجة كان المنسك الرئيسي في تقاليد الحج قبل الإسلام فأبقي على ذلك في الإسلام لما فيه من المعاني الرائعة حيث يكون الناس جميعا في صعيد واحد وفي ثياب الإحرام الطاهرة التي لم تشهد دنسا ولا فاحشة، ولا جهدا من جهود الدنيا ومشاكلها متساوين لا يتميز رئيس عن مرؤوس ولا سيد عن مسود ولا غني عن فقير ولا أبيض عن أسود. قد قطع الجميع صلاتهم بالدنيا وشهواتها وفوارقها ومشاكلها ومشاغلها مستشعرين عظمة الله وربوبيته هاتفين بكونه الأكبر من كل شيء مهللين له معلنين له إخلاصهم وشكرهم له وحده وفقرهم إليه وحده من الصباح إلى المساء. وهو موقف من أروع المواقف الروحانية التي يملك على الإنسان مشاعره وترتفع به إلى أفق الملأ الأعلى.
وجملة: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ تتضمن أن الوقوف في عرفات
(1) انظر التاج ج 2 ص 127- 128.
أمر حتمي معروف مسلم به ومعمول به، وكل ما هنالك أنه ليس في القرآن أمر صريح قطعي في ذلك مثل فرضية حج الكعبة فكان الحديث النبوي متمما لذلك.
والوقوف في عرفات تعبير اصطلاحي، والفقه الإسلامي لا يشترط أن يكون الحاج في هذا اليوم واقفا أو قاعدا في عرفات والشرط الوحيد هو أن يكون فيه بلباس الإحرام.
ولقد كانت إفاضة الحجاج من عرفات إلى النزول أو العودة منه تتم بإشارة زعيم من أسرة معينة، ثم أصبحت في الإسلام بإشارة الأمير الذي يكون الحج بإمرته. وكان أول أمير للحج في الإسلام أبا بكر رضي الله عنه نائبا عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الهجرية التاسعة. ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم نفسه في السنة العاشرة التي سميت حجته فيها حجة الوداع لأن الله تعالى توفاه بعدها بقليل ثم صارت للخلفاء من بعده ثم لمن ينيبه صاحب السلطان في الحجاز عنه. ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم خطبة مسهبة في حجة وداعه وعظ ونبّه وعلّم وذكر فيها فصار ذلك تقليدا لأمراء الحجّ أو من ينيبونهم عنهم «1» .
7-
والمشعر الحرام الذي ذكر في الآية [198] وأمر المسلمون فيها بذكر الله عنده هو مكان بين عرفات ومنى. فالحجاج حين يفيضون من عرفات يتوقفون في هذا المكان الذي سمي أيضا (المزدلفة) ويبيتون فيه ليلة العيد مهللين مكبرين ثم يفيضون منه إلى منى. وواضح من التسمية أن للمكان حرمة دينية والراجح أن هذا متصل بتقاليد الحج قبل الإسلام. والمزدلفة في سفح جبل (ثبير) ومن المحتمل أن يكون للعرب قبل الإسلام بعض الأصنام في هذا الجبل كانوا يذهبون إلى زيارتها والتبرك بها بعد عودتهم من عرفات فأبقى الإسلام على تقليد التوقف فيها مع تسميتها بالمشعر الحرام وأمر المسلمين بذكر الله فيه لقلبه من مكان وثني إلى مكان يرتفع فيه ذكر الله وحده. ولقد روى البخاري وأبو داود عن عمرو بن ميمون قال:
(1) انظر سيرة ابن هشام ج 2 ص 200 وما بعدها و 272 وما بعدها و 319 وما بعدها وانظر التاج ج 2 ص 140 وما بعدها.
8-
وفي صدد جملة: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ روى الخمسة عن عائشة قالت: «كانت قريش ومن دان بدينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمّون الحمس وكان سائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء الإسلام أمر الله عز وجل نبيّه أن يأتي عرفات فيقف فيها ثم يفيض منها» «2» . ويلحظ أن الحديث غير متسق شيئا ما مع مدى الآية. لأن الآية تفيد أن الأمر في الجملة القرآنية هلّ بالإفاضة من المشعر الحرام. ويتبادر لنا من روح الآية أن فريقا من الناس ويجوز أن يكونوا القرشيين أو سدنة الكعبة وأقاربهم منهم كانوا يترفعون عن الناس في وقوفهم وطريق إفاضتهم من المزدلفة أو يسلكون طريقا خاصا بهم فأمرت الآية المسلمين جميعا بالإفاضة من الطريق الذي يسلكه سائر الناس بدون تمايز أحد على أحد لأي سبب كان، وفي هذا ما فيه من تلقين جليل والله تعالى أعلم.
والروايات تذكر أن الإفاضة من المزدلفة أيضا كانت تتم بإشارة من زعيم عربي من أسرة معينة، فحلّ محلّه في الإسلام أمير الحج كما صار ذلك شأن الإفاضة من عرفات.
9-
والجمهور على أن جملة: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ تعني إذا ذبحتم قرابينكم حيث يبادر الحجاج بعد نزولهم صباح العيد من المزدلفة إلى منى إلى ذبح هديهم ويتحللون من الإحرام بالحلاقة أو تقصير الشعر وبلبس الثياب العادية ويصبح حلالا ما كان محظورا عليهم في مقام الإحرام. ومنهم من ينزل إلى مكة قبل التحلل فيطوف طواف الإفاضة الذي أوردنا ما فيه من حديث في سياق
(1) التاج ج 2 ص 139 و (جمع) كان يطلق على الموقف في المزدلفة على ما يفيده حديث رواه أبو داود والترمذي عن علي، انظر أيضا التاج ج 2 ص 139.
(2)
التاج ج 4 ص 39.
الآية السابقة ثم ينحر هديه وقد سمّي اليوم الأول من العيد وهو اليوم العاشر من ذي الحجة بيوم النحر وعيد النحر وعيد الأضحى بناء على ذلك.
10-
أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ المذكورة في الآية الأخيرة هي على ما عليه الجمهور والتواتر أيام العيد. ويقضيها الحجاج في منى في حالة الحل. وتسمى الأيام التالية لليوم الأول من العيد بأيام التشريق ويرمي الحجاج فيها الجمرات.
وهي حصوات صغيرة تقذف على أماكن ثلاثة معينة في منطقة منى، وتسمى هذه الأماكن بالعقبات أيضا. وعدد الحصوات تسع وأربعون يرمي الحاج في اليوم الأول كلا من العقبات الثلاث بسبع حصوات وفي اليوم الثاني بسبع حصوات، وفي اليوم الثالث يرمي العقبة الثالثة فقط بسبع حصوات. ويكبر الله عند رمي كل حصوة، وهناك حديث يذكر أن النحر والحل من الإحرام يكون بعد رمي العقبة الأولى للمرة الأولى في صباح يوم العيد بعد الوصول إلى منى من المزدلفة رواه الخمسة عن أنس قال:«إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلّاق خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس» «1» . وبعض الحجاج يتعجلون العودة فلا يحبون أن يبقوا لليوم الثالث فسمحت لهم الآية بذلك. وقد روى أصحاب السنن حديثا عن أبي البدّاح عن أبيه قال: «رخّص رسول الله لرعاء الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النحر ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر فيرمون في أحدهما وفي رواية رخّص النبي صلى الله عليه وسلم للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما» «2» . وفي ترخيص الله ورسوله تلقين جليل مستمر المدى ومتساوق مع تلقينات القرآن المتكررة وهو الاهتمام بالجوهري من أهداف الإسلام وهو تقوى الله وحسن النية دون الأعراض والأشكال.
والمفسرون يروون عن أهل التأويل والأخبار أن رمي الجمرات هو تقليد إبراهيمي حيث إن إبليس تراءى لإبراهيم عليه السلام حينما أخذ ابنه ليذبحه
(1) التاج ج 2 ص 132 وحلاقة الشعر أو تقصيره صورة من صور التحلّل من الإحرام وهناك أحاديث أخرى في هذا الموضوع انظر ص 130- 137.
(2)
المصدر نفسه ص 138.
تنفيذا لأمر الله في منامه «1» ليزين له الامتناع عن ذلك فكان يرجمه في كل موقف من المواقف الثلاثة، وهذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى كل حال فهذا تقليد كان من تقاليد الحج قبل الإسلام لم يعرف سببه معرفة يقينية فأقره الإسلام ليكون وسيلة إلى ذكر الله وتكبيره.
وقد ورد ذكر أيام التشريق في حديثين صحيحين روى أحدهما مسلم وأحمد عن نبيشة الهذلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى» «2» وروى ثانيهما أصحاب السنن عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب» «3» . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم أيام التشريق على ما ذكرناه في فصل الصيام في هذه السورة.
والتشريق في اللغة هو عرض اللحم للشمس، والمتبادر أن التسمية بسبب ما كان ينحر في أيام التشريق من الأضاحي التي كان يلقى بلحومها على الأرض معرضة للشمس وليأخذها من يشاء. وقد كان من تقاليد العرب قبل الإسلام أن لا يأكل صاحبها منها ويدعها للفقراء والوحوش والنسور والصقور فأباح الله لهم الأكل منها على ما شرحناه في تفسير سورة الحج.
11-
وقد روى المفسرون في سياق جملة: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً أن العرب قبل الإسلام كانوا في أيام التشريق يعقدون مجالس للمفاخرة بآبائهم فأمر الله المسلمين أن يذكروا الله فيها كما يذكرون آباءهم أو أكثر، وقد يكون هذا واقعا وفي الجملة مغزى لطيف كما يتبادر لنا وهو عدم النهي عن ذكر الآباء حيث تكون الحكمة اقتضت ذلك من باب التكريم للآباء الذي تكرر الأمر به في آيات عديدة مرّت أمثلة منها في السور المكية.
12-
وما جاء في الآيات [200- 202] محتمل أن يكون بسبب اشتراك غير
(1) ذكر هذا المنام في سورة الصافات، وانظر تفسيرها في ابن كثير والخازن.
(2)
التاج ج 2 ص 78.
(3)
التاج ج 2 ص 78.
المسلمين مع المسلمين في الحج حين نزول الآيات التي يرجح أنها نزلت قبل فتح مكة، ومحتمل أن يكون بسبيل بيان طبائع الناس عموما من حيث أن بعضهم لا يهمه إلّا تحقيق مطالبه وتأمين منافعه في الدنيا. وقد انطوى في الآيات تنديد بهؤلاء وإنذار لهم وتطمين للآخرين الذين يرجون من الله الفضل والحسنى في الدنيا والآخرة معا، حيث يعدهم الله بالاستجابة. ولقد روى الشيخان عن أنس قال:«كان أكثر دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم: اللهمّ ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» «1» . وروى مسلم والترمذي حديثا آخر عن أنس قال: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ فقال له: هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إيّاه؟ قال: نعم، كنت أقول اللهمّ ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجّله لي في الدنيا. فقال رسول الله: سبحانه لا تطيقه أو لا تستطيعه، أفلا قلت اللهمّ آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. قال: فدعا الله له فشفاه» «2» . حيث ينطوي في الحديثين تعليم نبوي متساوق مع التعليم القرآني.
والجملة الدعائية القرآنية من جوامع الدعاء لأن كلمة (حسنة) مطلقة المدى تشمل كل نوع من أنواع الخير في مختلف المجالات ويتبين من هذا حكمة كونها أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الآية التالية لها إيذان بأن الله تعالى يحب لعباده أن يكون لهم حظّ ونصيب في الدنيا في مختلف مجالات الخير والصلاح والنجاح والقوة والنفع والمال في الدنيا بالإضافة إلى حظهم المضمون لهم وحدهم في الآخرة.
وهذا انطوى تقريره في آيات كثيرة في سور سبق تفسيرها.
ويلفت النظر إلى ما في التعليم القرآني والنبوي معا من مغزى رائع، ودلالة على ما انطوت عليه الدعوة الإسلامية من سعة الصدر والمرونة والتطابق مع مصالح البشر وطبائع الأشياء. فليس في الإسلام دعوة إلى الزهد في الدنيا والانصراف عنها مطلقا وطيباتها وخيراتها وزينتها مباحة للمسلمين ضمن حدود الاعتدال والنية
(1) التاج ج 5 ص 109.
(2)
التاج ج 5 ص 109.