الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهكذا يكون اليهود بعد أن قرر معظمهم جحود رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ومناوأته على ما سوف يأتي في آيات أخرى من السورة قد وجدوا في الطبقة المريضة القلب الخبيثة النية من أهل المدينة الذين وسموا بالنفاق مجالا لدسائسهم فخالفوهم وظلوا يوسوسون لهم ويقفون معهم مواقف الكيد والدس والتعجيز ضد الدعوة وصاحبها والمؤمنين بها. ولم يضعف شأن النفاق والمنافقين إلّا بعد أن أظهر الله تعالى نبيه على اليهود ومكّنه منهم فأجلى بعضهم عن المدينة وبطش ببعضهم في المدينة والقرى اليهودية الأخرى في طريق الشام. غير أن حركة النفاق لم تزل بالمرة لأنها طبيعة من طبائع الاجتماع.
ومع ما في الآيات من خصوصية زمنية واحتوائها صورة للمنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإن في إطلاق الخطاب وتعميمه تلقينا عاما مستمر المدى بتقبيح الأخلاق والمواقف والأقوال المنسوبة للمنافقين والتي تبدر من بعض الناس في كل زمن ومكان.
ويقف بعضهم عند الآية الأخيرة بل ويتشاد أهل المذاهب الإسلامية فيها «1» .
ولسنا نرى فيها ما يتحمل توقفا ولا مشادة، وقد ورد من بابها جمل كثيرة في السور المكية وشرحنا مداها بما يزيل الإشكال فجملة وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ هي في معنى (ندعهم مستمرين فيه) لأنهم اختاروه لينالوا جزاءه العالي ولا نعني أن الله يفعل ذلك جزافا فيهم. ومن باب (يضل الله الظالمين) وجملة اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ هي من قبيل المشاكلة الأسلوبية الخطابية، ومن باب وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: 54] . فهم يستهزئوون بالله ورسوله وهم الأولى بالاستهزاء من الله ورسوله.
تعليق على حركة النفاق وأسبابها ومداها
إن المستفاد من مضامين الآيات القرآنية الكثيرة الواردة في هذه الحركة وأصحابها ومن روايات السيرة أن هذه الحركة نجمت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى
(1) انظر تفسير الكشاف وفي ذيل تعليقات ابن المنير.
المدينة. فقد التقى النبي مرتين ببعض زعماء قبيلتي الخزرج والأوس سكان يثرب (المدينة المنورة) في المواسم فدعاهم فآمنوا واتفق معهم على الهجرة إلى المدينة هو وأصحابه. وأرسل إليهم مصعب بن عمير رضي الله عنه نائبا عنه وقارئا وداعية للإسلام وإماما. فصار يدعو الناس ويساعده في دعوته الزعماء الذين آمنوا فانبرى له بعض أهل المدينة يناوئون دعوته ويعطلون عليها، وكان عبد الله بن أبي بن سلول أحد زعماء الخزرج وهم الأقوى والأكثر من قبيلة الأوس ثانية القبيلتين التي ينتسب إليهما معظم سكان المدينة على رأس هذه الحركة. وقد استطاع أن يؤثر على بعض أقاربه فانضووا إلى حركته. ولقد كان الخزارجة على وشك المناداة به ملكا على يثرب في الظرف الذي اتصل النبي صلى الله عليه وسلم فيه ببعض رجال الأوس والخزرج وبايعوه على الإسلام ورحبوا بهجرته مع أصحابه إليهم وعاهدوه على النصر والدفاع فاعتبر حركة النبي وهجرته سببا في حرمانه من ذلك فحقد ونقم «1» . وهناك شخص قوي آخر تذكره الروايات من الأوس وهو أبو عامر المسمى بالراهب والذي كان من زمرة الموحدين الصابئين وتنصّر حيث حسد النبي على اختصاصه بالنبوة دونه وحقد عليه واستطاع أن يؤثر على بعض أقاربه وأن يكون هو وإياهم إلبا مع عبد الله بن أبيّ وزمرته. وإلى جانب هاتين الزمرتين في المدينة فقد كان في الأعراب الذين هم حول المدينة منافقون أيضا وإن كان الدور المؤذي الذي قام به المنافقون هو في الدرجة الأولى دور منافقي المدينة حيث كان إسلام الأعراب المنافقين يدور مع المنفعة، فإن رأوا في الإقدام منفعة أقبلوا وتضامنوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإن رأوا خطرا تحايدوا وابتعدوا.
ولقد كانت مواقف منافقي المدينة ومكايدهم بعيدة المدى والأثر حتى لكأنه نضال قوي يذكر بما كان من نضال بين النبي صلى الله عليه وسلم وزعماء مكة وإن اختلفت الأدوار والنتائج، إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلبث أن أخذ مركزه يتوطد وقوته تزداد ودائرة دعوته تتسع وصار صاحب سلطان وأمر نافذ وجانب عزيز. ولم يكن هؤلاء المنافقون كتلة متضامنة ذات شخصية بارزة وكانوا وظلوا قلة وكان شأنهم يتضاءل بنسبة تزايد
(1) انظر سيرة ابن هشام ج 3 ص 335 و 336.
قوة النبي صلى الله عليه وسلم واتساع دائرة الإسلام. وكان جل أقاربهم من المؤمنين المخلصين.
ومن جملتهم ابن كبيرهم عبد الله بن أبيّ الذي كان من أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي أظهر استعداده لقتل أبيه إذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في موقف من المواقف «1» .
وكانوا يتنصلون من النفاق ويحلفون أنهم مؤمنون مخلصون، ويؤدون فرائض الإسلام ويشتركون في الحركات الجهادية ولو على كره منهم على ما حكته آيات عديدة. منها آية سورة المنافقون هذه: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) وآيات سورة التوبة هذه: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وآية سورة التوبة هذه: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) وآية سورة التوبة هذه: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ (54) .
وإنما كانوا يقومون بحركاتهم المؤذية المنافية للإيمان ومصلحة الدعوة الإسلامية والمسلمين بطرق مريبة ملتوية، ولا يتظاهرون بعض الشيء إلّا في الظروف الحرجة التي كانت تمرّ بالمؤمنين في بعض الأحيان.
وكل هذا جعلهم مدموغين بالنفاق وموضع سخط الله ورسوله وجمهور المؤمنين وغضبهم ونقمتهم ومستحقين للدرك الأسفل من النار إلّا إذا تابوا على ما جاء في آية سورة النساء [145] .
ويورد في صفات النفاق والمنافقين أحاديث نبوية منها ما ورد في كتب الصحاح. ومن ذلك حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا
(1) انظر المصدر السابق.