الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعليق على الشهر الحرام
وحرمة المسجد الحرام وأمنه قد أشير إليهما في آيات مكية عديدة ثم في بعض آيات من هذه السورة وسورة المائدة وقد علقنا عليها في تفسير سورة قريش بما فيه الكفاية.
غير أن الشَّهْرُ الْحَرامُ يذكر هنا لأول مرة، فنقول بمناسبة ذلك إن كلمة الْحَرامُ هي في نفس معناها بالإضافة إلى المسجد أي إنها تعني حرمة الشهر وتقديسه وأمنه وتحريم القتال فيه. وهذا المعنى منطو في الآيات التي ورد فيها التعبير في غير هذه الآيات في هذه السورة وغيرها من السور المدنية. وهذا التعبير يطلق على أربعة أشهر من الأشهر القمرية العربية. وقد ذكر عددها في آية التوبة هذه: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) .
وقد ذكرت أسماء هذه الأشهر في حديث رواه البخاري عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» «1» .
والثلاثة المتواليات المذكورة هي أشهر الحج عند العرب قبل الإسلام.
وحرمتها وقدسيتها وتحريم القتال فيها متصلة بذلك. وكانت بمثابة هدنة دينية عامة ليتمكن العرب الذين كانوا يأتون إلى الحج من كل ناحية من أنحاء جزيرة العرب وخارجها ممن في بلاد الشام وجزيرة الفرات والعراق من القدوم إلى مكة والعودة إلى منازلهم أثناءها دون خوف ولا حرج. أما شهر رجب فقد كان يقوم فيه موسم ديني خاص بأهل الحجاز وتسميته برجب مضر على ما جاء في الحديث دليل على
(1) التاج ج 2 ص 136.
ذلك فمدته كافية لقبائل مضر النازلة في الحجاز وما جاوره. وليس في الروايات بيان بماهية هذا الموسم ولكن هناك تقليدا إسلاميا بما يسمى الزيارة الرجبية وهي أداء العمرة في شهر رجب. ومن المسلمين من يرحل إلى مكة ليؤدي منسك العمرة في رجب. والآية [158] من هذه السورة التي سبق تفسيرها تذكر بصراحة أن زيارة الكعبة نوعان نوع يسمى الحج ونوع يسمى العمرة. والنوع الأول يكون في موسم الحج والثاني في غير موسم الحج. ولعل الموسم الديني المضري الحجازي قبل الإسلام الذي كان يقوم في رجب هو موسم لزيارة الكعبة في غير موسم الحج.
ولعل التقليد الإسلامي بما يسمى الزيارة الرجبية متصل بذلك والله تعالى أعلم.
وظاهر من هذا أنه كان للعرب مصلحة عظمى دينية واجتماعية واقتصادية في الأشهر الحرم ولذلك كانوا على ما تلهمه الآيات وترويه الروايات «1» يتشددون في حرمتها وعدم إخلال هدنتها المقدسة حتى بلغ بهم الأمر إلى تحريم الصيد لأن فيه سفكا للدماء. فإذا حلت صار الناس في أمن شامل فلا نزاع ولا قتال ولا خوف. وما كان هذا ليكون لولا صبغتها الدينية. وقد أكد القرآن حرمتها وقداستها وأشار إلى ما فيها من مصلحة كبرى كما جاء في آية سورة التوبة [36] التي أوردناها قبل، وآية سورة المائدة هذه: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) وهذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) . وذلك جريا على مبدأ الإبقاء على الصالح المفيد من التقاليد ولم يأذن بالقتال فيها إلّا لردّ عدوان ودفع ظلم وكفالة حرية الدعوة الإسلامية.
(1) اقرأ الجزء الخامس من كتابنا تاريخ الجنس العربي ص 281 وما بعدها.