الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حوادث القتل التي تقع بينهم كفرض مكتوب عليهم فأوجبت قتل الحرّ القاتل بالحرّ المقتول والعبد القاتل بالعبد المقتول والأنثى القاتلة بالأنثى المقتولة. وأوردت احتمال العفو عن القاتل من قبل ولي المقتول وإباحته. وذكرت ما يجب في مثل هذه الحال وهو التزام الحق والإحسان من جانب القاتل المعفو عن دمه فيسير في التعويض ودفع الدية لأهل القتيل وفق المعروف وبدون عطل وبخس. وبينت أن هذه الإباحة تخفيف من الله ورحمة منه بالمسلمين. وأنذرت من يستغل ذلك فيعتدي ويبغي على غيره. وقد تضمنت ثانيتهما: بيان حكمة إيجاب القصاص فذكرت أن في القصاص حياة للمجتمع حيث يكون وسيلة من وسائل تقوى الله والارتداع عن الظلم والعدوان وإراقة دماء الناس. ووجهت الكلام في آخرها إلى أولي العقول فيهم الذين يستطيعون إدراك هذه الحكمة والعمل بمقتضاها. الجملة التي احتوت هذه الحكمة من روائع الوجائز والحكم القرآنية التي يمكن أن تكون سندا لكل تشريع وتنفيذ جزائي في الدنيا.
والآيتان فصل جديد لا صلة له بالسياق السابق. ومن المحتمل أن يكون هذا الفصل نزل بعد الآية السابقة لهما فوضع بعدها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
تعليق على آية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى
…
إلخ والتالية لها
ولقد تعددت الروايات في سبب نزول الآيتين، منها أنه كان بين حيين من العرب دماء في الجاهلية وكان الحي الأقوى قد نذر بأن يقتل من عدوه الحرّ بالعبد والرجل بالأنثى والحرّ بالحرّ. وبأن يجعل دية جراحاته مضاعفة. فلما أسلم الحيان حكما النبي صلى الله عليه وسلم فنزلتا ومنها أن العرب في جاهليتهم كانوا طبقات، وكان أشرافهم يغالون في القصاص والدية ويضاعفونهما بالنسبة لمن هم أقل شرفا وقوة، وأن بعض العرب رفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلتا ومنها أن اليهود كانوا يقاصون بدون عفو وأن النصارى كانوا لا يقاصون فنزلتا لبيان حكم الإسلام الوسط بينهما. ومنها
أنه كان قوم من العرب إذا قتل عبد قوم آخرين رجلا منهم لم يرضوا بقتل العبد حتى يقتلوا سيده. وإذا قتلت المرأة من غيرهم رجلا منهم لم يرضوا بقتل القاتلة حتى يقتلوا رجلا من عشيرتها «1» . والروايات ليست من الصحاح غير أن مضمون الآية الأولى يلهم احتمال نزول الآيتين في إحدى الحالات المروية عن العرب وبخاصة في الحالة الأخيرة لحل المشكل الدموي الواقع الذي رفع أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومع ترجيحنا خصوصية المناسبة فالذي يتبادر من صيغة الآيتين أنهما نزلتا لتكونا تشريعا عاما للتطبيق في الظروف المماثلة. وهذا شأن معظم الآيات التشريعية والتعليمية.
والآيتان هما أولى الآيات التي تحمل طابع التشريع والتقنين في شأن من شؤون الحياة وهو طابع خاص بالعهد المدني، وما ورد في الآيات المكية من أوامر ونواه في هذه الشؤون يحمل طابع الحثّ والعظة والزجر والإنذار والتنديد. وسبب ذلك واضح فالمسلمون في مكة كانوا قلة فلم يكن إمكان ولا مجال للتقنين والتشريع. وقد تغير هذا في العهد المدني حيث كثر المسلمون وصار النزاع والخلاف على شؤون الحياة مما يكثر بينهم. وقد صار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا في مركز الرئيس والقائد والقاضي معا فانفسح المجال واقتضى الحال التشريع تمشيا مع الظروف واستجابة للمناسبات وحلا للمشاكل والوقائع وجوابا على الاستفتاءات والاستعلامات والمراجعات.
وننبه بهذه المناسبة على أمر هام وهو أن معظم ما نزل به تشريع وتقنين من شؤون الحياة في العهد المدني قد نزل به بأمر ونهي وزجر وحثّ وإنذار وتبشير في القرآن المكي. ومن جملة ذلك حظر القتل بغير حق وتقرير حق ولي المقتول بالقصاص مما ورد في سور الإسراء والأنعام والفرقان. وفي هذا ردّ على الأغيار الذين يحلو لهم غمز النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن بغيا وتعصبا وحقدا فيقولون: إن هناك
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي إلخ.
تناقضا في الدعوة وأهدافها وسيرها بين العهدين. فالأسلوب المدني هو إيجاب تطبيقي للمبادىء والأحكام التي قررتها الآيات المكية مما ينطوي فيه كل الحكمة والحق والصواب ومقتضيات الحياة ثم الانسجام التام بين قرآني العهدين.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيتين بعض الأحاديث والاجتهادات الفقهية نوجزها ونعلق عليها بما يلي:
1-
المؤولون والمفسرون متفقون على أن حكم الآية الأولى هو في صدد القتل العمد. وهذا متبادر من فحواها أما القتل الخطأ فقد ذكر حكمه في إحدى آيات سورة النساء وسيأتي شرح ذلك في مناسبة.
2-
إن من المؤولين والمفسرين من قال إن حكم الآية قد نسخ بحكم النفس بالنفس مطلقا، الذي ورد في آية سورة المائدة هذه: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
…
إلخ [45] وهذه الآية حكاية لما كتبه الله على بني إسرائيل في التوراة وليست تشريعا للمسلمين على ما تلهم الآيات التي جاءت بعدها. ونظرية (شرع ما قبلنا شرع لنا) ليس مما يمكن التسليم به استنادا إلى الآيات المذكورة على ما سوف نشرحه في مناسبتها.
ويتبادر لنا أن جملة وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ الواردة في الآية الثانية قد تضمنت تعديلا لحكم الأولى فصار القصاص أي قتل القاتل العمد مطلقا هو الحكم المبدئي العام. وهناك أحاديث نبوية تؤيد هذا التعديل. منها حديث رواه الخمسة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلّا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيّب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة» «1» . وحديث رواه أبو داود عن قيس بن عباد في صدد كتاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر» «2» .
(1) التاج ج 3 ص 17.
(2)
ورد هذا الحديث في تفسير القاسمي عزوا إلى أبي داود وفي التاج ج 3 ص 31 حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي فيه: «لا يقتل مسلم بكافر» .
ولقد استند أبو حنيفة وآخرون إلى بعض هذه الأحاديث مع مبدأ القصاص فقرروا أن المسلم يقتل بالمسلم إطلاقا سواء أكان القاتل أو القتيل رجلا أو امرأة أو عبدا أو أمة، وخالف بعضهم هذا الرأي وقالوا لا يقتل الرجل بالمرأة ولا الحرّ بالعبد استنادا إلى نص الآية الأولى.
ويتبادر لنا أن الآية الأولى إنما نزلت لحل مشكلة دموية قائمة بأوصاف معينة وأن الرأي الأول المستنبط من أحاديث نبوية ومن مبدأ القصاص مطلقا هو الأوجه.
ولم نطلع على أثر نبوي يدعم الرأي الثاني وهناك أحاديث فيها صراحة أكثر تدعم الرأي الأول منها حديث رواه أصحاب السنن جاء فيه: «كتب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن في جملة ما كتب أن الرجل يقتل بالمرأة» «1» . وحديث رواه أصحاب السنن أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه» «2» .
ومن رأي أبي حنيفة استنادا إلى مبدأ القصاص المطلق أن المسلم يقتل بالكافر الذمي أو المعاهد والأكثرون على أن المسلم لا يقتل بالكافر. وهذا مما يدعمه حديث سبق إيراده.
3-
مما رواه المفسرون عن المؤولين أن جملة: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ هي في صدد من يقتل قاتلا بعد العفو عنه وأخذ الدية منه. وقد استند إليها بعضهم فأوجبوا قتل من قتل قاتلا بعد العفو وأخذ الدية. وهناك أحاديث نبوية تساق في تأييد ذلك منها حديث رواه الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية» «3» . وحديث رواه أبو شريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أصيب بقتل يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتصّ وإما أن يعفو وإما أن يأخذ الدية. فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ومن اعتدى بعد ذلك فله نار
(1) التاج ج 3 ص 14.
(2)
المصدر نفسه ص 31.
(3)
أورد هذا الحديث ابن كثير ومعنى لا أعافي لا أعفي من القصاص رجلا قتل قاتلا بعد أخذ الدية عن القتل الذي قتله.
جهنّم خالدا فيها» «1» . والمتبادر أن الرابعة هي قتل القاتل بعد العفو وأخذ الدية.
والراجح أن هذا يكون في حالة تعدد أولياء القتيل وعفو بعضهم وقبولهم بالدية دون الآخرين. والجمهور على أن عفو بعض الأولياء وقبولهم بالدية يمنع القصاص وهذا وجيه ومؤيد لما رجحناه من وجه المسألة.
4-
ومما رواه المفسرون في جملة: فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ أنها في معنى أن لولي القتيل الذي يعفو ويقبل بالدية أن يطالب بها بالمعروف أي بدون عنف وأن على القاتل وأهله أن يؤدوا الدية بالحسنى بدون إبطاء ونقص، وهذا سديد وجيه.
والجمهور متفقون على أن لأولياء القتيل أن يعفوا عن دم قتيلهم بدون دية أيضا، وهذا حقّ متبادر من روح الآية.
وهكذا تكون الآية قد انطوت على تلقين جليل في حالة العفو. فالله تعالى إذا أباح العفو فإن ذلك منه تخفيف ورحمة فلا يجوز للمسلمين أن يسيئوا استعمال هذه الرخصة. وعليهم أن يسيروا في أداء ما يترتب عليهم وفي مقاضاته بالحسنى والمعروف والحق. وهذا عدا ما في مبدأ إباحة العفو والصيغة المحببة التي ورد بها من تمشّ مع طبيعة الأمور وملاحظة مصلحة الناس وحالاتهم في مختلف الظروف أيضا من تلقين جليل آخر.
5-
وأكثر أئمة الفقه على أنه إذا اشترك أكثر من واحد في قتل قتيل فإنهم يقتلون به. وقد أورد ابن كثير خبرا يفيد أن عمر قتل سبعة في غلام وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم. وقال ابن كثير إنه لا يعرف لهذا مخالف من الصحابة.
وينسب إلى الإمام أحمد عدم تجويز قتل الجماعة بالواحد. ويتبادر لنا أن الرأي الأول أوجه إذا ما ثبت أن الجماعة اشتركوا فعلا في القتل وليس هناك بينة أو دليل على واحد بعينه أكثر من غيره والله أعلم.
(1) التاج ج 3 ص 15.
6-
والجمهور على أن الوالد لا يقتل بابنه. وهناك حديث مؤيد لذلك رواه الترمذي عن سراقة قال: «حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيد الأب من ابنه ولا يقيد الابن من أبيه. وفي رواية لا يقتل الوالد بالولد» «1» .
7-
والجمهور على أن القتل العمد المستوجب للقصاص هو الضرب بدون كفّ حتى الموت. وأن القاتل إذا ضرب ثم كفّ قبل الموت ثم مات المضروب بعد فترة ما نتيجة للضرب فيكون قتله (شبه عمد) ولا يستوجب قصاصا وإنما يستوجب دية مثل دية العمد في حالة عفو أولياء القتيل عن دم قتيلهم المقتول عمدا. وهناك من قال: إن الضرب حتى الموت بأية آلة هو قتل عمد. وهناك من قال إن القتل لا يحسب قتل عمد إلا إذا كانت آلة الضرب حديدية. أما إذا كان الضرب بالعصا أو الحجر أو السوط فهو شبه عمد وإن لم يكفّ الضارب حتى الموت. والاختلاف في المذاهب هو لسبب اختلاف في الأحاديث النبوية المروية.
وقد صوب الطبري قول من قال: إن الضرب حتى الموت بأية آلة هو عمد ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه والله أعلم.
8-
والأحاديث مختلفة أيضا في تقدير الدية للعمد في حال العفو ولشبه العمد، فمنها ما يفيد أنها مئة من الإبل ومنها ما يفيد أنها اثنا عشر ألف درهم ومنها ما يفيد أنها ألف دينار أو ثمانمائة دينار. ومما روي أنها استقرت في زمن عمر على أن تكون على أهل الإبل مئة وعلى أهل البقر 200 وعلى أهل الشاة 2000 وعلى أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الفضة 12000 درهم وعلى أهل الحلل 100 حلة «2» .
والمتبادر أن التقدير والتنويع متأثران بالظروف القائمة وأن من السائغ أن يكونا متبدلين حسب كل ظرف والله أعلم.
(1) التاج ج 3 ص 31.
(2)
انظر المصدر نفسه ص 9- 11 وفي هذا المصدر أحاديث أخرى في الدية ليس فيها فروق جوهرية.