الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعليق على الآية وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
…
والآية التالية لها
في الآيتين أحكام بشأن الزوجة المتوفى عنها زوجها:
1-
فعليها أن تنتظر على نفسها أربعة أشهر وعشر ليال.
2-
وليس على أولياء الزوجة ولا على الزوجة نفسها من بأس فيما تفعله في نفسها بعد انقضاء هذه المدة مما هو متفق على العرف والأخلاق الكريمة فالله خبير بنوايا الناس وأعمالهم.
3-
وليس على من يريد أن يتزوج بالأرملة حرج في التلميح لها في أثناء هذه المدة برغبته في التزوج منها ولا في نيته على ذلك في سريرته. فالله يعلم أن هذا شيء طبيعي ومعقول على شرط أن يلتزم الرجل الحشمة والمعروف في الكلام بصدده وأن لا يستعمل أساليب الإغراء المستهجنة المغايرة للوقار والحياء ولو مساررة بينه وبينها وأن لا يعقد النكاح فعلا إلا بعد انتهاء العدة. فالله يعلم ما يفعله الناس وما يبيتونه في أنفسهم وعليهم أن يحذروه ويراقبوه. وهو إلى هذا غفور حليم يغفر لمن حسنت نيته ولم يتعمد الخروج على حدوده ولا يأمر بما فيه الحرج والإعنات.
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيتين وهما وإن كانتا ليستا من أحكام الطلاق كالآيات السابقة فإنهما احتوتا أحكاما تدخل في نطاق الموضوع بصورة عامة. فإما أن تكونا نزلتا بعد ما سبقهما وإما أن تكونا وضعتا في مكانهما للمماثلة التشريعية والموضوعية.
وفي كتب الحديث والتفسير أحاديث وتأويلات في صدد هاتين الآيتين نوجزها ونعلق عليها بما يلي:
1-
هناك من قال إن الآية الأولى قد نسخت الآية [240] من هذه السورة
التي جاء فيها: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ ولو أنها جاءت في موضع متقدم. ويساق في صدد ذلك حديث رواه الخمسة عن زينب بنت أم سلمة قالت: «سمعت أمي تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفّي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ قال: لا. ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشر. وكانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول. قال حميد راوي الحديث عن زينب لزينب: وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ قالت: كانت المرأة إذا توفّي عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شرّ ثيابها ولم تمسّ طيبا ولا شيئا حتى تمرّ بها سنة ثم تؤتى بجلد دابة حمار أو شاة أو طير فتفتضّ به ثم تخرج. فتعطى بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب وغيره» «1» . وقد عدّ بعضهم الآية على ضوء هذا الحديث ناسخة للآية [240] لأنها جعلت المدة أربعة أشهر وعشرا بدلا من حول كامل. وهناك حديث رواه أبو داود عن ابن عباس يذكر أن الآية [240] نسخت بهذه الآية «2» . غير أن هناك من قال إن حكم الآية [240] ظل محكما لأنها في حق الأرملة التي تريد أن تبقى في بيتها سنة كما كان الأمر قبل الإسلام. وهناك حديث يرويه البخاري عن عبد الله بن الزبير قال: «قلت لعثمان: والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج قد نسختها الآية التي سبقتها فلم تكتبها أو تدعها؟ قال يا ابن أخي: لا أغيّر شيئا منه عن مكانه» «3» . وليس في جواب عثمان تأييد للنسخ وكل ما يفيده وهذا مهم أن ترتيب الآيتين كان منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبأمره.
ومهما يكن من أمر فإن حديث زينب يفيد صحة ما ذهب إليه أصحاب القول الأول بشرط أن يعدل فيقال إن في الآية تعديلا للمدة من سنة إلى أربعة أشهر
(1) التاج ج 2 ص 329 و 330 والحفش المخدع الحقير. ومعنى تفتضّ به تمسح به قبلها وجسمها من أثر الدم والقذر.
(2)
التاج ج 4 ص 56.
(3)
المصدر نفسه.
وعشر ليال. وهذا هو المستفاد من حديث ابن عباس أيضا. وهذا لا يمنع أن يكون في القول الثاني وجاهة على ما سوف نشرحه في تفسير الآية [240] .
ونرى من واجبنا أن نقول كلمة في صدد نهي النبي صلى الله عليه وسلم للأرملة أن تكتحل إذا شكت عينها. فالنبي صلى الله عليه وسلم أوسع صدرا وأفقا من منع ذلك إذا كان بسبب مرض.
وكل ما يمكن أن يقال إنه ظن أن الكحل للزينة أو أراد أن لا يفتح بابا للتأويل في صدد إحداد الزوجة على زوجها والله تعالى أعلم.
2-
هناك من قال إن مدة الأشهر الأربعة والعشر هي مدة انتظار ولا يسميها مدة إحداد. لأن الآية لا تسميها كذلك وتستعمل كلمة يَتَرَبَّصْنَ وهناك من سماها مدة إحداد استنادا إلى بعض أحاديث نبوية منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أم عطية قالت: «كنا ننهى أن نحدّ على ميت فوق ثلاث إلّا على زوج أربعة أشهر وعشرا. ولا نكتحل ولا نتطيب ولا نلبس ثوبا معصفرا، وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من حيضها في نبذة من كست أظفار» «1» .
والقول الثاني هو الأوجه على ضوء الأحاديث ولا سيما إن المدة لا يمكن أن تكون لاستبراء الرحم الذي يكفي له حيضة واحدة قياسا على عدة المختلعة والمطلقة بتاتا أو ثلاث مرات أو المطلقة طلاقا بائنا على ما شرحناه في سياق الآيات السابقة.
3-
وهناك من قال إنه ليس في الآية ما يمنع الأرملة من أن تفعل ما تشاء أثناء عدة الإحداد إلّا عدم التزوج، غير أن الأحاديث المروية عن أم عطية وغيرها صريحة بأن الأربعة منهية عن التطيب والتزين والتكحل ولبس الثياب المفرحة والمعصفرة. وهناك حديث يرويه الإمام أحمد يرويه القاسمي يذكر أن امرأة قتل زوجها فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في التحول إلى أهلها لأنها بعيدة عنهم ولأنه لم يترك لها نفقة ولا مالا. فأذن لها أولا ثم دعاها فقال: امكثي في بيتك الذي أتاك نعيّ زوجك فيه حتى يبلغ الكتاب أجله» . وهناك من أوجب استنادا إلى الحديث عدم
(1) التاج ج 2 ص 329 والكست نبات ذو رائحة ينبت في أظفار يذهب الرائحة الكريهة.
وهناك أحاديث أخرى عن غير أم عطية، انظر ص 330.
خروجها وهناك من لم ير في الحديث إيجابا عليها، ونحن نرى هذا هو الأوجه ونفسر الحديث بأنه قصد بذلك أن تظل في بيت زوجها مدة الإحداد وحسب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن للمرأة حاجات ومصلحة لا بدّ من خروجها إليها، والله أعلم.
4-
قال المؤولون: إن الأرملة الحامل تتبع في مدة تربصها أو حدادها حكم آية سورة الطلاق هذه: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فإذا تأخر وضعها عن المدة المعينة في الآية استمر تربصها وإن تقدم انتهى أجلها. ومع أن آية سورة الطلاق قد جاءت في صدد عدة المطلقات فإن هناك حديثا رواه الخمسة عن أبي هريرة قال: «اجتمع أبو سلمة وابن عباس وهما يذكران أن المرأة تنفس (أي تلد) بعد وفاة زوجها بليال فقال ابن عباس: عدتها آخر الأجلين وقال أبو سلمة: قد حلت بالوضع فأرسلوا فسألوا أم سلمة فقالت: نفست سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها بليال فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تتزوج» «1» . وقد أخذ بهذا معظم المذاهب ولا سيما إن الجملة في آية سورة الطلاق مطلقة. وقصد التيسير والتخفيف من الحكمة الملموحة في الحديث النبوي الذي كان لبيان حالة سكتت عنها الآية التي نحن في صددها، وقد يتأخر وضع الحامل إلى أكثر من أربعة أشهر وعشر فتكون مجبرة على التربص بنفسها إلى أن تلد. وقد يكون النبي صلى الله عليه وسلم في تشريعه لاحظ ذلك فشاءت حكمته أن يخفف عنها إذا ولدت قبل انتهاء المدة مقابل ما هو شاق حينما تطول مدة وضعها، والله تعالى أعلم.
5-
وفي صدد التعريض بخطبة الأرامل أثناء العدة روي عن أهل التأويل صيغ عديدة بما يحسن أن يقوله الخاطب للأرملة مثل إنك لأهل للزواج وإنك إلى خير. وإني عليك لحريص، وإني لفي حاجة إلى النساء وأجازوا إرسال هدية للأرملة تكون بمثابة تعريض بالخطبة وكل هذا وجيه.
(1) التاج ج 2 ص 328. وأبو سلمة إما أن يكون غير أبي سلمة زوج أم سلمة الأول زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإما أن يكون الصحيح ابن أبي سلمة لأن أبا سلمة مات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والحادث وقع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
ويلفت النظر إلى جملة: وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً ففيها نهي عن مواعدة الأرملة سرا أو مساررتها إلا في نطاق الوقار والحشمة والمشروع من القول، وهذا تأديب قرآني واجب الالتزام به، والله تعالى أعلم.
6-
هناك من قال إن الضمير في جملة وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ عائد إلى الحكام وأولياء الأرملة. وإنها تتضمن تقرير حقهم في منعها من الإخلال بأحكام الحداد المذكورة في الآية والأحاديث قبل انتهاء المدة. وهناك من قال إنه عائد إلى الأولياء والأرامل معا بسبيل التنبيه على أنه لا حرج على الجميع بأن تفعل الأرملة بنفسها ما تشاء من أمور مشروعة. ويلحظ أن رفع الجناح هو عما يفعلن من أمور مشروعة حين بلوغ الأجل، ولا علاقة له بما قبل ذلك. وهذا يجعل القول الثاني هو الأكثر وجاهة وورودا، ومع ذلك فإن القول الثاني لا يخلو من وجاهة وبخاصة في حق الحاكم في منع زواج في وقت نهى عنه القرآن، والله تعالى أعلم.
7-
والأكثر على أن جملة فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ تعني الزواج بعد انتهاء المدة. وهناك من قال إن فيها دليلا على حرية الأرملة في تزويج نفسها بدون ولي وإذن منه. وهناك من استند إلى جملة فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ السابقة لهذه الجملة فأوجب الولي وإذنه على كل حال ويتبادر لنا أن القول الأول هو الأوجه لأن النص القرآني أكثر صراحة وحسما. وهناك حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة جاء فيه: «الثيّب أحقّ بنفسها من وليّها» «1» .
8-
هناك من قال إن مدة حداد الأمة المتوفّى عنها زوجها أو سيدها إذا كانت مستفرشة له هي نصف مدة الحرة، وهناك من قال إنها نفس المدة، وقد يكون القول الثاني هو الأوجه لأن الآية مطلقة ومع ذلك فالقول الأول لا يخلو من وجاهة قياسا على عدد تطليقاتها وعدة طلاقها على ما ذكرناه قبل.
9-
هناك من أوجب للمرأة المتوفى عنها زوجها نفقة طيلة مدة حدادها.
وقال إن ذلك دين على التركة قياسا على المطلقة التي جعل لها ذلك في آية سورة
(1) التاج ج 2 ص 266.