الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1)
راعنا: ارعنا سمعك أو راقبنا وهي من الرعاية أو المراعاة.
(2)
انظرنا: انظر إلينا.
(3)
ننسها: قيل إنها من النسيان، بمعنى نجعل حافظها أو ذاكرها ينسى.
وقيل إنها من الإنساء وهو التعليق والتأجيل، وقرئت ننسئها وننسأها وننسكها أيضا: أي ننسيك إياها.
تعليق على الحلقة العاشرة من سلسلة الآيات الواردة في السورة في اليهود
في الآيات انتقال استطرادي عن اليهود إلى خطاب المؤمنين مما هو مماثل للحلقة الخامسة ومضامينها واضحة الدلالة على أنها متصلة بمواقف اليهود وأقوالهم، وقد احتوت بعض صور من مواقفهم ودسائسهم وعبارتها واضحة.
وقد روى المفسرون «1» في صدد الآية الأولى أي [104] ولفظ (راعنا) الذي جاء فيها أن هذا اللفظ كان لفظ شتيمة عند اليهود أو أن اليهود كانوا يخلطون بين
(1) انظر تفسير الآية في الطبري وابن كثير والخازن.
معناها من الرعاية والمراعاة وبين مشابههما اللفظي وهو (الرعونة) فكانوا حينما يسمعون المسلمين يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم به وهو من أساليب الخطاب المعتادة يتخذون ذلك موضوع تفكه وسخرية، فأمرتهم الآية الأولى بالكف عن استعمال هذا اللفظ واستعمال اللفظ البديل وهو انظر إلينا. والرواية لم ترد في كتب الصحاح ولكن روح الآية قد يفيد احتمال صحتها. وفي سورة النساء آية تذكر أن اليهود كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ (راعنا) ويلوون به ألسنتهم ليؤدي ما يعنون حقا من الغمز والسخرية والنعت بالرعونة وهي هذه: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) . ومما روي أن سعد بن معاذ زعيم الأوس انتبه إلى خبث اليهود ومقصدهم من ترديد الكلمة فقال لهم: يا أعداء الله عليكم لعنة الله والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربنّ عنقه. فقالوا له:
ألستم أنتم تقولونها له؟.
وقد روى المفسّرون «1» في صدد الآية الثالثة أي الآية [106] أن المشركين أو اليهود كانوا يغمزون النبي صلى الله عليه وسلم ويثيرون الشك في المسلمين نحوه بقولهم: إنه يأمر بالشيء ثم ينهى عنه وأن هذا ليس هو شأن الأنبياء. فاحتوت الآية ردا عليهم حيث تضمنت تقريرا ربانيا بأنه ليس من غير الجائز لله أن ينسخ آية بآية أو يؤجل حكما ويبدله بآخر أو ينسي أحدا آية من آياته بقصد نسخها ورفعها. فإن له ملك السموات والأرض وله الأمر من قبل ومن بعد. ولقد يأمر في وقت بأمر ثم ينسخه أو يستبدل به آخر أو ينسيه تبعا لمقتضيات الحوادث والظروف. وهو شيء طبيعي لا ينبغي أن يكون محلا للاستغراب ولا مجالا للدس، والسامع يعلم أو النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله له ملك السموات والأرض وهو على كل شيء قدير، وليس لأحد من دونه ولي ولا نصير وقد جاء هذا بصيغة السؤال الذي يتضمن التقرير والتوكيد.
(1) انظر تفسير الآية في تفسير الخازن والنسفي والقاسمي.
وهذه الرواية لم ترد كذلك في الصحاح ولكنها متسقة مع فحوى الآية، مع التنبيه على أن رواية كون الغمز من اليهود أوجه من كونه من المشركين، فلم يكن في المدينة مشركون يجرؤون على مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وفي شرح الآيات التالية ما يدعم ما قلناه إن شاء الله.
ويتبادر لنا أنه جرى في ظروف نزول هذه الفصول حادث ما من نسخ أو تبديل أو إنساء في أوامر النبي صلى الله عليه وسلم أو آيات القرآن فنشأ عنه بعض القيل والقال ووجد اليهود فيه مجالا للدس والتشكيك فاحتوت الآية ردا وتنديدا. وننبه على أننا لم نطلع فيما اطلعنا عليه على رواية في حادث معين بالذات ولما كانت السلسلة التالية لهذه الآيات تحتوي في قسمها الأخير أي الآيات [142- 150] إشارة إلى تبديل سمت القبلة عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام وإلى ما كان بسبب ذلك من اعتراض اليهود ودسهم فمما يرد على البال أن يكون بين ما احتوته الآية وبين هذا الحادث صلة ما. ولا ندري إذا كان تعبير ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها مما يمكن أن يضعف هذا الخاطر. غير أن الأسلوب القرآني من جهة والإطلاق في التعبير من جهة أخرى قد يساعدان على تصويبه. وهذا بالإضافة إلى أن علماء القرآن يعتبرون تبديل سمت القبلة مما يدخل في نطاق المنسوخات القرآنية «1» .
وقد روى بعض المفسرين أن الآية [108] موجهة إلى اليهود لأنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء «2» وروى بعضهم أنها موجهة إلى المشركين الذين سألوا أن يأتيهم النبي بالله والملائكة وأن يفجر لهم الأنهار ويجعل جبل الصفا ذهبا «3» . وروى بعضهم أنها موجهة إلى المسلمين لأن واحدا منهم
(1) انظر الإتقان للسيوطي ج 2 ص 22، وانظر أيضا تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير فهما يذكران أن تبديل سمت القبلة من النسخ. ومما رواه الطبري عن ابن عباس قوله:«كان أول ما نسخ القرآن القبلة» .
(2)
انظر كتب تفسير الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير ومنهم من أورد جميع الروايات ومنهم من أورد بعضها. والجواب المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم منقول من تفسير الطبري برواية أبي العالية.
(3)
انظر كتب تفسير الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير ومنهم من أورد جميع الروايات ومنهم من أورد بعضها. والجواب المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم منقول من تفسير الطبري برواية أبي العالية.
قال: يا رسول الله لو أن كفاراتنا ككفارات بني إسرائيل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا نبغيها، ما أعطاكم الله خير مما أعطاهم، كانوا إذا فعل أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه مع بيان كفارتها. فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة. وقد أعطاكم وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
النساء: [110] وإن الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن، وإن من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها ولا يهلك على الله إلّا هالك» فأنزل الله الآية [2] .
وكل هذه الروايات لم ترد في الصحاح، وطلبات المشركين رويت وأوردت في سياق آيات أخرى مكية فليس لها هنا محل في ما هو المتبادر. وطلب اليهود المروي قد حكته إحدى آيات سورة النساء: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153)
فليس له هنا محل أيضا. وفحوى الآية وروحها تؤيدان كون الآية موجهة إلى المسلمين. ومع ما في الجواب المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوة وروعة على السؤال المروي من أحد المسلمين فإنه لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. ويلحظ أن الآية: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110)
هي في سورة النساء المتأخرة كثيرا في النزول عن ظروف نزول هذه الآية وهذا فضلا عن أن ما تمناه المسلم لا ينطبق تماما على ما في الآية من سؤال تنديدي.
والذي يتبادر لنا من فحوى الآية ثم من فحوى الآيات عامة أن بعض المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم سؤالا فيه قصد تعجيزي أو شكّ ما، واحتواء الآية إنذارا لمن يتبدل الكفر بالإيمان مما يؤيد ذلك.
وقد روى الطبري عن ابن عباس أن الآية [109] نزلت في حيي بن أخطب
وياسر بن أخطب من أشد اليهود حسدا للعرب واجتهادا في ردّ الناس عن الإسلام.
والرواية كسابقاتها لم ترد في الصحاح وإن كان ما ذكر فيها يتسق مع ما حكته الآية مع القول إن صيغة الآية تفيد أن الأمر لم يكن قاصرا على شخصين من اليهود بل كان شأن الكثيرين منهم بالإضافة إلى المشركين. وأن هذا كان باديا منهم قبل نزول آيات الحلقة بل وقبل نزول آيات حلقات سابقة أخرى. وأن الآية أرادت تنبيه المسلمين إلى سوء نية اليهود ضدهم وشدّة غيظهم وحسدهم لهم رغم ما يعرفونه من الحق والصدق في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن. وإن ورودها بعد الآية التي فيها إنكار لرغبة المسلمين في إيراد الأسئلة على رسول الله وإنذار لمن يبدل الكفر بالإيمان يدل على أن هذه الرغبة كانت من إيحاء اليهود وتلقينهم. ومن نوع ما حكي عن اليهود القدماء وتعجيزهم لموسى عليه السلام.
ويتبادر لنا أن ذكر المشركين في الآيتين [105 و 109] قد جاء من قبيل الاستطراد وأن المقصد القريب هو اليهود. ولعله أريد بذكر المشركين في هذا المقام تقرير كون اليهود الذين يفرض أنهم أقرب إلى المسلمين دينا هم والمشركون سواء في إرادة الشرّ وسوء النية نحو المسلمين.
وقد تكون التنبيهات التي وردت في الآيتين المذكورتين آنفا قد هدفت إلى توكيد النهي القريب الذي احتوته الآية [104] للمسلمين عن مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة يلوي اليهود بها ألسنتهم لتكون شتيمة له وسخرية به حتى لا يتحججوا بهم، غير أن روح الآيتين بل فحواهما يلهمان أنهما أوسع مدى من الكلمة المنهي عنها فاليهود يريدون أن يردوهم عن دينهم بكل وسيلة ويضمرون لهم الغيظ والحسد فيجب عليهم أن يتنبهوا لدسائسهم ولا يقعوا في حبائلهم.
وقد تدل هذه التنبيهات على ما كان من قوة أثر اليهود في أوساط المسلمين الذين كانت غالبيتهم من أهل المدينة، وهم مواطنوهم وحلفاؤهم قبل الإسلام.
وقد يكون من مقاصدها بل ومن مقاصد الآيات السابقة واللاحقة من السلسلة الطويلة فضح نوايا اليهود وخبث سرائرهم وتخليص المسلمين من أثرهم القوي.
وتجريدهم من أسباب النجاح من دسهم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته.
وفي صدد الشطر الثاني من الآية [109] نقول إنه احتوى خطة للمسلمين وإنذارا لليهود، فعلى المسلمين أن يتسامحوا ويصبروا إلى أن يكون أمر آخر لله، وعلى اليهود أن لا يستعجلوا هذا الأمر الآخر الرباني.
والمتبادر أن اليهود لم يكونوا قد تجاوزوا المماحكات الكلامية ومواقف الدسّ الحذرة إلى النكث والعداء الصريحين فاقتضت حكمة التنزيل أن يؤمر المسلمون بما أمروا. ثم تجاوزوها إلى النكث والعداء الصريحين فأتى بذلك أمر الله الأخير بقتالهم والتنكيل بهم على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسير سورة آل عمران والأنفال والأحزاب والفتح والحشر، وقد لحظ المفسرون هذا ونبهوا عليه بدورهم.
والمتبادر أن ما جاء في الآية [110] قد أريد به تلقين المسلمين عدم الاهتمام والاغتمام بدسائس اليهود ومكائدهم، فعليهم أن يقوموا بواجباتهم نحو الله والناس فهو المطلوب منهم وسيكون ما يقدمونه بين أيديهم من خير عدة لهم في الآخرة.
ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فإن فيها تلقينات قرآنية جليلة مستمرة المدى مثل سابقاتها بالإضافة إلى ما نبهنا عليه سواء أفي تعليمها أدب الكلام والاستماع، أم في تحذيرها من الألفاظ التي تحدث امتعاضا ولو لم يكن مقصودا أم في الشك بعد الإيمان وإثارة المواضيع التي لا طائل من ورائها أو يكون من ورائها تشويش وبلبلة. أم في الاستماع لوساوس ذوي النوايا الخبيثة الذين يصدرون عن حقد وحسد ومكابرة في الحق ولا يطيب لهم إلا الكيد والدس وإثارة الشبهات وإضعاف القلوب والعزائم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [108] بعض الأحاديث المتساوقة معها مدى وتلقينا. من ذلك حديث رواه مسلم جاء فيه: «إنّ أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرّم فحرّم من أجل مسألته» «1» . وحديث رواه الشيخان عن
(1) أورد هذا الحديث مؤلف التاج ج 4 ص 95.