الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(8)
بمزحزحه: بمبعده.
تعليق على الحلقة السابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل
وهذه حلقة سابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل على سبيل التنديد، وقد ربط فيها بين أفعال بني إسرائيل في الغابر ومواقفهم الحاضرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لتوكيد اللحمة الأخلاقية بين السابقين واللاحقين تبعا للحمة الجنسية كما كان الأمر والهدف في الحلقات السابقة.
وقد جاء بعض آياتها على سبيل الحكاية عن الغابرين والحاضرين وبعضها بضمير الجمع المخاطب الذي يعود إليهم كما هو المتبادر من الآيات صراحة وضمنا.
وقد تضمنت الآيات ما يلي:
1-
لقد آتى الله موسى الكتاب لهدايتهم وتعليمهم ثم أرسل إليهم من بعده رسلا عديدين ثم أرسل عيسى مؤيدا بالمعجزات وروح القدس. فكانوا- أي بني إسرائيل الغابرين على ما يلهمه فحوى الآيات- كلما جاءهم رسول من عند الله لا يجاريهم في أهوائهم استكبروا عليه وخالفوه وكذبوه أو قتلوه.
2-
وكانوا- أي- بني إسرائيل المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يلهمه فحوى الآيات كذلك- كلما تلا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم آيات القرآن ودعاهم إلى التدبر فيها تجاهلوا وتصامموا وقالوا قلوبنا غير واعية لما تقول أو مملوءة فلا محل فيها لزيادة وأصروا على الجحود والكفر حيث يدل هذا على ضعف إيمانهم لأنهم لو كانوا مؤمنين إيمانا صادقا وتاما بما عندهم لما وقفوا هذا الموقف لأن ما يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم عليهم هو متطابق مع ما عندهم وهكذا كفروا بما أنزل الله متطابقا مع ما عندهم فاستحقوا لعنة الله التي يستحقها الكافرون.
3-
ولقد كانوا يستفتحون على العرب بما عندهم من علم ومعرفة فلما
جاءهم ما عرفوا أنه حق ومطابق لما عندهم كفروا وجحدوا وكان ذلك منهم بغيا وحنقا لكون الله ينزل من فضله على عبد من عباده من غير جنسهم وملتهم. وهكذا اشتروا الكفر بالإيمان ولبئس ما كان من بيع وشراء باؤوا بهما بعذاب الله المهين وغضبه الشديد المضاعف ولعنته المحيطة بالكافرين أمثالهم.
4-
ولقد كانوا كلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم آمنوا بما أنزل الله عليه قالوا نكتفي بما أنزل الله علينا ولسنا في حاجة إلى غيره. مع أن ما أنزل عليه هو متطابق مع ما عندهم والحق والمنطق يلزمانهم بالإيمان به لأنه حلقة من نفس السلسلة وصادر من نفس المصدر.
5-
ولقد كان هذا شأن آبائهم من قبل فقد جاءهم موسى بالبينات فانحرفوا عنها ظالمين لأنفسهم وعبدوا العجل وقتلوا أنبياء الله بعد موسى ولقد أخذ الله منهم العهد والميثاق على أن يستمسكوا بما جاءهم من عند الله بكل قوة ويسمعوا إليه فقالوا سمعنا بأفواههم ولسان حالهم يقول عصينا لأنهم انحرفوا عما عاهدوا عليه وتمكنت عبادة العجل في قلوبهم. فلبئس هذا الإيمان الذي يتبجحون به إذا كان يأمرهم ويأمر آباءهم من قبل بما يفعلونه هم وبما كان يفعله آباؤهم قبلهم من المنكرات والانحرافات.
وفي الآيات الثلاث الأخيرة تحدّ قوي لهم:
1-
حيث تأمر النبي بأن يقول لهم إذا كانت الدار الآخرة ونعيمها لهم وحدهم من دون الناس كما يزعمون فليتمنوا الموت حتى يصيروا إليها:
2-
وحيث تقرر أنهم لن يتمنوا الموت لأنهم يعرفون ما اقترفت أيديهم ويتيقنون في قرارة أنفسهم أن ما هم فيه بغي متعمد وأن الذي لهم عند الله هو ما للظالمين. وأنهم نتيجة لذلك أحرص على الحياة والرغبة عن الموت وما بعد الموت حتى إنهم ليفوقون في ذلك المشركين وحتى إن الواحد منهم ليتمنى أن يعيش ألف سنة ولكن هذا لن يجديهم نفعا ولن يجعلهم يفلتون من عذاب الله الذي
هو خبير بكل ما يفعلون، غير غافل عنه قد أحصاه عليهم وأعدّ لهم جزاءه.
والتقريع والتنديد في هذه الحلقة عنيفان جدا، وهذا العنف متناسب مع ما تحكيه من انحراف الآباء والأبناء وكفرهم وبغيهم وقتلهم الأنبياء تارة، واستكبارهم وتكذيبهم تارة، وعبادتهم العجل ونقضهم عهد الله وميثاقه عمدا وبغيا مما يستثير النقمة والسخط حقا ويدل على ما كان لمواقف الحاضرين من أثر أو ما كان يتوقع لها من أثر في الأوساط العربية التي كان لهم فيها مركز ديني وثقافي. ولا سيما أن القرآن المكي كثيرا ما استشهد بالكتابيين- ومنهم بنو إسرائيل- على صحة الرسالة المحمدية والوحي القرآني وصدق صلتهما بالله. وفي الأسفار المتداولة اليوم صور كثيرة من مواقف اليهود القدماء فيها تكذيب وانحراف وتمرد وقتل أنبياء حيث ينطوي في ذلك أولا قصد تذكير اليهود السامعين بما كانوا يعرفونه من مواقف آبائهم والتنديد بهم لأنهم يكررون بمواقفهم الجحودية ما فعله أولئك الآباء، ويستحكم فيهم بذلك الإفحام والإلزام.
وقد أورد المفسرون «1» في جملة وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أقوالا معزوة إلى بعض التابعين وتابعيهم، منها أن اليهود كانوا يتفاخرون على العرب بما عندهم من كتاب سماوي وبما هم عليه من دين سماوي فلما جاءهم ما هو متطابق مع ما كانوا يتفاخرون ويعرفون أنه حق كفروا به. ومنها أن اليهود كانوا يقولون للعرب حينما يشتد بينهم الجدل أو الخلاف إنه سوف يبعث قريبا نبي عربي، صفاته مذكورة عندنا وسنتفق معه عليكم ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. والجملة تتحمل هذا وتتحمل ذاك وفي آية سورة الأعراف هذه: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ
(1) انظر تفسير الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي والبغوي. وننبه على أن المفسرين أوردوا أقوالا أخرى مختلفة في الصيغة متفقة في الجوهر فاكتفينا بما لخصناه.
وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) ما قد يؤيد القول الثاني.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن اليهود لما كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وجحدوا رسالته قال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء: اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا.
فقال سلام بن مشكم من بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله الآية: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
…
وعلى كل حال فإن الآية تقرر بصراحة أنه قد جاءهم ما عرفوا أنه الحق فكفروا به وأن الآية التالية لها تقرر أن ذلك إنما كان حسدا وبغيا وغيظا فاستحقوا الحملة العنيفة التي احتوتها الآيات.
وآيات الحلقة بنوع خاص تدعم ما شرحناه من أسباب تنكر اليهود للدعوة المحمدية حيث كبر عليهم أن يبعث الله نبيا من غيرهم فيدعوهم إلى الانضواء إليه ويهدد بحركته ما كان لهم من مراكز ومصالح. ولقد روى الطبري عن أهل التأويل أن جملة فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ تنطوي على الإشارة إلى ما كان من كفرهم بالمسيح والإنجيل ثم بمحمد والقرآن فاستحقوا بذلك غضب الله المضاعف. وأن جملة: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ عنت ما كان من كفرهم بالإنجيل ثم بالقرآن. وإن جملة: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ عنت ما كان من مخالفتهم لما أنزل إليهم وقتلهم أنبياءهم الذين كانوا يبلغونهم أوامر الله. وأن التحدي بتمني الموت الذي أمر الله النبي بتوجيهه إليهم هو جواب على تبجحهم بأنهم أبناء الله وأحباؤه وأنهم الذين اختصهم الله بالجنة يوم القيامة، وجميع هذه التأويلات واردة وسديدة.
وبعض آيات الحلقة تلهم أنها تتضمن حكاية مواقف حجاجية كانت تحدث من النبي واليهود قبل نزولها فتضمنت الآيات الإشارة إليها بسبيل الرد عليهم والتنديد بهم وتحديهم.