الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يجعل شيئا من التموج أو التمازج في أفق ومدار شخصية أهل الكتاب. وقد خلد قدسية الكعبة ومركزيتها فغدت متجه العرب في حياتهم الدينية الجديدة في جميع أنحاء الجزيرة أشد وأقوى وألزم مما كانت لهم قبل هذه الحياة أولا. ومتجه المسلمين في جميع أنحاء العالم على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وبلادهم وناظما لوحدتهم الروحية ثانيا. وكان كذلك عنوانا على إبقاء مناسك الحج والكعبة إذ صارت ركنا مفروضا من أركان الإسلام بعد تصفيتها من شوائب الوثنية ومشاهدها.
وننبه على أمر هام، وهو أن ما قلناه من اكتساب الرسالة الإسلامية شخصية مستقلة هو بالنسبة للموضوع وحسب، وإلا ففي القرآن آيات كثيرة جدا مؤيدة لاستقلال هذه الشخصية. بل القرآن جميعه بسبيل ذلك. وكل ما بينها وبين الملل الكتابية السابقة من قاسم مشترك كونها مثلها مستندة إلى كتاب رباني منزل على رسول الله هدف فيما هدف إلى تصحيح الانحرافات التي ارتكست فيها هذه الملل.
احتمال أن يكون التبديل في بدئه إلهاما ربانيا
وهناك مسألة مهمة أخرى في صدد تبديل القبلة، فالروايات تذكر أن جملة وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ في الآية [143] هي بسبيل تطمين المؤمنين الذين خافوا على الميتين منهم من أن تكون عبادتهم السابقة قد ضاعت حيث قال لهم اليهود إذا كنتم في استقبال المسجد الأقصى على خطأ فقد ضاعت عبادتكم السابقة وإذا كنتم على صواب فسوف تضيع عبادتكم الآتية. وفحوى الآية يؤيد ذلك وينبه المؤمنين في الوقت نفسه إلى أن القبلة التي كانوا عليها كانت اختبارا لهم. وهذا يعني أنها نزلت بعد التبديل. وهذا يقال بالنسبة للآية [142] والتي روت الروايات أنها نزلت حينما أخذ اليهود يتساءلون عن أسباب التحويل ويشككون المسلمين فيه. فإما أن تكون هاتان الآيتان قد نزلتا لحدتهما بعد التحويل وأن يكون في نظم آيات الفصل تقديم وتأخير، وإما أن تكون هذه الآيات قد نزلت جميعها معا بعد التحويل للرد على انتقاد اليهود ودسائسهم وطمأنة النبي والمسلمين وتثبيتهم
وتبرير التحويل وهذا ما نرجحه استئناسا بالآيات السابقة منذ آية النسخ [106] التي استلهمنا منها أنها في صدد هذا التحويل وتبريره والرد على اليهود وتسفيههم.
وإذا صحّ هذا فيسوغ أن يقال إن التبديل كان في بدئه إلهاما ربانيا غير قرآني.
ولعل رواية التبديل التي تذكر أنه وقع أثناء ما كان النبي يصلي الظهر أو العصر مما قد يؤيد ذلك. وليس بين هذا القول وبين الحديث الذي رواه البخاري عن البراء والذي أوردناه سابقا تناقض فيما نرى. إذ يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد ألهم التبديل أثناء الصلاة ثم نزل عليه القرآن بعدها. ورواية كون جملة وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ لتطمين المسلمين هي حديث رواه البخاري أيضا عن ابن عباس وخوف المسلمين إنما كان بعد التبديل كما هو المتبادر.
وفي القرآن شواهد عديدة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلهم العمل ثم ينزل القرآن بتثبيته وتبريره. ومن الأمثلة على ذلك غزوة بدر وفي الآيات التي نزلت في هذه الغزوة جملة: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ الأنفال: [7] وليس ذلك في القرآن مما سوف نزيده شرحا في سياق تفسير سورة الأنفال التي نزلت في صدد هذه الغزوة. ومن الأمثلة كذلك عزيمة النبي صلى الله عليه وسلم على زيارة الكعبة التي انتهت بصلح الحديبية، فإن سورة الفتح التي احتوت إشارة إلى هذه العزيمة وتبريرا لها نزلت بعد صلح الحديبية «1» .
ولقد رويت أحاديث أخرى في صدد استقبال القبلة بعضها وارد في الصحاح وبعضها لم يرد. وقد رأينا من المفيد إيراد بعضها في المناسبة، من ذلك حديث رواه البخاري والنسائي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمّة الله وذمّة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته» «2» . وروى الخمسة عن جابر قال: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي على راحلته حيث
(1) هناك شواهد عديدة أخرى سوف ننبه عليها في مناسباتها فاكتفينا بالشاهدين.
(2)
التاج ج 1 ص 81 و 135- 137.