الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{الفصل الثاني}
1844-
(9) عن أبي رافع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بعث رجلاً من بني مخزوم على الصدقة، فقال لأبي رافع: أصحبني كيما تصيب منها. فقال: لا، حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله،
ــ
1844-
قوله: (عن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم واسمه أسلم (بعث رجلاً من بني مخزوم على الصدقة) أي أرسله ساعياً ليجمع الزكاة ويأتي بها إليه. قال المنذري: وهذا الرجل هو الأرقم بن الأرقم القرشي المخزومي بين ذلك الخطيب والنسائي وكان من المهاجرين الأولين. وكنيته أبوعبد الله وهو الذي استخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره بمكة في أسفل الصفا، حتى كملوا الأربعين رجلاً، آخرهم عمر بن الخطاب -انتهى. وقيل: هذا الرجل المبعوث هو الأرقم بن أبي الأرقم الزهري لما روى أحمد (ج6:ص8) من طريق الثوري عن ابن أبي ليلى عن الحكم بن عتيبة عن ابن أبي رافع عن أبي رافع. قال: مر على الأرقم الزهري أو ابن أبي الأرقم، واستعمل على الصدقات قال فاستتبعني الحديث. وروى أبويعلى والطبراني في الكبير، والبيهقي من طريق الثوري عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس. قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم الأرقم بن أبي الأرقم الزهري على السعاية فاستتبع أبارافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له. فقال: يا أبارافع! إن الصدقة حرام على محمد وآل محمد وإن مولى القوم منهم أو من أنفسهم. ففي الروايتين دليل على أن الرجل المبعوث على السعاية في هذه القصة هو الأرقم الزهري. قلت: فيه نظر لأنه قد صرح في رواية شعبة عن الحكم عن ابن أبي رافع عن أبي رافع عند أحمد (ج6:ص10) والترمذي وأبي داود والنسائي والحاكم والبيهقي، إن الرجل المبعوث على الصدقة من بني مخزوم، وهذا الطريق أصح من طريقي أحمد، والطبراني المتقدمين. قال البيهقي: رواية شعبة عن الحكم عن ابن أبي رافع عن أبي رافع أولى من رواية ابن أبي ليلى، وابن أبي ليلى هذا كان سيء الحفظ. وقال الحافظ في الإصابة: بعد ذكر طريق الطبراني لكن رواه شعبة عن الحكم عن مقسم. فقال: استعمل رجلاً من بني مخزوم وكذلك أخرجه أبوداود وغيره وإسناده أصح من الأول -انتهى. وهذا لأن في طريق الطبراني (وكذا طريق أحمد) محمد بن أبي ليلى وفيه كلام. قال أحمد: وشعبة وأبوحاتم وابن المديني والساجي إنه سيء الحفظ. وقال الدارقطني كان رديء الحفظ كثير الوهم. وقال ابن حبان: كان فاحش الخطأ ردي الحفظ (فقال) أي الرجل المخزومي (أصحبني) بفتح الحاء المهملة أمر من باب سمع أي رافقني وصاحبني في هذا السفر (كيما تصيب) نصب بكى و"ما" زائدة أي لتأخذ (منها) أي من الصدقة (فقال لا) أي لا أصحبك (فأسأله) أي أستأذنه أو أسأله هل يجوز لي أم لا
فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال: إن الصدقة لا تحل لنا، وإن موالي القوم من أنفسهم)) . رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي.
ــ
(فانطلق) أبورافع (إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله) عن ذلك (إن الصدقة لا تحل لنا) تقدم الكلام عليه (وإن موالي القوم) أي عتقاءهم (من أنفسهم) بضم الفاء أي فحكمهم كحكمهم يعني فلا تحل لك لكونك مولانا، وفيه دليل على تحريم الصدقة على موالي بني هاشم ولو كان الأخذ على جهة العمالة. قال الحافظ في الفتح: وبه قال أحمد وأبوحنيفة وبعض المالكية كابن الماجشون وهو الصحيح عند الشافعية. وقال الجمهور: يجوز لهم لأنهم ليسوا منهم حقيقة ولذلك لم يعوضوا بخمس الخمس ومنشئو الخلاف قوله منهم أو أنفسهم، هل يتناول المساواة في حكم تحريم الصدقة أم لا، وحجة الجمهور أنه لا يتناول جميع الأحكام فلا دليل فيه على تحريم الصدقة، لكنه ورد على سبب الصدقة وقد اتفقوا على أنه لا يخرج السبب، وان اختلفوا هل يخص به أم لا-انتهى. وقال الأمير اليماني: الحديث دليل على أن حكم مولى آل محمد صلى الله عليه وسلم حكمهم في تحريم الصدقة. قال: وذهبت جماعة إلى عدم تحريمها عليهم لعدم المشاركة في النسب ولأنه ليس لهم في الخمس سهم. وأجيب بأن النص لا تقدم عليه هذه العلل فهي مردودة فإنها ترفع النص. قال ابن عبد البر: هذا خلاف الثابت من النص ثم هذا الحديث نص على تحريم العمالة على الموالي، وبالأولى على آل محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أراد الرجل الذي عرض على أبي رافع أن يوليه على بعض عمله الذي ولاه النبي صلى الله عليه وسلم فينال عمالة، لا أنه أراد أن يعطيه من أجرته جائز فإنه جائز لأبي رافع أخذه إذ هو داخل تحت الخمسة الذين تحل لهم، لأنه قد ملك ذلك الرجل أجرته فيعطيه من ملكه فهو حلال لأبي رافع فهو نظير قوله عليه السلام، ورجل تصدق عليه منها فأهدى منها -انتهى. وقال الخطابي في المعالم:(ج2:ص71) أما موالي بني هاشم فانه لا حظ لهم في سهم ذي القربى فلا يجوز أن يحرموا الصدقة، ويشبه أن يكون إنما نهاه عن ذلك تنزيهاً له. وقال: مولى القوم من أنفسهم على سبيل التشبيه في الاستنان بهم، والإقتداء بسيرتهم في اجتناب مال الصدقة التي هي أوساخ الناس، ويشبه أن يكون صلى الله عليه وسلم قد كان يكفيه المؤنة ويزيح له العلة، إذ كان أبورافع مولى له وكان يتصرف له في الحاجة والخدمة، فقال له على هذا المعنى، إذا كنت تستغنى بما أعطيت فلا تطلب أوساخ الناس فإنك مولانا ومنا -انتهى. ولا يخفى ما فيه من التكلف ومخالفة ظاهر الحديث. والحق عندنا ما ذهب إليه أحمد وأبوحنيفة ومن وافقها والله تعالى أعلم (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي) واللفظ للترمذي وأخرجه أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي وسكت عنه أبوداود والمنذري وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم. وروى البخاري من حديث أنس مرفوعاً مولى القوم من أنفسهم، وروى أحمد وابن أبي شيبة وغيرهما من حديث أم كلثوم بنت علي، قالت حدثني مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعاً إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة ومولى القوم منهم.
1845-
(10) وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوى)) .
ــ
1845-
قوله: (لا تحل الصدقة لغني) هذا مما لا خلاف فيه بين أهل العلم لكنهم، اختلفوا في حد الغنى المانع من الصدقة، وفي المحيط من كتب الحنفية الغنى على ثلاثة أنواع. غني: يوجب الزكاة وهو ملك نصاب حولي تام. وغني: يحرم الصدقة ويوجب صدقة الفطر والأضحية. وهو ملك ما يبلغ قيمة نصاب من الأموال الفاضلة عن حاجته الأصلية. وغني: يحرم السؤال، دون الصدقة وهو أن يكون له قوت يومه وما يستر عورته -انتهى. وبسط الكلام فيه ابن قدامة في المغني كما سيأتي (ولا لذى مرة) بكسر الميم وتشديد الراء أي قوة. قال الخطابي: معنى المرة القوة وأصلها من شدة قتل الحبل يقال أمررت الحبل إذا أحكمت فتله فمعنى المرة في الحديث شدة اسر الخلق وصحة البدن التي يكون معها احتمال الكد والتعب - انتهى. وقال الشوكاني: قال الجوهري: المرة القوة وشدة العقل ورجل مرير أي قوي ذو مرة. وقال غيره: المرة القوة على الكسب والعمل (سوى) أي سليم الخلق تام الأعضاء. قال الجوهري: السوى مستوى الخلق والمراد استواء الأعضاء وسلامتها قال ابن الملك: أي لا تحل الزكاة لمن أعضاءه صحيحة، وهو قوي يقدر على الاكتساب بقدر ما يكفيه وعياله، وبه قال الشافعي. قال الطيبي وقيل: المعنى ولا لذى عقل وشدة وهو كناية عن القادر على الكسب، وهو مذهب الشافعي والحنفية على أنه إن لم يكن له نصاب حلت الصدقة. قال القاري: في هذا الحديث نفي كمال الحل لا نفس الحل أو لا تحل له بالسؤال -انتهى. وقال السندي: لا تحل الصدقة أي سؤالها وإلا فهي تحل للفقير وإن كان صحيحاً سوى الأعضاء إذا أعطاءه أحد بلا سؤال وقال الترمذي: قد روى في غير هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تحل المسألة لغني. ولا لذى مرة سوى، وإذا كان الرجل قوياً محتاجاً، ولم يكن عنده شيء فتصدق عليه أجزأ عن المتصدق عند أهل العلم. ووجه هذا الحديث عند بعض أهل العلم على المسألة -انتهى. يعني إن هذا الحديث محمول على المسألة، والمراد بقوله لا تحل الصدقة لا تحل المسألة، والدليل عليه حديث حبشي بن جنادة الآتي في الفصل الثاني من الباب الذي يليه، قال الخطابي: اختلف الناس في جواز أخذ الصدقة لمن يجد قوة يقدر بها على الكسب، فقال الشافعي: لا تحل له الصدقة. وكذلك قال إسحاق بن راهوية وأبوعبيد، وقال أصحاب الرأي: يجوز له أخذ الصدقة إذا لم يملك مائتي درهم فصاعداً -انتهى. وقال ابن قدامة (ج2:ص166) اختلف العلماء في الغنى المانع من أخذها ونقل عن أحمد فيه روايتان أظهرهما أنه ملك خمسين درهماً أو قيمتها من الذهب أو وجود ما تحصل به الكفاية على الدوام من كسب، أو تجارة أو عقار أو نحو ذلك ولو ملك من العروض، أو الحبوب أو السائمة أو العقار ما لا تحصل به الكفاية لم يكن غنياً وإن ملك نصاباً هذا هو الظاهر من مذهبه، وهو قول الثوري
.................................
ــ
والنخعي وابن المبارك وإسحاق. وروي عن علي وعبد الله إنهما قالا: لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهماً أو عدلها أو قيمتها من الذهب وذلك لما روى عبد الله بن مسعود مرفوعاً من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خموشاً أو خدوشاً أو كدوحاً في وجهه. فقيل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! وما الغنى؟ قال خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب (وسيجيء هذا الحديث في الباب الذي يليه) والرواية الثانية إن الغنى ما تحصل به الكفاية فإذا لم يكن محتاجاً حرمت عليه الصدقة وإن لم يملك شيئاً، وإن كان محتاجاً حلت له الصدقة، وإن ملك نصاباًً والأثمان وغيرها في هذا سواء وهذا اختيار أبي الخطاب، وقول مالك والشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة: رجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوى الحجى من قومه الحديث (وسيجيء في الباب الآتي) فمد إباحة المسألة إلى وجود إصابة القوام أو السداد، ولأن الحاجة هي الفقر والغنى ضدها فمن كان محتاجاً فهو فقير يدخل في عموم النص، ومن استغنى دخل في عموم النصوص المحرمة. والحديث الأول فيه ضعف ثم يجوز إن تحرم المسألة ولا يحرم أخذ الصدقة إذا جاءته عن غير المسألة، فإن المذكور فيه تحريم المسألة فنقتصر عليه. وقال الحسن وأبوعبيد: الغنى ملك أوقية وهي أربعون درهماً لما روى أبوسعيد الخدري مرفوعاً من سأل، وله قيمة أوقية فقد الحف رواه أبوداود، وكانت الأوقية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين درهماً وقال أصحاب الرأي الغنى: الموجب للزكاة هو المانع من أخذها وهو ملك نصاب تجب فيه الزكاة من الأثمان والعروض المعد للتجارة أو السائمة أو غيرها لحديث "تؤخذ من أغنياءهم وترد في فقراءهم" فجعل الأغنياء من تجب عليهم الزكاة، فيدل ذلك على أن من تجب عليه غنى، ومن لا تجب عليه ليس بغنى فيكون فقيراً، فتدفع الزكاة إليه لقوله فترد في فقراءهم فيحصل الخلاف بيننا وبينهم في أمور ثلاثة. أحدها إن الغنى المانع من الزكاة غير الموجب لها عندنا، ودليل ذلك حديث ابن مسعود وهو أخص من حديثهم فيجب تقديمه، ولأن حديثهم دل على الغنى الموجب، وحديثنا دل على الغنى المانع ولا تعارض بينهما فيجب الجمع بينهما. الثاني إن من له ما يكفيه من مال غير زكائي أو مكسبه أو أجرة عقارات أو غيره ليس له الأخذ من الزكاة وبهذا. قال الشافعي وإسحاق وأبوعبيدة وابن المنذر وقال أبويوسف: إن دفع الزكاة إليه فهو قبيح وأرجو أن يجزئه وقال أبوحنيفة وسائر أصحابه: يجوز دفع الزكاة إليه لأنه ليس بغنى لما ذكروه في حجتهم. ولنا ما روى الإمام أحمد من حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار، يعني الذي يأتي بعد هذا. ثم ذكر حديث عبد الله بن عمر والذي نحن في شرحه. ثم قال: ولأن له ما يغنيه عن الزكاة فلم يجز الدفع إليه كمالك النصاب. الثالث إن من ملك نصاباً زكائياً لا تتم به الكفاية من غير الأثمان فله الأخذ من الزكاة. قال
رواه الترمذي وأبوداود والدارمي.
ــ
الميموني: ذاكرت أباعبد الله. فقلت: قد يكون للرجل الإبل والغنم تجب فيها الزكاة، وهو فقير ويكون له أربعون شأة وتكون له الضيعة لا تكفيه فيعطى من الصدقة؟ قال نعم وذكر قول عمر أعطوهم وإن راحت عليهم من الإبل كذا وكذا وقال في رواية محمد بن الحكم: إذا كان له عقار يشغله أو ضيعة تساوي عشرة آلاف أو أقل أو أكثر لا تقيمه يأخذ من الزكاة وهذا قول الشافعي وقال أصحاب الرأي: ليس له أن يأخذ منها إذا ملك نصاباً زكوياً لأنه تجب عليه الزكاة فلم تجز له للخبر، ولنا أنه لا يملك ما يغنيه ولا يقدر على كسب ما يكفيه فجاز له الأخذ من الزكاة ولأن الفقر عبارة عن الحاجة. قال الله تعالى:{يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله} [فاطر:15] أي المحتاجون إليه وهذا محتاج فيكون فقيراً غير غنى، وقد بينا إن الغنى يختلف مسماه فيقع على ما يوجب الزكاة وعلى ما يمنع منها فلا يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من عدمه عدم الآخر. فمن قال: إن الغنى هو الكفاية سوى بين الأثمان وغيرها، وجوز الأخذ لكل من لا كفاية له، وإن ملك نصباً من جميع الأموال. ومن قال بالرواية الأخرى فرق بين الأثمان وغيرها لخبر ابن مسعود إلى آخر ما بسطه. وقال الأمير اليماني في شرح بلوغ المرام: قد اختلفت الأقوال في حد الغنى الذي يحرم به قبض الصدقة على أقوال، وليس عليها ما تسكن له النفس من الاستدلال لأن المبحث ليس لغوياً حتى يرجع فيه إلى تفسير لغة، ولأنه في اللغة أمر نسبي لا يتعين في قدر ووردت أحاديث معينة لقدر الغنى الذي يحرم به السؤال كحديث أبي سعيد عند النسائي من سأل وله أوقية فقد الحف، وعند أبي داود من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل الحافاً، وأخرج أيضاً من سأل وله ما يغنيه فإنما يستكثر من النار. قالوا: وما يغينيه؟ قال: قدر ما يعشيه ويغديه صححه ابن حبان، فهذا قدر الغنى الذي يحرم معه السؤال. وأما الغنى الذي يحرم معه قبض الزكاة فالظاهر أنه من تجب عليه الزكاة وهو من يملك مائتي درهم لقوله صلى الله عليه وسلم أمرت أن آخذها من أغنياءكم وأردها في فقراءكم فقابل بين الغنى، وأفاد أنه من تجب عليه الصدقة وبين الفقير، وأخبر أنه من ترد فيه الصدقة هذا أقرب ما يقال فيه -انتهى. قلت: وبه قال الحنفية كما تقدم وهو الراجح عندي والله تعالى أعلم (رواه الترمذي وأبوداود والدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد (ج2:ص164-192) وأبوعبيد (ص549) والطيالسي وابن الجارود في المنتقى (ص186) والبخاري في التاريخ الكبير (ج2،1:ص301) والدارقطني (ص211) والحاكم (ج1:ص407) والطحاوي (ج1:ص303) كلهم من حديث سعد بن إبراهيم عن ريحان بن يزيد العامري عن عبد الله بن عمرو، قال الترمذي: حديث حسن وذكر إن شعبة رواه عن سعد بن إبراهيم بهذا الإسناد ولم يرفعه. وقال أبوداود وقال عطاء بن زهير: إنه لقى عبد الله بن عمرو، فقال إن الصدقة لا تحل لقوى، ولا لذى مرة سوى. وقال الإمام أحمد قال عبد الرحمن بن مهدي: ولم يرفعه سعد ولا ابنه يعني إبراهيم بن سعد. وقال البخاري في التاريخ الكبير: وروى إبراهيم بن سعد
............................
ــ
عن أبيه ولم يرفعه. وقال المنذري بعد ذكر كلام الترمذي: في إسناده ريحان بن يزيد. قال ابن معين ثقة. وقال أبوحاتم الرازي: شيخ مجهول. وقال بعضهم: لم يصح إسناده وإنما هو موقوف على عبد الله بن عمرو -انتهى. قلت: ريحان بن يزيد قد عرفه غير أبي حاتم ووثقه، وقد تقدم أنه وثقه يحيى بن معين. وقال: حجاج عن شعبة عن سعد بن إبراهيم سمع ريحان بن يزيد وكان أعرابياً صدوقاً وذكره ابن حبان في الثقات، وترجمة البخاري في التاريخ الكبير، فلم يذكر فيه جرحاً، ومن عرف حجة على من لم يعرف. وأما التعليل بأن شعبة وإبراهيم بن سعد روياه عن سعد فلم يرفعاه فليس بشيء، فإن الحديث رواه عن سعد ثلاثة من الحفاظ الثقات، سفيان الثوري وشعبة وإبراهيم بن سعد. أما الثوري فرواه عن سعد مرفوعاً عند أحمد في الموضعين، وعند الطيالسي وأبي عبيد والبخاري في الكبير والدارمي والترمذي وابن الجارود والحاكم والدارقطني والطحاوي لم تختلف الرواية عنه في رفعه. وأما شعبة فاختلف عليه، فروى عنه الحجاج بن منهال عند الطحاوي (ص 303) موقوفاً. وروى عنه آدم بن أبي أياس عند الحاكم، وحجاج عند البخاري في الكبير مرفوعاً. وأما إبراهيم بن سعد فاختلف عليه أيضاً فروى عنه عباد بن موسى الختلي عند أبي داود وأبوبكر بن أبي العوام عند الحاكم مرفوعاً، ويشير كلام الإمام أحمد المتقدم إلى أن عبد الرحمن بن مهدي الذي روى الحديث عن الثوري قد سمعه من إبراهيم بن سعد عن أبيه موقوفاً كما سمعه من الثوري عن سعد مرفوعاً، فيكون إبراهيم رواه مرة مرفوعاً، ومرة موقوفاً، ولا يضر هذا الاختلاف فإن الراوي قد يرفع الحديث مرة، ويقفه أخرى، والرفع زيادة من الثقة فهي مقبولة. بل ههنا الرفع أرجح لأن سفيان أحفظ من شعبة وإبراهيم بن سعد. ولأنه إذا خالف شعبة سفيان فالقول قول سفيان ولأن سفيان لم تختلف الرواية عنه في رفعه بخلاف شعبة وإبراهيم، فإنه قد روى عنهما مرفوعاً موافقاً لسفيان كما عرفت. وأما ما قال أبوداود إن عطاء بن زهير قال: أنه لقى عبد الله بن عمرو الخ. فهو خطأ من جهة الإسناد والمتن جميعاً كما بينه العلامة الشيخ أحمد شاكر في شرحه للمسند (ج10:ص51-52-53-54) قلت: ويدل على وقوع الخطأ في رواية أبي داود المعلقة هذه ما رواه البيهقي (ج7:ص13) من طريق عبيد الله بن الشميط ثنا أبي والأخضر بن عجلان عن عطاء بن زهير العامري عن أبيه قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص أخبرني عن الصدقة أي مال هي؟ قال: هي شر مال للعميان والعرجان والكسحان واليتامى وكل منقطع به. فقلت: إن للعاملين عليها حقاً وللمجاهدين. فقال للعاملين عليها بقدر عمالتهم وللمجاهدين في سبيل الله قدر حاجتهم، أو قال حالهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الصدقة لا تحل لغني ولا لذى مرة سوى -انتهى. هذا وقد بسط العلامة الشيخ أحمد شاكر القول في تصحيح حديث عبد الله بن عمرو المرفوع فعليك أن تراجعه.
1846-
(11) ورواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة.
1847-
(12) وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار، ((قال أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم وهو في حجة الوداع، وهو يقسم الصدقة، فسألاه منها فرفع فينا النظر وخفضه فرآنا جلدين، فقال: "إن شئتما أعطيتكما،
ــ
1846-
قوله: (ورواه أحمد)(ج2:ص377-389)(والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة) وأخرجه عنه ابن حبان والبزار والطحاوي والطبراني والحاكم أيضاً واختلفوا في تسمية الراوي عن أبي هريرة، فعند أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والطحاوي والبزار والبيهقي، عن سالم بن أبي الجعد عن أبي هريرة. قال صاحب التنقيح: رواته ثقات، إلا أن أحمد بن حنبل قال: سالم بن أبي الجعد لم يسمع من أبي هريرة - انتهى. ورواه الطحاوي من حديث أبي صالح عن أبي هريرة والحاكم والبيهقي من حديث أبي حازم عنه قال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين وشاهده حديث عبد الله بن عمرو. ثم رواه بسند السنن وسكت عنه. وحديث أبي هريرة عزاه الهيثمي للطبراني، وقال: رجاله رجال الصحيح، وفي الباب عن رجل من بني هلال عند أحمد والطحاوي. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح وعن حبشي بن جنازة وسيأتي. وعن جابر عند الدارقطني بسند ضعيف، وعن طلحة عند أبي يعلى وابن عدي بسند فيه ضعف، وعن عبد الرحمن بن أبي بكر عند الطبراني في الكبير، وفيه ابن لهيعة وعن ابن عمر عند ابن عدي بسند ضعيف. تنبيه كلام المصنف يدل على أن الإمام أحمد لم يرو هذا الحديث عن عبد الله بن عمرو، وهو ذهول منه فإنه أحمد رواه عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو وكليهما كما عرفت.
1847-
قوله: (وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار) بكسر الحاء المعجمة فمثناة تحتية آخره راء (أخبرني رجلان) زاد الطحاوي في شرح الآثار (ص303) من قومي ولم أقف على تسميتهما (وهو في حجة الوداع) بفتح الواو (وهو يقسم) بفتح الياء وكسر السين (الصدقة) أي أموالها (فسألاه منها) أي طالباه أن يعطيهما شيئاً من تلك الصدقة (فرفع فينا النظر) في نسختي العون والبذل من نسخ السنن لأبي داود البصر بدل النظر. وكذا وقع عند أبي عبيد والطحاوي والدارقطني والبيهقي من طريق أبي داود. وكذا نقله الزيلعي والحافظ في تخريجهما. ووقع في نسخة معالم السنن النظر كما في الكتاب، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول. ولفظ أحمد والنسائي فقلب فيهما البصر، وفي رواية لأحمد فصعد فيهما البصر، وللبيهقي في رواية فصعد فينا النظر، وصوب. وفي رواية فصعد البصر (جلدين) بفتح الجيم وسكون اللام أي قويين (إن شئتما أعطيتكما) أي منها ووكلت الأمر إلى أمانتكما لكن تكونان في خطر الأخذ
ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب)) . رواه أبوداود والنسائي.
1848-
(13) وعن عطاء بن يسار، مرسلاً، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحل الصدقة لغني، إلا لخمسة.
ــ
بغير حق إن كنتما قويين كما دل عليه حالكما أو غنيين (ولا حظ) أي نصيب (فيها لغني ولا لقوي مكتسب) بصيغة الفاعل أي قادر على الكسب. قال الطيبي: أي لا أعطيكما؛ لأن في الصدقة ذلاً وهواناً. فإن رضيتما بذلك أعطيتكما أو لا أعطيكما لأنها حرام على القوي المكتسب، فإرضيتما بأكل الحرام أعطيكما قاله توبيخاً وتغليظاً، أي كقوله تعالى:{ومن شاء فليكفر} [الكهف:29] وقال السندي: قوله "إن شئتما" الخ يدل على أنه لو أدى أحد إليهما يحل لهما أخذه ويجزيء عنه، وإلا لم يصح له أن يؤدي إليهما بمشيئتهما فقوله "ولا حظ فيها" الضمير للصدقة على تقدير المضاف، أي في سؤالها أو للمسألة المعلومة من المقام - انتهى. وقال ابن الهمام: الحديث دل على أن المراد حرمة سؤالهما لقوله "وإن شئتما أعطيتكما" فلو كان الأخذ محرماً غير مسقط عن صاحب المال لم يفعله - انتهى. والحديث من أدلة تحريم الصدقة على الغني، وهو تصريح بمفهوم الآية وإن اختلف في تحقيق الغني بما سلف وعلى القوي المكتسب، لأن حرفته صيرتة في حكم الغني. ومن أجاز له تأول بما تقدم في أول كلام الطيبي وفي كلام السندي وابن الهمام (رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أيضاً الشافعي وأحمد (ج4 ص224) وأبوعبيد (ص549) والدارقطني (ص211) والطحاوي (ص303) والطبراني والبيهقي (ج7 ص14) كلهم من حديث هشام بن عروة عن أبي عبيد الله بن عدي بن الخيار، وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. وقال الحافظ في بلوغ المرام: قواه أبوداود. وقال أحمد: ما أجوده من حديث، وقال هو أحسنها إسناداً. وقال صاحب التنقيح: حديث صحيح ورواته ثقات. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
1848-
قوله: (وعن عطاء بن يسار) بفتح الياء تابعي جليل (مرسلاً) أي بحذف الصحابي وهو أبوسعيد الخدري كما سيأتي (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة) فتحل لهم وهم أغنياء؛ لأنهم أخذوها بوصف آخر قاله الزرقاني: وقال ابن رشد: الجمهور على أنه لا تجوز الصدقة للأغنياء بأجمعهم، إلا للخمس الذي نص عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث. روى عن ابن القاسم أنه لا يجوز أخذ الصدقة لغني أصلاً مجاهداً كان أو عاملاً. قال: وسبب اختلافهم هو هل العلة في إيجاب الصدقة للأصناف المذكورين هو الحاجة فقط أو الحاجة والمنفعة العامة إلى آخر ما قال. وعند الحنفية: سبب استحقاق الزكاة في الكل واحد وهو الفقر والحاجة إلا العاملين عليها والمؤلفة، واختلاف الأسماء إنما هو لبيان أسباب الحاجة. قال أبوبكر الجصاص الرازي في أحكام القرآن: وجميع من يأخذ
لغاز في سبيل الله،
ــ
الصدقة من هذه الأصناف فإنما يأخذها صدقة بالفقر، والمؤلفة قلوبهم والعاملون عليها لا يأخذونها صدقة. وإنما تحصل الصدقة في يد الإمام للفقراء ثم يعطي الإمام المؤلفة لدفع أذيتهم عن الفقراء وسائر المسلمين، ويعطيها العاملين عوضاً من أعمالهم لا على أنها صدقة عليهم. وإنما قلنا ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: أمرت أن آخذ الصدقة من أغنياءكم وأوردها في فقراءكم، فبين إن الصدقة مصروفة إلى الفقراء فدل ذلك على أن أحداً لا يأخذها صدقة إلا بالفقر، وإن الأصناف المذكورين إنما ذكروا بياناً لأسباب الفقر- انتهى. قلت: اعتبار الفقر في جميع الأصناف غير العامل والمؤلف وجعله مناطاً للاستحقاق ليس بصحيح، فإن الله تعالى قد فرق بين هذه الأصناف بالتسمية وعطف بعضها على بعض، وجعل العامل وما بعده صنفاً غير الفقراء والمساكين، فلا يشترط وجودها معناهما فيما ذكر بعدهما كما لا يشترط معناه فيهما، ولا يجب وجود صفة هذين الصنفين في بقية الأصناف كما لا يلزم وجود صفة تلك الأصناف فيهما. وأما حديث معاذ ففيه بيان صنف واحد فقط، ولذا احتج به من ذهب إلى جواز صرف الزكاة إلى صنف واحد. قال القاري: ظاهر حديث معاذ إن دفع المال إلى صنف واحد جائز كما هو مذهبنا - انتهى. وهكذا استدل به لذلك ابن الجوزي وأبوعبيد والكاساني في البدائع، والقرطبي المالكي في المفهم، وابن قدامة في المغنى، وغيرهم من الشراح. وخص هذا الصنف بالذكر مع كون المقام مقام إرسال البيان لأهل اليمن وتعليمهم لمقابلة الأغنياء، ويحتمل أن يكون ذلك لكون الفقراء هم الأغلب أو لبيان أنهم الأحق والأهم. وكانت آية مصارف الزكاة معلومة معروفة فلم تكن حاجة إلى تعديد جميع مصارفها، وحديث الباب نص في الرد على الحنفية وعلى ابن القاسم، وقد تكلف ابن الهمام وغيره للجواب عنه كما سيأتي مع الرد عليه وقال الشوكاني في السيل الجرار: لا ينافي ما صرحت به الآية من المصارف الثمانية ما ورد من أن الزكاة تؤخذ من الأغنياء وترد في الفقراء، فإن ذلك محمول على أنه لم يوجد في المحل الذي أخذت منه إلا الفقراء. أما إذا وجد غيرهم فله حق فيها كحق الفقراء، فيجمع بين الأدلة بهذا، وأما من اشترط الفقر في جميع الأصناف فلا يحتاج إلى الجمع بهذا ولكن هذا الاشتراط خلاف ظاهر القرآن، وخلاف ما ثبت في السنة كقوله صلى الله عليه وسلم: لا تحل الصدقة لغني إلا لغاز في سبيل الله - الحديث. (لغاز في سبيل الله) أي يجوز له أخذ الزكاة والاستعانة بها في غزوه، وإن كان غنياً، وإليه ذهب الأئمة الثلاثة وإسحاق بن راهوية وأبوثور وأبوعبيد وابن المنذر وقال أبوحنيفة لا يحل للغازي إلا أن يكون منقطعاً به أو فقيراً ورُدّ بأن الأول داخل في الآية في ابن السبيل، والثاني في الفقراء وقد فرق الله تعالى بين سهم السبيل وابن السبيل والفقراء بالواو، والقول بأن منقطع الغزاة فقيراً، لا أنه زاد بالانقطاع في عبادة الله فكان مغايراً للفقير المطلق الخالي عن هذا القيد، لا يجدي شيئاً فإنه بقيد الفقر يبطل كون سبيل الله صنفاً مستقلاً، إذ يرجع حينئذ إلى الصنف الأول وهو الفقراء والمساكين. والحديث تفسير لقوله تعالى: {في سبيل
......................
ــ
الله} [التوبة:60] إن المراد به الغزاة، وعليه الجمهور، قال أبوعبيد (ص610) بعد ذكر هذا الحديث فأرخص صلى الله عليه وسلم للغازي أن يأخذ من الصدقة وإن كان غنياً، ونراها تأويل هذه الآية قوله "وفي سبيل الله" وقال الخطابي: في الحديث بيان إن للغازي وإن كان غنياً أن يأخذ الصدقة، ويستعين بها في غزوة وهو من سهم سبيل الله وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال أصحاب الرأي لا يجوز أن يعطي الغازي من الصدقة إلا أن يكون منقطعاً به. قلت (قائله الخطابي) : سهم السبيل غير سهم ابن السبيل. وقد فرق الله بينهما بالتسمية وعطف أحدهما على الآخر بالواو والذي هو حرف الفرق بين المذكورين المنسوق أحدهما على الآخر، فقال وفي سبيل الله وابن السبيل والمنقطع به هو ابن السبيل، فأما سهم السبيل فهو على عمومه وظاهره في الكتاب. وقد جاء في هذا الحديث ما بينه ووكد أمره فلا وجه للذهاب عنه - انتهى. وقال الباجي: لا بأس أن يعطى من الزكاة للغازي وإن كان معه ما يغنيه وإن لم يأخذ فهو أفضل هذا قول مالك وبه قال الشافعي: وقال أبوحنيفة: لا يعطي الغازي الغني شيء من الصدقة ولا يحل له أخذها. وقال ابن المنذر: وأما قول أبي حنيفة لا يعطي الغازي من الزكاة إلا أن يكون محتاجاً فهو خلاف ظاهر الكتاب والسنة، فأما الكتاب فقوله تعالى:{وفي سبيل الله} وأما السنة فحديث أبي سعيد يعني الذي نحن في شرحه. وقال الشوكاني في السيل الجرار: تحت قول صاحب حدائق الأزهار وسبيل الله هو المجاهد الفقير ما لفظه، أقول قد عرفناك إن حديث أبي سعيد فيه التصريح بعدم اشتراط الفقر فيمن اشتمل عليه ومن جملتهم الغازي، فالسنة قد دلت على أنه يصرف إلى هذا الصنف مع الغنى. والقرآن لم يشترط فيه الفقر فلم يبق ما يوجب هذا الاشتراط، بل هو مجرد رأي بحت فيصرف إليه ما يحتاجه في الجهاد من سلاح ونفقة وراحلة وإن بلغ أنصباً كثيرة قلت: واستدل لأبي حنيفة بحديث معاذ: أمرت أن آخذ الصدقة من أغنياءكم وأردها في فقرائكم. قال الكاساني: جعل الناس قسمين. قسم، يؤخذ منهم. وقسم، يصرف إليهم. فلو جاز صرف الصدقة إلى الغني لبطلت القسمة وهذا لا يجوز، وبحديث عبد الله بن عمرو المتقدم بلفظ: لا تحل الصدقة لغني، قال ابن الهمام حديث: لا تحل الصدقة لغني مع حديث معاذ يفيد منع غنى الغزاة والغارمين عنها، فهو حجة على الشافعي في تجويزه لغني الغزاة إذا لم يكن له شيء في الديوان ولم يأخذ من الفيء وأجيب عن ذلك بأنه لو صح ما قال الكاساني للزم اشتراط الفقر في العامل والمؤلف أيضاً، ولما جاز دفع الزكاة إلى غنى العاملين والمؤلفة قلوبهم وإلا لبطلت القسمة، وأيضاً لزم تقييد إطلاق القرآن بخبر الواحد وهذا لا يجوز عند الحنيفة. وقدمنا إن حديث معاذ فيه بيان للصنف الواحد فقط من الأصناف الثمانية وهم الفقراء وذلك لمقابلة الأغنياء أو لكونهم إذ ذاك هم الأغلب لا، لأن هذا الصنف هو المصرف فقط. ولا لأن الفقر شرط في الأصناف الآخر، والمفهوم من الآية إن المعتبر في المصارف المذكورة. أما حاجتهم إلى الصدقة وهذا في الفقير والمسكين والرقبة والغارم لقضاء دينه وابن السبيل أو حاجة المسلمين إليهم والمنفعة العامة، وهذا في
.............................
ــ
العامل والمؤلف والغازي والغارم لا صلاح ذات البين. قال ابن العربي في أحكام القرآن: قال أبوحنيفة: لا يعطي الغازي إلا إذا كان فقيراً وهذه زيادة على النص وعنده إن الزيادة على النص نسخ ولا نسخ في القرآن إلا بقرآن مثله أو بخبر متواتر - انتهى. وأما حديث عبد الله بن عمرو فهو مجمل يفسره حديث عطاء بن يسار هذا وهو حديث موصول صحيح كما ستعرف. قال ابن عبد البر: هذا الحديث مفسر لمجمل قوله صلى الله عليه وسلم: لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى وإنه ليس على عمومه، وأجمعوا على أن الصدقة المفروضة لا تحل لغير الخمسة المذكورين - انتهى. وأجاب الحنفية عن هذا الحديث بوجوه. منها: ما قال العيني: المراد من قوله: لغاز في سبيل الله هو الغازي الغني بقوة البدن والقدرة على الكسب، لا الغني بالنصاب الشرعي بدليل حديث معاذ وفي ذكر هذا غنى عن الرد، ويدل على بطلانه أيضاً حديث عبد الله بن عمرو وحديث عبيد الله بن عدي بن الخيار المتقدمين كما لا يخفي. ومنها: ما قيل إن المستثنى مقيد بالفقر وإطلاق الغني عليه مجاز باعتبار ما كان. قال الكاساني في البدائع: وأما استثناء الغازي فمحمول على حال حدوث الحاجة وسماه غنياً على اعتبار ما كان قبل حدوث الحاجة وهو أن يكون غنياً، ثم تحدث له الحاجة بأن كان له دار يسكنها، ومتاع يمتهنه، وثياب يلبسها وله مع ذلك فضل مائتي درهم حتى لا تحل له الصدقة، ثم يعزم على الخروج في سفر غزو فيحتاج إلى آلات السفر والسلاح والمركب، فيجوز أن يعطي من الصدقة ما يستعين به في حاجته التي تحدث له في سفره، وهو في مقامه غني بما يملكه، لأنه غير محتاج في حال الإقامة. فيحمل قوله: لا تحل الصدقة لغني إلا لغاز في سبيل الله على من كان غنياً في حال مقامه، فيعطي بعض ما يحتاج لسفره لما أحدث له السفر من الحاجة إلا أنه يعطي حين يعطي وهو غني - انتهى ملخصاً. وفيه إن هذا يدل على أن المراد من الغازي هو الغني الذي تحدث له الحاجة إلى جهز الجهاد عند إرادة الغزو وإنشاء سفره، وهذا مخالف لما صرح به الحنفية في كتب فروعهم من أن المراد من سبيل الله في الآية منقطع الغزاة. ثم فسروه بالذي عجز عن اللحوق بجيش الإسلام لفقره بهلاك النفقة والدابة أو غيرها وإن كان في بيته مال وافر، فتحل له الصدقة وإن كان كاسباً - انتهى. وقال في شرح الأحياء قال أبوحنيفة: هذا السهم مخصوص بجنس خاص من الغزاة وهو الفقير المنقطع، وبه فسر في سبيل الله وبه قال أبويوسف وهو المفهوم من اللفظ عند الإطلاق فلا يصرف إلى أغنياء الغزاة - انتهى. وفيه أيضاً تقييد المستثنى بالفقر مع كون المستثنى منه مطلقاً، وارتكاب المجاز من غير دليل وهذا لا يجوز: وأما حديث معاذ فقد تقدم توجيهه. ومنها ما ذكر ابن الهمام قيل: لم يثبت هذا الحديث يعني الذي استدل به الشافعي ومن وافقه، وهو حديث عطاء بن يسار ولو ثبت لم يقو قوة حديث معاذ، فإنه رواه أصحاب الكتب الستة مع قرينة حديث عبد الله بن
...........................
ــ
عمرو ولو قوي قوته، ترجح حديث معاذ بأنه مانع وما رواه مبيع ذكره القاري. قلت: حديث عطاء بن يسار هذا موصول صحيح ثابت قوي لا مطعن فيه كما ستعرف، ولا مخالفة بينه وبين حديثي عبد الله بن عمرو ومعاذ حتى يصار إلى الترجيح وقد تقدم بيان معناهما فائدة اختلفوا في المراد من سبيل الله في آية المصارف فقيل: المراد به الغزاة وعليه الجمهور. قال الباجي: هو الغزو والجهاد قاله مالك وجمهور الفقهاء. وقال الخرقي وسهم في سبيل الله وهم الغزاة. قال ابن قدامة: هذا الصنف السابع من أهل الزكاة ولا خلاف في استحقاقهم ولا خلاف في أنهم الغزاة في سبيل الله عند الإطلاق هو الغزو - انتهى. ثم اختلف أهل هذا القول. فقال الأكثر: إنهم يعطون ما ينفقون في غزوهم وإن كانوا أغنياء. وقال أبوحنيفة وأبويوسف: لا يعطي الغازي إلا إذا كان فقيراً منقطعاً به. قال الحافظ: أما سبيل الله فالأكثر على أنه يختص بالغازي غنياً كان أو فقيراً، إلا أن أباحنيفة قال يختص بالغازي المحتاج. وقيل: المراد منه منقطع الحاج وبه قال محمد وروى عن أحمد وإسحاق إن الحج أيضاً من سبيل الله يعني إن الحج من جملة السبل مع الغزو ولأنه طريق بر. قال ابن قدامة: وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى لا يصرف منها في الحج وبه قال مالك والليث وأبوحنيفة والثوري والشافعي وأبوثور وابن المنذر. وقيل: اللفظ عام فلا يجوز قصره على نوع خاص ويدخل فيه جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك، نقل ذلك القفال عن بعض الفقهاء من غير أن يسميه كما في حاشية تفسير البيضاوي لشيخزادة، وإليه مال الكاساني إذ فسره بجميع القرب. قال في البدائع سبيل الله عبارة عن جميع القرب ويدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجاً. وقال النووي في شرح مسلم: وحكى القاضي عياض عن بعض العلماء أنه يجوز صرف الزكاة في المصالح العامة، وتأول عليه هذا الحديث، أي ما روى البخاري في القسامة أنه صلى الله عليه وسلم وداه الذي قتل بخيبر مائة من إبل الصدقة. قلت واحتج للقول الثاني بما روى أبوداود عن ابن عباس إن امرأة قالت لزوجها أحججني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جملك فلان قال ذاك حبيس في سبيل الله - الحديث. وفيه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما أنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله. وبما روى عن أم معقل الاسدية إن زوجها بكراً في سبيل الله وإنها أرادت الحج - الحديث. وفيه فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيها البكر، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحج من سبيل الله أخرجه أحمد وغيره. وبما روى عن أبي لاس قال حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل من الصدقة للحج ذكره البخاري تعليقاً بصيغة التمريض، ووصله أحمد وابن خزيمة والحاكم. قال الشوكاني: حديث أم معقل وحديث
................................
ــ
أبي لاس يدلان على أن الحج من سبيل الله، وإن من جعل شيئاً من ماله في سبيل الله جاز له صرفه في تجهيز الحجاج، وإذا كان شيئاً مركوباً جاز حمل الحاج عليه، ويدلان أيضاً على أنه يجوز صرف شيء من سهم سبيل الله من الزكاة إلى قاصدين الحج - انتهى. وبما روى ابن عبيد في الأموال عن أبي معاوية وابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي جعفر كلاهما عن الأعمش عن حسن إلى الأشرس عن مجاهد عن ابن عباس، أنه كان لا يرى بأساً أن يعطى الرجل من زكاة ماله في الحج وأن يعتق منها الرقبة. وبما روى عن ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهماً في سبيل الله فقيل له أتجعل في الحج؟ فقال أما أنه من سبل الله أخرجه أبوعبيد بإسناد صحيح عنه. والقول الراجح عندي: هو ما ذهب إليه الجمهور من أن المراد به الغزو والجهاد خاصة، لأن سبيل الله إذا أطلق في عرف الشرع فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى كأنه مقصور عليه. قال ابن العربي في أحكام القرآن: قوله: "في سبيل الله " قال مالك سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافاً في أن المراد بسبيل الله ههنا الغزو. ولحديث عطاء بن يسار الذي نحن في شرحه وهو حديث صحيح مفسر لقوله: في سبيل الله في الآية فيجب حمله عليه، ولم أر عنه جواباً شافياً من أحد، وإليه ذهب ابن حزم إذ قال، وأما سبيل الله فهو الجهاد بحق. ثم ذكر حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد من طريق أبي داود وهو الذي رجحه ابن قدامة حيث قال: وهذا أصح لأن سبيل الله عند الإطلاق إنما ينصرف إلى الجهاد فإن كل ما في القرآن من ذكر سبيل الله إنما أريد به الجهاد إلا اليسير، فيجب أن يحمل ما في هذه الآية على ذلك لأن الظاهر أرادته به - انتهى. وهو الذي صححه الخازن في تفسيره حيث قال: والقول الأول هو الصحيح لإجماع الجمهور عليه، ورجحه أيضاً العلامة القنوجي البوفالي في تفسيره إذ قال: والأول أولى لإجماع الجمهور عليه وبه فسر الشوكاني في فتح القدير (ج2:ص356) ورجحه، واختاره أيضاً غيرهم من المفسرين. وأما الأحاديث التي استدل بها أهل القول الثاني فقد أجيب عنها بوجهين. الأول الكلام فيها إسناداً فإن حديث ابن عباس في إسناده عامر بن عبد الواحد الأحول وقد تكلم فيه أحمد والنسائي. وقال الحافظ: صدوق يخطيء. وقد روى الشيخان عن ابن عباس نحو هذه القصة وليس عندهما إنه جعل جملة حبيساً في سبيل الله ولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو احججتها عليه كان في سبيل الله. وأما حديث أم معقل ففيه اضطراب كثير واختلاف شديد في سنده ومتنه حتى تعذر الجمع والترجيح مع ما في بعض طرقه من راو ضعيف ومجهول ومدلس قد عنعن، وهذا مما يوجب التوقف فيه وذلك لا يشك فيه من ينظر في طرق هذا الحديث في مسند الإمام أحمد وفي السنن مع حديث ابن عباس عند الشيخين وأبي داود وابن أبي شيبة، ومع قصة أم طليق عند ابن السكن وابن مندة والدولابي. وقد حمل ذلك بعضهم على
..........................
ــ
وقائع متعددة ولا يخفى بعده. وأما حديث أبي لاس، فقال الحافظ في الفتح: رجاله ثقات، إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق، ولهذا توقف ابن المنذر في ثبوته - انتهى. ويشير بذلك إلى ما حكى عنه أنه قال إن ثبت حديث ابن لاس قلت بذلك، قال الحافظ: وتعقب بأنه يحتمل أنهم كانوا فقراء وحملوا عليها خاصة ولم يتملكوها - انتهى. وأما أثر ابن عباس فهو أيضاً مضطرب صرح به أحمد كما في الفتح، وقد بين اضطرابه الحافظ، ولذلك كف أحمد عن القول بالإعتاق من الزكاة تورعاً وقيل بل رجح عن هذا القول. والثاني أنه لا ينكر إن الحج من سبيل الله بل كل فعل خير من سبل الله، لكن لا يلزم من هذا أن يكون السبيل المذكور في هذه الأحاديث هو المذكور في الآية، فإن المراد في هذه الأحاديث المعنى الأعم وفي الآية نوع خاص منه، وهو الغزو والجهاد، لحديث أبي سعيد. وإلا فجميع الأصناف من سبيل الله بذلك المعنى. قال ابن حزم: فإن قيل قد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الحج من سبيل الله، وصح عن ابن عباس أن يعطى منها في الحج، قلنا نعم، وكل فعل خير فهو من سبيل الله تعالى، إلا أنه لا خلاف في أنه تعالى لم يرد كل وجه من وجوه البر في قسمة الصدقات، فلم يجز أن توضع إلا حيث بين النص وهو الذي ذكرنا - انتهى. وقال ابن قدامة: هذا أي عدم صرف الزكاة في الحج أصح، لأن الزكاة إنما تصرف إلى أحد رجلين محتاج إليها كالفقراء والمساكين، وفي الرقاب والغارمين لقضاء ديونهم وابن السبيل، أو من يحتاج إليه المسلمون كالعامل والغازي والمؤلف والغارم لإصلاح ذات البين والحج من الفقير لا، نفع للمسلمين فيه ولا حاجة بهم إليه ولا حاجة به أيضاً إليه، لأن الفقير لا فرض عليه فيسقطه ولا مصلحة له في إيجابه عليه وتكليفه مشقة قدر فهه الله منها، وخفف عنه إيجابها. وأما الخير (يعني حديث إن الحج في سبيل الله) فلا يمنع أن يكون الحج من سبيل الله، والمراد بالآية غيره لما ذكرنا - انتهى. وقال ابن الهمام: متعقباً على الاستدلال المذكور، ثم فيه نظر لأن المقصود ما هو المراد بسبيل الله المذكور في الآية، والمذكور في الحديث لا يلزم كونه إياه لجواز أنه أراد الأمر الأعم وليس ذلك المراد في الآية بل نوع مخصوص، وإلا فكل الأصناف في سبيل الله بذلك المعنى - انتهى. وقال صاحب تفسير المنار: بعد الكلام في سند حديث أم معقل ما لفظه، وأقول من جهة المعنى. أولاً إن جعل أبي معقل جمله في سبيل الله أو وصيته به صدقة تطوع، وهي لا يشترط فيها إن تصرف في هذه الأصناف التي قصرتها عليها الآية، وثانياً: إن حج امرأته عليه ليس تمليكاً لها يخرج الجمل عن إبقاءه على ما أوصى به أبومعقل، ويقال مثل هذا في حديث أبي لاس. وثالثاً: إن الحج من سبيل الله بالمعنى العام للفظ، والراجح المختار أنه غير مراد في الآية - انتهى. وأما القول الثالث: فهو أبعد الأقوال لأنه لا دليل عليه لا من كتاب ولا من سنة صحيحة أو سقيمة ولا من إجماع، ولا من رأى صحابي
......................
ــ
ولا من قياس صحيح أو فاسد، بل هو مخالف للحديث الصحيح الثابت، وهو حديث أبي سعيد. ولم يذهب إلى هذا التعميم أحد من السلف إلا ما حكى القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء المجاهيل، والقاضي عياض عن بعض العلماء الغير المعروفين. قال صاحب تفسير المنار: أما عموم مدلول هذا اللفظ فهو يشمل كل أمر مشروع أريد به مرضاة الله تعالى بإعلاء كلمته وإقامة دينه وحسن عبادته ومنفعة عباده ولا يدخل فيه الجهاد بالمال والنفس إذا كان لأجل الرياء والسمعة، وهذا العموم لم يقل له أحد من السلف ولا الخلف، ولا يمكن أن يكون مراداً هنا. لأن الإخلاص الذي يكون به العمل في سبيل الله أمر باطني لا يعلمه إلا الله تعالى، فلا يمكن أن تناط به حقوق مالية دولية. وإذا قيل إن الأصل في كل طاعة من المؤمن أن تكون لوجه الله تعالى: فيراعي هذا في الحقوق عملاً بالظاهر، اقتضى هذا أن يكون كل مصل وصائم ومتصدق. وقال: للقرآن وذاكر لله تعالى ومميط للأذى عن الطريق مستحقاً بعمله هذا للزكاة الشرعية، فيجب أن يعطى منها. ويجوز له أن يأخذ منها وإن كان غنياً، وهذا ممنوع بالإجماع أيضاً وإرادته تنافي حصر المستحقين في الأصناف المنصوصة. لأن هذا الصنف لأحد لجماعاته فضلاً عن أفراده، وإذا وكل أمره إلى السلاطين والأمراء تصرفوا فيه بأهوائهم تصرفاً، تذهب حكمة فرضية الصدقة من أهلها - انتهى. وأما ما يذكر للاحتجاج لذلك من رواية البخاري في دية الأنصارى الذي قتل بخيبر مائة من غبل صدقة، فهو مخالف لما روى البخاري أيضاً في قصته إنه وداه من عنده. وجمع بين الروايتين، بأنه اشتراه من أهل الصدقة بعد أن ملكوها ثم دفعها تبرعاً إلى أهل القتيل، حكاه النووي عن الجمهور، وعلى هذا فلا حجة فيه لمن ذهب إلى التعميم. وإذا تقرر هذا فلا يجوز صرف الزكاة في عمارة المساجد والمعاهد الدينية وبناء الجسور، وإصلاح الطرق والشوارع وتكفين الموتى وقضاء ديونهم وغير ذلك من أنواع البر. لأنه ليس هذا في شيء من المصارف المنصوصة. وهو مذهب أحمد كما يظهر من المغنى (ج2 ص667) ومالك كما في المدونة (ج2 ص59) وسفيان وأهل العراق وغيرهم من العلماء كما في الأموال لأبي عبيد (ص610) هذا وقد ألحق بعض العلماء بالغازي من كان قائماً بمصلحة من مصالح المسلمين كالقضاء والإفتاء والتدريس وإن كان غنياً، وأدخله بعضهم في العالمين فأجاز له الأخذ من الزكاة فيما يقوم به مدة القيام بالمصلحة وإن كان غنياً، ولا يخفى ما فيه. وقال صاحب المنار: إن سبيل الله هنا مصالح المسلمين الشرعية التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد والأشخاص، وان الحج ليس منها. وقال: وأولها وأولاها بالتقديم الاستعداد للحرب بشراء السلاح، وأغذية الجند وأدوات التنقل وتجهيز، قال ويدخل في عمومه إنشاء المستشفيات العسكرية والخيرية، وأشراع الطرق وتعبيدها ومد الخطوط الحديدية العسكرية لا التجارية. ومنها بناء البوارج المدرعة والمنطادات والطيارات الحربية
أو لعامل عليها،
ــ
والحصون والخنادق، قال: ويدخل فيه النفقة على المدارس للعلوم الشرعية وغيرها مما تقوم به المصلحة العامة، وفي هذه الحالة يعطى منها معلمو هذه المدارس ماداموا يؤدون وظائفهم المشروعة التي ينقطعون بها عن كسب آخر ولا يعطي عالم غني لأجل علمه وإن كان يفيد الناس به - انتهى. قلت: حديث أبي سعيد ينافي هذا التعميم لكونه كالنص، في أن المراد بسبيل الله المطلق في الآية هم الغزاة والمجاهدون خاصة فيجب الوقوف عنده (أو لعامل عليها) أي على الصدقة قال تعالى {والعاملين عليها} [التوبة:60] أي الذين يوليهم الامام أو نائبه العمل على جمعها من الأغنياء وهم الجباة والسعاة وعلى حفظها وهم الخزنة وكذا الرعاة للإنعام منها والكتبة لديوانها. قال ابن قدامة: هم السعاة الذين يبعثهم الامام لأخذها من أربابها وجمعها وحفظها ونقلها وممن يعينها ممن يسوقها ويرعاها ويحملها، وكذلك الحاسب والكاتب والكيال والوزان والعداد وكل من يحتاج إليه فيها - انتهى. وفي الحديث دليل على أنه تحل الصدقة للعامل وإن كان غنياً، والمراد بذلك ما يعطى بطريق العمالة، بضم المهملة وخفة الميم، أي رزقه على عمله. ولا خلاف في هذا بين أهل العلم، لأن ما يستحقه العامل إنما يستحقه بطريق العمالة لا بطريق الصدقة، فلا يشترط أن يكون فقيراً. قال الخطابي: أما العامل فإنه يعطى منها عمالة على قدر عمله وأجرة مثله فسواء كان غنياً أو فقيراً فإنه يستحق العمالة إذا لم يفعله متطوعاً - انتهى. فإن كان العامل عمالته على عمله لا على فقره فإن لم تكفه كان له أن يأخذ بفقره ما يأخذ أمثاله. ثم اختلف العلماء: هل يستحق العامل على عمله جزاء منها معلوماً معيناً سبعاً أو ثمناً أو يعطى قدر عمله على حسب اجتهاد الإمام، فحكى عن الشافعي إنه يعطى الثمن لكن في فروع الشافعية إنه يعطى قدر أجرة عمله، وهكذا عند المالكية الحنابلة والحنفية إنه يعطى بقدر أجره وعمله، روى أبوعبيد عن مالك أنه قال: ليس للعامل على الصدقة فريضة مسماة، إنما ذلك إلى نظر الإمام وإجتهاده. قال أبوعبيد: وكذلك قول سفيان وأهل العراق، وهذا عندنا هو المعمول به لا قول من يذهب إلى توقيت الثمن. ولو كان ذلك محدوداً لكانت حال الأصناف الثمانية كلهم كحالهم، أي كحال العاملين، لكنهم عندنا إنما هم ولاة من ولاة المسلمين كسائر العمال من الأمراء والحكام وجباة الفيء وغير ذلك فإنما لهم من المال بقدر سعيهم وعمالتهم ولا يبخسون منه شيئاً ولا يزادون عليه - انتهى. ثم إنه يبدأ بإعطاء العامل عند المالكية والحنابلة. لأنه يأخذه على طريق المعاوضة فكان إستحقاقه أقوى ولذلك يعطى جميعها إن كانت قدر عمله وإذا عجزت عن أجره تمم له من بيت المال. ولا يزاد على نصف ما يجمعه عند الحنفية، وعلى الثمن عند الشافعية. قال في الأحياء: إن فضل شيء من الثمن عن أجر مثله رد على بقية الأصناف، وإن نقص كمل من مال المصالح - انتهى. ثم اختلفوا: في أن الاستحقاق العامل بعمله هل على سبيل الكفاية له ولا عوانه أو على سبيل
أو لغارم
ــ
الأجرة. فقال الحنفية: كما في البدائع على سبيل الكفاية لا على طريق الأجرة، لأن مجهولة. لأن قدر الكفاية له ولا عوانه غير معلوم. ولأن الأجرة لا تكون إلا على عمل معلوم ومدة معينة. وقال غيرهم: بطريق الأجرة لكن عند الشافعية يستحق أجرة المثل. وقال ابن قدامة: (ج6:ص426) الامام مخير بين أن يستأجر العامل إجارة صحيحة بأجر معلوم إما على مدة معلومة وإما على عمل معلوم، وبين أن يجعل له جعلاً معلوماً على عمله فإذا عمله استحق المشروط وإن شاء بعثه من غير تسمية ثم أعطاه، فإن عمر رضي الله عنه قد عمله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما رجع من عمله فقال عمر: أعطه أحوج مني - الحديث. فإن تلفت الصدقة بيده قبل وصولها إلى أربابها من غير تفريط فلا ضمان عليه، ويستحق أجرة من بيت المال وإن لم تتلف أعطى أجر عمله منها، وإن كان أكثر من ثمنها أو أقل. ثم قسم الباقي على أربابها لأن ذلك من مؤنتها فجرى مجرى علفها ومداومتها، وإن رأى الامام أعطاه أجرة من بيت المال أو يجعل له رزقاً في بيت المال ولا يعطيه منها شيئاً فعل -انتهى. قلت: الظاهر عندي إن العامل يستحقه على سبيل الأجرة، لأن سبب الاستحقاق إنما هو عمله فيكون المأخوذ في مقابلته أجرة، فيعطى عمالة بقدر عمله وأجرة مثله، فإن كانت زائدة على حاجته أو كان غير محتاج فله أن يأكل منها ويتصدق، كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: كل وتصدق، وقد يجب عليه الزكاة فيما يأخذ منها بشروطها من النصاب والحول، وقد يستغنى عنه فيسقط سهمه. ثم هذا مخصص بما تقدم من حديث المطلب بن ربيعة وحديث أبي رافع فلا يعطى العامل الهاشمي ومولاه عمالته منها (أو لغارم) هو من غرم لا لنفسه بل لغيره كإصلاح ذات البين بأن يخاف وقوع فتنة بين شيخين أو قبيلتين فيستدين من يطلب صلاح الحال بينهما مالاً لتسكين الثائرة فيجوز له أن يقضى ذلك من الزكاة وإن كان غنياً، هذا فسره الشافعي والجمهور. قال ابن تيمية في المنتقى يحمل هذا الغارم على من تحمل حمالة لإصلاح ذات البين كما في حديث قبيصة الآتي لا لمصلحة نفسه لقوله في حديث أنس، أو لذي غرم مفظع - انتهى. وقال الخطابي: أما الغارم الغني فهو الرجل يتحمل الحمالة ويدان في المعروف وإصلاح ذات البين، وله مال إن بيع فيها افتقر فيوفر عليه ماله، ويعطى من الصدقة ما يقضي به دينه. وأما الغارم الذي يدان نفسه وهو معسر فلا يدخل في هذا المعنى، لأنه من جملة الفقراء - انتهى. وقال أبوحنيفة: الغارم مديون استغرق دينه ماله، وفي الهداية الغارم من لزمه دين ولا يملك نصاباً فاضلاً عن دينه. ورد بأنه من جملة الفقراء، والحاصل إن الغارم يحل له أخذ الزكاة لقضاء ما تحمل وإن كان غنياً فهو كالغازي والمؤلف عند الشافعي وأحمد والجمهور. قال أبوحنيفة: لا تحل له إلا إذا كان فقيراً لعموم حديث عبد الله بن عمرو المتقدم مع حديث معاذ. قال الشوكاني: لا وجه لاشتراط الفقر فيه فإن القرآن لم يشترط ذلك، والسنة المطهرة مصرحة بعدم اشتراط الفقر فيه، كما في حديث أبي سعيد فذكره، ثم قال فهذا الحديث فيه التصريح بعدم اشتراط الفقر في الغارم. ومن ذكر معه بل
أو لرجل اشتراها بماله،
ــ
يعطى الغارم من الزكاة ما يقضى دينه. وإن كان أنصباً كثيرة، وأجاب الكاساني عن هذا الحديث بمثل ما أجاب به في مسألة الغازي، فقال تسمية الغارم غنياً على اعتبار ما كان قبل حلول الغرم به، وقد حدثت له الحاجة بسبب الغرم وقد تقدم الجواب عن هذا (أو لرجل) أي غني (اشتراها) أي الزكاة من الفقير (بماله) وهذا بعمومه يقتضى جواز شراء المتصدق صدقته ممن دفعها إليه، وهو قول أبي حنيفة والشافعي ومن وافقهما، وحمل هؤلاء قوله صلى الله عليه وسلم لا تبتعه ولا تعد في صدقتك على كراهة التنزيه. وذهب قوم إلى عدم جواز شراء صدقة نفسه، وحملوا النهى على التحريم، وقالوا المراد بالرجل الغني في حديث أبي سعيد غير المتصدق، فيجوز له شراء صدقة غيره. قال ابن قدامة (ج2:ص651) وليس لمخرج الزكاة شراءها ممن صارت إليه، وروى ذلك عن الحسن وهو قول قتادة ومالك. قال أصحاب مالك: فإن اشتراها لم ينقض البيع. وقال الشافعي وغيره: يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة، رجل ابتاعها بماله. وروى سعيد في سننه إن رجلاً تصدق على أمه بصدقة ثم ماتت، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد قبل الله صدقتك وردها إليك الميراث وهذا في معنى شراءها. ولأن ما صح أن يملك إرثاً صح أن يملك ابتياعاً كسائر الأموال. ولنا ما روى عمر أنه قال حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده وظننت أنه بائعه برخص، فأردت أن أشتريه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تبتعه ولا تعد في صدقتك ولو أعطاكه بدرهم - الحديث متفق عليه. فإن قيل يحتمل إنها كانت حبسا في سبيل الله فمنعه لذلك، قلنا لو كان حبساً لما باعها الذي هي في يده، ولا هم عمر بشراءها. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أنكر بيعها إنما أنكر على عمر الشراء معللاً بكونه عائداً في الصدقة الثاني إننا نحتج بعموم اللفظ من غير نظر إلى خصوص السبب. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تعد في صدقتك أي بالشراء، والأخذ بعموم اللفظ أولى من التمسك بخصوص السبب، فإن قيل: إن اللفظ لا يتناول الشراء فإن العود في الصدقة استرجاعها بغير عوض وفسخ للعقد كالعود في الهبة، ولو وهب إنساناً شيئاً ثم اشتراه منه جاز. قلنا: النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك جواباً لعمر حين ٍسأله عن شراء الفرس، فلو لم يكن اللفظ متناولاً للشراء المسئول عنه لم يكن مجيباً له، ولا يجوز إخراج خصوص السبب من عموم اللفظ، لئلا يخلو السؤال عن الجواب. وقد روى عن جابر وابن عمر النهى عن اشتراء المتصدق صدقته، ولأن في شراءه لها وسيلة إلى استرجاع شيء منها. لأن الفقير يستحي منه فلا يماكسه في ثمنها، وربما رخصها له طمعاً في أن يدفع إليه صدقة أخرى. أما حديثهم فنقول به وإنها ترجع إليه بالميراث وليس هذا محل النزاع. قال ابن عبد البر: كل العلماء يقولون إذا رجعت إليه بالميراث طابت له إلا ابن عمر والحسن بن حي، وليس البيع في معنى الميراث لأن الملك ثبت بالميراث حكماً بغير اختياره، وحديث أبي سعيد
أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين، فأهدى المسكين للغنى)) . رواه مالك وأبوداود.
ــ
عام وحديثنا خاص فالعمل به أولى - انتهى. وقال الشوكاني: لا معارضة بين الحديثين، لأن حديث عمر في صدقة التطوع وحديث أبي سعيد في صدقة الفريضة، فيكون الشراء جائزاً في صدقة الفريضة إلى آخر ما قال (أو لرجل) أي غني (كان له جار) ذكره تمثيلاً لا إحترازاً فلا مفهوم له (مسكين) المراد به ما يعم الفقير أيضاً (فتصدق) بصيغة المجهول (على المسكين) بشيء (فأهدى) أي ذلك الشيء (المسكين) بالرفع (للغني) أي فيحل له كما تقدم في قصة بريرة، وفي هذا والذي قبله دليل على أن الزكاة، والصدقة إذا بلغت محلها ملكها الآخذ فيجوز له التصرف فيها بالبيع والصدقة والهدية، وتغيرت صفتها وزال عنها اسم الزكاة وتغيرت الأحكام المتعلقة بها. والحكم المذكور في الحديث إنما هو صدقة الفريضة. وأما التطوع فيحل للغني والفقير مطلقاً (رواه مالك) أي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلاً (وأبوداود) وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1:ص408) كلاهما من طريق مالك ورواه البيهقي من طريق أبي داود (ج7:ص15) قال أبوداود: ورواه ابن عيينة عن زيد بن أسلم كما قال مالك أي مرسلاً، ورواه الثوري عن زيد فقال: حدثني الثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. وأخرجها أبوعبيد في الأموال (ص549-610) قال حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلاً. قال ابن عبد البر: قد وصل هذا الحديث جماعة من رواية زيد بن أسلم - انتهى. قلت اختلف في هذا الحديث على زيد بن أسلم عن عطاء. فقال مالك وابن عيينة وغيرهما: من أصحابه عنه، هكذا مرسلاً. ورواه الثوري. فقيل عنه هكذا، وقيل عن عطاء حدثني الثبت كما أشار إليه أبوداود. وقيل عن عطاء عن أبي سعيد الخدري أخرجه الدارقطني (ص211) والبيهقي (ج7:ص15) من طريق عبد الرزاق عن معمر والثوري كلاهما عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد. ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد من غير خلاف فيه، أخرجه أبوداود وابن ماجه وأحمد (ج3:ص56) والبزار والحاكم (ج1:ص407) والبيهقي (ج7:ص15-22) والوصل زيادة من الثقة العدل لا يحل تركها، فلا يلتفت إلى قول من أعله بإرسال من أرسله كائناً من كان، وقد صححه جماعة كما قال الحافظ في التلخيص. ومنهم الحاكم حيث قال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. قال الحاكم: ولم يخرجه الشيخان لإرسال مالك إياه عن زيد بن أسلم، ثم رواه من طريقه مرسلاً، وقال هذا من شرط في خطبة الكتاب إنه صحيح فقد يرسل مالك في الحديث ويصله ويسنده ثقة، والقول قول الثقة الذي يصله ويسنده.
1849-
(14) وفي رواية لأبي داود عن أبي سعيد: أو ابن السبيل.
1850-
(15) وعن زياد بن الحارث الصدائي، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، فذكر حديثاً طويلاً، فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها هو
ــ
1849-
قوله: (وفي رواية داود عن أبي سعيد) هذه الرواية من رواية عطية بن سعد العوفي عن أبي سعيد، وقد أخرجها البيهقي (ج7:ص22-23) والطحاوي (ج1:ص206) أيضاً. قال المنذري: وعطية هو ابن سعد أبوالحسن العوفي الكوفي ولا يحتج بحديثه (أو ابن السبيل) هو الغريب المنقطع عن ماله، وإن كان غنياً في وطنه. قال ابن قدامة:(ج6:ص438) هو المسافر الذي ليس له ما يرجع به إلى بلده وله اليسار في بلده فيعطى ما يرجع به، وهذا قول قتادة، ونحوه قال مالك وأصحاب الرأي. وقال الشافعي: هو المجتاز، ومن يريد إنشاء السفر إلى بلد أيضاً فيدفع إليهما ما يحتاجان إليه لذهابهما وعودهما، لأنه يريد السفر لغير معصية، فأشبه المجتاز. ولنا أن ابن السبيل هو الملازم للطريق الكائن فيها كما يقال "ولد الليل" للذي يكثر الخروج فيه، والقاطن في بلده ليس في طريق، ولا يثبت له حكم الكائن فيها ولهذا لا يثبت له حكم السفر بهمه به دون فعله، ولأنه لا يفهم من ابن السبيل إلا الغريب دون من هو في وطنه ومنزله، وإن انتهت به الحاجة منتهاها فوجب أن يحمل المذكور في الآية (وكذا في الحديث) على الغريب دون غير إلى آخر ما بسطه. قال البيهقي:(ج7:ص23) هذا الحديث إن صح قائماً أراد والله أعلم. ابن سبيل غني في بلده، محتاج في سفره. وحديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد أصح طريقاً، وليس فيه ذكر ابن السبيل - انتهى. قلت مدار هذه الرواية على عطية العوفي، وقد تقدم كلام المنذري فيه. وقال أبوداود: ليس بالذي يعتمد عليه، وضعفه أحمد وأبوحاتم والنسائي، وذكره ابن حبان في الضعفاء. وقال أبوزرعة لين. وقال الحافظ: صدوق يخطيء كثيراً كان شيعياً مدلساً.
1850-
قوله: (الصدائي) بضم صاد وخفة دال مهملة فألف فهمزة نسبة إلى صداء (فذكر) أي زياد بن الحارث (حديثاً طويلاً) رواه المزي في تهذيبه بسنده عن زياد بن نعيم الحضرمي عن زياد بن الحارث، ونقله عنه في حاشية تهذيب التهذيب تحت ترجمة زياد بن الحارث (فأتاه) أي أتى النبي صلى الله عليه وسلم (رجل) لم يعرف اسمه (فقال) أي الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات) أي في مصارفها (حتى حكم فيها هو) بنفسه. قال الخطابي: فيه دليل على أن بيان الشريعة قد يقع من وجهين أحدهما
فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك)) .
ــ
ما تولى الله بيانه في الكتاب، وأحكم فرضه فليس به حاجة إلى زيادة من بيان النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان شهادات الأصول والوجه الآخر ما ورد ذكره في الكتاب مجملاً، ووكل بيانه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو يفسره قولاً وفعلاً. أو يتركه على إجماله ليتنبه فقهاء الأمة ويستدركوه استنباطاً وإعتباراً بدلائل الأصول، وكل ذلك بيان مصدره عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم (فجزأها) بتشديد الزاي فهمز من التجزئة أي قسم أصحابها (ثمانية أجزاء) أي أصناف أو قسم مصارفها ثمانية أنواع (فإن كنت من تلك الأجزاء) أي من أصحاب تلك الأجزاء (أعطيتك) كذا في جميع النسخ، وكذا نقله المجد بن تيمية في المنتقى، ووقع في سنن أبي داود أعطيتك حقك، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول، والبغوي في المصابيح، والخطابي في المعالم. وكذا وقع عند البيهقي. والظاهر أنه سقط لفظ حقك من نسخ المشكاة من النساخ، أو قلد المصنف في ذلك صاحب المنتقى. قال الخطابي (ج2:ص56) : في قوله "فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك" دليل على أنه لا يجوز جمع الصدقة كلها في صنف واحد، وإن الواجب تفرقتها على أهل السهمان بحصصهم، ولو كان معنى الآية بيان المحل دون الحصص لم يكن للتجزئة معنى، ويدل على صحة ذلك قوله "أعطيتك حقك" فبين إن لأهل كل جزء على حدة حقاً، وإلى هذا ذهب عكرمة وهو قول الشافعي قلت: اختلف الأئمة في أنه هل يجوز إن تصرف جميع الصدقة إلى صنف واحد من الأصناف المنصوصة مع وجود جميعها، أم هم شركاء في الصدقة، لا يجوز أن يخص بها صنف دون صنف. فذهب مالك وأبوحنيفة وأصحابه وأحمد إلى أنه يجوز للإمام أن يصرفها في صنف واحد، ويجوز أن يعطيها شخصاً واحداً، وهو قول حذيفة وابن عباس وعمر. وبه قال سعيد بن جبير، والحسن والنخعي وعطاء. واليه ذهب الثوري وأبوعبيد والشعبي. وقال الشافعي وأصحابه: لا يجوز ترك صنف منهم مع وجوده بل يجب التعميم في القسمة، واستيعاب الأصناف والتسوية بينها، وروى عن النخعي أنه قال إن كان المال كثيراً يحتمل الأصناف قسمه عليهم، وإن كان قليلاً جاز وضعه في صنف واحد. وقال مالك: يتحرى موضع الحاجة منهم، ويقدم الأولى فالأولى. وقال أحمد: تفريقها وتعميمها أولى ويجزئه أن يضعه في صنف واحد. وقال الحنفية: صاحب المال مخير إن شاء أعطى جميعهم، وإن شاء اقتصر على صنف واحد، وكذا يجوز أن يقتصر على شخص واحد من أي صنف شاء. قال ابن رشد: وسبب اختلافهم معارضة اللفظ للمعنى فإن اللفظ يقتضى القسمة بين جميعها، والمعنى يقتضى أن يؤثر بها أهل الحاجة إذ كان المقصود بها سد الخلة فكان تعديدهم في الآية عند هؤلاء، إنما ورد لتمييز الجنس أعنى أهل الصدقات لا تشريكهم في الصدقة، فالأول أظهر من جهة اللفظ، وهذا أظهر من المعنى. ومن الحجة للشافعي ما رواه أبوداود عن الصدائي - انتهى. قلت: المشهور إن اللام في الآية للصيرورة عند المالكية وللملك عند
.........................
ــ
الشافعية وهو الذي يقتضيه مذهبهم، وعند الحنفية للاختصاص لا للملك يعني إنهم مختصون بالزكاة، ولا تكون لغيرهم كقولهم الخلافة لقريش، والسقاية لبني هاشم أي لا يوجد ذلك في غيرهم فتكون اللام لبيان محل صرفها أي المقصود من الآية بيان الأصناف التي يجوز الدفع إليهم لا تعيين الدفع لهم. قال الطيبي: إنما سمي الله تعالى الأصناف الثمانية في آية الصدقات إعلاماً منه إن الصدقة لا تخرج عن هذه الأصناف، لا إيجاب التقسيم فيما بينهم جميعاً، يدل عليه إيراد الآية بأداة الحصر. أي إنما الصدقات لهؤلاء الأصناف، لا لغيرهم - انتهى. والتمليك ركن من أركان الزكاة عند الحنفية، واستدلوا لذلك بوجوه بسطها ابن الهمام وغيره. منها: إن الله تعالى سماها صدقة وحقيقة الصدقة تمليك المال من الفقير. ومنها: قوله تعالى: {وآتوا الزكاة} [البقرة:43] والإيتاء هو التمليك. ومنها: قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء} [التوبة:60] الآية. وقوله تعالى: {وفي أموالهم حقٌ للسائل والمحروم} [الذاريات:19] قال في البدائع: والإضافة بحرف اللام تقتضي الاختصاص بجهة الملك إذا كان المضاف إليه من أهل الملك. وقال بعضهم: اللام في الآية للعاقبة. قال في العناية: معناه إن المقبوض يصير ملكاً لهم في العاقبة فهم مصاريف ابتداء لا مستحقون ثم يحصل لهم الملك في العاقبة بدلالة اللام واعترض عليه بأنه لا يدل لام العاقبة على التمليك، كما في قوله تعالى:{فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} [الكهف:8] وكما قال الشاعر:
لدوا للموت وابنوا للخراب
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ: تؤخذ من أغنياءهم وترد على فقراءهم. قالوا: الرد على الفقراء لا يكون إلا بتمليكهم إياها، وأجاب الحنفية عن حديث الصدائي بأنه ضعيف وعلى تسليم صحته ليس فيه دلالة إلا على أن الزكاة لا تصرف إلا إلى هذه الأجزاء الثمانية، لا إنها تصرف إلى جميع هذه الأجزاء، وإنما جزأ الله ثمانية لئلا تخرج الصدقة عن تلك الأجزاء. وقال الشوكاني في وبل الغمام: بعد الإشارة إلى تضعيف هذا الحديث ما نصه وعلى فرض صلاحيته للاحتجاج فالمراد بتجزئة الصدقة تجزئة مصارفها كما هو ظاهر الآية التي قصدها صلى الله عليه وسلم، ولو كان المراد تجزئة الصدقة نفسها. وإن كل جز لا يجوز صرفه في غير الصنف المقابل له لما جاز صرف نصيب ما هو معدوم من الأصناف إلى غيره وهو خلاف الإجماع، وأيضاً لو سلم ذلك لكان باعتبار مجموع الصدقات التي تجتمع عند الإمام لا باعتبار صدقة كل فرد، فلم يبق ما يدل على وجوب التقسيط بل يجوز إعطاء بعض المستحقين بعض الصدقات، وإعطاء بعضهم بعضاً، نعم إذا جمع الإمام جميع صدقات أهل قطر من الأقطار وحضر عنده جميع الأصناف الثمانية كان لكل صنف حق في مطالبته، بما فرضه الله تعالى له، وليس عليه تقسيط ذلك بينهم بالسوية ولا تعميمهم بالعطاء، بل له أن يعطى بعض الأصناف أكثر من البعض الآخر، وله أن يعطى بعضهم