المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(4) باب من لا تحل له المسألة ومن تحل له ‌ ‌{الفصل - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٦

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

فهرس الكتاب

- ‌(6) كتاب الزكاة

- ‌{

- ‌الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(1) باب ما يجب فيه الزكاة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(2) باب صدقة الفطر

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(3) باب من لا تحل له الصدقة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(4) باب من لا تحل له المسألة ومن تحل له

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌((5)) باب الإنفاق وكراهية الإمساك

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(6) باب فضل الصدقة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(7) باب أفضل الصدقة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(8) باب صدقة المرأة من مال الزوج

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(9) باب من لا يعود في الصدقة

- ‌{الفصل الأول}

-

- ‌(7) كتاب الصوم

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(1) باب رؤية الهلال

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(2) باب

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(3) باب تنزيه الصوم

- ‌((الفصل الأول))

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

الفصل: ‌ ‌(4) باب من لا تحل له المسألة ومن تحل له ‌ ‌{الفصل

(4) باب من لا تحل له المسألة ومن تحل له

{الفصل الأول}

1852-

(1) عن قبيصة بن مخارق، قال: تحملت حمالة. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسأله فيها، فقال: ((أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها ثم قال: يا قبيصة! إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة، فحلت له المسألة يصيبها ثم يمسك. ورجل أصابته جائحة

ــ

(باب من لا تحل له المسألة ومن تحله له)

1852-

قوله: (عن قبيصة) بفتح القاف وكسر الموحدة فمثناة تحتية فصاد مهملة (بن مخارق) بضم الميم وتخفيف المعجمة بعدها راء مكسورة ثم قاف، هو قبيصة بن مخارق بن عبد الله أبوبشر الهلالي صحابي، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه سكن البصرة (تحملت حمالة) بفتح الحاء وتخفيف الميم وهو المال يتحمله الإنسان عن غيره من دية أو غرامة كان يقع حرب بين فريقين، ويسفك فيها الدماء فيدخل بينهم رجل يتحمل ديات القتلي ليصلح ذات البين. والتحمل أن يحملها عنهم على نفسه أي يتكفلها ويلتزمها في ذمته. قال الخطابي: تفسير الحمالة، أن يقع بين القوم التشاجر في الدماء والأموال ويحدث بسببهما العدواة والشحناء ويخاف من ذلك الفتق العظيم فيتوسط الرجل فيما بينهم، ويسعى في إصلاح ذات البين ويتضمن مالاً لأصحاب الطوائل يترضاهم بذلك حتى تسكن الثائرة وتعود بينهم الألفة - انتهى. قال الشوكاني: قد كانت العرب إذا وقعت بينهم فتنة اقتضت غرامة في دية أو غيرها قام أحدهم فتبرع بالتزام ذلك، والقيام به حتى ترتفع تلك الفتنة الثائرة، ولا شك إن هذا من مكارم الأخلاق، وكانوا إذا علموا إن احدهم تحمل حمالة بادروا إلى معونته وأعطوه ما تبرأ به ذمته، وإذا سأل لذلك لم يعد نقصاً في قدره بل فخراً - انتهى. (أسأله فيها) أي في الحمالة بمعنى لأجلها (أقم) أمر من الإقامة بمعنى اثبت واصبر. وقال السندي: أي كن في المدينة مقيماً (حتى تأتينا الصدقة) أي يحضرنا مالها (فنأمر لك) بنصب الراء (بها) أي بالصدقة أو بالحمالة (إن المسألة) أي السؤال (لا تحل إلا لأحد ثلاثة) أي لا تحل إلا لصاحب ضرورة ملجئة إلى السؤال كأصحاب هذه الضرورات (رجل) بدل "من أحد". وقال ابن الملك: بدل من "ثلاثة" وبالرفع خبر مبتدأ محذوف أي أحدهم (فحلت له المسألة) أي جازت (حتى يصيبها) أي الحمالة (ثم يمسك) أي عن السؤال؛ لأن السؤال حل له لأجل الحمالة فلما أصابها إرتفعت الإباحة فيجب أن يمسك عنه (ورجل) بالوجهين (أصابته جائحة)

ص: 251

اجتاحت ماله، فحلت له المسألة، حتى يصيب قواماً من عيش، أو قال سداداً من عيش. ورجل أصابته فاقة، حتى يقوم ثلاثة من ذوى الحجى من قومه لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة، حتى يصيب قواماً من عيش، أو قال سداداً من عيش. فما سواهن من المسألة يا قبيصة؟ سحت يأكلها صاحبها سحتاً)) .

ــ

هي الآفة التي تهلك الثمار والأموال وتستأصلها كالغرق والحرق والبرد للزرع والثمار، من جاحه يجوحه إذا استأصله (إجتاحت) أي استأصلت وأتلفت (ماله) من ثمار بستانه أو غيرها من الأموال (قواماً) بكسر القاف أي ما يقوم به حاجته ويسد به خلته (من عيش) أي معيشة من قوة ولباس (أو قال) شك من الراوي (سداد) بكسر السين ما تسد به حاجته وخلته. قال النووي: القوام والسداد بكسر القاف والسين وهما بمعنى، وهو ما يغنى من شيء وما تسد به الحاجة. وقال المنذري: القوام بفتح القاف وكسرها أفصح هو ما يقوم به حال الإنسان من مال غيره، والسداد بكسر السين هو ما يسد حاجته المعوذ ويكفيه (ورجل) بالوجهين (فاقة) أي حاجة أي كان غنياً موسراً ثم افتقر وأصابته فاقة ولم يعرف حاله (حتى يقوم) أي على رؤس الأشهاد (ثلاثة من ذوي الحجي) بكسر الحاء المهملة وفتح الجيم بعدها ألف مقصورة، أي العقل والفطنة (من قومه لقد أصابت فلاناً فاقة) أي يقوم ثلاثة قائلين هذا القول. قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ أي من صحيح مسلم حتى يقوم ثلاثة وهو صحيح، أي يقومون بهذا الأمر فيقولون لقد أصابته فاقة - انتهى. وقال الصغاني: هكذا وقع في كتاب مسلم يقوم، والصحيح يقول باللام، وكذا أخرجه أبوداود وكذا في المصابيح. وأجيب بأن تقدير القول مع القيام آكد. قال السندي: وهذا كناية عن كون تلك الفاقة محققة لا مخيلة حتى لو استشهد عقلاء قومه بتلك الفاقة لشهدوا بها، والفرق بين هذا القسم والقسم السابق، إن الفاقة في القسم الأول ظاهرة بين غالب الناس وفي هذا القسم خفية عنهم (وما سواهن) أي هذه الأقسام الثلاثة من المسألة (سحت) بضم السين وسكون الحاء المهملتين وروى بضم الحاء وهو الحرام. وسمي سحتاً؛ لأنه يسحت البركة أي يذهبها ويمحقها (يأكلها) أي يأكل ما يحصل له بالمسألة قاله الطيبي: والحاصل يأكل حاصلها. وقال في سبل السلام: يأكلها أي الصدقة، أنث لأنه جعل السحت عبارة عنها وإلا فالضمير له (صاحبها) أي المسألة (سحتاً) نصب على التمييز أو بدل من ضمير يأكلها وجعله ابن حجر حالاً. قال ابن الملك: وتأنيث الضمير بمعنى الصدقة والمسألة - انتهى. والحديث دليل على أنها تحرم المسألة من الزكاة إلا لثلاثة الأول لمن تحمل حمالة، وظاهره وإن كان غنياً فإنه

ص: 252

.....................

ــ

لا يلزمه تسليمه من ماله، وهذا هو أحد الخمسة الذين يحل لهم أخذ الصدقة وإن كانوا أغنياء كما سلف في حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد. والثاني: من أصاب ماله آفة سماوية أو أرضية كالبرد والغرق ونحوه بحيث لم يبق له ما يقوم بعيشه حلت له المسألة، حتى يحصل له ما يقوم بحالة ويسد خلته. والثالث: من أصابته فاقة ولكن لا تحل له إلا بشرط أن يشهد له من قومه؛ لأنهم أخبر بحاله ثلاثة من ذوي العقول، لا من غلب عليه البغاوة والتغفيل هو محمول على من كان معروفاً بالغنى ثم افتقر. أما إذا لم يكن كذلك فإنه يحل له السؤال وإن لم يشهدوا له بالفاقة، ويقبل قوله وظاهره إعتبار شهادة ثلاثة على الإعسار، وقد ذهب إلى ذلك ابن خزيمة وبعض أصحاب الشافعي. وقال الجمهور: تقبل شهادة عدلين كسائر الشهادات غير الزنا، وحملوا الحديث على الاستحباب. قال الخطابي: في هذا الحديث علم كثير وفوائد جمة، وذلك إنه قد جعل من تحل له المسألة من الناس أقساماً ثلاثة غنياً وفقيرين، وجعل الفقر على ضربين، فقراً ظاهراً، وباطناً، فالغنى الذي تحل له المسألة، هو صاحب الحمالة، وهي الكفالة والحميل الضمين والكفيل، ثم ذكر تفسير الحمالة كما نقلنا عنه. ثم قال فهذا الرجل صنع معروفاً وابتغى بما أتاه صلاحاً فليس من المعروف أن تورك الغرامة عليه في ماله، ولكن يعان على أداء ما تحمله منه ويعطى من الصدقة قدر ما يبرأ به ذمته ويخرج من عهدة ما تضمنه منه: وأما النوع الأول من نوعي أهل الحاجة فهو رجل أصابته جائحة في ماله فأهلكته، والجائحة في غالب العرف هي ما ظهر أمره من الآفات كالسيل يغرق متاعه، والنار تحرقه، والبرد يفسد زرعه وثماره في نحو ذلك من الأمور، وهذه الأشياء لا تخفى آثارها عند وقوعها، فإذا أصاب الرجل شيء منها فذهب ماله وافتقر حلت له المسألة. ووجب على الناس أن يعطوه الصدقة من غير بينة يطالبونه بها على ثبوت فقره وإستحقاقه إياها. وأما النوع الآخر: فإنما هو فيمن كان له ملك ثابت وعرف له يسار ظاهر فأدعى تلف ماله من لص طرقه أو خيانة ممن أودعه أو نحو ذلك من الأمور التي لا يبين لها أثر ظاهر في المشاهدة والعيان. فإذا كان ذلك، ووقعت في أمره الريبة في النفوس لم يعط شيئاً من الصدقة إلا بعد إستبراء حاله، والكشف عنه بالمسألة عن أهل الاختصاص به والمعرفة بشأنه، وذلك معنى قوله "حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجي من قومه" الخ. واشتراطه "الحجي" تأكيد لهذا المعنى أي لا يكونوا من أهل الغباوة والغفلة ممن يخفى عليهم بواطن الأمور، وليس هذا من باب الشهادة، ولكن من باب التبين والتعريف. وذلك أنه لا مدخل لعدد الثلاثة في شيء من الشهادات، فإذا قال نفر من قومه، أو جيرانه أو ذوى الخبرة بشأنه إنه صادق فيما يدعيه أعطى الصدقة. قال الخطابي: وفي قوله "أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها" دليل على جواز نقل الصدقة من بلد إلى أهل بلد آخر، وفيه إن الحد الذي ينتهي إليه العطاء في الصدقة هو الكفاية التي يكون بها قوام العيش وسداد الخلة، وذلك يعتبر في كل إنسان بقدر حاله ومعيشته ليس في حد معلوم يحمل عليه الناس كلهم مع اختلاف

ص: 253

رواه مسلم.

1853-

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس أموالهم تكثراً، فإنما يسأل جمراً، فليستقل أو ليستكثر)) رواه مسلم.

1854-

وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم))

ــ

أحوالهم - انتهى. والظاهر من الأحاديث تحريم السؤال إلا للثلاثة المذكورين أو أن يكون المسئول السلطان كما سيأتي (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج3:ص477) و (ج5:ص60) والشافعي (ج2:ص62) وأبوداود والنسائي والدارقطني وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي (ج7:ص21-23) وأبوعبيد (ص230-547) .

1853-

قوله: (من سأل الناس أموالهم) أي شيئاً من أموالهم يقال، سألته الشيء وعن الشيء. قال الطيبي: قوله "أموالهم" بدل اشتمال "من الناس" وقد تقرر عند العلماء إن البدل هو المقصود بالذات، وإن الكلام سبق لأجله فيكون القصد من سؤال هذا السائل نفس المال والإكثار منه لا دفع الحاجة، فيكون مثل هذا المال كنز يترتب عليه فإنما يسأل جمراً - انتهى. (تكثراً) مفعول له أي ليكثر به ماله لا للاحتجاج. وقيل: أي بطريق الإلحاح والمبالغة في السؤال (فإنما يسأل جمراً) أي قطعة من نار جهنم يعني ما أخذ سبب للعقاب بالنار، وجعله جمراً للمبالغة فهذا كقوله تعالى:{إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً، إنما يأكلون في بطونهم ناراً} [النساء:10] أي ما يوجب ناراً في العقبى، ويجوز أن يكون على ظاهره، وإن الذي يأخذه يصير جمراً حقيقة يعذب ويكوى به كما ثبت في مانعى الزكاة (فليستقل) من السؤال أو الجمر (أو ليستكثر) أي ليطلب قليلاً أو كثيراً ولينظر في عاقبته وهذا توبيخ له وتهديد كما في قوله تعالى:{فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف:29] لا إلاذن والتخيير. قال في السبل قوله "فليستقل" أمر للتهكم ومثله ما عطف عليه، أو للتهديد من باب اعملوا ما شئتم وهو مشعر بتحريم السؤال للاستكثار (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه والبيهقي.

1854-

قوله: (ما يزال الرجل) والمرأة (يسأل الناس) أموالهم أي تكثراً وهو غنى كما سيأتي (مزعة لحم) مزعة بضم الميم وحكى كسرها وسكون الزاى بعدها مهملة أي قطعة من لحم أو نتفة منه. وقال ابن التين: ضبطه بعضهم بفتح الميم والزاي. والذي أحفظه من المحدثين الضم. قال الخطابي: يحتمل وجوهاً. أن يأتي

ص: 254

متفق عليه.

1855 -

(4) وعن معاوية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تلحفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئاً فتخرج له مسألة مني شيئاً، وأنا كاره، فيبارك له فيما أعطيته))

ــ

ذليلاً ساقطاً لا جاه له ولا قدر، كما يقال لفلان وجه عند الناس فهو كناية. وأن يكون قد نالته العقوبة في وجهه فعذب حتى سقط لحمه على معنى مشاكلة عقوبة الذنب مواضع الجناية من الأعضاء كقوله صلى الله عليه وسلم: رأيت ليلة أسرى بي قوماً تقرض سفاههم فقلت: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: هم الذين يقولون ما لا يفعلون. وأن يبعث ووجهة عظم كله فيكون ذلك علامة له وشعاراً يعرف به، وإن لم يكن من عقوبة مسته في وجهه -انتهى. قال الحافظ: الأول صرف للحديث عن ظاهره وقد يؤيده ما أخرجه الطبراني والبزار من حديث مسعود بن عمر. ومرفوعاً، لا يزال العبد يسأل وهو غني حتى يخلق وجهه فلا يكون له عند الله وجه. ومال المهلب إلى حمله على ظاهره، وإلى أن السر فيه إن الشمس تدنو يوم القيامة، فإذا جاء لا لحم بوجهه كانت أذية الشمس له أكثر من غيره قال. والمراد به من سأل تكثراً وهو غني لا تحل له الصدقة، وأما من سأل وهو مضطر فذلك مباح له فلا يعاقب عليه - انتهى. قلت: ظاهر الحديث يدل على ذم تكثير السؤال وقبحه، وإن كل مسألة تذهب من وجهه قطعة لحم حتى لا يبقى فيه شيء لقوله "لا يزال" وفهم البخاري إنه وعيد لمن يسأل تكثراً، يعني سأل ليجمع الكثير من غير احتياج إليه، فإنه ترجم له بباب من سأل تكثراً، والفرق بينهما ظاهر فقد يسأل الرجل دائماً، وليس متكثراً لدوام افتقاره واحتياجه لكن لما كان المتوعد عليه على ما تشهد به القوائد هو السائل عن غني وكثرة، وإن سؤال ذي الحاجة مباح نزل البخاري - الحديث. على من يسأل ليكثر ماله (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج2:ص15-88) والنسائي والبيهقي (ج4:ص196) .

1855-

قوله: (وعن معاوية) أي ابن أبي سفيان (لا تلحفوا في المسألة) مصدر بمعنى السؤال أي لا تبالغوا ولا تلحوا من الحف في المسألة إذا ألح فيها. قال تعالى: {لا يسألون الناس إلحافاً} [البقرة: 273] واشتقاق الحف من اللحاف؛ لأنه يشتمل على وجوه الطلب كإشتمال اللحاف في التغطية (فوالله لا يسألني) أي بالإلحاف (فتخرج) بالتأنيث منصوباً ومرفوعاً والنسبة مجازية سببية في الإخراج (وأنا له) أي لذلك الشيء يعني لإعطائه أو لذلك الإخراج الدال عليه تخرج والواو للحال (فيبارك) بالنصب مجهولاً (له فيما أعطيته) أي على تقدير الإلحاف. قال الطيبي: بالنصب بعد الفاء على معنى الجمعية أي لا يجتمع إعطائي كارهاً مع البركة - انتهى. وسره إن النفوس اللاحقة بالملاء الأعلى تكون الصورة الذهنية فيها من الكراهة والرضا بمنزلة الدعاء المستجاب

ص: 255

رواه مسلم.

1856 -

(5) وعن الزبير بن العوام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره، فيبيعها.

ــ

والله أعلم، كذا في حجة الله البالغة. قال القاري: وفي نسخة بالرفع فيقدر هو فيكون كقوله تعالى: {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} [المرسلات:36] انتهى. وفي رواية لمسلم قال: أي معاوية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما أنا خازن فمن أعطيته عن طيب نفس فمبارك له فيه، ومن أعطيته عن مسألة وشره نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع. قال النووي في شرح مسلم: اتفق العلماء على النهى عن السؤال لغير ضرورة، واختلف أصحابنا في مسألة القادر على الكسب على وجهين: أصحهما أنها حرام لظاهر الأحاديث. والثاني: حلال مع الكراهة بثلاثة شروط أن لا يذل نفسه، ولا يلح في السؤال، ولا يؤذي المسئول فان فقد أحد هذه الشروط فهي حرام بالاتفاق - انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4:ص98) والنسائي والدارمي والبيهقي (ج4:ص196) وفي الباب عن ابن عمر عند أبي يعلى ذكره المنذري في الترغيب، وقال رواته محتج بهم في الصحيح.

1856-

قوله: (وعن الزبير بن العوام) بفتح العين المهملة وتشديد الواو وهو الزبير بن العوام بن خويلد ابن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب أبوعبد الله الأسدي القرشي حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته صفية بنت عبد المطلب وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى أسلم وله اثنتا عشر سنة. وقيل: ثمان سنين. وكان عم الزبير وهو نوفل بن خويلد يعلق الزبير في حصير ويدخن عليه بالنار ليرجع إلى الكفر فيقول: لا أكفر أبداً، شهد بدراً وما بعدها، وهاجر الهجرتين. وهو أول من سل سيفاً في سبيل الله وذلك إن الشيطان نفخ نفخة فقال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل الزبير يشق الناس بسيفه، والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة. وفي رواية فقيل: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج الزبير متجرداً بالسيف صلتاً روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه إبناه عبد الله وعروة والأحنف وغيرهم، وكان في صدره أمثال العيون من الطعن والرمي أصابه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله، قتل في جمادى الآخرة سنة (36) بعد منصرفة من وقعة الجمل، وله ست أو سبع وستون سنة. وكان الذي قتله عمرو بن جرموز التميمي قتله غدراً بوادي السباع ناحية البصرة ودفن فيه، وقال علي رضي الله عنه لمن آذنه بقتله: بشر قائل ابن صفية بالنار (لأن يأخذ) بفتح اللام (أحدكم حبله) أي فيجمع حطباً ثم يربط به (فيأتي بحزمة حطب على ظهره) قال ابن الملك: الحزمة بضم الحاء قدر ما يحمل بين العضدين والصدر، ويستعمل فيما يحمل على الظهر من الحطب. وقال في الصراح: حزمة بالضم بند هيزم (فبيعها) قيل:

ص: 256

فيكف الله بها وجهه، فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه)) . رواه البخاري.

1857-

(6) وعن حكيم بن حزام، قال: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثم قال لي: يا حكيم! إن هذا المال خضر حلو.

ــ

منصوب بتقدير"إن" أي فإن يبيع تلك الحزمة (فكيف) بالنصب أيضاً (الله بها) أي فيمنع الله بسبب الحزمة وثمنها (وجهه) أي من أن يريق ماءه بالسؤال (خير له) قال الحافظ: ليست "خير" هنا بمعنى التفضيل إذ لا خير في السؤال مع القدرة على الاكتساب، والأصح عند الشافعية إن سؤال من هذا حاله حرام. ويحتمل أن يكون المراد بالخير فيه بحسب اعتقاد السائل وتسميته الذي يعطاه خيراً، وهو في الحقيقة شر - انتهى. وقال السندي في حاشية مسلم: قوله "خير له" الخ. أي لو فرض في السؤال خيريه لكان هذا خبراً منه، إلا فمعلوم أنه لا خيرية في السؤال. وقال في حاشية ابن ماجه: الكلام من قبيل "وإن تصوموا خيراً لكم" والمراد إن ما يلحق الإنسان بالاحتزام من التعب الدنيوي خير له مما يلحقه بالسؤال من التعب الأخروي، فعند الحاجة ينبغي له أن يختار الأول ويترك الثاني (من أن يسأل الناس) أي من سؤال الناس، ولو كان الاكتساب بعمل شاق كالاحتطاب. وقد روى عن عمر فيما ذكره ابن عبد البر مكسبة فيها بعض الدناءة خير من مسألة الناس (أعطوه) فحملوه ثقل المنة مع ذل السؤال (أو منعوه) فاكتسب الذل والخيبة والحرمان يعني يستوي الأمر إن في أنه خير له. وفي الحديث الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها ولو أمتهن المرأ نفسه في طلب الرزق، وارتكب المشقة في ذلك ولولا قبح المسألة في نظر الشرع لم يفضل ذلك عليها، وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال ومن ذل الرد، إذا لم يعط. ولما يدخل على المسؤل من الضيق في ماله أن أعطى كل سائل، وفيه فضيلة الاكتساب بعمل اليد (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1:ص146-168) وابن ماجه والبيهقي (ج4:ص195) وفي الباب عن أبي هريرة عند مالك والشيخين والترمذي والنسائي.

1857-

قوله: (وعن حكيم بن حزام) بفتح المهملة في الأول وكسرها في الثاني، وتخفيف الزاي المعجمة (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ثم سألته فأعطاني) كذا وقع في هذه الرواية بتكرير الإعطاء مرتين وفي سائر الروايات بتكرير السؤال والإعطاء ثلاثاً (ثم قال لي) أي بعد الإعطاء الثالث كما في سائر الروايات (إن هذا المال خضر) بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين، أي طرى ناعم مرغوب فيه غاية الرغبة (حلو) بضم الحاء المهملة وسكون اللام، أي لذيذ عند النفس تميل إليه بالطبع غاية الميل. وقيل: الخضر في العين طيب، والحلو يكون في الفم طيباً: إذ لا تمل العين من النظر إلى الخضر، ولا يمل الفم من أكل الحلو فكذلك النفس حريصة بجمع المال

ص: 257

فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع،

ــ

لا تمل عنه. والمعنى إن هذا المال في الرغبة فيه، والميل إليه وحرص النفوس عليه كالفاكهة خضر في المنظر حلو في الذوق، ففيه تشبيه المال في الرغبة والميل إليه بالفاكهة الخضرة المستلذة المستحلاة الطعم. فان الأخضر مرغوب فيه على انفراده بالنسبة إلى اليابس والحلو كذلك على انفراده بالنسبة إلى الحامض، فالإعجاب بهما إذا اجتمعا أشد. وفيه إشارة إلى عدم بقاءه، لأن الخضروات لا تبقى ولا تراد للبقاء وذكر الخبر في هذه الرواية، ووقع في سائر الروايات إن هذا المال خضرة حلوة. قيل: أنث الخبر لأن المراد الدنيا. وقيل: لأن التقدير إن صورة هذا المال أو يكون التأنيث للمعنى؛ لأنه اسم جامع لأشياء كثيرة، والمراد بالخضرة الروضة الخضراء، أو الشجرة الناعمة والحلوة المستحلاة الطعم. قال في المصابيح: إذا كان قوله "خضرة" صفة للروضة أو المراد بها نفس الروضة الخضرة لم يكن ثم إشكال البتة، وذلك أن توافق المبتدأ والخبر في التأنيث. إنما يجب إذا كان الخبر صفة مشقة غير سببية نحو هند حسنة أو حكمها كالمنسوب. أما في الجوامد فيجوز نحو هذه الدار مكان طيب وزيد نسمة عجيبة - انتهى. وقال الحافظ: معناه إن صورة حسنة مونقة، والعرب تسمى كل شيء مشرق ناضر أخضر. وقال ابن الأنباري: قوله "خضرة حلوة" ليس هو صفة المال وإنما هو للتشبيه كأنه قال المال كالبقلة الخضراء الحلوة أو التاء فيه باعتبار ما يشتمل عليه المال من زهرة الدنيا. أو على معنى فائدة المال أي إن الحياة به أو العيشة أو إن المراد بالمال هنا الدنيا؛ لأنه من زينتها. قال الله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} [الكهف:46] وقد وقع في حديث أبي سعيد في السنن الدنيا خضرة حلوة فيتوافق الحديثان، ويحتمل أن تكون التاء فيهما للمبالغة (فمن أخذه) أي المال أخذاً متلبساً (بسخاوة) بفتح السين المهملة (نفس) أي من غير حرص عليه أو بغير شره ولا إلحاح أي من أخذه بغير سؤال ولا إشراف ولا تطلع ولا طمع وهذا بالنسبة إلى الآخذ، ويحتمل أن يكون بالنسبة إلى المعطى أي بسخاوة نفس المعطى أي انشراح صدره بما يعطيه يعني من أخذه ممن يعطى منشرحاً باعطاءه إياه طيب النفس لا بسؤال اضطره إليه أو نحوه مما لا تطيب معه نفس المعطى، والظاهر هو الأول (ومن أخذه بإشراف نفس) أي مكتسباً له بطلب النفس وحرصها عليه وتعرضها له وطعمها فيه وتطلعها اليه وهذا بالنسبة إلى الآخذ، ويحتمل أن يكون بالنسبة إلى المعطى أي بكراهيته من غير طيب نفس بالاعطاء كذا قيل: والظاهر هو الأول (لم يبارك له) أي الآخذ (فيه) أي في المعطى (وكان) أي السائل الآخذ الصدقة في هذه الصورة لما يسلط عليه من عدم البركة وكثرة الشره والنهمة (كالذي يأكل ولا يشبع) أي كذى الجوع الكاذب بسبب سقم من غلبة خلط سوداوي أو آفة ويسمى جوع

ص: 258

واليد العليا خير من اليد السفلى. واليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم. فقلت: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً، حتى أفارق الدنيا)) .

ــ

الكلب كلما أزداد جوعاً فلا يجد شبعاً ولا ينجع فيه الطعام، والمراد أنه لا ينقطع شهاءه فيبقى في حيرة الطلب على الدوام ولا ينقضي شهواته التي لأجلها طلبه. وفي الحديث على التعفف والرضا بما تيسر في عفاف، وإن كان قليلاً، وإنه لا يغتر الإنسان بكثرة ما يحصل له بإشراف ونحوه فإنه لا يبارك له فيه (واليد العليا) أي المنفقة (خير من اليد السفلى) أي السائلة. قال السندي: المشهور تفسير اليد العليا بالمنفقة وهو الموافق للأحاديث. وقيل: عليه كثيراً ما يكون السائل خيراً من المعطى فكيف يستقيم هذا التفسير وليس بشيء إذا الترجيح من جهة الإعطاء والسؤال، السؤال لا من جميع الوجوه والمطلوب الترغيب في التصدق والتزهيد في السؤال، ومنهم من فسر العليا بالمتعففة عن السؤال حتى صفحوا المنفقة في الحديث (يعني حديث ابن عمر الآتي) بالمتعففة والمراد بالعلو قدر أو على الوجهين فالسفلى هي السائلة. إما لأنها تكون تحت يد المعطى وقت الإعطاء أو لكونها ذليلة بذل السؤال والله أعلم. بحقيقة الحال - انتهى. قلت: القول الراجح المعول عليه هو أن المراد بالعليا هي المنفقة وبالسفلى السائلة. لما روى أحمد والطبراني بإسناد صحيح عن حكيم بن خزام مرفوعاً: يد الله فوق يد المعطى، ويد المعطى فوق يد المعطى، ويد المعطى أسفل الأيدي، وللطبراني من حديث عدي الجذامي مرفوعاً مثله. وروى النسائي وابن حبان والدارقطني من حديث طارق المحاربي. قال: قدمنا المدينة فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس وهو يقول: يد المعطى العليا. ولابن أبي شيبة والبزار من طريق ثعلبة بن زهدم مثله، ولأبي داود وابن خزيمة والحاكم من حديث أبي الأحوض عوف بن مالك عن أبيه مرفوعاً الأيدي ثلاثة. فيد الله: العليا. ويد المعطى: التي تليها. ويد السائل: السفلى. ولأحمد والبزار من حديث عطية السعدي اليد المعطية هي العليا، والسائلة هي السفلى. قال الحافظ بعد ذكر هذه الأحاديث: فهذه الأحاديث متضافرة على أن اليد العليا هي المنفقة المعطية وإن السفلى هي السائلة وهذا هو المعتمد وهو قول الجمهور - انتهى. وفي تفسير ذلك أقوال أخرى ذكرها الحافظ في الفتح. ثم قال وكل هذه التأويلات تضمحل عند الأحاديث المتقدمة المصرحة بالمراد فأولى ما فسر الحديث بالحديث - انتهى. (لا أزرأ) بفتح الهمزة وإسكان الراء وفتح الزاي بعدها همزة أي لا انقص (أحداً) أي مال أحد بالسؤال عنه والأخذ منه (بعدك) أي بعد سؤالك هذا أو بعد قولك هذا (شيئاً) مفعول ثان "لأرزأ" بمعنى أنقص أي لا آخذ من أحد شيئاً بعدك، وفي رواية قلت: فواالله لا تكون يدي بعدك تحت يد من أيدي العرب (حتى أفارق الدنيا) أي إلى أن أموت ولم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي لعشر سنين من إمارة معاوية مبالغة في الاحتراز، إذا مقتضى الجبلة الإشراف والحرص والنفس سراقة، ومن حام حول الحمى

ص: 259

متفق عليه.

1858-

(8) وعن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال وهو على المنبر وهو يذكر الصدقة والتعفف عن المسألة: ((اليد العليا خير من اليد السفلى" واليد العليا هي المنفقة والسفلى هي السائلة)) .

ــ

يوشك أن يقع فيه. وفي الحديث فوائد، ذكرها الحافظ في الفتح نقلاً عن ابن أبي جمرة فارجع إليه (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة والوصايا والخمس والرقاق، ومسلم في الزكاة. واللفظ للبخاري في الوصايا، وأخرجه أيضاً أحمد (ج3:ص434) والترمذي والنسائي والبيهقي وغيرهم.

1858-

قوله: (وهو على المنبر) جملة إسمية وقعت حالاً (وهو) أي والحال أنه (يذكر الصدقة) أي فضلها والحث عليها (والتعفف عن المسألة) أي الكف عن السؤال وهذا لفظ مسلم عن قتيبة عن مالك عن نافع ابن عمر، وكذا رواه النسائي عن قتيبة، وكذا وقع في الموطأ. ولفظ البخاري من طريق القعنبي عن مالك، وذكر الصدقة والتعفف. والمسألة أي بالواو بدل عن قبل المسألة، ولأبي داود من هذا الطريق، وهو يذكر الصدقة والتعفف منها والمسألة، والضمير في "منها" عائد على "الصدقة" المتقدم ذكرها أي والتعفف من أخذ الصدقة، والمعنى أنه كان يحض الغنى على الصدقة والفقير على التعفف عن المسألة أو يحضة على التعفف ويذم المسألة (واليد العليا) قال النووي: المراد بالعلو علو الفضل والمد ونيل الثواب. وقال الباجي: هو بمعنى أنه أرفع درجة ومحلاً في الدنيا والآخرة، (هي المنفقة) اسم فاعل من انفق يعني المعطية (والسفلى هي السائلة) هذا التفسير مدرج في الحديث فروى أحمد (ج2:ص152) بإسناد صحيح عن ابن عمر إنه كتب إلى عبد العزيز بن مروان إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى، وإني لأحسب اليد العليا المعطية والسفلى السائلة. فهذا يشعر بأن التفسير من كلام ابن عمر، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة والبيهقي (ج4:ص198) من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: كنا نتحدث إن اليد العليا هي المنفقة. واعلم إنه اتفق الرواة عن مالك على قوله: المنفقة، والحديث رواه البخاري أيضاً عن عارم عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن لم يسق متن هذا الطريق وأشار أبوداود إلى الاختلاف فيه على أيوب عن نافع، ثم على حماد بن زيد عن أيوب. وحاصل هذا الاختلاف أنه قال: أكثر الرواة عن حماد ابن زيد عن أيوب اليد العليا المنفقة. وقال مسدد عن حماد عند ابن عبد البر في التمهيد. وأبوالربيع الزهراني عن حماد عند يوسف بن يعقوب القاضي في كتاب الزكاة المتعففة، يعني بالعين والفائيين وكذا قال عبد الوارث عن

ص: 260

متفق عليه.

1859-

(9) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((إن أناساً من الأنصار، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم

ــ

أيوب "المتعففة" بدل المنفقة قال الحافظ: لم أقف على رواية عبد الوارث موصولة، وقد أخرجه أبونعيم في المستخرج من طريق سليمان بن حرب عن حماد بلفظ: واليد العليا يد المعطى، وهذا يدل على أن من رواه عن نافع بلفظ: المتعففة فقد صحف، قلت: ويدل عليه أيضاً ما روى أحمد (ج2:ص98) عن يونس عن حماد بلفظ: اليد العليا المعطية، ورواه موسى بن عقبة عن نافع فاختلف عليه أيضاً فقال عبد الله بن المبارك: عند أحمد (ج2:ص67) وحفص بن ميسرة عند البيهقي (ج4:ص198) وفضيل بن سليمان عند ابن حبان كلهم عن موسى بن عقبة المنفقة. وقال إبراهيم بن طهمان عنه: عند البيهقي (ج4:ص198) المتعففة يعني بعين وفاءيين، ورجح الخطابي في المعالم (ج2:ص70) رواية المتعففة فقال: إنها أشبه وأصح في المعنى، وذلك إن ابن عمر ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام، وهو يذكر الصدقة والتعفف منها فعطف الكلام على سببه الذي خرج عليه وعلى ما يطابقه في معناه أولى. ورجح ابن عبد البر في التمهيد رواية المنفقة فقال: إنها أولى وأشبه بالصواب من قول من قال المتعففة. وقال النووي في شرح مسلم: إنها الصحيح قال: ويحتمل صحة الروايتين فالمنفقة أعلى من السائلة والمتعففة أولى من السائلة - انتهى. قلت: قد سبق ما يدل على أنه لفظة المتعففة بالعين والفاءيين مصحفة عن المنفقة وتقدم أيضاً إن الأحاديث متظافرة على أن اليد العليا هي المنفقة المعطية، فالصحيح هي رواية المنفقة لا المتعففة والله تعالى أعلم. وفي الحديث الحث على الصدقة والإنفاق في وجوه الطاعة وفيه كراهة السؤال والتنفير عنه، ومحله إذا لم تدع إليه ضرورة من خوف هلاك ونحوه (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد مختصراً (ج2:ص67-98) ومالك في الجامع من الموطأ وأبوداود والنسائي والبيهقي وغيرهم.

1859-

قوله: (إن أناساً) وفي بعض النسخ ناساً أي بترك الهمزة (من الأنصار) لم يعرف أسماءهم ولكن قال الحافظ: روى النسائي من طريق عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه ما يدل على أن أباسعيد راوي هذا الحديث خوطب بشيء من ذلك ولفظه في حديثه (في باب من الملحف) سرحتني أمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعني لأسأله من حاجة شديدة فأتيته فقعدت فاستقبلني وقال من استغنى أغناه الله - الحديث. وزاد فيه ومن سأل وله قيمة أوقية فقد الحف فقلت: ناقتي الياقوتة خير من أوقية فرجعت ولم أسأله - انتهى. واعترضه العيني بأنه ليس فيه شيء يدل على كونه مع الأنصار في حالة سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم (سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا في عامة النسخ

ص: 261

فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده. فقال: "ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر،

ــ

وكذا في المصابيح وهكذا وقع في الصحيحين والموطأ وجامع الترمذي وسنن أبي داود والنسائي، ووقع في بعض نسخ المشكاة سألوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والظاهر إنه غلط من الناسخ (فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم) بتكرير السؤال والإعطاء مرتين ووقع ذلك في بعض النسخ من صحيحي البخاري ومسلم ثلاث مرات (حتى نفد) بكسر الفاء وبالدال المهملة أي فرغ وفني (ما عنده) من المال (ما يكون عندي من خير) أي مال ومن بيان لما "وما" موصولة لا شرطية وإلا لوجب "يكن" بحذف الواو والفاء في قوله (فلن أدخره عنكم) لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وأدخره بتشديد الدال المهملة، أي كل شيء من المال موجود عندي فلن أحبسه وأخبأه وأمنعكم إياه منفرداً به عنكم أو لن أجعله ذخيرة لغيركم معرضاً عنكم (ومن يسعف) بفاء واحدة مشددة. قال القاري: وفي بعض النسخ بالفك، ويظهر من كلام الحافظ والقسطلاني إن في رواية الكشمهيني يستعفف أي بفاءيين، للحموي والمستملى يستعف أي بفاء واحدة مشددة، يعني من يطلب من نفسه العفة عن السؤال. قال الطيبي: أويطلب العفة من الله تعالى فليس السين لمجرد التأكيد. قال الجزري: الاستعفاف طلب العفاف، والتعفف، وهو الكف من الحرام والسؤال من الناس أي من طلب العفة وتكلفها أعطاه الله إياها. وقيل: الاستعفاف، الصبر والنزاهة عن الشيء يقال: عف يعف عفة فهو عفيف - انتهى. (يعفه الله) بضم التحتية وكسر المهملة ونصب الفاء المشددة أي يرزقه الله العفة أي الكف عن السؤال والحرام ولأبي ذر، يعفه الله برفع الفاء قاله القسطلاني. وقال في المجمع: يعفه من الاعفاف وبفتح فاء مشددة، وضمه بعضهم إتباعهم بضم الهاء - انتهى. قال القاري: يعفه الله أي يجعله عفيفاً من الاعفاف وهو إعطاء العفة، وهي الحفظ عن المناهي يعني من قنع بأدنى قوت وترك السؤال تسهل عليه القناعة وهي كنز لا يفنى. وقال ابن التين: معناه إما أن يرزقه من المال ما يستغنى به عن السؤال، وإما أن يرزقه القناعة (ومن يستغن) أي بالله عمن سواه أو يظهر للغنى بالاستغناء عن أموال الناس والتعفف عن السؤال حتى يحسبه الجاهل غنياً من التعفف (يغنه الله) أي يجعله غنياً أي بالقلب ففي الحديث ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غني النفس. ولو حمل على غنى المال لم يبعد أي يعطيه ما يغنيه عن الخلق (ومن يتصبر) بفتح الفوقية وتشديد الموحدة المفتوحة أي يعالج الصبر على ضيق العيش وغيره من مكاره الدنيا. وقال السندي: أي يتكلف في تحمل مشاق الصبر وفي التعبير بباب التكلف إشارة إلى أنه ملكة الصبر تحتاج في الحصول إلى الاعتبار، وتحمل المشاق من الإنسان. وقال القاري: أي يطلب توفيق الصبر من الله لأنه قال تعالى: {واصبر وما صبرك إلا بالله}

ص: 262

يصبره الله. وما أعطى أحد عطاء، هو خير وأوسع من الصبر)) . متفق عليه.

1860 -

(10) وعن عمر بن الخطاب، قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء

ــ

[النحل:127] أو يأمر نفسه بالصبر، ويتكلف في التحمل عن مشاقة، وهو تعميم بعد تخصيص؛ لأن الصبر يشتمل على صبر الطاعة والمعصية والبليلة أو من يتصبر عن السؤال والتطلع إلى ما في أيدي الناس بأن يتجرع مرارة ذلك ولا يشكو حاله لغير ربه (يصبره الله) بضم أوله وتشديد الموحدة المكسورة من التصبير أي يسهل عليه الصبر فتكون الجمل مؤكدات، ويؤيد إرادة معنى العموم قوله الآتي وما أعطى أحد الخ. وقال الباجي: معناه من يتصد للصبر ويؤثره يعينه الله تعالى عليه ويوفقه (وما أعطى) بضم الهمزة مبنياً للمفعول (أحد) بالرفع نائب عن الفاعل (عطاء) بالنصب مفعول ثان "لأعطى" وفي الترمذي ما أعطى أحد شيئاً وفي رواية مسلم وأبي داود من عطاء (هو خير) أي أفضل كذا في جميع نسخ المشكاة الحاضرة ووقع في صحيح مسلم "خير" بلا لفظ هو، وهو مقدر. وهكذا وقع في بعض نسخ البخاري، ووقع في بعضها "خيراً" بالنصب على أنه صفة عطاء، وهكذا في المصابيح. قال العيني: قوله "خيراً" بالنصب صفة عطاء" ويروي خير بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو خير انتهى. (وأوسع) عطف على خير (من الصبر) لجمعه مكارم الأخلاق؛ ولأنه كما قال الباجي: أمر يدوم له الغنى به بما يعطي وإن كان قليلاً ولا يفنى، ومع عدمه لا يدوم له الغنى وإن كثر. وربما يغنى ويمتد إلى أكثر منه مع عدم الصبر. وقال ابن الجوزي: إنما جعل الصبر خير العطاء؛ لأنه حبس النفس عن فعل ما تحبه والزامها بفعل ما تكره في العاجل مما لو فعله أو تركه لتأذى به في الآجل. وقال القاري: وذلك لأن مقام الصبر أعلى المقامات؛ لأنه جامع لمكارم الصفات والحالات، ولذا قدم على الصلاة في قوله تعالى:{واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة:45] ومعنى كونه أوسع أنه تتسع به المعارف والمشاهد والأعمال والمقاصد - انتهى. وفي الحديث إعطاء السائل مرتين أو ثلاثاً والاعتذار إليه والحض على التعفف، وفيه جواز السؤال للحاجة وإن كان الأولى تركه والصبر حتى يأتيه رزقه بغير مسألة، وفيه الحث على الصبر على ضيق العيش وغيره من مكاره الدنيا وإن الصبر أفضل ما يعطاه المرأ لكون الجزاء عليه غير مقدر ولا محدود، وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من السخاء وإنفاذ أمر الله (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد ومالك في كتاب الجامع من الموطأ. والترمذي في البر والصلة وأبوداود والنسائي والبيهقي في الزكاة.

1860-

قوله: (يعطيني العطاء) قيل كان ذلك أجر عمله في الصدقة كما يدل عليه حديث ابن الساعدي في الفصل الثالث. وقال الحافظ: قوله: "يعطيني العطاء أي من المال الذي يقسمه في المصالح" قال وفي حديث ابن

ص: 263

فأقول: ((أعطه أفقر إليه مني فقال: خذه فتموله وتصدق به، فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف، ولا سائل، فخذه، ومالا، فلا تتبعه نفسك)) .

ــ

السعدي عند مسلم إن عطية النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بسبب العمالة. ولهذا قال الطحاوي: ليس معنى هذا الحديث في الصدقات، وإنما هو في الأموال التي يقسمها الإمام وليست هي من جهة الفقر، ولكن شيء من الحقوق، فلما قال عمر: أعطه من هو أفقر إليه مني، لم يرض بذلك. لأنه إنما أعطاه لمعنى غير الفقر، قال ويؤيده قوله: خذه فتموله فدل ذلك على أنه ليس من الصدقات (فأقول أعطه) بقطع الهمزة والضمير للعطاء أو للسكت (أفقر) أي أحوج (إليه مني) قال الكرماني: جاز الفصل بين أفعل التفضيل وبين كلمة "من" لأن الفاصل ليس أجنبياً بل هو الصق به من الصلة. لأنه محتاج إليه بحسب جوهر اللفظ، والصلة محتاج إليه بحسب الصيغة (خذه) أي بالشرط المذكور بعد (فتموله) بتشديد الواو أي أقبله وأدخله في ملكك ومالك أي اجعله مالاً لك يعني إن كنت محتاجاً (وتصدق به) أي على أفقر منك إن كان فاضلاً عنك عما لابد لك منه قاله القاري. وفي رواية لمسلم أو تصدق به بلفظ "أو" بدل الواو. وقال السندي: أي إذا أخذت فان شئت أبقه عنك مالاً، وإن شئت تصدق به - انتهى. وهو أمر إرشاد على الصحيح. قال ابن بطال: أشار صلى الله عليه وسلم على عمر بالأفضل؛ لأنه وإن كان مأجوراً بإيثاره لعطائه عن نفسه من هو أفقر إليه منه، فإن أخذه للعطاء ومباشرته للصدقة بنفسه أعظم لأجره، وهذا يدل على عظيم فضل الصدقة بعد التمول لما في النفوس من الشح على المال (فما جاءك من هذا المال) إشارة إلى جنس المال أو المال الذي أعطاه وفي رواية إذا جاءك من هذا المال شيء (وأنت غير مشرف) بضم الميم وسكون المعجمة وبعدها راء مكسورة ففاء من الإشراف، وهو التعرض للشيء والحرص عليه والتطلع اليه من قولهم: أشرف على كذا إذا تطاول له. وقيل: للمكان المرتفع شرف لذلك أي والحال إنك غير طامع ولا ناظر له. قال أبوداود: سألت أحمد عن إشراف النفس فقال: بالقلب. وقال يعقوب بن محمد: سألت أحمد عنه فقال: هو أن يقول مع نفسه يبعث إلى فلان بكذا. وقال الأثرم: يضيق عليه أن يرده إذا كان كذلك (ولا سائل) أي ولا طالب له (فخذه) ولا ترده. وأطلق الأخذ أولاً وعلقه ثانياً بالشرط فحمل المطلق على المقيد وهو مقيد أيضاً بكونه حلالاً، فلو شك فيه فالاحتياط الرد وهو الورع نعم يجوز أخذه عملاً بالأصل (ومالاً) يكون على هذه الصفة بأن لم يجيء إليك ومالت نفسك إليه (فلا تتبعه نفسك) في الطلب واتركه وقوله: لا تتبعه بضم الفوقية الأولى وسكون الثانية وكسر الموحدة وسكون العين من الإتباع مخففاً، أي فلا تجعل نفسك تابعة له ناظرة إليه لأجل أن

ص: 264