الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1873-
(23) وعن أبي ذر، قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم:((وهو يشترط على أن لا تسأل الناس شيئاً قلت نعم. قال: ولا سوطك إن سقط منك حتى تنزل إليه فتأخذه)) . رواه أحمد.
((5)) باب الإنفاق وكراهية الإمساك
{الفصل الأول}
1874-
(1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كان لي مثل أحد ذهباً
ــ
رواته) ههنا كلمة معناها أن لا يسأل الناس شيئاً -انتهى. والحديث أخرجه أحمد (ج5: ص275-276-277-279-281) وابن ماجه والحاكم (ج1:ص412) والبيهقي (ج4:ص197) وسكت عنه أبوداود والمنذري في مختصر السنن. وقال في الترغيب: إسناده صحيح وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
1873-
قوله: (دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أي إلى المبايعة الخاصة كما يدل عليه أو الحديث قال أي أبوذر بايعني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً، وأوثقني سبعاً وأشهد الله على تسعاً أن لا أخاف في الله لومة لائم. قال أبوالمثنى: أحد رواته. قال أبوذر: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هل لك إلى بيعة ولك الجنة قلت نعم وبسطت يدي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو يشترط علي الخ، (وهو يشترط علي) أي والحال أنه يقول لي على جهة الاشتراط أبايعك على (أن لا تسأل الناس شيئاً) بفتح اللام وكسرها وعلى الأول أكثر النسخ. قال الطيبي: إن مفسرة داخلة على النهى لما في يشترط من معنى القول. قيل: ويحتمل أن تكون مصدرية كذا في المرقاة (قلت نعم) أي بايعتك على ذلك (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم للمبالغة (ولا سوطك) أي ولا تسأل أحداً أن يناوله لك (إن سقط منك حتى تنزل إليه فتأخذه) أي بنفسك وهذا مبالغة في النهى عن السؤال وحسم لمادته وإن لم يكن من السؤال المحرم (رواه أحمد)(ج5:ص172) وفي رواية له (ج5:ص181) إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ستة أيام ثم أعقل يا أباذر ما أقول لك بعد. فلما كان اليوم السابع، قال أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته وإذا أسات فأحسن ولا تسألن أحداً شيئاً وإن سقط سوطك، ولا تقبض أمانة. قال المنذري في الترغيب والهيثمي في مجمع الزوائد (ج3:ص93) رجاله ثقات.
(باب الإنفاق وكراهية الإمساك) الإنفاق إخراج المال من اليد، يقال أنفق المال أي صرفه وأنفده وكل ما فاءه نون وعينه فاء، فهو دال على معنى الذهاب والخروج نحو نفر، ونفس ونفح ونفث ونفي ونفع وأمثالها والإمساك البخل.
1874-
قوله: (لو كان لي مثل أحد) بضمتين جبل معروف بالمدينة (ذهباً) تمييز لمثل وفي رواية مسلم
لسرني أن لا يمر على ثلاث ليال، وعندي منه شيء، إلا شيء أرصده لدين)) . رواه البخاري.
1875-
(2) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من يوم يصبح
ــ
ما يسرني أن لي أحداً ذهباً، وفي رواية للبخاري فلما أبصر أحداً قال ما أحب أنه تحول لي ذهباً يمكث عندي منه دينار فوق ثلاث. قال الحافظ: ويمكن الجمع بين قوله مثل أحد وبين قوله تحول لي أحد بحمل المثلية على شيء يكون وزنه من الذهب وزن أحد، والتحويل على أنه إذا انقلب ذهباً كان قدر وزنه أيضاً (لسرني) باللام قبل السين جواب لو أي أعجبني وجعلني في سرور (أن لا يمر علي) وفي رواية أن لا تمر بي (ثلاث ليال) قيل قيد بالثلاث لأنه لا يتهيأ تفريق قدر أحد من الذهب في أقل منها غالباً ويعكر عليه رواية يوم وليلة، فالأولى أن يقال الثلاثة أقصى ما يحتاج إليه في تفرقة مثل ذلك والواحدة أقل ما يمكن (وعندي منه شيء) قال ابن الملك الواو فيه للحال يعني لسرني عدم مرور ثلاث ليال والحال أن يكون فيها شيء منه عندي، والنفي في الحقيقة راجع إلى الحال (إلا شيء) وفي رواية إلا شيئاً بالنصب، قال الطيبي: وجه الرفع إن قوله "شيء" في حيز النفي أي لسرني أن لا يبقى منه شيء إلا شيء - انتهى. ووجه النصب إن المستثنى منه مطلق عام، والمستثنى مقيد خاص ووقع تفسير شيء في رواية بدينار (أرصده) بضم الهمزة وكسر الصاد أي أعده وأحفظه (لدين) بفتح الراء أي لأداء دين لأن قضاء الدين واجب فهو مقدم على الصدقة المندوبة، وهذا الإرصاد أعم من أن يكون لصاحب دين غائب حتى يحضر فيأخذه أو لأجل وفاء دين مؤجل حتى يحل فيوفى. قال القاري: قوله "لدين" أي لأداء دين كان على لأن أداء الدين مقدم على الصدقة، وكثير من جهلة العوام وظلمة الطغام يعملون الخيرات والمبرات، وعليهم حقوق الخلق ولم يلتفتوا إليها، وكثير من المتصوفة غير العارفة يجتهدون في الرياضات وتكثير الطاعات والعبادات وما يقومون بما يجب عليهم من الديانات -انتهى. وفي الحديث الحث على الإنفاق في وجوه الخيرات وأنه صلى الله عليه وسلم كان في أعلى درجات الزهد في الدنيا بحيث أنه لا يحب أن يبقى في يده شيء من الدنيا إلا لإنفاقه فيمن يستحقه. وأما لإرصاده لمن له حق، وإما لتعذر من يقبل ذلك من لتقييده في رواية بقوله أجد من يقبله ويؤخذ منه جواز تأخير الزكاة الواجبة عن الإعطاء إذا لم يوجد من يستحق أخذها، وينبغي لمن وقع له ذلك أن يعزل القدر الواجب من ماله، ويجتهد في حصول من يأخذه، فإن لم يجد فلا حرج عليه، ولا ينسب إلى تقصير في حبسه. وفيه تقديم وفاء الدين على صدقة التطوع، وفيه جواز الاستقراض، وفيه الحث على وفاء الديون، وأداء الأمانات (رواه البخاري) في الرقاق بهذا اللفظ، وأخرجه أيضاً في الاستقراض وفي التمنى نحوه، وأخرجه أحمد (ج2: ص256-316) ومسلم أيضاً فكان على المصنف أن يقول متفق عليه.
1875-
قوله: (ما من يوم)"ما" نافية و"من" زائدة لتأكيد الإستغراق والمعنى ليس يوم (يصبح
العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً. ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً)) . متفق عليه.
ــ
العباد فيه) صفة يوم (إلا ملكان) مبتدأ خبره (ينزلان) أي فيه وهذه الجملة مع ما يتعلق بها في محل الخبر وهو مستثنى من محذوف أي على وجه إلا هذا الوجه كذا في المرقاة. وقال القسطلاني: "ما" بمعنى ليس و"يوم" اسمه و"من" زائدة و"يصبح العباد" صفة "يوم" وملكان مستثنى من محذوف وهو خبر ما أي ليس يوم موصوف بهذا الوصف ينزل فيه أحد إلا ملكان، فحذف المستثنى منه ودل عليه بوصف الملكين ينزلان (فيقول أحدهما) الخ قال السندي: لا فائدة في هذا القول على تقدير عدم سماع الناس ذلك، إذ لا يحصل به ترغيب ولا ترهيب بدون السماع، لأنا نقول تبليغ الصادق يقوم مقام السماع فينبغي للعاقل أن يلاحظ كل يوم هذا الدعاء بحيث كأنه يسمعه من الملكين فيفعل بسبب ذلك ما لو سمع من الملكين لفعل. وهذا هو فائدة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك على أن المقصود بالذات الدعاء لهذا، وعلى هذا سواء علموا به أم لا، والله تعالى أعلم (اللهم أعط) بقطع همزة أعط (منفقاً) أي منفق مال. وقيل: أي من ينفق من محله في محله (خلفاً) بفتح اللام أي عوضاً عظيماً وهو العوض الصالح أو عوضاً في الدنيا وبدلاً في العقبى لقوله تعالى {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} [سبأ: 39] وقوله ابن آدم أنفق أنفق عليك، قيل أبهم الخلف لتتناول المال والثواب وغيرهما، فكم من منفق مات قبل أن يقع له الخلف المالي، فيكون خلفه الثواب المعدله في الآخرة، أو يدفع عنه من السوء ما يقابل ذلك (ويقول) الملك (الآخر اللهم أعط ممسكاً) أي من يمسك عن خيره لغيره (تلفاً) بفتح اللام أي هلاكاً وضياعاً زاد ابن أبي حاتم من حديث أبي الدرداء فأنزل الله تعالى في ذلك {فأما من أعطى واتقى إلى قوله العسرى} [الليل:5] وقوله اللهم أعط ممسكاً تلفاً هو من قبيل المشاكلة لأن التلف ليس بعطية. قال الحافظ: تضمنت الآية الوعيد بالتيسير لمن ينفق في وجوه البر، والوعيد بالتعسير لعكسه والتيسير المذكور أعم من أن يكون لأحوال الدنيا وأحوال الآخرة، وكذا دعاء الملك بالخلف يحتمل الأمرين، وأما الدعاء بالتلف فيحتمل تلف ذلك المال بعينه، أو تلف نفس صاحب المال أو المراد به فوات أعمال البر بالتشاغل بغيرها. قال النووي: الإنفاق الممدوح ما كان في الطاعات، وعلى العيال والضيفان والصدقات ونحو ذلك بحيث لا يذم ولا يسمى سرفاً والإمساك المذموم الإمساك عن هذا. وقال القرطبي: هو يعم الواجبات والمندوبات لكن الممسك عند المندوبات لا يستحق هذا الدعاء إلا أن يغلب عليه البخل المذموم بحيث لا تطيب نفسه بإخراج الحق الذي عليه ولو أخرجه (متفق عليه) وأخرجه ابن حبان والطبراني بنحوه كما في الترغيب. وفي الباب عن أبي الدرداء عند أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي.
1876-
(3) وعن أسماء، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انفقي ولا تحصى فيحصى الله عليك، ولا توعي، فيوعي الله عليك ارضخي ما استطعت)) .
ــ
1876-
قوله: (وعن أسماء) بنت الصديق الأكبر (قالت قال) لي (رسول الله صلى الله عليه وسلم انفقي) بهمزة قطع وكسر فاء (ولا تحصى) بضم أوله وكسر الصاد صيغة نهى المؤنث من الإحصاء، أي لا تعدي ما أنفقته فتستكثريه (فيحصى الله عليك) بنصب فيحصى مع كسر صاده جواب النهى أي حتى يعطيك الله أيضاً بحساب ولا يرزقك من غير حساب. والمراد التعليل، وقيل معناه ولا تبقى شيئاً للإدخار فإن من أبقى شيئاً إحصاه وقوله "فيحصى الله عليك" أي فيقل الرزق عليك بقطع البركة ومنع الزيادة ويجعله كالشيء المعدود أو فيحاسبك عليه في الآخرة. قال الطيبي: أصل "الإحصاء" الإحاطة بالشيء حصراً وتعداد أي معرفة قدره وزناً أو عدداً والمراد به ههنا عد الشيء للتبقية والقنية وإدخاره للإعتداد به وترك الإنفاق منه في سبيل الله، وإحصاء الله تعالى يحتمل وجهين، أحدهما أنه يحبس عنك مادة الرزق ويقلله بقطع البركة حتى يصير كالشيء المعدود، والآخر أنه يحاسبك ويناقشك عليه في الآخرة. وقال النووي: هذا من مقابلة اللفظ باللفظ للتجنيس كما قال تعالى {ومكروا ومكر الله} [آل عمران: 54] ومعناه يمنعك كما منعت ويفتر عليك كما فترت ويمسك فضله عنك كما أمسكته (ولا توعى) بعين مهملة من أوعبت المتاع في الوعاء أوعية إذا جعلته فيه ووعيت الشيء حفظته والمراد لازم الايعاء وهو الإمساك (فيوعي الله عليك) بضم التحتية وكسر العين والنصب لكونه جواباً للنهى مقروناً بالفاء، وإسناده إلى الله مجاز عن الإمساك أي لا تجمعي في الوعاء وتبخلي بالنفقة فتجازى بمثل ذلك. وقال الخطابي: لا توعي أي لا تخبئي الشيء في الوعاء أي لأن مادة الرزق متصلة بإتصال النفقة منقطعة بانقطاعها فلا تمنعي فضلها فتحرمي مادتها وفي رواية لا توكي فيوكي الله عليك بالكاف بدل العين فيهما، والإيكاء شد رأس الوعاء بالوكاء، وهو الرباط الذي يربط به، يقال أوكى ما في سقاءه إذا شده بالوكاء، وهو الخيط الذي يشد به رأس القربة، وأوكى علينا أي بخل أي لا توكى مالك عن الصدقة خشية نفاده ولا تمنعي ما في يدك، وتدخري فتنقطع مادة الرزق عنك. وفيه أن السخاء يفتح أبواب الرزق والبخل بخلافه قال النووي: معنى الحديث الحث على النفقة في الطاعة والنهى عن الإمساك والبخل (إرضخي) من باب فتح والرضخ براء وضاد معجمة وخاء كذلك العطية القليلة أي أعطى وأنفقي من غير أحجاف. وقيل أي أعطى شيئاً وإن كان يسيراً، يقال رضخه أعطاه عطاء غير كثير أو قليلاً من كثير (ما استطعت) أي ما دمت مستطيعة قادرة على الرضخ فما ظرفية أي مدة إستطاعتك، أو موصولة أي الذي استطعته، أو نكرة موصوفة أي شيئاً إسطعته. قال النووي: معناه مما يرضى به الزبير، وتقديره إن لك في الرضخ مراتب مباحة بعضها فوق بعض وكلها يرضاها الزبير فافعلي أعلاها أو يكون معناه ما استطعت مما هو ملك لك. وقال ابن الملك: وإنما أمرها
متفق عليه.
1877-
(4) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال تعالى أنفق يا ابن آدم! أنفق عليك)) .
1878-
(5) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا ابن آدم! إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك.
ــ
صلى الله عليه وسلم بالرضخ لما عرف من حالها إنها لا تقدر تتصرف في مالها ولا في مال زوجها بغير إذنه إلا في الشيء اليسير الذي جرت العادة فيها بالتسامح من قبل الأزواج كالكسرة والتمرة والطعام الذي يفضل في البيت ولا يصلح للإدخار لتسارع الفساد إليه أو فيما سبق إليها من نفقتها وحصتها، ولهذا كانت تستفتيه فيما ادخل عليها الزبير وفي صحيح مسلم إن أسماء جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا نبي الله! ليس لي شيء إلا ما ادخل على الزبير فهل علي جناح إن أرضخ مما يدخل علي، فقال: أرضخي ما استطعت ولا توعي فيوعي الله عليك. قال النووي: هذا محمول على ما أعطاها الزبير لنفسها بسبب نفقة وغيرها أو مما هو ملك الزبير ولا يكره الصدقة منه بل يرضى بها على عادة غالب الناس (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة والهبة، ومسلم في الزكاة واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي.
1877-
قوله: (أنفق) بفتح الهمزة وكسر الفاء مجزوم على الأمر أي على عباد الله، وفي ترك تقييد النفقة بشيء معين ما يرشد إلى أن الحث على الإنفاق يشمل جميع أنواع الخير (أنفق عليك) بضم الهمزة وكسر الفاء مجزوم جواباً بصيغة المضارع أي أعطك خلفه بل أكثر من أضعافاً مضاعفة وهو معنى قوله تعالى {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} [سبا:39] فيتضمن الحث على الإنفاق يعني في وجوه الخير والتبشير بالخلف من فضل الله تعالى (متفق عليه) هذا طرف من حديث طويل أخرجه البخاري في تفسير سورة هود، ومسلم في الزكاة وأخرجه البخاري أيضاً مقتصراً على هذا القدر، في باب {يريدون أن يبدلوا كلام الله} من كتاب التوحيد، وهو من الأحاديث القدسية وقد أخرجه أحمد (ج2:ص314) والبيهقي أيضاً.
1878-
قوله: (يا ابن آدم إن تبذل) بضم الذال المعجمة وفي مسلم يا ابن آدم إنك إن تبذل (الفضل) هو ما زاد على قدر الحاجة، "وإن" مصدرية مع مدخولها مبتدأ خبره (خير لك) أي بذل الزيادة على قدر الحاجة خير لك في الدنيا والآخرة (وإن تمسكه) أي إمساك ذلك الفضل ومنعه (شر لك) أي عندالله وعند
ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول)) . رواه مسلم.
1879-
(6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين، عليهما جنتان من حديد.
ــ
الناس. قال النووي: قوله "إنك إن تبذل الفضل" الخ هو بفتح همزة أن ومعناه إن بذلك الفاضل عن حاجتك وحاجة عيالك فهو خير لك لبقاء ثوابه، وإن أمسكته فهو شر لك لأنه إن أمسك عن الواجب استحق العقاب عليه، وإن أمساك عن المندوب فقد نقص ثوابه وفوت مصلحة نفسه في آخرته وهذا كله شر (ولا تلام على كفاف) بفتح الكاف وهو من الرزق القوت وهو ما كف عن الناس وأغنى عنهم. وقيل: الكفاف ما كف عن الحاجة إلى الناس مع القناعة، لا يزيد على قدر الحاجة أي لا تذم على إمساك كفاف، وحفظه يعني إن حفظت من مالك قدر حاجتك لا لوم عليك وإن حفظت ما فضل على قدر حاجتك فأنت بخيل، والبخيل ملوم، قال النووي: معنى قوله "لا تلام على كفاف" إن قدر الحاجة لا لوم على صاحبه في حفظه وإمساكه، وهذا إذا لم يتوجه في الكفاف حق شرعي كمن كان له نصاب زكوى، ووجبت الزكاة بشروطها وهو محتاج إلى ذلك النصاب لكفافه، وجب عليه إخراج الزكاة ويحصل كفايته من جهة مباحة (وأبدأ) أي ابتدأ في إعطاء الزائد على الكفاف (بمن تعول) أي بمن تمونه ويلزمك نفقته. يقال عال الرجل عياله يعولهم إذا قام بما يحتاجون إليه من قوت كسوة أي إبداء في إنفاق الفضل (أي ما يزيد على ما يحصل منه الكفاف) بعيالك ووسع عليهم أولاً زيادة على نفقتهم الواجبة والمقصود إن العيال والقرابة أحق من غيرهم؟ وفيه الإبتداء بالأهم فالأهم (رواه مسلم) في الزكاة وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي في الزهد والبيهقي (ج4:ص182) .
1879-
قوله: (مثل البخيل والمتصدق) وفي رواية المنفق أي صفتهما (جنتان) بضم الجيم وتشديد النون تثنية جنة، وهو كل ما وقى الإنسان واجنه وأحصنه، والمراد به هنا الدرع. وقيل: الجنة في الأصل الحصن، وسميت بها الدرع لأنها تجن صاحبها أي تحصنه، وقوله "جنتان: هكذا وقع في جميع النسخ الحاضرة بالنون، وكذا في المصابيع، وكذا في جامع الأصول، وكذا نقله المنذري في الترغيب، وهكذا في صحيح مسلم، وهي رواية إبراهيم بن نافع عن الحسن بن مسلم عن طاووس عن أبي هريرة. ووقع عند البخاري في هذه الرواية جبتان بالباء المؤحدة تثنية جبة، وهو اللباس المعروف. ويظهر من كلام الحافظ في الزكاة إن المحفوظ في هذه الرواية بالموحدة ومن رواه فيها بالنون فقد صحف. ورجحت رواية النون لقوله من حديد ولقوله قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها. قال الحافظ: ولا مانع من إطلاع الجبة بالباء على الدرع. وقال السندي: إطلاق الجبة بالباء
قد أضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما، فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة، إنبسطت عنه. وجعل البخيل كلما هم بصدقة، قلصت وأخذت، كل حلقة بمكانها)) .
ــ
على الجنة بالنون مجازاً غير بعيد، فينبغي أن يكون الجنة بالنون هو المراد في الروايتين (قد اضطرت أيديهما) قال القسطلاني: بفتح الطاء ونصب التحتية الثانية من أيديهما عند أبي ذر على المفعولية ولغيره بضم الطاء وسكون التحتية مرفوع نائب عن الفاعل. وقال القاري: بضم الطاء أي شدت وضمت والصقت، وفي نسخة بفتح الطاء ونصب أيديهما على أن ضمير الفعل إلى جنس الجنة المفهوم من التثنية (إلى ثديهما) بضم المثلثة وكسر الدال المهملة وتشديد المثناة التحتية جمع ثدى بفتح فسكون (وتراقيهما) بفتح مثناة فوق وكسر قاف جمع ترقوة بفتح التاء المثناة وسكون الراء وضم القاف وفتح الواو، وهما العظمان المشرفان في أعلى الصدر من رأس المنكبين إلى طرف ثغرة النحر (فجعل) أي طفق (المتصدق كلما تصدق) أي هم يتصدق بصدقة (إنبسطت) أي انتشرت الجنة واتسعت وسبغت (عنه) أي عن المتصدق زاد في رواية حتى تغشى أنامله (بفتح الشين المعجمة أي تسترها) وتعفو أثره (بنصب الراء أي تستر أثره، ويقال عفا الشيء وعفوته أنا، لازم ومتعد، ويقال عفت الدار إذا غطاها التراب. والمعنى إن الصدقة تستر خطاياه كما يغطي الثوب الذي يجر على الأرض أثر صاحبه إذا مشى بمرور الذيل عليه) . (هم بصدقة) أي قصد إليها (قلصت) بالقاف واللام المخففة والصاد المهملة المفتوحات أي انضمت وانجمعت وانقبضت جنته عليه (وأخذت كل حلقة) بسكون اللام من الجنة (بمكانها) يعني اشتدت والتصقت الحلق بعضها ببعض، والباء زائدة. قال التوربشتي: معنى الحديث إن الجواد الموفق إذا هم بالصدقة اتسع لذلك صدره وطاوعته نفسه انبسطت بالبذل والعطاء يداه كالذي لبس درعاً فاسترسلت عليه، وأخرج منها يديه فانبسطت حتى خلصت إلى ظهور قدميه فاجنته وحصنته، وإن البخيل إذا أراد الإنفاق حرج به صدره واشمأزت عنه نفسه، وانقبضت عنه يداه كالذي أراد أن يستجن بالدرع وقد غلت يداه إلى عنقه فحال ما ابتلى به بينه وبين ما يبتغيه فلا يزيده لبسها إلا ثقلاً، ووبالاً والتزاماً في العنق والتواء وأخذاً بالترقوة -انتهى. وقال الحافظ في الفتح: قال الخطابي وغيره: وهذا مثل ضرب النبي صلى الله عليه وسلم للبخيل والمتصدق فشبهما برجلين أراد كل واحد منهما أن يلبس درعاً يستتر به من سلاح عدوه فصبها على رأسه ليلبسها، والدروع أول ما تقع على الصدر والثديين إلى أن يدخل الإنسان يديه في كميها، فجعل المنفق كمن لبس درعاً سابغة فاسترسلت عليه حتى سترت جميع بدنه، وهو معنى قوله حتى تعفو أثره أي تستر جميع بدنه. وجعل البخيل كمثل رجل غلت يداه إلى عنقه كلما أراد لبسها اجتمعت في عنقه فلزمت ترقوته، وهو معنى قوله قلصت أي تضامت واجتمعت. والمراد إن الجواد إذا هم بالصدقة إنفسخ لها صدره وطابت نفسه فتوسعت في الإنفاق أي وطاوعت يداه بالإنفاق فامتدتا بالعطاء، والبخيل
متفق عليه.
1880-
(7) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة،
ــ
إذا حدث نفسه بالصدقة شحت نفسه فضاق صدره وانقبضت يداه {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر:9]- انتهى. وقال الطيبي: أوقع المتصدق مقابل البخيل، والمقابل الحقيقي السخي إيذاناً بأن السخاء ما أمر به الشرع وندب إليه من الإنفاق لا ما يتعافاه المبذرون، وخص المشبه بهما بلبس الجبتين من الحديد إعلاماً بأن الشح والقبض من جبلة الإنسان وخلقته، وإن السخاء من عطاء الله وتوفيقه يمنحه من يشاء من عباده المفلحين. وخص اليد بالذكر لأن السخي والبخيل يرصفان ببسط اليد وقبضها، فإذا أريد المبالغة في البخل قيل مغلولة يده إلى عنقه وثديه وترقيه. وإنما عدل عن الغل إلى الدرع لتصور معنى الإنبساط والتقلص والأسلوب من التشبيه المفرق شبه السخي الموفق، إذا قصد التصدق يسهل عليه ويطاوعه قلبه بمن عليه الدرع، ويده تحت الدرع. فإذا أراد أن يخرجها منها وينزعها يسهل عليه والبخيل على عكسه -انتهى. وقال المنذري: شبه نعم الله تعالى ورزقه بالجنة وفي رواية بالجبة فالمنفق كلما انفق إتسعت عليه النعم وسبغت ووفرت حتى تستره ستراً كاملاً شاملاً. والبخل كلما أراد أن ينفق منعه الشح والحرص وخوف النقص فهو بمنعه يطلب أن يزيد ما عنده، وإن تتسع عليه النعم فلا تتسع ولا تستر منه ما يروم ستره والله سبحانه أعلم -انتهى. وزاد في رواية بعد قوله كل حلقة بمكانها "قال أي أبوهريرة: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأصبعه في جيبه فلو رأيته يوسعها ولا تتوسع". قال النووي: وفي هذا دليل على لباس القميص وكذا ترجم عليه البخاري باب جيب القميص من عند الصدر لأنه المفهوم من لباس النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة مع أحاديث أخرى صحيحة وردت في ذلك. قال الحافظ نقلاً عن ابن بطال: وموضع الدلالة منه إن البخيل إذا أراد إخراج يده أمسكت في الموضع الذي ضاق عليها وهو الثدي والتراقى وذلك في الصدر، قال فبان إن جيبه كان في صدره لأنه لم كان في يده لم تضطر يداه إلى ثدييه وتراقيه. (متفق عليه) أخرجه البخاري بهذا اللفظ في باب جيب القميص من عند الصدر وغيره من كتاب اللباس، ومسلم في الزكاة وأخرجه البخاري أيضاً في الزكاة وفي الجهاد وفي الطلاق، وأحمد في مواضع منها في (ج2:ص245-246) والنسائي والبيهقي في الزكاة.
1880-
قوله: (اتقوا الظلم) الذي هو مجاوزة الحد والتعدي على الخلق (فإن الظلم) في الدنيا (ظلمات) على صاحبه (يوم القيامة) فلا يهتدي بسببها يوم يسعى نور المؤمنين بين أيديهم وبأيمانهم فالظلمة حسية محمولة على
واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم)) . رواه مسلم.
1881-
(8) وعن حارثة بن وهب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تصدقوا، فإنه يأتي عليكم زمان
ــ
ظاهرها. وقيل: معنوية يعني إن المراد بالظلمات الشدائد وبه فسروا قوله تعالى {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر} [الأنعام:63] أي شدائدهما، ويحتمل أنها عبارة عن الأنكال والعقوبات (واتقوا الشح) مثلث الشين قيل: الشح أشد البخل وأبلغ في المنع من البخل. وقيل: هو البخل مع الحرص لكنز المال وإدخاره. الشح بخل الرجل بما في يد غيره كأن رأى إنساناً يتصدق فقال له لا تفعل ذلك فإنه يذهب مالك فتصير فقيراً أحرص على حفظ مالك ينفعك، والبخل هو المنع من مال نفسه. وقيل: البخل يكون في المال والشح يكون فيه وفي غيره من معروف أو طاعة. وقيل: الشح الحرص على ما ليس عنده والبخل بما عنده (فإن الشح أهلك من كان قبلكم) من الأمم فداءه قديم وبلاءه عظيم. قال القاضي: يحتمل أن هذا الهلاك، هو الهلاك الذي أخبر عنهم به في الدنيا بأنهم سفكوا دماءهم، ويحتمل أنه هلاك الآخرة، وهذا الثاني أظهر، ويحتمل أنه أهلكهم في الدنيا والآخرة (حملهم على أن سفكوا دماءهم) أي إسألوها بقتل بعضهم بعضاً حرصاً على استئثار المال (واستحلوا محارمهم) أي ما حرم الله من أموالهم وغيرها. وقال الطيبي: إنما كان الشح سبباً لذلك لأن في بذل المال ومؤاساة الأخوان التحاب والتواصل، وفي الإمساك والشح التهاجر والتقاطع وذلك يؤدي إلى التشاجر والتعادي من سفك الدماء، واستباحة المحارم من الفروج والإعراض والأموال وغيرها -انتهى. (رواه مسلم) في البر والصلة وأخرجه أيضاً أحمد والبخاري في الأدب المفرد.
1881-
قوله: (وعن حارثة) بالحاء المهملة والمثلثة (بن وهب) بفتح الواو وسكون الهاء الخزاعي أخي عبد الله بن الخطاب لأمه (تصدقوا) أي اغتنموا التصدق عند وجود المال وعند حصول من يقبله وأقبلوا منة الفقير في أخذه منكم، فالمعنى تصدقوا قبل أن لا تتصدقوا على سنن حجوا قبل أن لا تحجوا. قاله القاري. فإن قيل: إن من أخرج صدقته مثاب على نيته، وإن لم يجد من يقبلها، فالجواب إن الواجد يثاب ثواب المجازاة والفضل والناوي يثاب ثواب الفضل فقط. والأول أرجح (فإنه يأتي عليكم) وفي رواية، فسيأتي والخطاب لجنس الأمة والمراد بعضهم (زمان) أي قرب الساعة وهو زمان المهدي ونزول عيسى عليه السلام، وقيل: هو زمان ظهور أشراط الساعة كما ورد لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبل صدقة وحتى
يمشي الرجل بصدقته، فلا يجد من يقبلها، يقول الرجل: لو جئت بها بالأمس لقبلتها، فأما اليوم فلا حاجة لي بها)) . متفق عليه.
1882-
(9) وعن أبي هريرة، قال: قال رجل: يا رسول الله! أي الصدقة أعظم أجراً. قال: ((إن تصدق
ــ
يعرضه، فيقول الذي يعرضه عليه لا إرب لي فيه (يمشي الرجل) أي الإنسان فيه. (بصدقته) أي يذهب بها وجملة "يمشي" في محل رفع على أنها صفة لزمان، والعائد محذوف أي فيه (فلا يجد من يقبلها) قال النووي: سبب عدم قبولهم الصدقة في آخر الزمان لكثرة الأموال وظهور كنوز الأرض ووضع البركات فيها كما ثبت في الصحيح بعد هلاك يأجوج ومأجوج (وهو زمان المهدي ونزول عيسى عليه السلام وقتله آمالهم وقرب الساعة وعدم إدخارهم المال وكثرة الصدقات. وقال القسطلاني: وهذا إنما يكون في الوقت الذي يستغنى الناس عن المال فيه لاشتغالهم بأنفسهم عند الفتنة فلا يلوون على الأهل فضلاً عن المال، وهذا في زمن الدجال، أو يكون ذلك لفرط الأمن والعدل البالغ بحيث يستغنى كل أحد بما عنده عما عند غيره. وهذا يكون في زمن المهدي وعيسى، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما وقع في زمن عمر بن عبد العزيز وبه جزم البيهقي، فلا يكون من أشراط الساعة وفي تاريخ يعقوب بن سفيان من طريق يحيى بن أسيد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب بسند جيد قال لا، والله ما مات عمر بن عبد العزيز حتى قعد الرجل يأتينا بالمال العظيم، فيقول اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء فما يبرح حتى يرجع بماله فنتذكر من نضعه فيه فلا نجده فيرجع فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس. وسبب ذلك بسط عمر بن عبد العزيز العدل وإيصال الحقوق إلى أهلها حتى استغنوا، كذا ذكره في السراج المنير، ورجح الحافظ هذا الأخير إذ قال وهذا أرجح. لأن الذي رواه عدي بن حاتم ثلاثة أشياء أمن الطريق والاستيلاء على كنوز كسرى وفقد من يقبل الصدقة من الفقراء. فذكر عدي إن الأوليين وقعا وشاهد هما، وإن الثالث سيقع فكان كذلك لكن بعد موت عدي في زمن عمر بن عبد العزيز وسببه بسط العدل وإيصال الحقوق لأهلها، حتى استغنوا. وأما فيض المال الذي يقع في زمن عيسى عليه السلام، فسببه كثرة المال وقلة الناس واستشعارهم بقيام الساعة -انتهى. (يقول الرجل) أي الذي يريد المتصدق أن يعطيه إياها (لو جئت بها) أي بالصدقة (بالأمس) أي قبل ذلك من الزمن الماضي حال فقري (لقبلتها فأما اليوم) أي الآن (فلا حاجة لي بها) وفي رواية فيها. وفي الحديث الحث على الصدقة والمبادرة والإسراع بها وإغتنام إمكانها قبل تعذرها (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة وفي الفتن، ومسلم في الزكاة، واللفظ للبخاري وأخرجه أيضاً أحمد (ج4:ص306) والنسائي.
1882-
قوله: (قال رجل) قال الحافظ: لم أقف على تسميته (إن تصدق) بتخفيف الصاد أي تتصدق
وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى. ولا تمهل، حتى إذا بلغت الحلقوم. قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان)) .
ــ
بالتاءيين فحذفت إحداهما تخفيفاً، ويحتمل أن يكون بتشديد الصاد والدال جميعاً، وأصله تتصدق فأبدلت إحدى التائيين صاداً، وأدغمت الصاد في الصاد، وهي في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف أي هي تصدقك أو أعظم الصدقة أجراً إن تصدق (وأنت صحيح) جملة اسمية وقعت حالاً. والمراد بالصحيح في هذا الحديث من لم يدخل في مرض مخوف كذا قيل (شحيح) خبر بعد خبر أي من شأنه الشح للحاجة إلى المال. وقال ابن الملك: قوله "شحيح" تأكيد وبيان للصحيح لأن الرجل في حال صحته يكون شحيحاً، وفي رواية: وأنت صحيح حريص (تخشى الفقر) أي بصرف المال خبر بعد خبر أو حال بعد حال أو استئناف بيان قاله القاري: والمراد أن تقول في نفسك لا تتلف مالك كيلا تصير فقيراً فتحتاج إلى الناس (وتأمل) بضم الميم من نصر (الغنى) أي ترجوه وتطمع فيه يعني وتقول أترك مالك في بيتك لتكون غنياً ويكون لك عز عند الناس بسبب غناك (ولا تمهل) من الإمهال وهو بالنصب عطفاً على تصدق أو بالجزم على النهى أو بالرفع على أنه خبر أي ولا تؤخر الصدقة أي ولا تمهل نفسك (حتى إذا بلغت) أي الروح (الحلقوم) بضم الحاء المهملة مجرى النفس، والمراد قاربت بلوغه إذ لو بلغته حقيقة لم تصح وصيته ولا صدقته ولا شيء من تصرفاته بإتفاق الفقهاء، ولم يجر للروح ذكر إغتناء بدلالة السياق (لفلان) كناية عن الموصى له (كذا) كناية عن الموصى به، والجملة مبتدأ وخبر (وقد كان لفلان) أي الوارث قيل: جملة حالية أي وقد صار المال الذي تتصرف فيه في هذه الحالة ثلثاه حقاً للوارث وأنت تتصدق بجميعه فكيف يقبل منك. وقال القسطلاني: أي وقد صار ما أوصى به للوارث فيبطله إن شاء إذا زاد على الثلث، أو أوصى به لوارث آخر. وقيل: المعنى أنه قد خرج عن تصرفه وكمال ملكه واستقلاله بما شاء من التصرف، فليس له في وصيته كبير ثواب وكثير فضل بالنسبة إلى صدقة الصحيح الشحيح، وحاصل معنى الحديث أفضل الصدقة إن تتصدق في حال صحتك، واختصاص المال بك وشح نفسك، بأن تقول لا تتلف مالك كيلا تصير فقيراً لا في حال سقمك وسياق موتك، لأن المال حينئذ خرج عنك وتعلق بغيرك يعني أعظم الصدقة أجراً إن تصدق حال حياتك مع احتياجك إليه، فإن الصدقة في هذه الحالة أشد مراغمة للنفس، لأن فيه مجاهدة النفس على إخراج المال الذي هو شقيق الروح مع قيام مانع الشح، وليس هذا إلا من قوة الرغبة في القربة وصحة العقد فكان أفضل وأعظم أجراً من غيره. وقال الخطابي: معنى الحديث إن الشح غالب في حال الصحة فإذا سمح فيها وتصدق كان أصدق في نيته وأعظم لأجره بخلاف من أشرف على الموت وأيس من الحياة، ورأى مصير المال لغيره فإن صدقته حينئذ ناقصة بالنسبة إلى حالة الصحة والشح، ورجاء البقاء وخوف الفقر. قال: وفيه دليل على أن المرض يقصر
متفق عليه.
1883-
(10) وعن أبي ذر، قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: ((هم الأخسرون ورب الكعبة، فقلت: فداك أبي وأمي من هم الأكثرون أموالاً، إلا من قال
ــ
يد المالك عن بعض ملكه، وإن سخاوته بالمال في مرضه لا تمحو عنه سمة البخل، ولذلك شرط أن يكون صحيح البدن شحيحاً بالمال يجد له وقعاً في قلبه لما يأمله من طول العمر، ويخالف من حدوث الفقر. قال الحافظ: وفي الحديث أن تنجيز وفاء الدين والتصدق في الحياة وفي الصحة أفضل منه بعد الموت وفي المرض، وأشار صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله وأنت صحيح حريص تأمل الغنا إلى آخره، لأنه في حال الصحة يصعب عليه إخراج المال غالباً لما يخوفه به الشيطان ويزين له من إمكان طول العمر. والحاجة إلى المال كما قال تعالى:{الشيطان يعدكم الفقر} [البقرة:268] الآية وأيضاً فإن الشيطان ربما زين له الحيف في الوصية أو الرجوع عن الوصية فتيحمض تفضيل الصدقة الناجزة. قال بعض السلف عن بعض أهل الترف يعصون الله تعالى في أموالهم مرتين يبخلون بها وهي في أيديهم، يعني في الحياة ويسرفون فيها إذا خرجت عن أيديهم يعني بعد الموت، وأخرج الترمذي بإسناد حسن وصححه ابن حبان عن أبي الدرادء مرفوعاً قال مثل الذي يعتق ويتصدق عند موته مثل الذي يهدي إذا شبع وهو يرجع إلى معنى حديث الباب. وروى أبوداود وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً لأن يتصدق الرجل في حياته وصحته بدرهم خير له، من أن يتصدق عند موته بمائة - انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة وفي الوصايا، ومسلم في الزكاة، وأخرجه أيضاً أحمد (ج2 ص231، 250) وابن ماجه في الوصايا، والنسائي فيه وفي الزكاة والبيهقي وغيرهم.
1883-
قوله: (هم الأخسرون) هم ضمير عن غير مذكور لكن يأتي تفسيره وهو قوله هم الأكثرون وفيه أنه يصح رجع الضمير إلى الحاضر في الذهن ثم تفسيره للمخاطب إذا سأل عنه (ورب الكعبة) الواو للقسم (فداك أبي وأمي) بفتح الفاء لأنه ماض خبر بمضى الدعاء، ويحتمل كسر الفاء والقصر لكثرة الاستعمال أي يفديك أبي وأمي وهما أعز الأشياء عندي قاله القاري. قال العراقي الرواية المشهورة بفتح الفاء والقصر على أنها جملة فعليه، وروى بكسر الفاء والمد على الجملة الاسمية - انتهى. (من هم) أي من الأخسرون الذين أجملتهم (هم الأكثرون أموالاً) قال القاري: لعل جمع التمييز لإرادة الأنواع أو المقابلة الجمع بالجمع أي الأخسرون مالاً هم الأكثرون مالاً. قال ابن الملك: يعني من كان ماله أكثر خسرانه أكثر (إلا من قال) أي فعل بماله. والقول