الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{الفصل الأول}
2002-
(1) عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تسحروا فإن في السحور بركة)) .
ــ
2002-
قوله: (تسحروا) تفعل من السحر بفتحتين وهو قبيل الصبح والمراد الأكل في ذلك الوقت أي تناولوا شيئاً ما وقت السحر لما روى عن أنس مرفوعاً تسحروا ولو بجرعة من ماء أخرجه أبويعلى بسند ضعيف. قال الحافظ: يحصل السحور بأكل ما يتناوله المرأ من مأكول ومشروب. وقد أخرج أحمد (ج3 ص12، 44) من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: السحور بركة فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله وملائكة يصلون على المتسحرين، ولسعيد بن منصور من طريق أخرى مرسلة تسحروا ولو بلقمة- انتهى. وظاهر الأمر وجوب التسحر ولكنه صرفه عنه إلى الندب ما من مواصلته صلى الله عليه وسلم ومواصلة أصحابه ونقل ابن المنذر الإجماع على أن التسحر مندوب (فإن في السحور بركة) بالنصب اسم "إن" والسحور بفتح السين اسم ما يتسحر به من الطعام والشراب، وبالضم أكله أي المصدر والفعل نفسه. قال السندي: الوجهان جائزان ههنا، والبركة في الطعام باعتبار ما في أكله من الأجر والثواب والتقوية على الصوم وما يتضمنه من الذكر والدعاء في ذلك الوقت والفتح هو المشهور رواية. وقال الجزري: في النهاية أكثر ما يروي بالفتح. وقيل: الصواب بالضم لأنه المصدر والأجر في الفعل لا في الطعام يعني إن الأكل هو محل البركة لا نفس الطعام والحق جواز الوجهين كما عرفت. قال ابن دقيق العيد: البركة محتملة لأن تضاف إلى كل واحد من الفعل والمتسحر به معاً. وقال الحافظ: السحور بفتح السين وبضمها لأن المراد بالبركة الأجر والثواب فيناسب الضم لأنه مصدر بمعنى التسحر أو البركة لكونه يقوي على الصوم وينشط له ويخفف المشقة فيه فيناسب الفتح لأنه ما يتسحر به. وقيل: البركة ما يتضمن من الاستيقاظ والدعاء في السحر والأولى أن البركة في السحور تحصل بجهات متعددة وهي إتباع السنة ومخالفة أهل الكتاب والتقوى به على العبادة، والزيادة في النشاط ومدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع، والتسبب بالصدقة على من يسأل إذ ذاك أو يجتمع معه على الأكل والتسبب للذكر والدعاء وقت مظنة الإجابة وتدارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام. قال ابن دقيق العيد (ج2 ص208) هذه البركة يجوز أن تعود إلى الأمور الأخروية فإن إقامة السنة توجب الأجر وزيادته، ويحتمل أن تعود إلى الأمر الدنيوية كقوة البدن على الصوم وتيسيره من غير إضرار بالصائم. قال: ومما يعلل به استحباب السحور المخالفة لأهل الكتاب فإنه يمتنع عندهم السحور وهذا أحد الوجوه المقتضية للزيادة في الأجور الأخروية وقال (ج2 ص209- 210)
متفق عليه.
2003-
(2) وعن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر)) . رواه مسلم.
2004-
(3) وعن سهل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال الناس بخير
ــ
أيضاً، وللمتصوفة في هذا يعني مسألة السحور كلام من جهة اعتبار معنى الصوم. وحكمته وهي كسر شهوة البطن والفرج والسحور قد يباين ذلك. قال والصواب: أن يقال ما زاد في المقدار حتى تنعدم هذه الحكمة بالكلية لا يستحب كعادة المترفين في التأنق في المآكل والمشارب وكثرة الاستعداد لها وما لا ينتهي إلى ذلك فهو مستحب على وجه الإطلاق. وقد يختلف مراتب هذا الاستحباب باختلاف مقاصد الناس وأحوالهم واختلاف مقدار ما يستعملون- انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي والبيهقي. وفي الباب عن ابن مسعود وأبي هريرة عند النسائي وأبي سعيد أحمد والطبراني في الأوسط بنحو حديث أنس.
2003-
قوله: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب)"ما" زائدة أضيف إليها الفصل بمعنى الفرق قاله القاري وقال السندي: الفصل بمعنى الفاصل و"ما" موصولة وإضافته من إضافة الموصوف إلى الصفة، أي الفارق الذي بين صيامنا وصيام أهل الكتاب (أكلة السحر) قال النووي: الأكلة بفتح الهمزة هكذا ضبطناه وهكذا ضبطه الجمهور وهو المشهور في روايات بلادنا، وهي عبارة عن المرة الواحدة من الأكل كالغدوة والعشوة، وإن كثر المأكول فيها. وأما الأكلة بالضم فهي اللقمة الواحدة، وادعى القاضي عياض أن الرواية فيه بالضم، ولعله أراد رواية فيها بالضم. قال: والصواب الفتح لأنه المقصود هنا - انتهى كلام النووي. وقال القرطبي في ضبطه: بالضم بعد لأن الأكلة بالضم هي اللقمة وليس المراد إن المتسحر يأكل لقمة واحدة. قال: ويصح أن يقال عبر عما يتسحر به باللقمة لقلته- انتهى. وقال السندي: الأكلة بالضم لا تخلوا عن إشارة إلى أنه يكفي اللقمة في حصول الفرق- انتهى. والسحر بفتحتين آخر الليل. قال التوربشتي: والمعنى إن السحور هو الفارق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب لأن الله تعالى أباحه لنا إلى الصبح بعد ما كان حراماً علينا أيضاً في بدء الإسلام وحرمه عليهم بعد أن يناموا، أو مطلقاً، ومخالفتنا إياهم في ذلك تقع موقع الشكر لتلك النعمة (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4 ص202) والترمذي وأبوداود والنسائي والدارمي والبيهقي.
2004-
قوله: (لا يزال الناس بخير) قال الحافظ: في حديث أبي هريرة يعني الآتي في الفصل الثالث لا يزال الدين ظاهراً وظهور الدين مستلزم لدوام الخير. وقال الشاه ولي الله الدهلوي: هذا إشارة إلى أن هذه المسألة
ما عجلوا الفطر)) . متفق عليه.
2005-
(4) وعن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس
ــ
دخل فيها التحريف من أهل الكتاب فبمخالفتهم ورد تحريفهم قيام الملة (ما عجلوا الفطر) أي ما داموا على هذه السنة. قال السندي: أي مدة تعجيلهم "فما" ظرفية والمراد ما لم يؤخروا عن أول وقته بعد تحقق الوقت - انتهى. قال النووي: معناه لا يزال أمر الأمة منتظماً وهم بخير ماداموا محافظين على هذه السنة وإذا أخروه كان ذلك علامة على فساد يقعون فيه - انتهى. وقال الحافظ: زاد أبوذر في حديثه وأخروا السحور أخرجه أحمد "وما" ظرفية أي مدة فعلهم ذلك إمتثالاً للسنة واقفين عند حدها غير متنطعين بعقولهم ما يغير قواعدها، زاد أبوهريرة في حديثه لأن اليهود والنصارى يؤخرون أخرجه أبوداود وغيره. وتأخير أهل الكتاب له أمد وهو ظهر النجم. وقد روى ابن حبان والحاكم من حديث سهل أيضاً بلفظ: لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم، وفيه بيان العلة في ذلك. قال المهلب: والحكمة في ذلك أن لا يزاد في النهار من الليل ولأنه أرفق بالصائم وأقوى له على العبادة. واتفق العلماء على أن محل ذلك إذا تحقق غروب الشمس بالرؤية أو بإخبار عدلين وكذا عدل واحد في الأرجح - انتهى كلام الحافظ. قال التوربشتي: ولو أن بعض الناس أخر الفطر وقصده في ذلك تأديب النفس ودفع جماحها أو مواصلة العشاءين بالنوافل غير معتقد وجوب التأخير لم يضره ذلك. قال القاري: بل يضره حيث يفوته السنة وتعجيل الإفطار بشربة ماء لا ينافي في التأديب. والمواصلة مع أن في التعجيل إظهار العجز المناسب للعبودية ومبادرة إلى قبول الرخصة من الحضرة الربوبية- انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5:ص231-234- 246-237-239) والترمذي ومالك وابن ماجه والدارمي والبيهقي، وأخرج ابن حبان وابن خزيمة والحاكم بنحوه.
2005-
قوله: (إذا أقبل الليل) أي ظلامه (من ههنا) أي من جهة المشرق ففي حديث عبد الله بن أبي أوفى عند البخاري إذا رأيتم الليل أقبل من ههنا وأشارة بأصبعه قبل المشرق (وأدبر النهار) أي ضياءه فكل على حذف مضاف (من ههنا) أي من جهة المغرب (وغربت) بفتح الراء أي غابت (الشمس) أي كلها. قال الطيبي: وإنما قال غربت الشمس مع الاستغناء عنه لبيان كمال الغروب، كيلا يظن أنه يجوز الإفطار لغروب بعضها- انتهى. وقال الحافظ: ذكر في هذا الحديث ثلاثة أمور، لأنها وإن كانت متلازمة في الأصل لكنها قد تكون في الظاهر غير متلازمة، فقد يظن إقبال الليل من جهة المشرق ولا يكون إقباله حقيقة، بل لوجود أمر يغطي ضوء
فقد أفطر الصائم)) . متفق عليه.
2006 -
(5) وعن أبي هريرة، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عن الوصال في الصوم.
ــ
الشمس، وكذلك إدبار النهار. فمن ثم قيد بقوله "وغربت الشمس" إشارة إلى تحقق الإقبال والابادر وإنهما بواسطة غروب الشمس لا بسبب آخر (فقد أفطر الصائم) أي أنقضى صومه شرعاً وتم ولا يوصف الآن بأنه صائم فإن بغروب الشمس خرج النهار ودخل الليل والليل ليس محلاً للصوم قاله النووي. وقال الحافظ: أي دخل في وقت الفطر وجاز له أن يفطر كما يقال أنجد إذا أقام بنجد وأتهم إذا أقام بتهامة (وأصبح إذا دخل في وقت الصبح وأمسى وأظهر كذلك) . ويحتمل أن يكون معناه فقد صار مفطراً في الحكم (وإن لم يفطر حساً) لكون الليل ليس ظرفاً للصيام الشرعي. وقد رد هذا الإحتمال ابن خزيمة. وأومأ إلى ترجيح الأول (من المعنيين اللذين ذكرهما الحافظ) فقال قوله فقد "أفطر الصائم" لفظ خبر ومعناه الأمر أي فليفطر الصائم ولو كان المراد فقد صار مفطراً كان فطر جميع الصوام واحداً ولم يكن للترغيب في تعجيل الافطار معنى - انتهى. ورجح الحافظ المعنى الأول بما وقع في حديث عبد الله بن أبي أوفى عند أحمد (ج4:ص382) من طريق شعبة عن سليمان الشيباني بلفظ: إذا جاء الليل من ههنا فقد حل الافطار. وقال الطيبي: ويمكن أن يحمل الأخبار على الإنشاء إظهاراً للحرص على وقوع المأمور به. قال ابن حجر: أي إذا أقبل الليل فليفطر الصائم وذلك إن الخيرية منوطة بتعجيل الافطار فكأنه قد وقع وحصل وهو يخبر عنه (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1:ص28-35-48-54) والترمذي وأبوداود والدارمي وابن خزيمة والبيهقي (ج4:ص216-237) .
2006-
قوله: (نهى عن الوصال في الصوم) هو تتابع الصوم من غير فطر بالليل. وقال الحافظ: هو الترك في ليالي الصيام لما يفطر بالنهار بالقصد فيخرج من أمسك اتفاقاً ويدخل من أمسك جميع الليل أو بعضه- انتهى. وقال الطحاوي: هو أن يصوم ولا يفطر بعد الغروب أصلاً حتى يتصل صوم الغد بالأمس والفرق بين صيام الوصال وصيام الدهر، إن من صام يومين أو أكثر ولم يفطر ليلتهما فهو مواصل، وليس هذا صوم الدهر ومن صام عمره وأفطر جميع لياله هو صائم الدهر، وليس بمواصل. فهما حقيقتان مختلفان متغائرتان. والحديث دليل على تحريم الوصال لأنه الأصل في النهى. واختلف العلماء في ذلك على أقوال كما ستعرف، وقد أبيح الوصال إلى السحر لحديث أبي سعيد عند البخاري ومسلم لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر، وفي حديث أبي سعيد هذا دليل على أن إمساك بعض الليل مواصلة واختلف العلماء في حكم الوصال بترك الافطار مطلقاً
..................................
ــ
فذهب أهل الظاهر إلى القول بتحريمه صرح به ابن حزم وصححه ابن العربي من المالكية، وللشافعية فيه وجهان، التحريم والكراهة التنزيهه، والراجح الأصح عندهم التحريم. قال ابن قدامة: ظاهر قول الشافعي أنه محرم تقريراً لظاهر النهى - انتهى. وذهب مالك وأحمد وأبوحنيفة وإتباعهم إلى أنه غير محرم بل مكروه تنزيهاً وذهب جماعة من السلف إلى جوازه مطلقاً وقيل محرم في حق من يشق عليه ويباح لمن لا يشق عليه. قال الحافظ: اختلف في المنع المذكور في أحاديث النهى عن الوصال. فقيل على سبيل التحريم. وقيل: على سبيل الكراهة. وقيل: يحرم على من شق عليه ويباح لمن لا يشق عليه، وقد اختلف السلف (أي الصحابة والتابعون) في ذلك فنقل التفصيل عن عبد الله بن الزبير وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه أنه كان يواصل خمسة عشر يوماً، وذهب إليه من الصحابة أيضاً أخت أبي سعيد الخدري، ومن التابعين عبد الرحمن بن أبي نعم وعامر بن الزبير وإبراهيم بن يزيد التيمي وأبوالجوزاء كما نقله أبونعيم في ترجمته في الحلية وغيرهم رواه الطبري وغيره من حجتهم في ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه واصل بأصحابه بعد النهى لما أبو أن ينتهوا عن الوصال فواصل بهم يوماً ثم يوماً ثم رأوا الهلال. فقال: لو تأخر لزدتكم كالتنكيل لهم حين أبو أن ينتهوا، فلو كان النهى للتحريم لما أقرهم على فعله، فعلم أنه أراد بالنهى الرحمة لهم والتخفيف عنهم كما صرحت به عائشة في حديثها عند الشيخين، حيث قالت نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم، وهذا مثل ما نهاهم عن قيام الليل خشية أن يفرض عليهم ولم ينكر على من بلغه أنه فعله ممن لم يشق عليه فمن لم يشق عليه ولم يقصد موافقة أهل الكتاب ولا رغب عن السنة في تعجيل الفطر لم يمنع من الوصال ويدل على أنه ليس بمحرم حديث أبي داود عن رجل من الصحابة، قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما أبقاء على أصحابه إسناده صحيح كما قال الحافظ: وأبقاءه متعلق بقوله نهى وروى البزار والطبراني من حديث سمرة نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال وليس بالعزيمة وإسناده ضعيف كما قال الهيثمي: لكنه يصلح شاهداً للحديث السابق ومن أدلة الجواز إقدام الصحابة على الوصال بعد النهى فإن ذلك يدل على أنهم فهموا أن النهى للتنزيه لا للتحريم وإلا لما لقدموا عليه ويؤيد أنه ليس بمحرم أيضاً ما روى أحمد والطبراني وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم في تفسيريهما بإسناد صحيح إلى ليلى امرأة بشير بن الخصاصية، قالت أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير. وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا، وقال يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله تعالى:{أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187] فإذا كان الليل فأفطروا لفظ ابن أبي حاتم قال الحافظ: فيه أنه صلى الله عليه وسلم سوى في علة النهى بين الوصال وبين تأخير الفطر حيث قال في كل منهما أنه فعل أهل الكتاب ولم يقل أحد بتحريم تأخير الفطر سوى بعض من لا يعتد به من أهل
..................................
ــ
الظاهر- انتهى. قال الشوكاني: فلا أقل من أن تكون هذه الأدلة التي ذكروها صارفة للنهى عن الوصال عن حقيقته- انتهى. قال الحافظ: ويدل على أنه ليس بمحرم من حيث المعنى ما فيه من فطم النفس عن شهواتها وقمعها عن ملذاتها فلهذا استمر على القول بجوازه مطلقاً أو مقيداً بمن لم يشق عليه من تقدم ذكره - انتهى. واحتج من ذهب إلى تحريم الوصال بما ثبت من النهى عنه في حديث أبي هريرة وحديث أنس وحديث ابن عمر وحديث عائشة متفق عليهن، فإن النهى حقيقة في التحريم. وقد تقدم الجواب عن هذا في كلام الشوكاني فتفكر. واحتجوا أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمر المتقدم إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم إذ لم يجعل الليل محلاً لسوى الفطر، فالصوم فيه مخالفة لوضعه كيوم الفطر وأجاب هؤلاء عن قول عائشة رحمة لهم بأن هذا لا يمنع التحريم فإن من رحمته لهم إن حرمه عليهم. وأما مواصلته بأصحابه بعد نهيه فلم يكن تقريراً بل تقريعاً وتنكيلاً فاحتمل منهم ذلك لأجل مصلحة النهى في تأكيد زجرهم، لأنهم إذا باشروه ظهرت لهم حكمة النهى. وكان ذلك ادعى إلى قلوبهم لما يترتب عليهم من الملل في العبادة، والتقصير فيما هو أهم منه وأرجح من وظائف الصلاة والقراءة وغير ذلك والجوع الشديد ينافي ذلك، وقد صرح بأن الوصال يختص به لقوله:"لست في ذلك مثلكم" وقوله:"لست كهيئتكم" هذا مع ما انضم إلى ذلك من استحباب تعجيل الفطر كما تقدم كذا في الفتح والأقرب من الأقوال المذكورة عندي هو التفصيل والله تعالى أعلم. وأما الوصال إلى السحر فاختلفوا فيه أيضاً. قال مالك: أنه مكروه لعموم النهى. وقال أحمد: لا يكره بل يجوز لكن تعجيل الفطر أفضل أي ترك الوصال إلى السحر أولى ولم يتعرض له فقهاء الحنفية، والذي يظهر من كلامهم وكلام الشافعية أن الوصال إلى السحر ليس بشيء. قال الحافظ: ذهب أحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة وجماعة من المالكية (والبخاري وطائفة من أهل الحديث) إلى جواز الوصال إلى السحر لحديث أبي سعيد المذكور، وهذا الوصال لا يترتب عليه شيء مما يترتب على غيره (أي الوصال بعدم الافطار مطلقاً) لأنه في الحقيقة بمنزلة عشاءه إلا أنه يؤخره لأن الصائم له في اليوم والليلة، أكلة فإذا أكلها في السحر كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره وكان أخف لجسمه في قيام الليل، ولا يخفى إن محل ذلك ما لم يشق على الصائم وإلا فلا يكون قربة وانفصل أكثر الشافعية عن ذلك بأن الإمساك إلى السحر ليس وصالاً بل الوصال أن يمسك في الليل جميعه كما يمسك في النهار، وإنما أطلق على الإمساك إلى السحر وصالاً لمشابهته الوصال في الصورة. ويحتاج إلى ثبوت الدعوى بأن الوصال إنما هو حقيقة في إمساك جميع الليل. وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل من سحر إلى سحر أخرجه أحمد وعبد الرزاق من حديث علي، والطبراني من حديث جابر، وأخرجه سعيد بن منصور مرسلاً - انتهى. والقول الراجح عندي هو
فقال له رجل إنك تواصل يا رسول الله! قال: وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني)) .
ــ
ما ذهب إليه أحمد والله تعالى أعلم (فقال له رجل) كذا في هذه الرواية وفي أكثر الأحاديث قالوا: بالجمع. قال الحافظ: وكأن القائل واحد، ونسب القول إلى الجميع لرضاهم به ولم أقف على تسمية القائل في شيء من الطرق (إنك تواصل يا رسول الله) أي ووصلك دال على إباحته فأجابهم صلى الله عليه وسلم بأن ذ لك من خصائصه حيث (قال وأيكم مثلي) بكسر الميم، وفي رواية لمسلم لستم في ذلك مثلي، وفي حديث أنس لست كأحد منكم، وفي حديث ابن عمر لست مثلكم، وفي حديث أبي سعيد لست كهيئتكم، قال الحافظ: بعد ذكر رواية الكتاب وهذا الاستفهام يفيد التوبيخ المشعر بالاستبعاد وقوله: "مثلي" أي على صفتي أو منزلتي من ربي (إني) استيناف مبين لنفي المساواة بعد نفيها بالاستفهام الإنكاري (أبيت) وفي حديث أنس عند البخاري في التمنى إني أظل، وهو محمول على مطلق الكون لا على حقيقة اللفظ، لأن المتحدث عنه هو الإمساك ليلاً لا، نهاراً، وأكثر الروايات إنما هو بلفظ: أبيت فكأن بعض الرواة عبر عنها بلفظ: أظل نظراً إلى اشتراكهما في مطلق الكون يقولون كثيراً أضحى فلان كذا مثلا، ولا يريدون تخصيص ذلك بوقت الضحى ومنه قوله تعالى:{وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً} [النحل:58] فإن المراد به مطلق الوقت ولا اختصاص لذلك بنهار دون ليل (يطعمني ربي) قال الطيبي: إما خبر وإما حال إن كان تامة وفي التعبير بالرب إشارة إلى خصيصة المقام بشأن الربوبية (ويسقيني) بفتح الياء ويضم، واختلف في معنى قوله:"يطعمني ويسقيني" على قولين الأول أنه على ظاهره وحقيقته وأنه صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامة له يتناولهما في ليالي صيامه وتعقبه ابن بطال والقرطبي وابن قدامة ومن تبعهم بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلاً لأنه حينئذٍ يكون مفطراً وقد أقرهم على قولهم إنك تواصل وأجيب بأن ما يؤتى به الرسول على سبيل الكرامة من طعام الجنة وشرابها لا تجري عليه أحكام المكلفين فيه كما غسل صدره صلى الله عليه وسلم في طست الذهب، مع أن استعمال أواني الذهب الدينيوية حرام. وقال ابن المنير: الذي يفطر شرعاً إنما هو الطعام المعتاد وأما الخارق للعادة كالمحضر من الجنة فعلى غير هذا المعنى وليس تعاطيه من جنس الأعمال، وإنما هو من جنس الثواب كأكل أهل الجنة، والكرامة لا تبطل العبادة وثانيهما وهو قول الجمهور إنه مجاز واختلفوا في توجيهه على أقوال. أحدها أنه مجاز عن لازم الطعام والشراب وهو القوة فكأنه قال يعطيني قوة الآكل والشارب ويفيض علي ما يسد مسد الطعام والشراب ويقوي على أنواع الطاعات من غير ضعف في القوة ولإكلال في الأعضاء والثاني إن الله يخلق فيه من الشبع والرى ما يغنيه عن الطعام والشراب فلا يحس بجوع ولا عطش والفرق بينه وبين الأول أنه على الأول يعطى القوة من غير شبع ولا ري مع الجوع