المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌{ ‌ ‌الفصل الأول} 1787- (1) عن ابن عباس، أن رسول الله صلى - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٦

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

فهرس الكتاب

- ‌(6) كتاب الزكاة

- ‌{

- ‌الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(1) باب ما يجب فيه الزكاة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(2) باب صدقة الفطر

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(3) باب من لا تحل له الصدقة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(4) باب من لا تحل له المسألة ومن تحل له

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌((5)) باب الإنفاق وكراهية الإمساك

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(6) باب فضل الصدقة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(7) باب أفضل الصدقة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(8) باب صدقة المرأة من مال الزوج

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(9) باب من لا يعود في الصدقة

- ‌{الفصل الأول}

-

- ‌(7) كتاب الصوم

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(1) باب رؤية الهلال

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(2) باب

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(3) باب تنزيه الصوم

- ‌((الفصل الأول))

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

الفصل: ‌ ‌{ ‌ ‌الفصل الأول} 1787- (1) عن ابن عباس، أن رسول الله صلى

‌{

‌الفصل الأول}

1787-

(1) عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن،

ــ

فرضيتها بمكة وغيرها من الآيات والأدلة- انتهى. قلت: وهذا هو الراجح، بل هو المتعين عندي، والله تعالى أعلم: قال الشيخ محمد الخضري في تاريخ الأمم الإسلامية: مما فرض بمكة الزكاة، فأنا قلما نجد من الأوامر المكية ذكر الصلاة إلا وبجانبه إيتاء الزكاة وطلبت زكاة ما يخرج من الأرض في سورة الأنعام {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام:141] إلا أن هذه الحقوق الواجبة لم تفصل بمكة، فقد كان ذلك موكولا لما في النفوس من الجود وبحسب حاجة الناس. وقال صاحب تفسير المنار فرضت الزكاة المطلقة بمكة في أول الإسلام، وترك أمر مقدارها ودفعها إلى الشعور المؤمنين وأريحتهم ثم فرض مقدارها من كل أنواع الأموال في السنة الثانية من الهجرة على المشهور. وقيل: في الأولى، ذكره الذهبي في تاريخ الإسلام، وكانت تصرف للفقراء، كما قال تعالى في سورة البقرة {إن تبدو الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} :[271] وقد نزلت في السنة الثانية، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: تؤخذ من أغنياءهم فترد على فقراءهم، ثم نزلت هذه المصارف السبع أو الثمان في سنة تسع، فتوهم بعض العلماء أن فرض الزكاة كانت في هذه السنة، قال: والحكمة فيما ذكر: أن تعيين المقادير، وقيام أولى الأمر بتحصيلها وتوزيعها على من فرضت لهم، وتعدد أصنافهم: كل ذلك إنما وجد بوجود حكومة إسلامية تناطيها مصالح الأمة في دينها ودنياها في دار تسمى دار الإسلام، لأن أحكامها تنفيذ فيها بسلطانه، وكانت أول دار الإسلام دار الهجرة، إذا كانت مكة دار كفر وحرب لا ينفذ فيها للإسلام حكم، بل لم يكن لأحد من أهله فيها حرية الجهر بالصلاة إلا بحماية قريب أو جار من المشركين- انتهى.

1787-

قوله: (بعث معاذاً) بضم الميم (إلى اليمن) كان بعثه إليها سنة عشر قبل حجة الوداع، كما ذكره البخاري في أواخر المغازي. وقيل: كان ذلك في أواخر سنة تسع عند إنصرافه صلى الله عليه وسلم من تبوك، رواه الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك وأخرجه ابن سعد في الطبقات عنه، ثم حكي ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر. وقيل: بعثه عام الفتح سنة ثمان. واتفقوا على أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر، ثم توجه إلى الشام فمات بها. واختلف هل كان معاذ والياً أو قاضياً؟ فجزم الغساني بالأول، وابن عبد البر بالثاني. قال في الاستيعاب: بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضياً إلى الجند باليمن يعلم الناس القرآن وشعائر الإسلام ويقضي بينهم، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قسم اليمن على خمسة رجال، خالد بن سعيد على صنعاء، والمهاجر بن أبي أمية على كندة، وزياد بن لبيد على حضر موت،

ص: 3

فقال: ((إنك تأتي قوم أهل كتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فإن هم أطاعوا لذلك،

ــ

ومعاذ بن جبل على الجند، وأبي موسى الأشعري على زبيد وزمعة وعدن والساحل- انتهى. قال الحافظ: ولمعاذ بالجند مسجد مشهور إلى اليوم (إنك تأتي قوما أهل كتاب) بنصب "أهل" بدلا من "قوما" لا صفة، وروى أحمد (ج5:ص235) عن معاذ قال: لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيه ومعاذ راكب الخ. فقوله إنك تأتي قوماً أهل كتاب كالتوطئة والتمهيد للوصية لتستجمع وتقوى همته في الدعاء لهم لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة، فلا تكون العناية في مخاطبتهم كمخاطبة الجهال من عبدة الأوثان، وليس فيه أن جميع من يقدم عليهم من أهل الكتاب، بل يجوز أن يكون فيهم من غيرهم، وإنما خصهم بالذكر تفضيلاً لهم أو تغليًا على غيرهم (فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) وقعت البداءة في المطالبة بالشهادتين، لأنهما أصل الدين الذي لا يصح شئ من فروعه إلا بهما، فمن كان منهم غير موحد على التحقيق، فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين على التعيين، ومن كان موحداً فالمطالبة له بالجمع بين ما أقر به من التوحيد وبين الإقرار بالرسالة وإن كانوا يعتقدون ما يقتضي الإشراك أو يستلزمه كمن يقول بنبوة عزيز أو يعتقد التشبيه، فتكون مطالبتهم بالتوحيد لنفي ما يلزم من عقائدهم، واستدل بذلك على أنه لا يكفي في الإسلام الإقتصار على شهادة أن لا إله إلا الله حتى يضيف الشهادة لمحمد بالرسالة وهو قول الجمهور (فإن هم أطاعوا) أي انقادوا (لذلك) أي للإتيان بالشهادتين. ولابن خزيمة: فإن هم أجابوا لذلك. واستدل به على أن الكفار غير مخاطبين بالفروع. حيث أمر بالدعاء أولاً إلى الإيمان فقط، وجعل الدعاء إلى الفروع بعد إجابتهم إلى الإيمان. وتعقب بأن الترتيب في الدعاء لا يلزم منه الترتيب في الوجوب. ألا ترى أن الصلاة والزكاة لا ترتيب بينهما في الوجوب وقد قدمت الصلاة على الزكاة في هذا الحديث، وأخر الإخبار بوجوب الزكاة عن الطاعة بالصلاة مع أنهما مستويتان في الخطاب للوجوب. وقال السندي: قوله: فادعهم إلى شهادة الخ. أي فأدعهم بالتدريج إلى ديننا شيئاً فشيئاً ولا تدعهم إلى كله دفعة لئلا يمنعهم من دخولهم فيه ما يجدون فيه من كثرة مخالفة لدينهم فإن مثله قد يمنع من الدخول ويورث التنفر لمن أخذ قبل على دين آخر بخلاف من لم يأخذ على آخر، فلا دلالة في الحديث على أن الكافر غير مكلف بالفروع، كيف! ولو كان ذاك مطلوبا للزم أن التكليف بالزكاة بعد الصلاة، وهذا باطل بالإتفاق- انتهى. قال النووي: أعلم أن المختار أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهى عنه، هذا قول المحققين والأكثرين. وقيل: ليسوا مخاطبين. وقيل: مخاطبون بالمنهى دون المأمور. وقال العيني

ص: 4

فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لذلك،

ــ

قال شمس الأئمة في كتابه في فصل بيان موجب الأمر في حق الكفار: لا خلاف أنهم مخاطبون بالإيمان، ولا خلاف أنهم مخاطبون بالمشروع من العقوبات، ولا خلاف أن الخطاب بالمعاملات يتناولهم أيضاً، ولا خلاف أن الخطاب بالشرائع يتناولهم في حكم المؤاخذة في الآخرة. فأما في وجوب الأداء في أحكام الدنيا، فمذهب العراقيين من أصحابنا: أن الخطاب يتناولهم أيضاً، والأداء واجب عليهم، ومشائخ ديارنا يقولون أنه لا يخاطبون بأداء ما يحتمل السقوط من العبادات- انتهى. وقال ابن عابدين في رد المختار في بحث الجزية نقلا عن شرح المنار لصاحب البحر إن الكفار مخاطبون بالإيمان وبالعقوبات سوى حد الشرب والمعاملات. وأما العبادات فقال السمرقنديون: إنهم غير مخاطبين أداء واعتقاداً. وقال البخاريون: إنهم غير مخاطبين بهما أداء فقط. وقال العراقيون: إنهم مخاطبون بهما فيعاقبون عليهما، وهو المعتمد- انتهى. قال صاحب فتح الملهم بعد ذكر هذا كله: ويؤيد هذا الأخير قوله تعالى: {وويلٌ المشركين الذي لا يؤتون الزكاة} : [حم السجدة:6] و {قالوا لم نكن من المصلين} : [المدثر: 43] الآيتين، فتحصل من هذا كله أن الكفار يعاقبون على ترك اعتقاد الصلاة مثلاً وترك أداءها كليهما عند من قال بتعلق الخطاب بهم في الدنيا اعتقاداً وأداءاً، وإن لم يجب عليهم قضاء الصلوات بعد الإسلام عند أحد ويعاقبون على ترك الاعتقاد فقط عند من قال بتعلق الخطاب اعتقاداً لا أداءاً، ولا يعاقبون على ترك واحد منهما عند الشرذمة القائلة بعدم تعلق الخطاب بهم أصلاً إلا بسبب ترك الإيمان بالتوحيد والرسالة، فالنزاع تحققه بحسب تعلق الخطاب في الدنيا وتبينه وظهور آثاره في الآخرة- انتهى. (فأعلمهم) بفتح الهمزة من الإعلام بمعنى الأخبار (أن الله) بفتح الهمزة لأنها في محل نصب، مفعول ثان للإعلام، والضمير مفعول أول (خمس صلوات) قال السندي، هذا يدل على عدم وجوب الوتر، كما عليه الجمهور والصاحبان من علمائنا الحنفية. قلت: وهذا ظاهر، لأن بعث معاذ إلى اليمن كان قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بقليل. والقول بأنه يحتمل أنه ثبت وجوب الوتر بعد ذلك مما لا يلتفت إليه، لأنه احتمال ناشي من غير دليل (فإن هم أطاعوا لذلك) بأن أقروا بوجوب الخمس عليهم أو فعلوها. قال ابن دقيق العيد: طاعتهم في الصلاة يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون المراد إقرارهم بوجوبها عليهم وإلتزامهم لها. والثاني أن يكون المراد الطاعة بالفعل وأداء الصلاة. وقد يرجح الأول بأن المذكور في لفظ الحديث هو الإخبار بالفرضية، فتعود الإشارة إليها. ويترجح الثاني بأنهم لو أخبروا بالوجوب فبادروا إلى الإمتثال بالفعل لكفى، ولم يشترط التلفظ بالإقرار بخلاف الشهادتين، فالشرط عدم الإنكار، والإذعان للوجوب - انتهى. قال الحافظ: والذي يظهر أن المراد القدر المشترك بين الأمرين، فمن امتثل بالإقرار أو بالفعل كفاه أو بهما فأولى وقد وقع في رواية الفضل بن العلاء بعد ذكر الصلاة فإذا صلوا، وبعد ذكر الزكاة، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم

ص: 5

فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنياءهم فترد على فقراءهم

ــ

(فأعلمهم) أي فأخبرهم (أن الله قد فرض عليهم صدقة) أي زكاة في أموالهم. قيل: الحكمة في ترتيب الزكاة على الصلاة: أنهم إذا أجابوا إلى الشهادتين ودخلوا بذلك في الإسلام، ولم يطيعوا لوجوب الصلاة بل جحدوها، كان ذلك كفراً وردة عن الإسلام بعد دخولهم فيه، فصار ما لهم فيئاً، فلا يؤمرون بالزكاة، بل يقتلون. وقال الخطابي: أخر ذكر الصدقة عن ذكر الصلاة، لأنها إنما تجب على قوم دون قوم، وإنما لا تكرر تكرر الصلاة. قال الحافظ: هذا حسن. وتمامه أن يقال: بدأ بالأهم فالأهم، وذلك من التلطف في الخطاب، لأنه لو طالبهم بالجميع في أول مرة لم يأمن النفرة (تؤخذ من أغنياءهم) قال الحافظ: استدل به على أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها إما بنفسه وإما بنائبه، فمن امتنع منها أخذت منه قهراً. وقال ابن دقيق العيد: قد يستدل به على وجوب إعطاء الزكاة للإمام، لأنه وصف الزكاة بكونها مأخوذة من الأغنياء، فكل ما أقتضى خلاف هذه الصفة فالحديث ينفيه- انتهى. وقيل، حديث معاذ في صدقة السوائم وفي العشر ونحوهما. وأما الذهب والورق فإن أدى زكاتهما خفية يجزئه. قال الحافظ: قد أطبق الفقهاء بعد ذلك على أن لأرباب الأموال الباطنة مباشرة الإخراج. وشذ من قال بوجوب الدفع إلى الإمام - انتهى. قلت: يحتاج إلى الفرق بين الأموال الظاهرة والباطنة في ذلك إلى دليل قوى يعتمد عليه. والظاهر عندي أن ولاية أخذ الزكاة إلى الإمام ظاهرة وباطنة، فإن لم يكن إمام فرقها المالك في مصارفها. وقد حقق ذلك الشوكاني في السيل الجرار بما لا مزيد عليه فليرجع إليه (فترد على فقراءهم) خصم بالذكر، وإن كان مستحق الزكاة أصنافا أخر لمقابلة الأغنياء ولاحتمال أن يكون الفقراءهم الأغلب. واستدل به من لا يرى جواز نقل الزكاة عن بلد المال، لأن الضمير في فقراءهم يعود على أهل اليمن فيدل على وجوب صرف الزكاة إلى فقراء من أخذت منهم، وعدم جواز إخراجها إلى غيرهم إلا لضرورة كعدم فقير فيهم. قال الإسماعيلي: ظاهر الحديث أن الصدقة ترد على فقراء من أخذت من أغنياءهم-انتهى. وقد ترجم البخاري لهذا الحديث "باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا " قال ابن المنير: اختار البخاري جواز نقل الزكاة من بلد المال لعموم قوله: فترد في فقراءهم، لأن الضمير يعود للمسلمين، فأي فقير منهم ردت فيه الصدقة، في أي جهة كان، فقد وافق عموم الحديث - انتهى. قال الحافظ: والذي يتبادر إلى الذهن من هذا الحديث عدم النقل، وأن الضمير يعود على المخاطبين، فيختص بذلك فقراءهم. لكن رجح ابن دقيق العيد الأول، وقال: وإنه وإن لم يكن الأظهر إلا أنه يقويه أن أعيان الأشخاص المخاطبين في قواعد الشرع الكلية لا تعتبر في الزكاة، كما لا تعتبر في الصلاة، فلا يختص بهم الحكم وإن اختص بهم خطاب المواجهة -انتهى.

ص: 6

فإن هم أطاعوا لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) .

ــ

وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فأجاز النقل الليث وأبوحنيفة وأصحابهما، ونقله ابن المنذر عن الشافعي وأختاره والأصح عند الشافعية والمالكية والجمهور: ترك النقل، فلو خالف ونقل أجزاء عند المالكية على الأصح، ولم يجزئ عند الشافعية على الأصح، إلا إذا فقد يستحقون لها ولا يبعد أنه اختيار البخاري، لأن قوله "حيث كانوا" يشعر بأنه لا ينقلها عن بلد، وفيه ممن هو متصف بصفة الاستحقاق -انتهى كلام الحافظ. وقال شيخنا في شرح الترمذي: والظاهر عندي عدم النقل إلا إذا فقد المستحقون لها أو تكون في النقل مصلحة أنفع وأهم من عدمه، والله تعالى أعلم. قال الحافظ: وفي الحديث إيجاب الزكاة في مال الصبي والمجنون الغنيين لعموم قوله من أغنياءهم، قاله عياض، وفيه بحث، وأن الزكاة لا تدفع إلى الكافر لعود الضمير في فقراءهم إلى المسلمين سواء قلنا بخصوص البلد أو العموم، وأن من ملك نصاباً لا يعطي من الزكاة، وهو مذهب الحنفية من حيث أنه جعل المأخوذ منه غنياً، وقابله بالفقير، ومن ملك النصاب فالزكاة مأخوذة منه، فهو غني، والغنى مانع من إعطاء الزكاة إلا من استثنى في الحديث. قال ابن دقيق العيد: وليس هذا البحث بالشديد القوة (فإن هم أطاعوا لذلك) أي للإنفاق (فإياك وكرائم أموالهم) بنصب كرائم بفعل مضمر لا يجوز إظهاره للقرينة الدالة عليه. قال ابن قتيبة: ولا يجوز حذف واو "وكرائم"-انتهى. وعلل بأنها حرف عطف، فيختل الكلام بالحذف. وكرائم جمع كريمة، وهي خيار المال وأفضله. قال الجزري في النهاية: كرائم أموالهم أي نفائسها التي تتعلق بها نفس مالكها ويختصها لها حيث هي جامعة للكمال الممكن في حقها. وقال في جامع الأصول: هي خيارها ونفائسها وما يكرم على أصحابها ويعز عليهم. والمراد اجتنبها فلا تأخذها في الصدقة، وخذ الوسط لا العالي ولا النازل الردي، ففيه ترك أخذ خيار المال وهي الأكولة والربى وفحل الغم والماخض وحزرات المال. والحكمة فيه: أن الزكاة وجبت مواساة للفقراء من مال الأغنياء. ولا يناسب ذلك الاحجاف بأرباب الأموال، فسامح الشرع بأرباب الأموال بما يضنون به، ونهى المصدقين عن أخذه إلا إن رضوا بذلك كما سيأتي (واتق دعوة المظلوم) أي تجنب الظلم لئلا يدعوا عليك المظلوم. وفيه تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم، وإنما ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم للإشارة إلى أن أخذها ظلم. قال السندي: فيه أنه وإن كان قد يغلب حب الدنيا حتى ينسى الآخرة، فلا يترك الظلم لكونه حراماً مضراً في الآخرة فليترك لحب الدنيا خوفا من دعوة المظلوم، وإلا فالظلم يجب تركه، لكونه حراماً، وإن لم يخف دعوة صاحبه (فإنه) أي الشأن (ليس بينها وبين الله) أي بين وصولها إلى محل الاستجابة والقبول (حجاب) أي مانع بل هي معروضة عليه يعني ليس لها ما يصرفها ولو كان المظلوم فيه ما يقتضي أنه لا يستجاب لمثله من كون مطعمه حرام

ص: 7

متفق عليه.

1788-

(2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها،

ــ

أو نحو ذلك، حتى ورد في بعض طرقه وإن كان كافراً، رواه أحمد من حديث أنس، قاله العيني. وقال الحافظ: والمراد أنها مقبولة، وإن كان عاصياً، كما جاء في حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعاً: دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه. وإسناده حسن. وليس المراد أن الله تعالى حجاباً يحجبه عن الناس. وقال الطيبي: قوله "اتق دعوة المظلوم" تذييل لاشتماله على الظلم الخاص من أخذ الكرائم وعلى غيره، وقوله "فأنه ليس بينها وبين الله حجاب" تعليل للاتقاء وتمثيل للدعاء، كمن يقصد دار السطان متظلماً، فلا يحجب عنه -انتهى. قال ابن العربي: هذا الحديث، وإن كان مطلقاً فهو مقيد بالحديث الآخر إن الداعي على ثلاث مراتب، إما أن يجعل لهما ما طلب وإما أن يدخر له أفضل منه، وإما أن يدفع عنه من السوء مثله، وهذا كما قيد مطلق قوله تعالى:{أمن يجيب المضطر إذا دعاه} [النمل: 62] بقوله تعالى: {فيكشف ما تدعون إليه إن شاء} [الأنعام: 41] تنبيه لم يقع في هذا الحديث ذكر الصوم والحج مع أن بعث معاذ كما تقدم كان في آخر الأمر. وأجاب الكرماني بأن اهتمام الشارع بالصلاة والزكاة أكثر، ولهذا كررا في القرآن، وبأنهما إذا وجبا على المكلف لايسقطان عنه أصلاً بخلاف الصوم فإنه قد يسقط بالفدية والحج، فإن الغير قد يقوم مقامه فيه كما في المعضوب، وقال السندي: هذا الحديث ليس مسوقاً لتفاصيل الشرائع بل لكيفية الدعوة إلى الشرائع إجمالاً. وأما تفاصيلها فذاك أمر مفوض إلى معرفة معاذ، فترك ذكر الصوم والحج لا يضر، كما لا يضر، ترك تفاصيل الصلاة والزكاة -انتهى. وأجاب البلقيني بنحوه وبسط فيه ذكره الحافظ في الفتح، والسيوطي في حاشية النسائي (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة وفي المظالم والمغازي والتوحيد، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي كلهم في الزكاة، وأخرجه أيضا أحمد (ج1:ص233) .

1788-

قوله: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها) قال التوربشتي في شرح المصابيح: ذكر جنسين من المال: ثم قال لا يؤدي منها حقها، ذهاباً إلى أن الضمير إلى معنى الذهب والفضة دون لفظهما لأن كل واحد منهما جملة وافية ودنانير ودراهم. ويحتمل أن يراد بها الأموال ويحتمل أنه أراد بها الفضة واكتفى يذكر أحدهما كقول القائل:

ومن يك أمسى بالمدينة رحله

... فإني وقيا ربها لغريب

ص: 8

إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما ردت أعيدت له

ــ

وبمثله ورد التنزيل قال الله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} [التوبة:34](صفحت) بضم الصاد وتشديد الفاء المكسورة أي جعلت الفضة ونحوها (له) أي لصاحبها (صفائح) أي كأمثال الألواح جمع صفيحة، وهي ما طبع عريضاً. وقرئت مرفوعاً على أنه مفعول ما لم يسم فاعله لقوله:"صفحت" ومنصوبا على أنه مفعول ثان، وفي الفعل ضمير الذهب والفضة، وأنث إما بالتأويل السابق، وإما على التطبيق بينه وبين المفعول الثاني الذي هو هو (من نار) أي يجعل الذهب والفضة صفائح من نار أي يجعل صفائح كأنها نار أو كأنها مأخوذة من نار يعني كأن صفائح الذهب والفضة لفرط احمائها وشدة حرارتها صفائح النار، فتكوى بها (فأحمي عليها) بصيغة المجهول، والجار والمجرور نائب الفاعل أي أوقد عليها نار ذات حمى وحر شديد من قوله: نار حامية، ففيه مبالغة ليست في فأحميت في نار، قاله الطيبي: والضمير في "عليها" إلى الفضة، فالفاء تفسيرية. وقيل: الضمير إلى الصفائح النارية أي تحمى مرة ثانية (في نار جهنم) ليشتد حرها، فالفاء تعقيبية (فيكوى بها) أي بتلك الفضة أو بتلك الصفائح (جنبه وجبينه وظهره) قيل: خص هذه الأعضاء بالذكر من بين سائر الأعضاء، لأنها مجوفة فتسرع الحرارة إليها أو لأن الكي في الوجه أبشع وأشهر، وفي الظهر والجنب أوجع وآلم. وقيل: لأن جمعهم وإمساكهم كان لطلب الوجاهة بالغني والتنعيم بالمطاعم الشهية والملابس البهية. وقيل: لأن السائل متى تعرض للطلب من البخيل أول ما يبدو منه من آثار الكراهة والمنع أنه يُقَطِّب في وجهه، ويتكلح ويجمع أساريره، فيتجعَّد جبينه، ثم إن كرر الطلب ناء بجانبه عنه ومال عن جبهته وتركه جانباً، فإن استمر الطلب ولاه ظهره واستقبل جهة أخرى وهي النهاية في الرد والغاية في المنع الدال على كراهيته للعطاء والبذل، وهذا دأب مانعي البر والإحسان، وعادة البخلاء بالرفد والعطاء، فلذلك خص هذه الأعضاء بالكيّ، قاله الجزري في جامع الأصول (ج5 ص465)(كلما ردت) أي عن بدنه إلى النار (أعيدت) أي أشد ما كانت كما ترد الحديدة المحماة إلى الكور. ويخرج منه ساعة فساعة، قال الطيبي: أي كلما بردت ردت إلى نار جهنم ليحمى عليها، والمراد منه الاستمرار-انتهى. قلت: وقع في بعض نسخ مسلم: كلما بردت أعيدت. قال النووي: هكذا هو في بعض النسخ، بردت بالباء وفي بعضها ردت بحذف الباء وبضم الراء، وذكر القاضي الروايتين، وقال: الأولى هي الصواب، قال: والثانية رواية الجمهور- انتهى. وقال ابن الملك: يعني إذا وصل كي هذه الأعضاء من أولها إلى آخرها أعيد الكي إلى أولها حتى وصل إلى آخرها (له) أي لمانع الزكاة

ص: 9

في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل: يا رسول الله! فالإبل؟ قال: ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها،

ــ

(في يوم) وهو يوم القيامة (كان مقداره خمسين ألف سنة) أي على الكافرين، ويطول على بقية العاصين بقدر ذنوبهم. وأما المؤمنون الكاملون فهو على بعضهم كركعتي الفجر، وأشار إليه بقوله عزوجل:{يوم عسير على الكافرين غير يسير} [المدثر: 9](حتى يقضي) على بناء المفعول أي يحكم (فيرى سبيله) بصيغة المجهول من الرؤية والإراءة. وقوله "سبيله" مرفوع على الأول، ومنصوب على أنه مفعول ثان على الثاني. وروى أيضا "فيرى" بصيغة المعلوم من الرؤية أي هو سبيله. قال النووي: ضبطناه بضم ياء يرى وفتحها وبرفع لام "سبيله" ونصبها (إما إلى الجنة) إن لم يكن له ذنب سواه، وكان العذاب تكفيراً له (وإما إلى النار) إن كان على خلاف ذلك. قال القاري: وفيه رد على من يقول: إن الآية {والذين يكنزون الذهب} الخ. مختصة بأهل الكتاب. ويؤيده القاعدة الأصولية: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، مع أنه لا دلالة في الحديث على خلوده في النار. وبهذا يعلم ضعف قول ابن حجر أيضا إما إلى الجنة إن كان مؤمناً بأن لم يستحل ترك الزكاة، وإما إلى النار إن كان كافراً بأن استحل تركها (قيل يا رسول الله فالإبل) أي هذا حكم النقود، فالإبل ما حكمها؟ أو عرفنا حكم النقدين فما حكم الإبل؟ فالفاء متصل بمحذوف (ولا صاحب إبل) بالرفع أي يوجد ويكون. وقيل: بالجر عطفا على قوله "من صاحب ذهب" والحاصل أنه ليس جوابا للسؤال لفظا لوجود الواو بل جواب له معنى (لا يؤدي) صفة أي لا يعطي صاحب الإبل (منها حقها) أي الواجب عليه فيها (ومن حقها) أي المندوب و"من" تبعيضية (حلبها) قال النووي: بفتح اللام على اللغة المشهورة وحكى إسكانها، وهو غريب ضعيف، وإن كان هو القياس (يوم وردها) بكسر الواو. وقيل: الورد الإتيان إلى الماء، ونوبة الإتيان إلى الماء، فإن الإبل تأتي الماء في كل ثلاثة أو أربعة، وربما تأتي في ثمانية. قال الجزري في جامع الأصول "يوم وردها" أي يوم ترد الماء فيسقى من لبنها من حضره من المحتاجين إليه، وهذا على سبيل الندب والفضل لا الوجوب - انتهى. وإنما خص حالة وردها، لأنه حالة كثرة لبنها، ولأن الفقراء يحضرون هناك طلباً لذلك. وقال الطيبي: معناه أن يسقي ألبانها المارة ومن ينتاب المياه من أبناء السبيل. وقيل: أمر أن يحلبها صاحبها عند الماء ليصيب ذو والحاجة منه، وهذا مثل نهية عليه الصلاة والسلام عن الجذاذ بالليل، أراد أن يصوم بالنهار ليحضرها الفقراء- انتهى. قال ابن بطال: يريد حق الكرم والمواساة وشريف الأخلاق لا أن ذلك فرض، قال: وكانت

ص: 10

عادة العرب التصدق باللبن على الماء، فكان الضعفاء يرصدون ذلك منهم، قال: والحق حقان فرض عين وغيره، فالحلب من الحقوق التي هي من مكارم الأخلاق. وقال الإسماعيل القاضي: الحق المفترض هو الموصوف المحدود، وقد تحدث أمور لا تحد، فتجب المواساة للضرورة التي تنزل من ضعيف مضطر أو جائع أو عار أو ميت ليس له من يواريه فيجب حينئذٍ على من يمكنه المواساة التي تزول بها هذه الضرورات، قال ابن التين: وقيل: كان هذا قبل فرض الزكاة - انتهى. قال القاري: واعلم أن ذكره وقع استطراداً وبياناً لما ينبغي أن يعتني به من له مروأة لا لكون التعذيب، يترتب عليه أيضاً لما هو مقرر من أن العذاب لا يكون إلا على ترك واجب أو فعل محرم، اللهم إلا أن يحمل على وقت القحط أو حالة الاضطرار أو على وجوب ضيافة المال، وهذا معنى ما قيل: إن حقها الأول أعم من الثاني. وقيل: أن التعذيب عليهما معا تغليظ - انتهى. كلام القاري. قلت: الحديث بظاهره دليل لمن يرى في المال حقوقاً واجبة غير الزكاة خلافا للجمهور. وأجابوا عن ذلك بوجوه كما رأيت في كلام ابن بطال وابن التين والجزري والقاري. وقال الحافظ العراقي الظاهر أن قوله: "ومن حقها حلبها يوم وردها" مدرج من قول أبي هريرة، قال: وكأن أباداود أشار إلى ذلك في سننه من غير تصريح، فإنه لما ذكر هذه الزيادة روى بعدها من حديث أبي عمر الغداني عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو هذه القصة، فقال له يعني لأبي هريرة: فما حق الإبل؟ قال: تعطي الكريمة وتمنح الغزيرة، وتفقر الظهر وتطرق الفحل وتسقي اللبن. قال العراقي ففي هذه الرواية أن هذا من قول أبي هريرة، فإن قلت: ففي صحيح مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر: ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها- الحديث. وفيه قلنا يا رسول الله! وما حقها؟ قال: إطراق فحلها، وإعارة دلوها ومنحتها، وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل لله، وذكر الحديث. وهذا صريح في رفع هذا الكلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم صراحة لا يحتمل معها الإدراج. قلت: قال العراقي: الظاهر أن هذه الزيادة ليست متصلة، وقد بين ذلك أبوالزبير في بعض طرق مسلم، فذكر الحديث دون الزيادة، ثم قال أبوالزبير: سمعت عبيد بم عمير يقول هذا القول، ثم سألنا جابر بن عبد الله، فقال مثل قول عبيد بن عمير: قال أبوالزبير، وسمعت عبيد بن عمير يقول قال رجل: يا رسول الله ما حق الإبل؟ قال: حلبها على الماء وإعارة دلوها، وإعارة فحلها ومنحتها وحمل عليها في سبيل الله. قال العراقي فقد تبين بهذه الطريق إن هذه الزيادة إنما سمعها أبوالزبير من عبيد بن عمير مرسلة، لا ذكر لجابر فيها- انتهى. قال ولد العراقي في شرح التقريب بعد ذكر ذلك: وبتقدير إن تصح هذه الزيادة مرفوعة فجواب الجمهور عنها من وجهين أحدهما أن ذلك منسوخ بآية الزكاة. وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر لما سأل عن هذه الآية إنما كان هذا

ص: 11

إنما إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحداً، تطؤه بأخفافها، وتعضده بأفواهها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها

ــ

قبل أن تنزل الزكاة فلما أنزلت جعلها طهوراً للأمور الخ، ثانيهما أن هذا من الحق الزائد على الواجب ولا عقاب بتركه، وإنما ذكر استطراداً لما ذكر حقها بين الكمال فيه، وإن كان له أقل يزول الذم بفعله، وهو الزكاة. ويحتمل أن يكون ذلك من الحق الواجب إذا كان هناك مضطر إلى شرب لبنها. فيحمل الحديث على هذه الصورة - انتهى. (إلا إذا كان يوم القيامة) استثناء مفرغ من أعم الأحوال (بطح) على بناء المفعول أي طرح وألقى صاحب الإبل على وجهه (لها) أي لأجل تلك الإبل. قال النووي: قوله "بطح" قال جماعة: معناه ألقي على وجهه. قال القاضي: قد جاء في رواية للبخاري (في ترك الحيل) تخبط وجهه بأخفافها، قال: وهذا يقتضي أنه ليس من شرط البطح كونه على الوجه، وإنما هو في اللغة بمعنى البسط والمد، فقد يكون على وجهه، وقد يكون على ظهره، ومنه سميت بطحاء مكة لانبساطها (بقاع) أي في أرض واسعة مستوية (قرقر) بقاف وراء مكررتين بفتح القافين وإسكان الراء الأولى أي أملس. وقيل: أي مستو واسع، فيكون صفة مؤكدة. قال الجزري: القاع المكان المستوي من الأرض الواسع، والقرقر الأملس. وقال النووي: القرقر المستوي من الأرض الواسع فهو بمعنى القاع فذكره بعده تأكيداً (أوفر ما كانت) أي أكثر عدداً وأعظم سمناً وأقوى قوة، لأنها تكون عنده على حالات مختلفة، فتأتي على أكملها ليكون ذلك أنكى له لشدة ثقلها. في شرح السنة يريد كمال حال الإبل التي وطئت صاحبها في القوة والسمن ليكون أثقل لوطئها. قال الطيبي "أوفر" مضاف إلى " ما" المصدرية، والوقت مقدر وهو منصوب على الحال من المجرور في "لها" والعامل "بطح" وقوله (لا يفقد) أي الصاحب (منها) أي من الإبل (فصيلا) أي ولدا (واحدا) تأكيد، والجملة مؤكدة لقوله "أوفر"(تطؤه) حال أو استئناف بيان أي تدوسه الإبل (بأخفافها) جمع خف البعير أي بأرجلها، والخف من الإبل بمنزلة الظلف للغنم، والقدم للآدمي، والحافر للحمار والبغل والفرس. والظلف بكسر الظاء للبقر والغنم والظباء. وكل حافر منشق فهو ظلف، وقد استعير الظلف للفرس (وتعضه) بفتح العين) (بأفواهها) أي بأسنانها (كلما مر عليه أولاها) أي أولى الإبل (رد عليه أخراها) كذا في جميع الأصول من صحيح مسلم من رواية زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة. كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها. قال عياض: قالوا هو تغيير وتصحيف، وصوله ما في الرواية التي بعده من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه "كلما مر عليه أخراها رد عليه أولاها) " وبهذا ينتظم الكلام، وكذا وقع في مسلم من حديث أبي ذر أيضا وأقره النووي على هذا، وحكاه القرطبي، وأوضع وجه الرد بأنه إنما يرد الأول الذي قد مر قبل، وأما الآخر فلم يمر بعد، فلا يقال: فيه، رد ثم أجاب بأنه يحتمل أن

ص: 12

أن في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، فيرى سبيله: إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل: يا رسول الله! فالبقرة والغنم؟ قال: ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر، لا يفقد منها شيئاً، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، فيرى سبيله: إما إلى الجنة أو إلى النار.

ــ

المعنى أن أول الماشية إذا وصلت إلى آخرها تمشي عليه تلاحقت بها أخراها، ثم إذا أرادت الأولى الرجوع بدأت الأخرى بالرجوع فجاءت الأخرى أول حتى تنتهي إلى آخر الأولى، وكذا وجهه الطيبي، فقال: إن المعنى أولاها إذا مرت عليه التتابع إلى أن تنتهي إلى الأخرى، ثم ردت الأخرى من هذه الغاية، وتبعها ما كان يليها فما يليها إلى أن تنتهي أيضاً إلى الأولى، حصل الغرض من التتابع والاستمرار - انتهى. فيكون الابتداء في المرة الأولى من الإبل الأولى، وفي الثانية من الأخرى. والحاصل أنه يحصل هذا مرة بعد أخرى (خمسين ألف سنة) أي على هذا المعذب. وإلا فقد جاء أنه يخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة، قاله السندي. وقيل: معناه لو حاسب فيه غير الله سبحانه (فالبقر والغنم) أي كيف حال صاحبها (لا يفقد منها) أي من ذواتها وصفاتها شيئاً. وقال الطيبي: أي قرونها سليمة (ليس فيها عقصاء) بفتح العين المهملة وسكون القاف بعدها صاد مهملة ثم ألف ممدودة أي ملتوية القرنين، وإنما ذكرها، لأن العقصاء لا تؤلم بنطحها كما يؤلم غير العقصاء (ولا جلحاء) بجيم مفتوحة ثم لام ساكنة ثم حاء مهملة التي لا قرن لها (ولا عضباء) بفتح العين المهملة وسكون الضاد المعجمة المكسورة القرن، وقال النووي: التي انكسر قرنها الداخل، ونفي الثلاثة عبارة عن سلامة قرونها ليكون أجرح للمنطوح. وظاهر الحديث أن هذه الصفات فيها معدومة في العقبى، وإن كانت موجودة لها في الدنيا. وظاهر البعث أن يعيد الله تعالى الأشياء على ما كانت هي عليه في الدنيا، كما هو مفهوم من الكتاب والسنة، ولعله يخلقها كما كانت، ثم يعطيها القرون، ليكون سبباً لعذاب من منع زكاتها على وجه الشدة (تنطحه) بكسر الطاء. ويجوز فتحها، والأول أفصح وهو المشهور في الرواية، كما قال العراقي أي تضربه وتطعنه بقرونها وفي القاموس نطحه كمنعه وضربه أصابه بقرنه فقوله (بقرونها) إما تأكيد وإما تجريد (بأظلافها) جمع ظلف بكسر الظاء وهو للبقر والغنم والظباء، وهو المنشق من القوائم. وفي الحديث أن الله يحيي البهائم ليعاقب بها مانع الزكاة، وفي ذلك معاملة له بنقيض قصده، لأنه قصد منع حق الله منها، وهو الارتفاق والانتفاع بما يمنعه منها فكان ما قصد الانتفاع به أضر الأشياء عليه. والحكمة في كونها تعاد كلها مع أن حق الله فيها إنما هو في بعضها

ص: 13

قيل: يا رسول الله! فالخيل ثلاثة: هي لرجل وزر، وهي لرجل ستر، وهي لرجل أجر، فأما التي هي له وزر، فرجل ربطها رياء وفخراً ونواء على أهل الإسلام، فهي له وزر، وأما التي هي له ستر: فرجل ربطها في سبيل الله،

ــ

لأن الحق في جميع المال غير متميز، ولأن المال لما لم تخرج زكاته غير؟ مطهر. وفيه دليل على وجوب الزكاة في الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم. قال النووي: ولا خلاف في ذلك، وهذا الحديث أصح الأحاديث الواردة في زكاة البقر (قيل يا رسول الله فالخيل) أي ما حكمه (قال فالخيل الخ) قال الطيبي: جواب على أسلوب الحكيم وله توجيهان، فعلى مذهب الشافعي معناه: دع السؤال عن الوجوب، إذ ليس فيه حق واجب، ولكن أسأل عما يرجع من اقتناءها على صاحبها من المضرة والمنفعة، وعلى مذهب أبي حنيفة معناه: لا تسأل عما وجب فيه من الحقوق وحده، بل أسأل عنه وعما يتصل بها من المنفعة والمضرة إلى صاحبها. فإن قيل كيف يستدل بهذا الحديث على الوجوب؟ قلت: بعطف الرقاب على الظهور، لأن المراد بالرقاب الذوات إذ ليس في الرقاب منفعة للغير كما في الظهور، وبمفهوم الجواب الآتي في قوله عليه السلام: ما أنزل علي في الحمر شيء. وأجاب القاضي عنه بأن معنى قوله: ثم لم ينس حق الله في رقابها، أداء زكاة تجارتها- انتهى. وقيل: المراد بالحق في رقابها الإحسان إليها، والقيام بعلفها وسائر مؤنها. والمراد بظهورها إطراق فحلحا ًإذا طلب منه إعارته. وهذا على سبيل الندب. وقال ابن حجر أي فالخيل ما حكمها أيجب فيها زكاة فيعاقب تاركها لذلك أولا؟ فلا قال: فالخيل أحكامها ثلاثة أخرى أي غير ما مر، فلا زكاة فيها حتى يعاقب تاركها (ثلاثة) أي ربطها على ثلاثة أنحاء، قاله القاري (هي) أي الخيل (وزر) أي إثم وثقل (وهي لرجل ستر) بكسر السين أي لحاله في معيشيته لحفظة عن الاحتجاج إلى الخلق وصيانته عن السؤال (وهي لرجل أجر) أي ثواب عظيم. قال الطيبي: في قوله "فالخيل ثلاثة" فيه جمع وتفريق وتقسيم. أما الجمع فقوله ثلاثة، وأما التفريق فقوله (فأما التي هي له وزر فرجل) الظاهر. أن يقال: فخيل ربطها أو يقال وأما الذي له وزر فرجل. قلت: قال النووي: قوله فأما التي هي له وزر، هكذا هو في أكثر نسخ صحيح مسلم، ووقع في بعضها "الذي" وهو أوضح وأظهر. وعلى النسخة المشهورة فالأظهر أن يكون التقدير فخيل رجل (ربطها رياء) أي ليرى الناس عظمته في ركوبه وحشمته (وفخراً) أي يفتخر باللسان على من دونه من أفراد الإنسان (ونواء) بكسر النون والمد أي معاداة؟، يقال: ناوأت الرجل مناوأة أي عاديته، والواو بمعنى أو، فإن هذه الأشياء قد تفترق في الأشخاص، وكل واحد منها مذموم على حدته (فهي) أي تلك الخيل (له وزر) أي على ذلك القصد، فهي جملة مؤكدة مشعرة باهتمام الشارع به، والتحذير عنه (وأما التي هي له ستر فرجل ربطها في سبيل الله) قال الطيبي: لم يرد به الجهاد، بل النية الصالحة، إذ يلزم التكرار، قال:

ص: 14

ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها، فهي له ستر، وأما التي هي له أجر: فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج وروضة، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات،

ــ

ويعضده رواية غيره و"رجل ربطها تغنيا وتعففاً) أي استغناء بها وتعففاً عن السؤال، أو هو أن يطلب بنتاجها والغني أو يتردد عليها متاجرة ومزارعة، فتكون ستراً له يحجبه عن الفاقة (ثم لم ينس حق الله في ظهورها) أي بالعارية للركوب أو الفعل (ولا رقابها) قال الطيبي: إما تأكيد وتتمة للظهور، وإما دليل على وجوب الزكاة فيها- انتهى. وقال الجزري في جامع الأصول (ج5 ص466- 467) أما حق ظهورها فهو أن يحمل عليها منقطعاً، ويشهد له قوله في موضع آخر "وأن يفقر ظهرها" وأما حق رقابها فقيل أراد به الإحسان إليها (والقيام بعلفها وسائر مؤنها) وقيل: أراد به الحمل عليها فعبر بالرقبة عن الذات - انتهى. وأوله السندي بأن المراد لم ينس شكر الله لأجل إباحة ظهورها وتمليك رقابها، وذلك الشكر يتأدى بالعارية (فهي له ستر) أي حجاب يمنعه عن الحاجة للناس (ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام) فيه إشارة إلى أن المراد به الجهاد فإن نفعه متعد إلى أهل الإسلام (في مرج) بفتح الميم وسكون الراء آخره جيم أي مرعى. في النهاية هو الأرض الواسعة ذات نبات كثير يمرج فيها الدواب أي تسرح، والجار متعلق بـ"ربط" (وروضة) عطف تفسير أو الروضة أخص من المرعى وفي نسخة المصابيح بلفظ: أو، وكذا في مسلم. قال ابن الملك: شك من الراوي ذكره في المرقاة. وقال الولي العراقي: المرج الموضع الواسع الذي فيه نبات ترعاه الدوآب، سمي بذلك، لأنها تمرج فيه، أي تروح وتجيء وتذهب كيف شاءت. والروضة الموضع الذي يكثر فيه الماء، فيكون فيه صنوف النبات من رياحين البادية وغيرها، فالفرق بين المرج والروضة أن الأول معد لرعي الدواب، ولذلك يكون واسعاً ليتأتى لها فيه ذلك، والروضة ليست معدة لرعي الدوآب، وإنما هي للتنزه بها لما فيها من أصناف النبات. هذا هو الذي يتحرر من كلام أهل اللغة، فصح عطف الروضة على المرج، وكذا وقع في صحيح مسلم عطف الروضة أولاً بالواو وثانية بأو؟ والظاهر أن الواو أولاً بمعنى أو انتهى (فما أكلت) أي الخيل (من ذلك المرج) بيان مقدم (من شيء) أن من العلف أو الأزهار قل أو كثر (إلا كتب له عدد ما أكلت) أي الذي أكلته من العشب والذرع (حسنات) بالرفع نائب الفاعل ونصب عدد على نزع الخافض أي بعدد مأكولاتها. وقال الولي الراقي: برفع "عدد" لنيابته عن الفاعل، ونصب "حسنات" بالكسرة على التمييز. ويحتمل رفع قوله "حسنات" على أنه بدل من عدد أو عطف بيان. ويحتمل أن يكون هو النائب عن الفاعل، ويكون قوله "عدد"

ص: 15

وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات، ولا تقطع طولها فاستنت شرفا أو شرفين إلا كتب الله له عدد آثارها وأرواثها حسنات، ولا مر بها صاحبها على نهر فشربت منه، ولا يريد أن يسقيها، إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات. قيل: يا رسول الله! فالحمر؟ قال ما أنزل عليَّ في الحمر شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} .

ــ

ومنصوباً نصب المصدر العددي (وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات) لأن بها بقاء حياتها مع أن أصلها قبل الاستحالة غالباً من مال مالكها (ولا تقطع) أي الخيل (طولها) بكسر الطاء وفتح الواو. ويقال: طيلها بالياء، وكذا جاء في الموطأ. والطول والطيل حبلها الطويل الذي شد أحد طرفيه في يد الفرس والآخر في وتد أو غيره لتدور فيه وترعى من جوانبها، ولا تذهب لوجهها (فاستنت) بتشديد النون أي جرت بقوة من الاستنان، وهو الجري. قال القاري: أي عدت ومرجت ونشطت لمراحها (شرفاً) بفتح الشين المعجمة والراء، هو العالي من الأرض. وقيل: المراد هنا طلقا أو طلقين، قاله النووي. وقال الجزري: الشرف الشوط والمدى (عدد آثارها) أي بعدد خطاها (أوراثها) أي في تلك الحالة، ولعله أراد بالروث هنا ما يشمل البول أو أسقطه للعلم به منه (على نهر) بفتح الهاء وسكونها (فشربت) أي الخيل (ولا يريد) أي والحال أن صاحبها لا ينوي (أن يسقيها) بفتح الياء وضمها (إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات) قال الطيبي: فيه مبالغة في اعتداد الثواب، لأنه إذا اعتبر ما تستقذرة النفوس وتنفر عنه الطباع فكيف بغيرها، وكذا إذا احتسب مالا نية له فيه، وقد ورد وإنما لكل امريء ما نوى، فما بال ما إذا قصد الاحتساب فيه، قال ابن الملك، فالحاصل أنه يجعل لمالكها بجميع حركاتها وسكناتها وفضلاتها حسنات. قال الحافظ: وفيه أن الإنسان يؤجر على التفاصيل التي تقع في فعل الطاعة إذا قصد أصلها، وإن لم يقصد تلك التفاصيل (فالحمر) بضمتين جمع حمار أي ما حكمها (إلا هذه الآية) بالرفع (الفاذة) بالذال المعجمة المشددة أي المنفردة في معناها. وقيل: القليلة النظير. وقيل: النادرة الواحدة (الجامعة) أي العامة المتبناولة لكل خير ومعروف. قال ابن الملك: يعني ليس في القرآن آية مثلها في قلة الألفاظ وجمع معاني الخير والشر. قال الطيبي: سميت جامعة لاشتمال اسم الخير على جميع أنواع الطاعات فرائضها نوافلها، واسم الشر على ما يقابلها من الكفر والمعاصي صغيرها وكبيرها: قال النووي وفيه إشارة إلى التمسك بالعموم. ومعنى ذلك أنه لم ينزل عليَّ فيها نص بعينها، ولكن نزلت هذه الآية العامة (فمن يعمل مثقال ذرة) أي مقدار نملة أو ذرة من الهباء الطائر في الهواء (خيراً يره) أي يرى ثوابه وجزاءه (ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) فلو أعان أحداً على بر بركوبها يثاب، ولو استعان بركوبها على فعل معصية يعاقب

ص: 16

رواه مسلم.

1789-

(3) وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته، مثل له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان، يطَوَّقه يوم القيامة،

ــ

(رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد في مواضع من مسنده مطولاً ومختصراً، وأبوداود الطيالسي والبيهقي، ورواه البخاري وأبوداود والنسائي مختصراً. والحديث نسبه الجزري في جامع الأصول (ج5 ص296) للبخاري ومسلم والموطأ وأبي داود والنسائي، ونسبه المنذري في الترغيب للبخاري ومسلم. والظاهر أنهما أرادا بهذه النسبة أصل الحديث لا تفصيله وتمامه، فإنه لم يروه كاملا أحد من أصحاب الكتب الستة إلا مسلم. من أحب الوقوف على اختلاف الروايات وألفاظها رجع إلى جامع الأصول (ج5 ص296، 303) .

1789-

قوله: (من آتاه الله) بمد الهمزة أي أعطاه (مالاً) قال الحافظ: المراد بالمال الناض (مثل) بضم الميم وتشديد المثلثة على صيغة المجهول أي صور وجعل (له ماله) أي الذي لم يؤد زكاته (شجاعاً) بضم الشين ويكسر، منصوب على أنه مفعول ثان. وقال الطيبي: شجاعاً نصب يجري مجرى المفعول، أي صور ماله شجاعاً أو ضمن مثل معنى التصيير أي صير ماله على صورة شجاع. وقال البدر الدماميني: شجاعا منصوب على الحال، وهو الحية الذكر. وقيل: هو الحية مطلقاً، وقيل: الذي يقوم على ذنبه ويواثب الفارس والراجل؟ وربما بلغ رأس الفارس، ويكون في الصحاري (أقرع) قال في جامع الأصول: الأقرع صفة الحية بطول العمر. وذلك أنه بطول عمره قد أمرق شعر رأسه فهو أخبث له وأشد شراً - انتهى، وقال في النهاية: هو الذي لا شعر له على رأسه يريد حية قد تمعط وذهب جلد رأسه لكثرة سمه وطول عمره، قال الأزهري في تهذيبه: سمي أقرع، لأنه يقري السم ويجمعه في رأسه حتى تتمعط فروة رأسه قال ذو الرمة:

قرى السم حتى أنمار فروة رأسه عن العظم صل قاتل اللسع ما رده

وقيل: هو الأبيض الرأس من كثرة السم، وكلما كثر سمه أبيض رأسه: وقيلي نوع من الحيات أقبح منظراً (له زبيبتان) ثنية زبيبة بزاي معجمة مفتوحة فموحدتين بينهما تحتية ساكنة، وهما الزبدتان اللتان في الشدقين، يقال: تكلم فلان حتى زبَّب شِدقاه أي خرج الزبد عليهما. وقيل: هما النكتتان السوداء وإن فوق عينيه، وهو أو حش ما يكون من الحيات وأخبثه. وقيل: هما نقطتان يكتنفان فاه. وقيل: هما في حلقة بمنزلة زنمتعي العنز: وقيل: لحمتان على رأسه مثل القرنين. وقيل: نابان يخرجان من فيه (يطوقه) بفتح الواو المشددة، والضمير الذي"فيه" مفعوله الأول والضمير البارز مفعوله الثاني، وهو يرجع إلى من في قوله "من آتاه الله مالاً" والضمير المستتر يرجع إلى

ص: 17

ثم يأخذ بلهزمتيه، يعني شدقيه، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا {ولا يحسبن الذين يبخلون} الآية)) .

ــ

الشجاع أي يجعل الشجاع طوقا في عنقه. وقيل: المعنى يطوق ذلك الرجل شجاعاً قال القاري: وهو الموافق لقوله تعالى: {سيطوقون ما بخلوا به} [آل عمران:180](ثم يأخذ) أي الشجاع ذلك البخيل. قال الحافظ: فاعل يأخذ الشجاع والمأخوذ يد صاحب المال، كما وقع مبيناً في رواية همام عن أبي هريرة الآتية في ترك الحيل (عند البخاري) بلفظ: لا يزال يطلبه حتى يبسط يده، فيلقمها فاه (بلهزمتيه) بكسر اللام وسكون الهاء بعدها زاى مكسورة ثم ميم بعدها فوقية، تنثية لهزمة، وفسرهما بقوله (يعني شدقية) بكسر الشين المعجمة وسكون الدال المهملة أي بطرفي فمه. قيل: ضمير "لهزمتيه" للشجاع، ويمكن أن يكون لصاحب المال. قال الطيبي اللهزمة اللحي وما يتصل به من الحنك، وفسر بالشدق وهو قريب منه -انتهى. وقال في الصحاح: هما العظمان الناتئان في اللحيين تحت الأذنين وفي الجامع: هما لحم الخدين الذي يتحرك إذا أكل الإنسان. وقيل: مضيغتان في أصل الحنك (ثم يقول) أي الشجاع المصور من المال (أنا مالك أنا كنزك) فائدة هذا القول: الحسرة والزيادة في التعذيب حيث لا ينفعه الندم. وفيه نوع من التهكم لمزيد غصته وهمه، لأنه شر أتاه من حيث كان يرجو خيراً، وزاد في رواية البخاري: يفر منه صاحبه ويطلبه. وفي حديث ثوبان عند ابن حبان: يتبعه فيقول: أنا كنزك الذي تركته بعدك، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيمضغها، ثم يتبعه سائر جسده. ولمسلم في حديث جابر: يتبع صاحبه ذهب وهو يفر منه، فإذا رأى أنه لا بد منه أدخل يده في فيه فجعل يقضمها كما يقضم الفحل. وللطبراني في حديث ابن مسعود: ينقر رأسه (ثم تلا) أي النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث ابن مسعود عند الشافعي والحميدي: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الآية {ولا يحسبن الذين يبخلون} بالغيب في "يحسبن" أسنده إلى الذين، وقدر مفعولاً دل عليه "يبخلون" أي لا يحسبن الباخلون بخلهم خيراً لهم، وفي رواية: ولا تحسبن بالخطاب، وهي قراءة حمزة، أسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدر مضافا أي لا تحسبن يا محمد بخل الذين يبخلون هو خيراً لهم، فبخل وخير مفعولان. وفي حديث ابن مسعود عند الترمذي: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه: سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة. قال الحافظ: في هذين الحديثين تقوية لقول من قال المراد بالتطويق في الآية الحقيقة، خلافاً لمن قال إن معناه سيطوقون الإثم. وفي تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم الآية عقب ذلك دلالة على أن الآية نزلت في مانعي الزكاة، وهو قول أكثر أهل العلم بالتفسير، وقيل: إنها نزلت في اليهود الذين كتموا صفة النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: نزلت فيمن له قرابة لا يصلهم، قاله مسروق -انتهى (الآية) أي بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة. قال السندي: ظاهر قوله: " ما بخلوا به" أنه يجعل قدر الزكاة طوقا له، لأنه الذي بخل به.

ص: 18

رواه البخاري

1790-

(4) وعن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ما من رجل يكون له إبل أو بقر

أو غنم لا يؤدي حقها، إلا أتى بها يوم القيامة أعظم ما يكون وأسمنه، تطأه بأخفافها،

ــ

وظاهر الحديث أنه الكل. ويمكن أن يقال المراد في القرآن ما بخلوا بزكاته وهو كل المال، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. ثم لا تنافي بين هذا وبين قوله تعالى:{والذين يكنزون الذهب والفضة} [الآية التوبة:34] إذ يمكن أن يجعل بعض أنواع المال طوقاً، وبعضها يحمى عليه في نار جهنم، أو يعذب حينا بهذه الصفة وحينا بتلك الصفة، والله أعلم - انتهى. وقال الحافظ: المراد بالمال (أي في الحديث) الناض. ولا تنافي بين روايتي أبي هريرة يعني هذه الرواية التي نحن في شرحها، والرواية السابقة بلفظ: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمى عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه الخ. لإحتمال إجتماع الأمرين معا، فهذه الرواية توافق الآية التي ذكرها، وهي سيطوقون، والرواية السابقة توافق قوله تعالى:{يوم يحمى عليها في نار جهنم} [الآية- التوبة:35] وقال العيني: في الحديث ما يدل على قلب الأعيان، وذلك في قدرة الله تعالى بين لا ينكر. وفيه أن لفظ ما لا بعمومه يتناول الذهب والفضة وغيرهما من الأموال الزكوية (رواه البخاري) في الزكاة والتفسير وترك الحيل، وأخرجه أيضا مالك والنسائي وابن حبان والبيهقي (ج4:ص81) ولكن وقفه مالك على أبي هريرة ولم يرفعه. وهذا الحديث جعله أبوالعباس الطرقي والذي قبله حديثاً واحدا ولا يخفى ما فيه. وذكره المنذري في الترغيب والترهيب، ثم قال رواه البخاري والنسائي ومسلم، وقد وهم في نسبته لصحيح مسلم فإنه لم يروه بذلك، وقد نقله ابن كثير في التفسير عن البخاري، وقال تفرد به البخاري دون مسلم. وفي الباب عن ابن مسعود عند أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وسيأتي، وعن جابر عند أحمد ومسلم والنسائي، وعن ابن عمر عند أحمد والنسائي، وعن ثوبان عند البزار والطبراني وابن خزيمة وابن حبان.

1790-

قوله: (ما من رجل يكون له إبل أو بقر أو غنم) أو للتقسيم (لا يؤدي حقها) هذا لفظ البخاري. وفي رواية مسلم: لا يؤدي زكاتها (إلا أتى بها) بضم الهمزة على صيغة المجهول (أعظم ما تكون) بالتأنيث. "وأعظم" بالنصب على الحال "وما" مصدرية (وأسمنه) عطف على المنصوب السابق، والضمير راجع إلى لفظ ما (تطأه بأخفافها) أي تدوسه ذوات الأخفاف بأرجلها، وهذا راجع للإبل، لأن الخف مخصوص بها، كما أن الظلف مخصوص بالبقر والغنم والظباء والحافر يختص بالفرس والبغل والحمار، والقدم للآدمي

ص: 19

وتنطحه بقرونها، كلما جازت أخراها ردت عليه أولها، حتى يقضي بين الناس)) . متفق عليه.

1791-

(5) وعن جرير بن عبد الله، قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتاكم المصدق، فليصدر عنكم وهو عنكم راض)) .

ــ

(تنطحه) بكسر الطاء وتفتح أي تضربه ذوات القرون (بقرونها) فالضمير في كل قسم عائد على بعض الجملة لا على الكل، والخف للإبل، والقرون للبقر والغنم، كما أن الظلف لهما، وقيل: قوله "تنطحه بقرونها" راجع للبقر (كلما جازت) بالجيم والزاي أي مرت (ردت) بضم الراء مبنياً للمفعول أي أعيدت (عليه) أي على الرجل يعني فهو معاقب بذلك (حتى يقضي بين الناس) أي إلى أن يفرغ الحساب (متفق عليه) واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج4:ص97) وغيرهم.

1791-

قوله: (إذا أتاكم المصدق) بكسر الدال المشددة مع تخفيف الصاد أي آخذ الصدقة، وهو الساعي العامل وأما المصدق بتشديد الصاد فهو دافع الصدقة أي معطيها، وهو رب المال (فليصدر عنكم) بضم الدال أي يرجع (وهو عنكم راض) الجملة حال. وفي رواية الترمذي والبيهقي: فلا يفارقنكم إلا عن رضى. وفي رواية ابن ماجه: لا يرجع المصدق إلا عن رضا، قال الطيبي: ذكر المسبب وأراد السبب، لأنه أمر للعامل، وفي الحقيقة أمر للمزكي. والمعنى تلقوه بالترحيب وأداء زكاة أموالكم تامة ليرجع عنكم راضياً، وإنما عدل إلى هذه الصفة مبالغة في استرضاء المصدق وإن ظلم كما سيجيئ - انتهى. وقال البيهقي في سننه (ج4:ص137) : قال الشافعي، يعني والله أعلم أن يوفوه طائعين ولا يلووه لا أن يعطوه لا أن يعطوه من أموالهم ما ليس عليهم فبهذا يأمرهم ويأمر المصدق. قال البيهقي: وهذا الذي قاله الشافعي محتمل، لولا ما في رواية أبي داود من الزيادة، وهي قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن ظلمونا، قال: أرضوا مصدقيكم وإن ظلمتم، ففي هذا كالدلالة على أنه رأى الصبر على تعديهم - انتهى. قال عياض: فيه الحض على طاعة الأمراء وترك مخالفتهم، وكل ذلك حض على الألفة وإجتماع الكلمة التي جعلها الله سبحانه وتعالى أصلاً لصلاح الكافة وعمارة ونظام أمر الدنيا والآخرة. وقال النووي: مقصود الحديث الوصاة بالسعادة وطاعة ولاة الأمور وملاطفتهم وجمع كلمة المسلمين وإصلاح ذات البين، وهذا كله مالم يطلب جوراً، فإذا طلب جوراً فلا موافقة له ولا طاعة لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس في صحيح البخاري: فمن سألها على وجهها فليعطها ومن سئل فوقها فلا يعط -انتهى. وقال السندي: أي لا يرجع عامل الصدقة إلا عن رضى بأن تلقوه بالترحيب وتودوا إليه الزكاة طائعين، ولم يرد أن تعطوه الزائد على الواجب لحديث: من سأل فوقها فلا يعطي أي فوق الواجب. وقيل: لا يعطي أصلاً لأنه الغزل بالجور-انتهى. وسيأتي رواية

ص: 20

رواه مسلم.

1792-

(6) وعن عبد الله بن أبي أوفى، قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال:((اللهم صلى على آل فلان. فأتاه أبى بصدقته، فقال: اللهم صل على آل أبى أوفى)) .

ــ

أبي داود التي أشار إليها البيهقي من حديث جرير في الفصل الثاني من هذا الباب، ورواية البخاري من حديث أنس الذي ذكره النووي والسندي في الفصل الأول من "باب ما يجب فيه الزكاة" ويأتي هناك وجه الجمع بين الروايتين (رواه مسلم) في آخر الزكاة وأخرجه أيضا أحمد (ج4:ص360-364) والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج4:ص136) .

1792-

قوله: (وعن عبد الله بن أبي أوفى) بفتح الهمزة وسكون الواو وفتح الفاء مقصوراً، قد تقدم ترجمة عبد الله، وأما والده أبوأوفى فهو علقمة بن خالد بن الحرث الأسلمي، مشهور بكنيته، شهد هو وابنه عبد الله بيعة الرضوان تحت الشجرة، وعمر عبد الله إلى أن كان آخر من مات من الصحابة بالكوفة، وذلك سنة سبع وثمانين (إذا أتاه قوم بصدقتهم) أي بزكاة أموالهم (اللهم صلى على آل فلان) أي اغفر له وارحمه. قال العيني: كذا في رواية الأكثريين. وفي رواية أبي ذر: صل على فلان -انتهى. والمعنى واحد. لأن الآل يطلق على ذات الشئ. وقيل: لفظ الآل مقحم يدل عليه الرواية الآتية (فأتاه أبى) أبوأوفى (على آل أبى أوفى) يريد أباأوفى نفسه، لأن الآل يطلق على ذات الشيء كقوله في قصة أبي موسى: لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود، يريد داود نفسه. وقيل: لا يقال ذلك إلا في حق الرجل الجليل القدر. وقال القاري: الظاهر أن الآل مقحم يدل عليه الرواية الآتية: اللهم صلى عليه، أو المراد هو وأهل بيته فيعم الدعاء، لأنه إذا دعى لآله لأجله، فهو يستحق الدعاء بطريق الأولى -انتهى. وهذا الدعاء منه صلى الله عليه وسلم امتثال لقوله تعالى:{خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلى عليهم إن صلاتك سكن لهم} [التوبة:103] فإنه أمره الله بالصلاة عليهم ففعلها بلفظها حيث قال: اللهم صل على آل أبى أوفى. ولفظ الصلاة: بحتم، بل غيره من الدعاء ينزل منزلته، مثل أن يقول آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، أو يقول اللهم أغفرله وتقبل منه ونحو ذلك. والدليل عليه ما رواه النسائي والبيهقي من حديث وائل بن حجر أنه صلى الله عليه وسلم قال في رجل بعث بناقة حسنة في الزكاة: اللهم بارك فيه وفي إبله. وفي الحديث دليل على أنه يستحب الدعاء عند أخذ الصدقة لمعطيها. وقال بعض أهل الظاهر: بوجوب ذلك على الإمام، وحكاه أبوعبد الله الحناطي بالحاء المهملة وجهاً لبعض الشافعية. وكأنهم أخذوه من الأمر في الآية. وأجيب بأنه لو كان واجباً لعلمه النبي صلى الله عليه وسلم السعى ولم ينقل. وفيه أن وجوب الدعاء كان معلوماً لهم من الآية الكريمة،

ص: 21

فلم يكن حاجة إلى تعليم الدعاء والأمر به وأجاب الجمهور أيضاً بأن سائر ما يأخذه الإمام من الكفارات والديون وغيرهما لا يجب عليه فيها الدعاء، فكذلك الزكاة، وبأن ذلك لا يجب على الفقير المدفوع إليه، فالنائب أولى. وأما الآية فيحتمل أن يكون الوجوب خاصاً به لكون صلاته سكناً لهم بخلاف غيره. واستدل بالحديث على جواز الصلاة على غير الأنبياء استقلالاً، وأنه يدعو آخذ الصدقة للمتصدق بهذا الدعاء، وهو قول أحمد، قالوا والصلاة ههنا بمعنى الدعاء والتبريك لا بمعنى التعظيم والتكريم. وكره مالك والشافعي وأبوحنيفة، قالوا لا يصلي على غير الأنبياء استقلالاً، ولكن يصلي عليهم تبعاً. وأجابوا عن هذا الحديث بأن هذا حقه عليه الصلاة والسلام له أن يعطه لمن شاء، وليس لغيره ذلك. وقال في اللمعات: هذه الصلاة غير ما يصلي به على النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو بمعنى الترحم والتعطف والترحيب لا على وجه التعظيم والتكريم أخذا من قوله تعالى:{وصل عليهم} [التوبة:103] وقيل: لا يجوز الدعاء بلفظ الصلاة على أحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم ولمن سواه من الأئمة أن يدعوا عند أخذ الصدقة بمضمونه وبمعناه لا بلفظ الصلاة – انتهى. قلت: ومال البخاري إلى الجواز مطلقاً حيث بوب في جامعه الصحيح. باب هل يصلي على غير النبي صلى الله عليه وسلم، وصدر بالآية وهي قوله تعالى:{وصل عليهم} ثم أورد الحديث الدال على الجواز مطلقاً، وهو حديث عبد الله بن أبي أوفى، وعقبه بالحديث الدال على الجواز تبعا. قال الحافظ: قوله له يصلي على غير النبي صلى الله عليه وسلم؟ أي استقلالاً أو تبعاً، ويدخل في الغير الأنبياء والملائكة والمؤمنون. فأما مسألة الأنبياء فورد فيها أحاديث: أحدها حديث علي في الدعاء بحفظ القرآن، ففيه وصل علي وعلى سائر النبيين، أخرجه الترمذي والحاكم، وحديث بريدة رفعه: لا تتركن في التشهد الصلاة علي وعلى أنبياء الله، الحديث أخرجه البيهقي بسند واه، وحديث أبي هريرة رفعه: صلوا على أنبياء الله، الحديث أخرجه إسماعيل القاضي بسند ضعيف، وحديث ابن عباس رفعه: إذا صليتم علي فصلوا على أنبياء الله، فإن الله بعثهم كما بعثني، أخرجه الطبراني، وسنده ضعيف أيضاً. وقد ثبت عن ابن عباس اختصاص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عثمان بن حكيم عن عكرمة عنه، قال: ما أعلم الصلاة تنبغي علي أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا سند صحيح: وحكي القول به عن مالك، وقال ما تعبدنا به، وجاء نحوه عن عمر بن عبد العزيز، وعن مالك يكره. وقال عياض: عامة أهل العلم على الجواز. وقال سفيان: يكره أن يصلي إلا على نبي. ووجدت بحظ بعض شيوخي مذهب مالك لا يجوز أن يصلي إلا على محمد، وهذا غير معروف عن مالك، وإنما قال أكره الصلاة على غير الأنبياء، وما ينبغي لنا أن نتعدى ما أمرنا به، وخالفه يحيى بن يحيى فقال لا بأس به، واحتج بأن الصلاة دعا بالرحمة فلا يمنع إلا بالنص أو إجماع. قال عياض: والذي أميل إليه قول مالك وسفيان وهو قول المحققين من المتكلمين والفقهاء، قالوا يذكر غير الأنبياء بالرضاء والغفران، والصلاة على غير الأنبياء يعني

ص: 22

استقلالاً لم تكن من الأمر المعروف، وإنما أحدثت في دولة بني هاشم وأما الملائكة فلا أعرف فيه حديثاً نصاً، وإنما يؤخذ ذلك من الذي قبله إن ثبت، لأن الله تعالى سماهم رسلاً. وأما المؤمنون فاختلف فيه، فقيل لا تجوز إلا على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وحكي عن مالك كما تقدم. وقالت طائفة. لا تجوز مطلقاً استقلالاً، وتجوز تبعاً فيما ورد به النص. أو الحق به لقوله تعالى:{لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً} [الفرقان:63] ولأنه لما علمهم السلام. قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ولما علمهم الصلاة قصر ذلك عليه وعلى أهل بيته، وهذا القول اختاره القرطبي في المفهم وأبوالمعالى من الحنابلة، وهو اختيار ابن تيمية من المتأخرين. وقالت: طائفة تجوز تبعاً مطلقاً، ولا تجوز استقلالاً، وهذا قول أبي حنيفة وجماعة. وقالت طائفة: تكره استقلالاً لا تبعاً، وهي رواية عن أحمد. وقال النووي: هو خلاف الأولى. وقالت طائفة: تجوز مطلقاً، وهو مقتضي صنيع للبخاري (كما تقدم تقريره) ووقع مثل حديث ابن أبي أوفى عن قيس بن سعد بن عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه وهو يقول: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة، أخرجه أبوداود والنسائي، وسنده جيد، وفي حديث جابر أن امرأته قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: صل علي وعلى زوجي. ففعل، أخرجه أحمد مطولاً ومختصراً، وصححه ابن حبان. وهذا القول جاء عن الحسن ومجاهد، ونص عليه أحمد في رواية أبي داود، وبه قال إسحاق وأبوثور وداود والطبري، واحتجوا بقوله تعالى:{هو الذي يصلي عليكم وملائكته} [الأحزاب:43] وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: إن الملائكة تقول لروح المؤمن صلى الله عليك وعلى جسدك. وأجاب المانعون عن ذلك كله بأن ذلك صدر من الله ورسوله، ولهما أن يخصا من شاءا بما شاءا، وليس ذلك لأحد غيرهما. قال الحافظ: والحجة فيه أنه صار شعار للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يشاركه غيره فيه فلا يقال قال أبوبكر صلى الله عليه وسلم، وإن كان معناه صحيحا. ويقال: صلى الله على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى خليفته. ونحو ذلك وقريب من هذا أنه لا يقال محمد عزوجل، وإن كان معناه صحيحاً، لأن هذا الثناء صار شعارا لله سبحانه، فلا يشاركه غيره فيه. ولا حجة لمن أجاز ذلك منفردً محتجاً بقوله تعالى:{وصل عليهم} [التوبة:103] وبقوله: صلى الله عليه وسلم " اللهم صلى على آل أبى أوفى" وبقول امرأة جابر: "صل علي وعلى زوجي" فقال: صل عليهما، فإن ذلك كله صدر من النبي صلى الله عليه وسلم، ولصاحب الحق أن يتفضل من حقه بما شاء لمن شاء، وليس لغيره أن يتصرف إلا بإذنه، ولم يثبت عنه إذن في ذلك. ويقوي المنع بأن الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم صار شعاراً لأهل الاهواء، يصلون على من يعظمونه من أهل البيت وغيرهم، وهل المنع في ذلك حرام أو مكروه أو خلاف الأولى؟ حكي الأوجه الثلاثة النووي في الأذكار، وصحح الثاني. وقد روى إسماعيل بن إسحاق في أحكام القرآن بإسناد حسن عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب: أما بعد وإن ناساً من القصاص أحدثوا في الصلاة على خلفاءهم وأمراءهم عدل الصلاة على النبي. فإذا جاءك

ص: 23

متفق عليه. وفي رواية إذا أتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته، قال: اللهم صلى عليه.

1793-

(7) وعن أبي هريرة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة،

ــ

كتابي هذا فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين ودعاءهم للمسلمين ويدعوا ما سوى ذلك، ثم أخرج عن ابن عباس بإسناد صحيح، قال: لا تصلح الصلاة على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن للمسلمين والمسلمات الاستغفار- انتهى. وقال البيهقي: يحمل قول ابن عباس بالمنع إذا كان على وجه التعظيم لا ما إذا كان على وجه الدعاء بالرحمة والبركة. وقال ابن القيم: المختار أن يصلي على الأنبياء والملائكة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وآله وذريته وأهل الطاعة على سبيل الإجمال، وتكره في غير الأنبياء لشخص مفرد بحيث يصير شعاراً ولاسيما إذا ترك في حق مثله أو أفضل منه كما يفعله الرافضة، فلو اتفق وقوع ذلك مفرداً في بعض الأحايين من غير أن يتخذ شعاراً لم يكن به بأس- انتهى. تنبيه: اختلف في السلام على غير الأنبياء بعد الاتفاق على مشروعيته في تحية الحي، فقيل: يشرع مطلقاً. وقيل: بل تبعاً ولا يفرد لواحد لكونه صار شعاراً للرافضة، ونقله النووي عن الشيخ أبي محمد الجويني، كذا في الفتح (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة والمغازي والدعوات، ومسلم في الزكاة، وأخرجه أيضاً أحمد (ج4:ص353-354-355) وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج4:ص157)(وفي رواية) هذه الرواية من أفراد البخاري أوردها في باب هل يصلي على غير النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الدعوات (اللهم صل عليه) تمامه: وأتاه أبي بصدقته، فقال: اللهم صل على آل أبى أوفى.

1793-

قوله: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر) أي أرسله ساعياً وعاملاً (على الصدقة) أي الواجبة يعني الزكاة المفروضة، لأنها المعهودة بانصراف الألف واللام إليها، ولأن البعث إنما يكون على الصدقات المفروضة. وقال ابن القصار المالكي: الأليق أنها صدقة التطوع، لأنه لا يظن بهؤلاء الصحابة أنهم منعوا الفرض، وعلى هذا فعذر خالد واضح، لأنه أخرج ماله في سبيل الله، فما بقي له مال يحتمل المواساة بصدقة التطوع، ويكون ابن جميل شح بصدقة التطوع فعتب عليه. وقال في العباس: هي على ومثلها معها أي أنه لا يمتنع إذا طلبت منه. وتعقب بأنهم ما منعوه كلهم جحداً ولا عناداً. أما ابن جميل فقد قيل: إنه كان منافقا ثم تاب بعد ذلك، كما حكاه المهلب. قيل: وفيه نزلت: {وما نقموا} [البروج: 8] الآية إلى قوله: {فإن يتوبوا يك خيراً لهم} -[التوبة: 74] فقال: استتاب نبي الله فتاب وصلح حاله، والمشهور نزولها في غيره. وأما خالد فكان متنأولاً بأجزاء ما حبسه عن الزكاة، وكذلك العباس لاعتقاده ما سيأتي التصريح به، ولهذا عذر النبي صلى الله عليه وسلم خالداً والعباس، ولم يعذر ابن جميل. قال القسطلاني أخذا عن ابن دقيق العيد: فالظاهر أنها الصدقة الواجبة لتعريف الصدقة باللام

ص: 24

فقيل: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله ورسوله،?

ــ

العهدية. وقال النووي: إنه الصحيح المشهور. ويؤيده قوله: "بعث عمر على الصدقة" فهو مشعر بأنها صدقة الفرض، لأن صدقة التطوع لا تبعث عليها السعاة - انتهى. (فقيل) القائل هو عمر رضي الله عنه، لأنه هو المرسل. ويؤيده رواية الدارقطني من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر ساعياً، فأتى العباس فأغلط له، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن العباس قد أسلفنا زكاة ماله- الحديث. (منع ابن جميل) بفتح الجيم وكسر الميم، قال ابن مندة: لم يعرف اسمه، ومنهم من سماه حميداً. وقيل: اسمه عبد الله، وذكره الذهبي في تجريده (ج2 ص225) فيمن عرف بأبيه ولم يسم. وقال الحافظ في الفتح: لم أقف على اسمه في كتب الحديث (وخالد بن الوليد) بالرفع عطف على ابن جميل، وهو خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي، أبو سليمان سيف الله، وأمه لبابة الصغرى أخت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، كان أحد أشراف قريش في الجاهلية، وكان إليه أعنة الخيل في الجاهلية، وشهد مع كفار قريش الحروب إلى عمرة الحديبية والفتح، وشهد مؤته، ويومئذٍ سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف الله، وشهد الفتح وحنيناً. واختلف في شهوده خيبر، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه ابن خالته ابن عباس وجابر بن عبد الله والمقدام بن معديكرب وغيرهم. استعمله أبوبكر على قتال أهل الردة ومسليمة، ثم وجهه إلى العراق ثم إلى الشام، وهو أحد أمراء الأجناد الذين ولوا فتح دمشق. قال الزبير بن بكار: كان ميمون النقيبة، ولما هاجر لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوليه الخيل، ويكون في مقدمته. وقال ابن سعد: كان يشبه عمر في خلقته وصفته. ولما نزل الحيرة قيل له: أحذر السم لا تسقيكه الأعاجم، فقال: ائتوني به فأخذه بيده. وقال: بسم الله وشربه، فلم يضره شيئاً. قال ابن سعد وابن نمير: مات بحمص سنة (21)، وقال دحيم. وغيره. مات بالمدينة. وقيل: مات سنة (22) ويروى أنه لما حضرته الوفاة بكى. وقال: لقيت كذا وكذا زحفاً. وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح، وها أنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء. (والعباس) بالرفع عطفاً على وخالد. ووقع في رواية أبي عبيد (ص592) منع ابن جميل وخالد والعباس أن يتصدقوا، وهو مقدر ههنا لأن منع يستدعى مفعولاً أي منع هؤلاء التصدق يعني إعطاء الزكاة (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) بيان لوجه امتناع هؤلاء من الإعطاء، فلذلك ذكره بالفاء (ما ينتقم ابن جميل) بكسر القاف من باب ضرب ما ينكر الزكاة (إلا أنه) أي لأجل أنه (أنه كان فقيراً فأغناه الله ورسوله) فجعل نعمة الله، وهو كونه أغناه الله بعد فقره سبباً لكفرها، مع أنه لا يصلح أن يكون علة لكفران النعمة، بل هو موجب للشكر، فعكس

ص: 25

وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، قد احتبس أدراعه وأعتده

ــ

وجعلها موجبة للكفران، فاستحق كل الذم. وفي هذا قول الشاعر:

ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إذا غضبوا

أو ما ينقم أي ما يكره شيئاً إلا أغناء الله، وهذا مما لا يكره أو ما ينكر شيئاً إلا كون الله أغناه بعد فقره، وهذا ليس بمنكر، فكأنه لم ينكر منكراً أصلاً. يقال: نَقَمتُ منه كذا أنقم بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل إذا عِتَبه وأنكرته عليه وكرهته، وكذلك نَقمت بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل. وقيل: ينقم بكسر قاف أفصح من فتحها قال في النهاية: ويقال: نقم من فلان الإحسان إذا جعل إحسانه مما يؤيديه إلى كفر النعمة أي أواه غناه إلى أن كفر نعمة الله، فما ينقم شيئاً في منع الزكاة إلا أن يكفر النعمة. قال التوربشتي: وهذا الذي قاله صحيح، لأنه قول القائل لمن أساء إليه بعد أن أحسن هو إليه ما عِبتَ عليّ إلا الإحسان إليك، تعريض بكفران النعمة، وتقريع بسوء الصنيع في مقابلة الإحسان، وإنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه عند المنة عليه، لأنه كان سباً لدخوله في الإسلام، فأصبح غنياً بعد فقره بما أفاءه الله على رسوله، وبما أباح لأمته من الغنائم ببركته- انتهى. وقال الكرماني: الاستثناء مفرغ. ومحل أن وصلتها نصب على المفعول به أو على أنه مفعول لأجله، والمفعول به حينئذٍ محذوف أي ليس ثمة شيء ينقم له ابن جميل يوجب منع الزكاة إلا أغناه الله، وليس بموجب للمنع، فلا موجب له أصلاً، وهذا مما تقصد العرب في مثله تأكيد النفي والمبالغة فيه بإثبات شيء، وذلك الشيء لا يقتضي إثباته، فهو منتف أبداً، ويسمى مثل ذلك عند البيانين تأكيد المدح بما يشبه الذم وبالعكس، فمن الأول قول الشاعر:

ولأعيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب

لأنه إذا لم يكن فيهم عيب إلا هذا. وهذا ليس بعيب فلا عيب فيهم. ومن الثاني هذا الحديث وشبهه أي ما ينقم ابن جميل شيئاً إلا كون الله أغناه بعد فقره، وهذا مما لا ينقم فليس ثمة شيء ينقم أو فلم ينكر منكراً أصلاً، فينبغي له أن يعطي مما أعطاه الله ولا يكفر بالنعمة (وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً) عبر بالظاهر دون أن يقول تظلمونه بالضمير على الأصل تفخيماً لشأنه وتعظيما لأمره، نحو {وما أدراك ما الحاقة} -[الحاقة: 3] والمعنى تظلمونه بطلبكم منه زكاة ما عنده، فإنه (قد احتبس) أي وقف (أدراعه) بمهملات جمع درع بكسر الدال، وهي الزردية (وأعتده) بضم المثناة جمع عتد بفتحتين. وفي مسلم: أعتاده بزيادة الألف بعد التاء، وهو أيضاً جمعه. وقال النووي: واحده عتاد بفتح العين. وقال الجزري: الأعُتدُ والأعتاد جمع عتاد وهو ما أعده الرجل من السلاح والدواب وآلات الحرب. ويجمع على أعتده (بكسر التاء) أيضاً. وقيل: هو الخيل خاصة، يقال: فرس عتيد أي صلب أو معد

ص: 26

في سبيل الله فهي على ومثلها معها،

ــ

للركوب أو سريع الوثوب (في سبيل الله) قصة خالد تُؤولّ على وجوه: أحدها أنهم طالبوا خالداً بالزكاة عن أثمان الأعتاد والأدراع بظن أنها للتجارة، وأن الزكاة فيها واجبة، فقال لهم: لا زكاة فيها علي، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن خالداً منع الزكاة، فقال: إنكم تظلمونه، لأنه حبسها ووقفها في سبيل الله قبل الحول، فلا زكاة فيها، فيكون فيه حجة لمن أسقط الزكاة عن الأموال المحبسة ولمن أوجبها في عروض التجارة، ولمن جوز احتباس آلات الحروب من الدروع والسيوف والجحف، وقد يدخل فيها الخيل والإبل، لأنها كلها عتاد للجهاد، وعلى قياس ذلك الثياب والبسط والفرش ونحوها من الأشياء التي ينتفع بها مع بقاء أعيانها، ولمن جوز صحة الوقف والحبس من غير إخراج من يد الواقف، وذلك أن الشيء لو لم يكن في يده لم يكن لمطالبته بالزكاة عنه معنى، وثانيها، أنه قد اعتذر لخالد ودافع عنه. وأراد أن يمنع الزكاة إن وجبت عليه، لأنه قد جعل أدراعه وأعتاده في سبيل الله تبرراً وتبرعاً وتقرباً إليه تعالى، وذلك غير واجب عليه، فكيف يجوز عليه منع الصدقة الواجبة، فإذا أخبر بعدم الوجوب أو منع فيصدق في قوله ويعتمد على فعله. وقيل: المعنى أنه صلى الله عليه وسلم لم يقبل قول من أخبره بمنع خالد حملاً على أنه لم يصرح بالمنع، وإنما نقلوه بناء على ما فهموه، ويكون قوله:"تظلمونه" أي بنسبتكم إياه إلى المنع، وهو لم يمنع، وكيف يمنع الفرض، وقد تطوع بتحبيس سلاحه وخيله، وثالثها، أنه أجاز لخالد أن يحتسب ما حبسه في سبيل الله فيما يجب عليه من الزكاة التي أمر بقبضها منه، وذلك لأن أحد الأصناف الثمانية سبيل الله، وهم المجاهدون، فصرفها في الحال كصرفها في المآل فيكون فيه حجة لمن جوز صرف الزكاة إلى صنف واحد من الثمانية، وهو قول كافة العلماء، خلافاً للشافعي، ولمن قال بجواز إخراج القيم في الزكاة كالحنفية، وقد أدخل البخاري هذا الحديث في باب أخذ العروض في الزكاة، فيدل على أنه ذهب إلى هذا التأويل. وتعقب ابن دقيق العيد جميع ما يتفرع على التأويل الأول والثالث بأن القصة واقعة عين محتملة لما ذكر ولغيره، فلا ينهض الاستدلال بها على شئ مما ذكر، قال: ويحتمل أن يكون تحبيس خالد لأدراعه وأعتاده في سبيل الله إرصاده إياها لذلك وعدم تصرفه بها في غير ذلك، وهذا النوع حبس وإن لم يكن تحبيساً أي وقفاً. ولا يبعد أن يراد مثل ذلك بهذا اللفظ، فلا يتعين الاستدلال بذلك لما ذكر، فإنه استدلال بأمر محتمل غير متعين لما ادعى (فهي) أي صدقة العباس (علي) أي أنا ضامن مكتفل عنه، وإلا فالصدقة عليه حرام (ومثلها معها) أي مثل تلك الصدقة في كونها فريضة عام آخر لا في الأسان والمقادير، فإن ذلك يتغير بزيادة المال ونقصانه، ولا يعرف ذلك إلا بعد دخول عام آخر. قيل: معناه أنه أخر عنه زكاة عامين لحاجة بالعباس وتكفل بها عنه. قال الجزري في جامع الأصول (ج5:ص470) معناه أنه أوجبها عليه وضمنه إياها ولم يقبضها، وكانت ديناً على العباس، لأنه رأى به حاجة

ص: 27

إلى ذلك. وقال أبوعبيد: أرى – والله أعلم – أنه كان أخر عنه الصدقة عامين من أجل حاجة العباس، فإنه يجوز للإمام أن يؤخرها إذا كان ذلك على وجه النظر ثم يأخذها بعد كالذي فعله عمر في عام الرمادة، فلما أحيى الناس في العام المقبل أخذ منهم صدقة عامين. قال التوربشتي: ويخرج معنى قوله "فهي على ومثلها معها" على هذا التأويل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذا القول على صيغة التكفل بما يتوجه عليه من صدقة عامين، وهو تأويل حسن – انتهى. وقال في اللمعات: استمهل العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك عامين لحاجة كانت له فأمهله، ويجوز للإمام أن يؤخرها إذا كان لوجه النظر ثم يأخذها وقيل: معناه أنه صلى الله عليه وسلم التزم بإخراج ذلك عنه، ويرجحه قوله: إن عم الرجل صنو أبيه أي مثله، ففي هذا اللفظة إشعار بذلك، فإن كونه صنوا لاب يناسب أني حمل عنه أي هي علي إحساناً إليه وبرآً به وتفضيلاً له وتشريفاً. قال الخطابي: وقد يحتمل معنى الحديث أن يكون قد تحمل بالصدقة وضمن أداءها عنه لسنتين، ولذلك قال: إن عم الرجل صنو أبيه يريد أنه حقه في الوجوب كحق أبيه عليه، إذ هما شقيقان خرجا من أصل واحد، فأنا أنزهه عن منع الصدقة والمطل بها وأوديها عنه. وقيل: معنى علي عندي أي هي عندي قرض، لأنه صلى الله عليه وسلم استقرض منه زكاة عامين لاحتياجه لصرفها في مصارفها أو في المصارف الأخرى التي على بيت مال المسلمين، وقد ورد ذلك صريحاً فيما أخرجه الترمذي وغيره من حديث علي. وفي إسناده مقال. وفي الدارقطني من طريق موسى ابن طلحة. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنا كنا احتجنا فتعجلنا من العباس صدقة ماله سنتين، وهذا مرسل وروى الدارقطني أيضاً موصولاً بذكر طلحة، وإسناد المرسل أصح. وقيل: إن العباس عجل إليه صلى الله عليه وسلم صدقة عامين هذا العام الذي طلب العامل منه، والعام الذي بعده، وهو المراد بقوله:"ومثلها معها" ومعنى على عندي، أي قد وصل إلى زكاة العباس لعامين، فهي عندي. قال أبوعبيدة بعد ذكر ما يدل على أنه أخر زكاته عنه وما يدل على أنه تعجلها منه: ولعل الأمرين جميعاً قد كانا أي في وقتين. قال وكلا الوجهين: جائز إذا كان على وجه الإجتهاد، وحسن النظر من الإمام وقيل: يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أستسلف منه مالاً ينفقه في سبيل الله، ثم يتحسب له من الصدقة عند حلولها. قال الحافظ، وقيل المعنى استسلف منه قدر صدقة عامين، فأمر أن يقاص به من ذلك، واستبعد ذلك بأنه لو كان وقع لكان صلى الله عليه وسلم أعلم عمر بأنه لا يطالب العباس، وليس ببعيد- انتهى. وأعلم أنه وقع اختلاف في هذا اللفظ، ففي رواية وقع كما في الكتاب، وهو لفظ مسلم. وفي رواية فهي علي صدقة ومثلها معها، وهو لفظ البخاري، وفي رواية هي "عليه ومثلها معها" أي من غير ذكر الصدقة، ذكر هذا اللفظ البخاري، ووصله الدارقطني من طريق محمد بن إسحاق. وفي رواية "فهي له ومثلها معها" وهو لفظ ابن خزيمة، أخرجه من طريق موسى بن عقبة. أما معنى اللفظ الذي في المشكاة فقد تقدم الكلام عليه آنفاً. وأما معنى فهي عليه صدقة ومثلها معها

ص: 28

ثم قال: يا عمر! أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه)) . متفق عليه.

ــ

فقيل: إنه صلى الله عليه وسلم ألزم العباس بتضعيف صدقته ليكون أرفع لقدره وأنبه لذكره وأنفى للذم عنه، فضمير "عليه" للعباس. والمعنى هي، أي الصدقة المطلوبة من العباس، عليه صدقة أي واجبة ثابتة عليه لازمة له، سيتصدق بها ومثلها معها أي ويضيف إليها مثلها كرماً منه، وليس معناه أنه يقبضها لأن الصدقة عليه حرام لكونه من بني هاشم، أي وظاهر هذا الحديث أنها صدقة عليه ومثلها معها. فكأنه أخذها منه وأعطاها له. وقيل: هو محمول على ظاهره، وكان ذلك قبل تحريم الصدقة على بني هاشم. وقيل: المعنى أن أمواله كالصدقة عليه، لأنه استدان في مفاداة نفسه وعقيل، فصار من جملة الغارمين الذين لا تلزمهم الزكاة، فساغ له أخذ الزكاة بهذا الاعتبار. وقيل: يحتمل أن ضمير "عليه" لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المرافق لما قبل: إنه صلى الله عليه وسلم استسلف منه صدقة عامين أي فصدقة العباس على الرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون موافقاً لقوله في رواية مسلم: فهي علي. وأما معنى، فهي عليه ومثلها معها، فهو أنه أخرها عنه ذلك العام إلى عام قابل، فيكون عليه صدقة عامين، وقد تقدم هذا في كلام أبي عبيدة واضحاً. وقيل: المراد بقوله: فهي عليه أي على النبي صلى الله عليه وسلم، ليكون موافقاً لرواية مسلم بلفظ: فهي على قال البيهقي ورواية الحديث بلفظ: فهي علي أولى بالصحة، لموافقتها للروايات الصريحة بالاستسلاف والتعجيل-انتهى. وقال الحفاظ بعد ذكر حديث ابن مسعود: إن النبي صلى الله عليه وسلم تعجل من العباس صدقة سنتين: في اسناده محمد بن ذكوان وهو ضعيف، ولو ثبت لكان رافعاً للإشكال، ولرجح به سياق رواية مسلم على بقية الروايات. وأما معنى فهي له ومثلها معها أي فهي عليه. قال البيهقي: له بمعنى عليه، وهذه الرواية محمولة على سائر الروايات أي اللام هنا بمعنى على لتتفق الروايات. قال الحافظ: وهذا أولى، لأن المخرج واحد، وإليه مآل ابن حبان (أما شعرت) بفتح العين، و"الهمزة" استفهامية، و "ما" نافية أي ما علمت (أن عم الرجل صنو أبيه) بكسر الصاد وسكون النون أي مثله ونظيره، إذ يقال لنخلتين: نبتا من أصل واحد: صنوان، ولأحدهما صنو والمعنى أما تنبهت أنه عمى وأبى، فكيف تتهمه بما ينافي حاله، لعل له عذر أو أنت تلومه، قاله القاري: وقال المظهر: يعني عم الرجل وأبوه كلاهما من أصل واحد، يعني إذا علمت أنه وإني من أصل واحد فلا تقل له ما يتأذى منه محافظة لجانبي. وقال التوربشتي: أراد بأن أباه والعباس من أرومة واحدة وأنه منه بمثابة الأب، ويقال للمثل: الصنو أي مثل أبيه، فمن الأدب بل من الواجب أن لا يسمعه فيه ما يعود منه نقيصه عليه. وقال الجزري: المراد بهذا القول، إن حق العباس في الوجوب كحق أبيه صلى الله عليه وسلم، فأنا أنزهه عن منع الصداقة والمطل بها (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضًا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وأبوعبيد وابن خزيمة والبيهقي.

ص: 29

1794-

(8) وعن أبي حميد الساعدي، قال: ((استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد، يقال له ابن التبية، على الصدقة، فلما قدم، قال: هذا لكم، وهذا أهدي لي، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإني أستعمل رجالاً منكم على أمور مما ولاني الله، فيأتي أحدهم

ــ

1794-

بقوله: (استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً) أي جعله عاملاً وساعياً (من الأزد) بفتح الهمزة وسكون الزاي، آخره دال مهملة، أبوحي اليمن. وفي رواية: من الأسد بالسين المهملة بدل الزاي. وفي رواية: من بني الأسد. قال النووي: الأسد بإسكان السين، ويقال له (أي للرجل المذكور) الأزدي من أزدشنوة، ويقال لهم الأزد والأسد. وقال التيمي: الأسد والأزد يتعاقبان. وقال الرشاطي: هو الأزد بن الغوث ابن نبت بن ملكان بن زيد بن كهلان، ثم قال: يقال له: الأزد بالزاي والأسد بالسين (يقال له ابن اللتبية) بضم اللام وسكون المثناة الفوقية وكسر الموحدة ثم ياء النسب. وفي بعض الأصول بفتح المثناة. وقيل بفتح اللام والمثناة، والمشهور الأول. قيل: وهو الصواب، نسبة إلى بني لنب حي من الأزد، واسم ابن التبية عبد الله فيما ذكر ابن سعد وغيره. قال في الإصابة: عبد الله بن التبية بن ثعلبة الأزدي مذكور في حديث أبي حميد الساعدي في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على الصدقات يدعى ابن اللتبية- الحديث. وإنما يأتي في أكثر الروايات غير مسمى، وسماه ابن سعد والبغوي وابن أبي حاتم والطبراني وابن حبان والباوردي وغير واحد عبد الله- انتهى. قيل: واللتبية كانت أمه فعرف بها. قال الحافظ: ولم أقف على إسمها، ووقع في رواية ابن الاتبية بضم الهمزة بعدها مثناة فوقية ساكنة وتفتح فموحدة مكسورة فتحتية مشددة (على الصدقة) وفي رواية: على صدقات بني سليم بضم السين وفتح اللام. قال الحافظ: أفاد العسكري بأنه بعث على صدقات بني ذبيان، فلعله كان على القبيلتين. وفي رواية: بعث مصدقاً إلى اليمن (فلما قدم) أي المدينة بعد رجوعه من عمله وأمر عليه السلام من يحاسبه ويقبض منه (قال هذا لكم وهذا أهدي لي) بصيغة الماضي المجهول من الإهداء، أي قال لبعض ما معه من المال: هذا مال الزكاة، وقال: لبعضه الآخر هذا أعطانيه القوم هدية. وفي رواية أبي نعيم: فجعل يقول: هذا لكم وهذا لي حتى ميزه قال: يقولون من أين هذا لك؟ قال أهدي لي، فجاؤا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما أعطاهم (فخطب النبي صلى الله عليه وسلم) أي الناس ليعلمهم وليحذرهم من فعله، زاد في رواية قبل ذلك ألا جلست في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك عن كنت صادقا، ثم قام فخطب. وفي رواية: فصعد المنبر وهو مغضب (استعمل رجالاً) أي اجعلهم عمالا (مما ولاني الله) أي جعلني حاكماً فيه (فيأتي أحدهم) أي من العمال وروعي فيه الإجمال ولم يبين

ص: 30

فيقول: هذا لكم، وهذه هدية أهديت لي، فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه، فينظر أيهدى له، أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منه شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً له رغاء أو بقراً له خوار،

ــ

عينه ستراً وتكرماً عليه (وهذه) أنث لتأنيث الخبر، وهي (هدية أهديت لي) أعطيت لي أو أرسلت إلى هدية (فهلا) وفي رواية "ألا" بفتح الهمزة وتشديد اللام وهما بمعنى (جلس) أي لم لم يجلس (في بيت أبيه أو بيت أمه) قال القاري: أو للتنويع أو للشك، وهذا تحقير لشأنه في حد ذاته، يعني إنما عرض له التعظيم من حيث عمله- انتهى. وفي رواية للشيخين: في بيت أبيه وأمه. وفي رواية للبخاري: في بيت أبيه وبيت أمه أي بالواو بدل أو (فينظر) بالنصب جواب قوله"فهلا جلس" أي فيرى أو فينتظر، قاله القاري. وقال القسطلاني: الظاهر أن النظر ههنا من طريق العلم، وتوقف فيه ابن هشام في مغنية، وقال به أخرى، حكاه في المصابيح (أيهدي له) أي شيء في بيته الأصلي (أم لا) وفي رواية للبخاري: حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً. والمعنى لولا الإمارة والحكومة لم يهد له شيء، فهذا الذي أهدى له إنما هو لإمارته وعمله، وهو الرشوة، فلا يحل له. قال النووي: في الحديث بيان أن هدايا العمال حرام وغلول، لأنه خان في ولايته وأمانته، ولهذا ذكر في الحديث في عقوبته وحمله ما أهدى إليه يوم القيامة، كما ذكر مثله في الغال، وقد بين صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث السبب في تحريم الهدية عليه وأنها بسبب الولاية بخلاف الهدية لغير العامل، فإنها مستحبة، وحكم ما يقبضه العامل ونحوه باسم الهدية أنه يرده إلى مهديه، فإن تعذر فإلي بيت المال. وقال الخطابي: في الحديث بيان أن هدايا العمال سحت، وأنه ليس سبيلها سبيل سائراً الهدايا المباحة، وإنما يهدي إليه للمحاياة وليخفف عن المهدي ويسوغ له بعض الواجب عليه، وهو خيانة منه وبخس للحق الواجب عليه استيفاءه لأهله (لا يأخذ أحد منه) أي مال الصدقة (شيئاً) وفي رواية: لا ينال أحد منكم منهما (أي من الصدقة التي يقبضها) شيئاً. وفي أخرى: لا يأخذ أحد منكم منها شيئاً بغير حقه. وعند أبي عوانة: لا يغل منه شيئا (يحمله) حال أو استئناف بيان (على رقبته) أي تشهيراً وافتضاحاً. وفي رواية: على عنقه (إن كان) أي المأخوذ (بعيراً) أي يحمله على رقبته بحذف جواب الشرط لدلالة المذكور عليه (له رغاء) بضم الراء وبالغين المعجمة ممدوداً، يقال: رغا البعير إذا صوت أي إن كان المأخوذ بقراً يحمله على رقبته حال كونه له رغاء. وقال الطيبي: أي فله رغاء فحذف الفاء من الجملة الاسمية. وهو سائغ، لكنه غير شائع- انتهى. وعند أبي داود: إلا جاء يوم القيامة إن كان بعيراً فله رغاء، أو بقر فلها خوار (أو) كان المأخوذ (بقراً) يحله على رقبته حال كونه (له خوار) بضم الخاء المعجمة وفتح الواو المخففة بعدها ألف فراء، وهو صوت

ص: 31

أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطية، ثم قال: اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟)) .

ــ

البقر (أو) كان المأخوذ (شاة) يحملها على رقبته حال كونها (تيعر) بفتح الفوقية وسكون التحتية وفتح العين المهملة بعدها راء، ويجوز كسر العين أي تصيح وتصوت، واليعار صوت الشاة الشديد. قال في المفاتيح: يعني من سرق شيئاً في الدنيا من مال الزكاة أو غيرها يجيء يوم القيامة، وهو حامل لما سرق إن كان حيواناً له صوت رفيع ليعلم أهل العرصات حاله، فيكون فضيحته أشهر، كما قال تعالى:{ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} [آل عمران: 161] وقال التوربشتي: لما كان الرغاء والخوار من الأصوات التي يسمعها البعيد كما يسمعها القريب قال له رغاء وله خوار، فلما انتهى إلى الشاة جعل الصياح صفة لازمة لها ليدل على أنها لا تزال تيعر بين أهل الموقف ليكون ذلك أنكل في العقوبة وأبلغ في الفضيحة- انتهى. (ثم رفع يديه) أي وبالغ في رفعهما (حتى رأينا عفرة إبطيه) بضم العين المهملة وسكون الفاء وفتح الراء آخرة هاء تأنيث أي بياضهما المشرب بالسمرة والعفرة بياض ليس بخالص (اللهم هل بلغت) بالتشديد أي قد بلغت أو استفهام تقريري، والمراد بلغت حكم الله إليكم امتثالاً لقوله تعالى له:{بلغ} [المائدة: 67] وإشارة إلى ما يقع في القيامة من سؤال الأمم هل بلغهم أنبياءهم ما أرسلوا به إليهم (اللهم هل بلغت) وفي رواية لمسلم: قال اللهم هل بلغت مرتين ومثله لأبي داود ولم يقل مرتين. وفي رواية للبخاري: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت ثلاثاً. وفي أخرى له: ألا هل بلغت ثلاثاً أي أعادها ثلاث مرات وكرر هذا لتقرير وعظه على الناس ليكون أكثر وقعاً وتعظيماً وحفظاً في خواطرهم يعني الله تعالى شاهدي على تبليغ حال السرقة حتى لا ينكروا تبليغي يوم القيامة. وفي الحديث من الفوائد محاسبة العامل والمؤتمن، وأن المحاسبة تصحح أمانته، وهو أصل فعل عمر في محاسبة العمال. وفيه أن هدايا العمال تجعل في بيت المال، وأن العامل لا يملكها إلا أن يطيبها له الإمام كما في قصة معاذ، أنه عليه السلام طيب له الهداية، فأنفذها له أبوبكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ في الفتح: في الحديث منع العمال من قبول الهدية ممن له عليه حكم، ومحل ذلك إذا لم يأذن له الإمام في ذلك، لما أخرجه الترمذي من رواية قيس بن أبي حازم عن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقال: لا تصيبن شيئاً بغير أدنى، فإنه غلول. وقال المهلب: فيه أنها إذا أخذت تجعل في بيت المال، ولا يختص العامل منها إلا بما أذن له فيه الإمام، وهو مبني على أن ابن اللتبية أخذ منه ما ذكر أنه أهدى له وهو ظاهر السياق، ولكن لم أر صريحاً. ونحوه قول ابن قدامة في المغني (ج9 ص78) لما ذكر الرشوة والهدية التي ليس للحاكم قبولها فعليه ردها إلى أربابها، لأنه أخذها بغير حق، فأشبه المأخوذ بعقد فاسد. ويحتمل أن يجعلها في بيت المال لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر ابن اللتبية برد الهدية التي أهديت له على من أهداها. وقال ابن بطال: يلحق بهدية العامل الهدية لمن له دين ممن عليه الدين، ولكن له أن يحاسب بذلك من دينه

ص: 32

متفق عليه. قال الخطابي: وفي قوله: هلا جلس في بيت أمه أو أبيه، فينظر أيهدي إليه أم لا؟ دليل على أمر يتذرع به إلى محظور، فهو محظور وكل دخل في العقود فينظر هل يكون حكمه عند الانفراد كحكمه عند الاقتران أم لا؟

ــ

وفيه إبطال كل طريق يتوصل بها من يأخذ المال محاباة المأخوذ منه والانفراد بالمأخوذ. وقال ابن المنير: يؤخذ من قوله هلا جلس في بيت أبيه وأمه جواز قبول الهدية ممن كان يهاديه قبل ذلك كذا قال: ولا يخفى أن محل ذلك إذا لم يزد على العادة. وفيه أن من رأى متأولا أخطأ في تأويل يضر من أخذ به أن يشهر القول للناس، ويبين خطأه ليحذر من الاغترار به. وفيه جواز توبيخ المخطيء واستعمال المفضول في الإمارة وللإمامة والأمانة مع وجود من هو أفضل منه- انتهى كلام الحافظ (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة والهبة والإيمان والنذور والحيل والأحكام، ومسلم في المغازي وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص523) وأبوداود في الخراج، وأبوعوانة والبيهقي وغيرهم. وفي الباب عن عائشة عند البزار، وعن ابن عباس عند الطبراني في الكبير ذكرهما الهيثمي في مجمع الزوائد (ج3 ص85- 86) مع الكلام فيهما (قال الخطابي) صاحب معالم السنن (وفي قوله هلا جلس في بيت أمه أو أبيه) كذا في رواية أبي داود بتقديم الأم. قيل: هي رواية بالمعنى، والأصل ما وقع عند الآخرين بتقديم الأب وهو أيضاً مقتضي المقام، فإنه مشعر بزيادة الإكرام، فقوله في الحديث "أو بيت أمه" محمول على التنزل (فينظر أيهدي إليه أم لا) كذا في بعض نسخ أبي داود بلفظ: إليه مكان له، وهكذا وقع في بعض الروايات البخاري (دليل على أن كل أمر يتذرع) بالذال المعجمة على بناء المفعول من التذرع أي يتوسل (به إلى محظور فهو محظور) أي ممنوع ومحرم. ويدخل في ذلك القرض يجر المنفعة، والدار المرهونة يسكنها المرتهن بلا أجرة، وكراء والدابة المرهونة يركبها أو يرتفق بها من غير عوض، قاله القاري. وقال الشاه عبد العزيز الدهلوي في فتاواه: معنى قول الخطابي: أن المباح إذا جعله وسيلة إلى أمر محرم صار حراماً كقبول الهدية في قصة ابن اللتبية، فإنه في الأصل مباح، لكن لما جعل وسيلة إلى أخذ الزكاة بالمحاباة والمسامحة، وهو حرام صار حراماً، لأن للوسائل حكم المقاصد في الحرمة - انتهى. (وكل دخل) بفتحتين. هكذا وقع في بعض النسخ. وفي أكثرها دخيل على وزن كريم، وهكذا في معالم السنن "وكل" بالرفع. وقيل بالنصب أي كل عقد يدخل (في العقود) ويضم إلى بعضها كعقد البيع والبهة والإجارة والقرض والنكاح والرهن (ينظر) أي فيه (هل يكون حكمه عند الانفراد) أي قبل دخوله في ذلك العقد وانضمامه إليه (كحكمه عند الاقتران) والاجتماع والدخول (أم لا) فعلى الأول يصح وعلى الثاني لا يصح، كما إذا باع من أحد متاعاً يساوي عشرة بمائة ليقرضه ألفاً مثلا يدفع ربحه إلى ذلك الثمن، ومن رهن داراً بمبلغ كثير

ص: 33

هكذا في شرح السنة.

ــ

وآجره بشيء قليل، فقد ارتكب محظوراً. ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعض أمته يرتكبون هذا المحظور بالغ حيث قال: اللهم هل بلغت مرتين، كذا في المرقاة. وقال الشاه عبد العزيز الدهلوي: معنى قول الخطابي: أن من أدخل عقد في عقد آخر، كمن أدخل إعارة في رهن أو إجارة في رهن أو قرضاً في بيع ينظر هل يكون حكم ذلك العقد الداخل عند الانفراد عن العقد الذي أدخل فيه كحكمه في تعليق رضاء المتعاقدين به عند اقترانه به أم لا، فعلى الأول يصح، وعلى الثاني لا يصح، كما إذا باع متاعاً بثمن يسير ليقرضه ألفاً، فلو لم يتوقع البائع منفعة القرض لما باع بهذا القدر ولم يرض به، وكذا لو لم يكن رهن الدار بمبلغ كثير لم يرض الراهن بإجارتها بشيء يسير، ولم يرض بإعارتها فلا تصح هذه العقود، لأنها لم يتعلق بها الرضاء عند الانفراد بل عند الاقتران فقط، ولو كان بين الراهن والمرتهن صداقة تصح الإعارة أو الإجارة بشيء يسير، ولو لم ينعقد بينهما عقد الرهن صح الإعارة أو الإجارة، لأنهما مما يتعلق به الرضاء عند الانفراد لأجل الصدقة مثلاً فقط- انتهى. (هكذا) أي نقله البغوي عنه (في شرح السنة) وكلام الخطابي هذا معالم السنن (ج3 ص8) هكذا وفي قوله "ألا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدي إليه أم لا، دليل على أن كل أمر يتذرع به إلى محظور فهو محظور، ويدخل في ذلك القرض يجر المنفعة والدار المرهونة يسكنها المرتهن بلا كراء، والدابة المرهونة يركبها ويرتفق بها من غير عوض. وفي معناه باع درهماً ورغيفاَ بدرهمين، لأن معلوماَ أنه إنما جعل الرغيف ذريعة إلى أن يربح فضل الدرهم الزائد، وكذلك كل تلجئة وكل دخيل في العقود يجري مجرى ما ذكرناه على معنى قوله هلا قعد في بيت أمه حتى ينظر أيهدي إليه أم لا، فينظر في الشيء وقرينه إذا أفرد أحدهما عن الآخر، وفرق بين إقرانهما، هل يكون حكمه عند الانفراد كحكمه عند الاقتران والله أعلم" قلت: وإليه ذهب الإمام مالك، وقد بسط ذلك في المؤطا وذكر لذلك نظائر وأمثله في باب المراطلة من كتاب البيوع: منها أن الرجل يعطي صاحبه الذهب الجيد ويجعل معد ردئياً، ويأخذ منه ذهباً متوسطاً مثلاً بمثل. فقال: هذا لا يصلح، لأنه أخذ فضل جيده من الردي، ولو لاه لم يبايعه - انتهى. ملخصاً. وقد ذكره ابن رشد في البداية (ج2 ص164- 165) مع بيان اختلاف العلماء في ذلك فارجع إليه. ومنها أن رجلاً أراد أن يبتاع ثلاثة آصع من تمر عجوة بصاعين ومدين من تمر كبيس. فقيل له: هذا لا يصلح، فجعل صاعين من كبيس، وصاعاً من حشف، يريد أن يجيز بذلك بيعه، فذلك لا يصلح، لأنه لم يكن صاحب العجوة ليعطيه صاعاً من العجوة بصاع من حشف، ولكنه إنما أعطاه ذلك لفضل الكبيس. ومنها أن يقول الرجل للرجل: يعني ثلاثة آصع من البيضاء بصاعين ونصف من حنطة شامية، فيقول: هذا لا يصلح إلا مثلاً بمثل، فيجعل صاعين من

ص: 34

حنطة شامية وصاعاً من شعير (الشعير والحنطة عند مالك صنف واحد) يريد أن يجيز بذلك البيع، فهذا لا يصلح لأنه لم يكن ليعطيه بصاع من شعير صاعاً من حنطة بيضاء لو كان ذلك الصاع مفرداً، وإنما أعطاه إياه لفضل الشامية فهذا لا يصلح إلى آخر ما قال، وعليك أن ترجع لشرح هذه الأمثلة إلى شروح المؤطا للزرقاني والباجي وغيرهما وما قاله الخطابي في الكلية الأولى، فهو موافق لمذهب الحنفية ومذهب الشافعي وغيره، لأن من القواعد المقررة أن للوسائل حكم المقاصد، فوسيلة الطاعة طاعة ووسيلة المعصية معصية. وأما ما قاله من الكلية الثانية، فإنما يليق بمذهب من منع الحيل للتوسل بها إلى الخروج من الربا أو غيره، كمالك وأحمد. وأما أبوحنيفة والشافعي فهما يريان إباحة الحيل فلا ينظران إلى هذا الدخيل. واستدل لهما بما سيأتي في باب الربوا من حديث أبي سعيد وأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال لا والله يا رسول الله! إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً- انتهى. ونحوه حديث أبي سعيد في قصة بلال، وسيأتي أيضا في ذلك الباب. قال القاري: أفهم النبي صلى الله عليه وسلم أن كل عقد توسط في معاملة أخرجها عن المعاملة المؤدية إلى الربوا جائز؟ وقال أيضاً هذا الحديث (يعني حديث أبي سعيد في قصة بلال) كالذي قبله صريح في جواز الحيلة في الربوا الذي قال به أبو حنيفة والشافعي. وبيانه أنه صلى الله عليه وسلم أمره أن يبيع الردى بالدراهم ثم يشتري بها الجيد من غير أن يفصل في أمره بين كون الاشتراء من ذلك المشتري أو من غيره، بل ظاهر السياق أنه بما في ذمته، وإلا لبينه له- انتهى. وأجيب عن هذا الاستدلال بأن قوله صلى الله عليه وسلم بع الجمع مطلق لا عام، والمطلق لا يشمل، ولكن يشيع، فإذا عمل به في صورة سقط الاحتجاج به فيما عداها، ولا يصح الاستدلال به على جواز الشراء ممن باعه تلك السلعة بعينها، هذا ملخص ما ذكره الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين في الجواب عن هذا الاستدلال، وقد أطال فيه جداً وبسط الكلام أيضاً على سد الذرائع وإبطال الحيل، فعليك أن ترجع إليه وإلى إرشاد الفحول (ص17- 18) للشوكاني. والفروق للقرافي (ج2 ص39، 41) وقال القرطبي: استدل بهذا الحديث من لم يقل بسد الذرائع، لأن بعض صور هذا البيع يؤدي إلى بيع التمر بالتمر متفاضلاً، ويكون الثمن لغواً، قال: ولا حجة في هذا الحديث، لأنه لم ينص على جواز شراء التمر الثاني ممن باعه التمر الأول ولا يتناوله ظاهر السياق بعمومه، بل بإطلاقه، والمطلق يحتمل التقييد إجمالاً، فوجب الاستفسار، وإذا كان كذلك فتقييده بأن دليل كاف، وقد دل الدليل على سد الذرائع، فلتكن هذه الصورة ممنوعة- انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في هذا في الباب الربوا إنشاء الله تعالى.

ص: 35