الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن الصباح ضعيف.
{الفصل الثالث}
1805-
(19) عن أبي هريرة، قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبوبكر بعده، وكفر من كفر من العرب،
ــ
(ابن الصباح) بالمهملة المفتوحة والموحدة المشددة اليماني الأبناوي نزيل مكة (ضعيف) أي في الحديث والذي في الترمذي "يضعف في الحديث" قلت: ضعفه أبوحاتم وابن سعد وابن حبان وابن أبي عمار والساجي وسحنون الفقيه والدارقطني وغيرهم. وقال ابن حبان: كان ممن اختلط في آخر عمره. وقال أحمد: لا يساوي حديثه شيئاً مضطرب الحديث، وذكره العقيلي في الضعفاء وأورد عن علي بن المديني سمعت يحيى القطان وذكر عنده المثنى فقال لم نتركه من أجل حديث عمرو بن شعيب ولكن كان اختلاط منه، ذكره الحافظ في تهذيبه (ج10 ص36- 37) وقال في التقريب: ضعيف اختلط بآخره وكان عابداً- انتهى. وقال الترمذي: إنما روى هذا الحديث من هذا الوجه ورواه بعضهم عن عمرو بن شعيب عن عمر بن الخطاب موقوفاً عليه - انتهى. وقال ههنا سألت أحمد عن هذا الحديث فقال ليس بصحيح، ورواد الدارقطني من حديث أبي إسحاق الشيباني أيضا عن عمرو بن شعيب لكن راوية عند مندل بن علي وهو ضعيف ومن حديث العزرمي عن عمرو، والعزرمي ضعيف متروك، ورواه ابن عدى من طريق عبد الله بن علي وهو الأفريقي وهو ضعيف. قال الحافظ في بلوغ المرام: ولحديث عمرو شاهد مرسل عند الشافعي- انتهى. يعني ما رواه عن عبد المجيد بن رواد عن ابن جريج عن يوسف بن ماهك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة. قال البيهقي بعد روايته من طريق الشافعي: وهذا مرسل، إلا أن الشافعي أكده بالاستدلال بالخبر الأول أي حديث أبي سعيد عند الشيخين ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة - الحديث. يعني لأنه يدل بعمومه على إيجاب الزكاة في مال كل حر مسلم وبما روى عن الصحابة في ذلك. وقال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا المرسل: ولكن أكده الشافعي بعموم الأحاديث الصحيحة في إيجاب الزكاة مطلقاً.
1805-
قوله: (لما توفي) بصيغة المجهول (واستخلف) بصيغة المجهول أيضاً أي جعل خليفة (بعده) أي بعد وفاته صلى الله عليه وسلم (وكفر من كفر من العرب) بعض بعبادة الأوثان، وبعض بالرجوع إلى إتباع مسيلمة وهم أهل اليمامة وغيرهم. واستمر بعض على الإيمان إلا أنه منع الزكاة، وتأول أنها خاصة بالزمن النبوي. قال الحافظ
في الفتح قال القاضي عياض وغيره كان أهل الردة ثلاث أصناف: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان. وصنف تبعوا مسيلمة والأسود العنسي، وكان كل منهما ادعى النبوة قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم فصدق مسيلمة أهل اليمامة وجماعة غيرهم، وصدق الأسود أهل صنعاء وجماعة غيرهم، فقتل الأسود قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بقليل، وبقي بعض من آمن به فقاتلهم عمال النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر، وأما مسيلمة فجهز إليه أبوبكر الجيش، وعليهم خالد بن وليد فقتلوه. وصنف الثالث استمروا على الإسلام لكنهم جحدوا الزكاة وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي صلى الله عليه وسلم وهم الذين ناظر عمر أبابكر في قتالهم كما وقع في حديث الباب. قال الخطابي في المعالم (ج2 ص4) : وهؤلاء أي الصنف الثالث في الحقيقة أهل بغي وإنما لم يدعوا بهذا الاسم في ذلك الزمان خصوصاً لدخولهم في غمار أهل الردة فأضيف الاسم في الجملة إلى الردة إذ كانت أعظم الأمرين وأهمهما وأرخ مبدأ قتال أهل البغي بأيام علي بن أبي طالب إذ كانوا متفردين في زمانه لم يختلطوا بأهل شرك وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح بالزكاة ولا يمنعها إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي وقبضوا على أيديهم في ذلك كبني يربوع فإنهم قد جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر فمنعهم مالك بن نويرة عن ذلك وفرقها فيهم- انتهى. وقال أبومحمد بن حزم في الملل والنحل (ج2 ص79- 80) : انقسمت العرب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم. أربعة أقسام: طائفة ثبتت على ما كانت عليه في حياته من الإسلام ولم تبدل شيئاً ولزمت طاعة أبي بكر وهم الجمهور والأكثر. وطائفة بقيت على الإسلام أيضاً إلا أنهم قالوا نقيم الصلاة وشرائع الإسلام إلا إنا لا نؤدي الزكاة إلى أبي بكر ولا نعطي طاعة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان هؤلاء كثيراً إلا أنهم دون من ثبت على الطاعة أي قليل بالنسبة إلى الطائفة الأولى وطائفة ثالثة أعلنت بالكفر والردة كأصحاب طليحة وسجاح وسائر من ارتدوهم قليل بالإضافة إلى من قبلهم إلا أنه كان في كل قبيلة من المؤمنين من يقاوم المرتدين. وطائفة رابعة توقفت فلم تدخل في أحد من الطوائف المذكورة ولم تطعهم وبقوا يتربصون لمن تكون الغلبة فأخرج إليهم أبوبكر البعوث وكان فيروز ومن معه غلبوا على بلاد الأسود وقتلوه وقتل مسيلمة باليمامة وعاد طليحة إلى الإسلام وكذا سجاح ورجع غالب من كان ارتد إلى الإسلام فلم يمض عام واحد حتى راجع الجميع الإسلام أولهم عن آخرهم وإنما كانت نزعة من الشيطان كنار اشتعلت فأطفأ الله للوقت- انتهى. قال الحافظ وإنما أطلق الكفر ليشمل الصنفين فهو في حق من جحد الزكاة حقيقة وفي حق الآخرين أي الذين منعوا الزكاة مع الاعتراف مجاز تغليباً وإنما قاتلهم الصديق ولم يعذرهم بالجهل؛ لأنهم نصبوا القتال فجهز إليهم من دعاهم إلى الرجوع فلما أصروا قاتلهم - انتهى. قال الخطابي في المعالم (ج2 ص5) زعم زاعمون من الروافض أن أبابكر أول من سمي المسلمين
كفاراً وأن القوم كانوا متأولين في منع الصدقة وكانوا يزعمون أن الخطاب في قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقةً تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} [التوبة: 103] خطاب خاص في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره وأنه مقيد بشرائط لا توجد فيمن سواه وذلك أنه ليس لأحد من التطهير والتزكية والصلاة على المتصدق ما للنبي صلى الله عليه وسلم ومثل هذه الشبهة إذا وجد كان مما يعذر فيه أمثالهم ويرفع به السيف عنهم فكان ما جرى من أبي بكر عليهم عسفاً وسوء سيرة. قلت: (قائله الخطابي) وهؤلاء قوم لا خلاق لهم في الدين وإنما رأس مالهم البهت والتكذيب والوقيعة في السلف وقد بينا أن الذين نسبوا إلى الردة كانوا أصنافاً منهم من ارتد عن الملة ودعا إلى نبوة مسليمة وغيره، ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وأنكر الشرائع كلها. وهؤلاء الذين سماهم الصحابة كفاراً ولذلك رأى أبوبكر سبى ذراريهم وساعده على ذلك أكثر الصحابة، واستولد علي بن أبي طالب جارية من سبى بني حنيفة فولدت له محمد بن علي الذي يدعى ابن الحنفية ثم لم ينقض عصر الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يسبي. فأما مانعوا الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فإنهم أهل بغي ولم يسموا على الانفراد عنهم كفاراً، وإن كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدين. وذلك أن الردة اسم لغوي وكل من انصرف عن أمر كان مقبلاً إليه فقد ارتد عنه، وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق فانقطع عنهم اسم الثناة والمدح بالدين. وعلق بهم الاسم القبيح لمشاركتهم القوم الذين كان ارتدادهم حقاً، وفي أمر هؤلاء المانعين للزكاة عرض الخلاف، ووقعت الشبهة لعمر لا في الصنفين الأولين أي الذين ارتدوا حقيقة. قال الخطابي: وأما قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم} [التوبة: 103] وما أدعوا من وقوع الخطاب فيه خاصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خطاب كتاب الله تعالى على ثلاثة أوجه: خطاب عام، كقوله:{يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} [المائدة: 6] الآية. وكقوله: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} [البقرة: 183] وخطاب خاص للنبي صلى الله عليه وسلم لا يشركه في ذلك غيره وهو ما اُبَيْنَ عن غيره بسمة التخصيص وقطع التشريك كقوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلةً لك} [الإسراء: 79] وكقوله: {خالصةً لك من دون المؤمنين} [الأحزاب: 50] وخطاب مواجهة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو وجميع أمته في المراد به سواه كقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} [الإسراء: 78] وقوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98] وكقوله: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} [النساء: 102] ونحو ذلك من خطاب المواجهة فكله عام للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته غير مختص به صلى الله عليه وسلم بل تشركه الأمة في جميع ذلك، ومن هذا النوع قوله تعالى:{خذ من أموالهم صدقة} وإنما الفائدة في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو الداعي إلى الله سبحانه والمبين عنه معنى ما أراده فقدم اسمه في
الخطاب ليكون سلوك الأمة في شرائع الدين على حسب ما ينهجه ويبينه لهم، قال: وأما تطهير والتزكية والدعاء من الإمام لصاحب الصدقة فإن الفاعل لها قد ينال ذلك كله بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيها وكل ثواب موعود على عمل من الطاعات كان في زمانه حياته صلى الله عليه وسلم فإنه باق غير منقطع بوفاته، وقد يستحب للإمام ولعامل الصدقة أن يدعو للمتصدق بالنماء والبركة في ماله ويرجى أن الله يستجيب له ذلك ولا يخيب مسألته فيه. قال الخطابي: ومن أنكر فرض الزكاة في هذا الزمان وامتنع من أدائها إلى الإمام لم يكن حكمه حكم أهل البغي، بل كان كافراً بإجماع المسلمين. لأنه قد شاع اليوم دين الإسلام واستفاض علم وجوب الزكاة حتى عرفه الخاص والعام، واشترك فيه العالم والجاهل فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كل في من أنكر شيئاً مما أجمعت عليه الأمة من أمور الدين إذا كان علمه منتشراً كالصلوات الخمس وصيام شهر رمضان والاغتسال من الجنابة وتحريم الخمر، والزنا ونكاح ذوات المحارم ونحوها من الأحكام إلا أن يكون رجل حديث عهد بالإسلام لا يعرف حدوده فإذا أنكر شيئاً منه جهلاً به لم يكفر وكان سبيله سبيل أولئك القوم في تبقية اسم الدين عليه، فإما ما كان الإجماع فيه معلوماً من طريق علم الخاصة كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وإن قاتل العمد لا يرث وإن للجدة السدس، وما أشبه ذلك من الأحكام فإن من أنكرها لا يكفر بل يعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة وتفرد الخاصة بها. قال الخطابي: وإنما عرض الوهم في تأويل هذا الحديث من رواية أبي هريرة: ووقعت الشبهة فيه لمن تأوله على الوجه الذي حكيناه عنهم لكثرة ما دخله من الحذف والاختصار وذلك؛ لأن القصد لم يكن به سياق الحديث على وجهه، وذكر القصة في كيفية الردة منهم وإنما قصد به حكاية ما جرى بين أبي بكر وعمر وما تنازعاه من الحجاج في استباحة قتالهم ويشبه أن يكون أبوهريرة إنما لم يعن بذكر القصة وسوقها على وجهها كلها اعتماداً على معرفة المخاطبين بها إذ كانوا قد علموا وجه الأمر وكيفية القصة في ذلك فلم يضر ترك إشباع البيان مع حصول العلم عندهم به انتهى كلام الخطابي. وحاصله أن عمر إنما أراد بقوله الآتي تقاتل الناس، الصنف الأخير فقط. أي الذين منعوا الزكاة وتأولوا قوله تعالى:{خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103] لأنه لا يتردد في جواز قتال الذين رجعوا إلى عبادة الأوثان، كما أنه لا يتردد في قتال غيرهم من المرتدين وكأنه لم يستحضر من الحديث إلا القدر الذي ذكره وقد حفظ غيرهم (كابن عمر عند الشيخين وأنس عند أبي داود والنسائي) في الصلاة والزكاة معاً، وقد رواه عبد الرحمن بن يعقوب عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ: يعم الشريعة حيث قال فيها: ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإن مقتضى ذلك أن من جحد شيئاً مما جاء به صلى الله عليه وسلم ودعي إليه فامتنع ونصب القتال أنه يجب قتاله وقتله إذا أصر وإنما عرضت الشبهة لما دخله من الاختصار وكان راويه لم يقصد سياق الحديث على وجهه وإنما أراد سياق مناظرة أبي بكر وعمر واعتمد على معرفة السامعين بأصل الحديث.
قال عمر بن الخطاب: لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله؟
ــ
قال الحافظ: وفي هذا الجواب نظر؛ لأنه لو كان عند عمر في الحديث حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ما استشكل قتالهم للتسوية في كون غاية القتال كل من التلفظ بالشهادتين وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة، قال عياض: حديث ابن عمر نص في قتال من لم يصل ولم يزك كمن لم يقر بالشهادتين، واحتجاج عمر على أبي بكر، وجواب أبي بكر دل على أنهما لم يسمعا في الحديث الصلاة الزكاة إذ لو سمعه عمر لم يحتج على أبي بكر ولو سمعه أبوبكر لرد به على عمر، ولم يحتج إلى الاحتجاج بعموم قوله إلا بحقه- انتهى. قلت: في كلام عياض الأخير نظر، وسيأتي التنبيه عليه (كيف تقاتل الناس) أي الذين منعوا الزكاة مع الإقامة على أصل الدين (أمرت) بضم الهمزة مبنياً للمفعول أي أمرني الله (حتى يقولوا لا إله إلا الله) كناية عن الإسلام. قال الخطابي وغيره: المراد بقوله حتى يقولوا لا إله إلا الله: إنما هم أهل الأوثان دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون لا إله إلا الله ثم إنهم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف حتى يقروا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أويعطوا الجزية (فمن قال لا إله إلا الله) يعني كلمة الإيمان وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله للإجماع على أنه لا يعتد في الإسلام بتلك وحدها (عصم) بفتح الصاد أي منع وحفظ (مني) أي من تعرضي أنا ومن اتبعني (ماله ونفسه) فلا يجوز هدر دمه واستباحة ماله بسبب من الأسباب (إلا بحقه) أي بحق الإسلام من نحو قصاص أو حد أو غرامة متلف ونحو ذلك. قال الطيبي: أي لا يحل لأحد أن يتعرض لماله ونفسه بوجه من الوجوه إلا بحقه، أي بحق هذا القول، أو بحق أحد المذكورين. وقال الحافظ: إن كان الضمير في قوله بحقه للإسلام فمهما ثبت أنه من حق الإسلام تناوله ولذلك اتفق الصحابة على قتال من جحد الزكاة- انتهى. قلت: ورد حديث ابن عمر المتقدم في كتاب الإيمان بلفظ: إلا بحق الإسلام فالظاهر أن ضمير بحقه في حديث الباب للقول المذكور الذي هو كناية عن الإسلام (وحسابه على الله) أي فيما يستسر به دون ما يخل به من الأحكام الواجبة عليه في الظاهر. قال الطيبي: يعني من قال لا إله إلا الله، وأظهر الإسلام نترك مقاتلته ولا نفتش باطنه، هو مخلص أم لا؟ فإن ذلك إلى الله تعالى وحسابه عليه. قال الخطابي: فيه دليل على أن الكافر المستسر بكفره لا يتعرض له إذا كان ظاهره الإسلام ويقبل توبته إذا أظهر الإنابة من كفر علم بإقراره أنه كان يستسر به وهو قول أكثر العلماء، وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل، ويحكى ذلك أيضاً عن أحمد بن حنبل - انتهى. وقال العيني في هذا الحديث: قبول توبة الزنديق ولأصحاب الشافعي في الزنديق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر ويعلم ذلك بأن يطلع الشهود على كفر كان يخفيه أو علم بإقراره خمسة
فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال،
ــ
أوجه: أحدها: قبول توبته مطلقاً وهو الصحيح المنصوص عن الشافعي والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: أفلا شققت عن قلبه. والثاني: وبه قال مالك لا تقبل توبته ويتحتم قتله لكنه إن كان صادقاً في توبته نفعه ذلك عندالله تعالى، وعن أبي حنيفة روايتان كالوجهين. والثالث. إن كان من الدعاة إلى الضلال لم تقبل توبتهم وتقبل توبة عوامهم. والرابع. إن أخذ ليقتل فتاب لم تقبل وإن جاء تائباً ابتداء وظهرت مخايل الصدق عليه قبلت، وحكى هذا القول عن مالك. والخامس: إن تاب مرة قبلت منه وإن تكررت منه التوبة لم تقبل، وقال صاحب التقريب: روى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في الزنديق الذي يظهر الإسلام، قال استيتب كالمرتد، وقال أبويوسف مثل ذلك زماناً فلما رأى ما يصنع الزنادقة من إظهار الإسلام ثم يعودون قال: إن أتيت بزنديق أمرت بقتله ولم استتب فإن تاب قبل أن أقتله خليته، وروى سليمان بن شعيب عن أبيه عن يوسف عن أبي حنيفة في نوادر له قال قال أبوحنيفة: اقتلوا الزنديق المستتر فإن توبته لا تعرف- انتهى. (والله لأقاتلن من فرق) بتشديد الراء وقد تخفف (بين الصلاة والزكاة) بأن أقر بالصلاة وأنكر الزكاة جاحداً أو مانعاً مع الاعتراف، وإنما أطلق في أول القصة الكفر ليشمل الصنفين فهو في حق من جحد حقيقة وفي حق الآخرين مجاز تغليباً وإنما قاتلهم الصديق ولم يعذرهم بالجهل؛ لأنهم نصبوا القتال فجهز إليهم من دعاهم إلى الرجوع فلما أصروا قاتلهم، قال المازري: ظاهر السياق إن عمر كان موافقاً على قتال من جحد الصلاة فالزمه الصديق بمثله في الزكاة لورودهما في الكتاب والسنة مورداً واحداً، كذا في الفتح. (فإن الزكاة حق المال) قال القسطلاني: احتج عمر في هذه القصة بظاهر ما استحضره مما رواه من قبل أن ينظر إلى قوله إلا بحقه ويتأمل شرائطه، فقال له أبوبكر: إن الزكاة حق المال كما أن الصلاة حق البدن أي فدخلت في قوله إلا بحقه فقد تضمنت القضية عصمة دم ومال معلقة باستيفاء شرائطها والحكم المعلق بشرطين لا يحصل بأحدهما والأخر معدوم فكما لا تتناول العصمة من لم يؤد حق البدن أي الصلاة، كذلك لا تتناول العصمة من لم يؤد حق المال أي الزكاة. وإذا لم تتناولهم العصمة بقوا في عموم قوله: أمرت أن أقاتل الناس فوجب قتالهم حينئذٍ، وهذا من لطيف النظر أن يقلب المعترض على المستدل دليله فيكون أحق به. وكذلك فعل أبوبكر فسلم له عمر ثم قاسه على الممتنع من الصلاة؛ لأنها كانت بالإجماع من رأى الصحابة فرد المختلف فيه إلى المتفق عليه وفيه دلالة على أن العمرين لم يسمعا من الحديث الصلاة والزكاة كما سمعه غيرهما أو لم يستحضراه إذ لو كان ذلك لم يحتج عمر على أبي بكر ولو سمعه أبوبكر لرد به على عمر ولم يحتج إلى الاحتجاج بعموم قوله: إلا بحقه لكن يحتمل أنه سمعه واستظهر بهذا الدليل النظري. وقال الطيبي: كان عمر حمل قوله: بحقه على غير الزكاة فلذلك صح استدلالة بالحديث فأجاب أبوبكر بأنه شامل للزكاة أيضاً أو ظن عمر أن القتال إنما كان لكفرهم لا لمنعهم الزكاة فاستشهد بالحديث فأجابه الصديق بأني ما أقاتلهم لكفرهم بل لمنعهم الزكاة- انتهى. وقال الحافظ: قوله فإن الزكاة حق
والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ــ
المال يشير إلى دليل منع التفرقة التي ذكرها أن حق النفس الصلاة، وحق المال الزكاة فمن صلى عصم نفسه ومن زكى عصم ماله فإن لم يصل قوتل على ترك الصلاة ومن لم يزك أخذت الزكاة من ماله قهراً وإن نصب الحرب لذلك قوتل. وهذا يوضح أنه لو كان سمع الحديث ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة لما احتاج إلى هذا الاستنباط لكنه يحتمل أن يكون سمعه واستظهر بهذا الدليل النظري - انتهى. قلت: هذا الاحتمال الأخير هو الراجح عندي لما روى النسائي والحاكم والبيهقي من حديث أنس قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، فقال عمر يا أبابكر كيف تقاتل العرب: فقال أبوبكر: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وإني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة- الحديث. ورجاله رجال الصحيح إلا عمران أبوالعوام وهو صدوق بهم كما في التقريب، وقال النسائي عمران القطان ليس بالقوى في الحديث، وهذا الحديث خطأ والذي قبله الصواب حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد غير أن الشيخين لم يخرجا عن عمران القطان وليس لهما حجة في تركه فإنه مستقيم الحديث، وكذا قال الذهبي في تلخيصه: وقد ظهر بهذا وبما تقدم قبله أن أبابكر الصديق احتج على عمر بالنص الصريح وبعموم قوله صلى الله عليه وسلم إلا بحقه وبمقايسة الزكاة بالصلاة وبكونهما فقرينتين في كتاب الله تعالى (والله لو منعوني عناقاً) بفتح العين وتخفيف النون وهي الأنثى من الأولاد المعز دون السنة (كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الخطابي: فيه دليل على وجوب الصدقة في السخال والفصلان والعجاجيل وإن واحدة منها تجزيء عن الواجب في الأربعين، ومنها إذا كانت كلها صغاراً ولا يكلف صاحبها مسنة، وفيه دليل على أن حول النتاج حول الأمهات، ولو كان يستأنف بها الحول لم يوجد السبيل إلى أخذ العناق. وقال عياض: احتج بذلك من يجيز أخذ العناق في زكاة الغنم إذا كانت كلها سخالاً، وهو أحد الأقوال. قال النووي: هو محمول على ما إذا كانت الغنم صغاراً كلها بأن ماتت أمهاتها في بعض الحول، فإذا حال حول الأمات زكى السخال الصغار بحول الأمهات سواء بقي من الأمهات شيء أم لا، هذا هو الصحيح المشهور، ويتصور ذلك أيضاً فيما إذا مات معظم الكبار وحدثت صغار فحال حول الكبار على بقيتها وعلى الصغار- انتهى. قلت: اختلف العلماء فيما إذا كانت الغنم سخالاً كلها أو كانت الإبل فصلاناً والبقر عجاجيل. فقال مالك: عليه في الغنم جذعة أو ثنية، وعليه في الإبل والبقر ما في الكبار منها، وهو قول زفر وأبي ثور وأبي عبيد. وقال أبويوسف: والأوزاعي والشافعي يؤخذ منها إذا كانت صغاراً من كل صنف واحد منها، وهو مذهب البخاري في الغنم حيث ترجم لحديث الباب بقوله: "باب أخذ العناق في الصدقة. وقال أبوحنيفة ومحمد: لا شيء في الفصلان ولا في العجاجيل ولا في صغار الغنم لا منها ولا من غيرها، وهذا آخر
أقوال أبي حنيفة، وكان يقول أولاً بما ذهب إليه مالك، ثم رجع وقال بما ذهب إليه أبويوسف والشافعي، ثم رجع وقال ليس في الفصلان والعجاجيل والسخال صدقة. قال الخطابي: وهذا أظهر أقاويله، وإلى هذا ذهب أحمد بن حنبل، وحكى ذلك عن سفيان الثوري. قلت: الحنابلة موافقون في ذلك للشافعي. قال الموفق في المغنى: السخلة لا تؤخذ في الزكاة لقول عمر لساعيه: اعتد عليهم بالسخلة يروح بها الراعي على يديه ولا تأخذها منهم ولا نعلم فيه خلافاً إلا أن يكون النصاب كله صغاراً فيجوز أخذ الصغيرة في الصحيح من المذهب، وإنما يتصور ذلك بأن يبدل كباراً بصغار في أثناء الحول أو يكون عنده نصاب من الكبار فتوالد نصاب من الصغار ثم تموت الأمهات وتحول الحول على الصغار. وقال أبوبكر: لا يؤخذ أيضاً إلا كبيرة تجزيء في الأضحية، وهو قول مالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما حقنا في الجذعة والثنية" ولنا قول الصديق رضي الله عنه"والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها "فدل على أنهم كانوا يؤدون العناق، ولأنه مال تجب فيه الزكاة من غير اعتبار قيمته، فيجب أن يأخذ من عينه كسائر الأموال. والحديث محمول على ما فيه كبار- انتهى. واستدل لأبي حنيفة ومحمد بأن النصاب إنما يعرف بالنص، والنص ورد بإسم الإبل والبقر والغنم، وهذه الاسامي لا تتناول الفصلان والعجاجيل والحملان أي السخال، فلم يثبت كونها نصاباً وأجاب المانعون عن قول أبي بكر الصديق بأنه خرج على طريق التمثيل لا التحقيق أي لو وجبت هذه ومنعوها لقاتلتهم أو على المبالغة دون التحقيق بدليل ما في الرواية الأخرى "عقالاً" مكان "عناقاً" فإن العقال ليس من الصدقة، كما أن العناق ليس من سن الزكاة، وبأن المراد بالعناق فيه الجذعة والثنية مجازاً، فلا يستلزم أخذ الصغار ولو سلم جاز أخذها بطريق القيمة لا أنها هي نفس الواجب، وبأن معناه كانوا يؤدون عنها ما يجوز أداءه ويشهد له قول عمر اعدد عليهم السخلة ولا تأخذها. والقول الراجح عندي هو ما ذهب إليه الشافعي وأبويوسف لظاهر قول أبي بكر الصديق قال ابن رشد وهو الأقيس- انتهى. وما ذكره المانعون للجواب عن قول الصديق تكلف كله لا يخفى ذلك على من تأمل وانصف، هذا وقوله:"عناقاً" إنما هو للبخاري ولفظ مسلم "عقالاً" بكسر العين بدل العناق وكذا عند الترمذي والبخاري في رواية. ووقع عند أبي داود والنسائي كلا اللفظين، واختلف في رواية العقال فقيل هي وهم، وإلى ذلك أشار البخاري في "باب الإقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كتاب الاعتصام، وقيل: الرواية محفوظة، ولها معنى متجه وجرى النووي على طريقته. فقال: هو محول على أن أبابكر قالها مرتين. مرة عناقاً ومرة عقالاً، فروى عنه اللفظان. قال الحافظ: هو بعيد مع اتحاد المخرج والقصة، واختلف في المراد بالعقال، قال في النهاية أراد بالعقال: الحبل الذي يعقل به البعير الذي كان يؤخذ في الصدقة، لأن على صاحبها التسليم وإنما يقع القبض بالرباط. وقيل: أراد ما يساوي عقالاً من حقوق الصدقة. وقيل: إذا أخذ المصدق أعيان الإبل،
لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلا رأيت، إن الله شرح صدر أبي بكر للقتال،
ــ
قيل أخذ عقالاً، وإذا أخذ أثمانها قيل أخذ نقداً. (كما أنشد أبوالعباس النحوي) لبعضهم:
أتانا أبوالخطاب يضرب طبله فرد ولم يأخذ عقالً ولا نقداً
وقيل أراد بالعقال صدقة العام، يقال أخذ المصدق عقال هذا العام أي أخذ منهم صدقته، وبعث فلان على عقال بني فلان إذا بعث على صدقاتهم، واختاره أبوعبيد. وقال: هي أشبه عندي بالمعنى: وقال الخطابي: إنما يضرب المثل في مثل هذا بالأقل لا بالأكثر وليس بسائر في لسانهم إن العقال صدقة عام وفي أكثر الروايات عناق وفي أخرى جدي. وقيل: إذا كان من عرض التجارة فبلغ مع غيره قيمة النصاب يجب فيه، وجاء في الحديث على القولين فمن الأول. حديث عمر أنه قال: يأخذ مع كل فريضة عقالاً ورداء، وحديث محمد بن مسلمة إنه كان يعمل على الصدقة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يأمر الرجل إذا جاء بفريضتين أن يأتي بعقاليهما وقرانيهما، ومن الثاني. حديث عمر أنه آخر الصدقة عام الرمادة فلما أحيا الناس بعث عامله فقال: اعقل عنهم عقالين فاقسم فيهم عقالاً وأتى بالأخر يريد صدقة عامين- انتهى. وقد بسط الحافظ والنووي الكلام في تفسير العقال. وقال النووي: ذهب كثيرون من المحققين إلى أن المراد بالعقال، الحبل الذي يعقل به البعير، وهذا القول يحكي عن مالك وابن أبي ذئب وغيرهما، وهو اختيار صاحب التحرير وجماعة من حذاق المتأخرين، قال: وهذا الذي اختاره وهو الصحيح الذي لا ينبغي غيره. قيل: ولم يزد عينه، وإنما أراد قدر قيمته. قال النووي: وهذا ظاهر متصور في زكاة النقد وفي المعدن والركاز والمعشرات وزكاة الفطر، وفيما لو وجبت سن فأخذ الساعي دونه، وفيما إذا كانت الغنم سخالاً فمنع واحدة وقيمتها عقال (لقاتلهم على منعها) أي لأجل منعها أو على ترك أدانها إلى الأمام وهذا ظاهر في أنه قاتلهم على ترك أداءهم الزكاة إلى الإمام لا على إنكار فرضيتها وجحدها. وقال الخطابي: فيه دليل على أن الردة لا تسقط عن المرتد الزكاة الواجبة في أمواله، وتعقبه الحافظ: بأن المرتد كافر والكافر لا يطالب بالزكاة وإنما يطالب بالإيمان، وليس في فعل الصديق حجة لما ذكر، وإنما فيه قتال من منع الزكاة والذين تمسكوا بأصل الإسلام ومنعوا الزكاة بالشبهة التي ذكروها لم يحكم عليهم بالكفر قبل إقامة الحجة. وقد اختلف الصحابة فيهم بعد الغلبة عليهم هل تغنم أموالهم وتسبي ذراريهم كالكفار أو لا كالبغاة، فرأى أبوبكر الأول، وعمل به، وناظره عمر في ذلك، وذهب إلى الثاني، ووافقه غيره في خلافته على ذلك واستقر الإجماع عليه في حق من جحد شيئاً من الفرائض بشبهه فيطالب بالرجوع، فإن نصب القتال قوتل وأقيمت عليه الحجة فإن رجع وإلا عومل معاملة الكافر حينئذٍ- انتهى. (فوالله ما هو) أي الشأن (إلا رأيت) أي علمت (إن الله شرح صدر أبي بكر للقتال) أي فتح ووسع له، قال النووي: معناه علمت أنه جازم بالقتال لما ألقي الله سبحانه وتعالى في قلبه من الطمأنينة
فعرفت أنه الحق)) . متفق عليه.
1806-
(20) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكون كنز أحدكم يوم القيامة شجاعاً أقرع، يفر منه صاحبه، وهو يطلبه حتى يلقمه أصابعه)) . رواه أحمد.
ــ
لذلك واستصوا به ذلك. قال الطيبي: المستثنى منه غير مذكور أي ليس الأمر شيئاً من الأشياء إلا علمي بأن أبابكر محق، فهذا الضمير يفسره ما بعده نحو قوله تعالى:{إن هي إلا حياتنا الدنيا} [الأنعام: 29](فعرفت أنه الحق) أي ظهر له من صحة احتياجه لا أنه قلده في ذلك، وهذا انصاف منه رضي الله عنه ورجوع إلى الحق عند ظهوره. وفي هذا الحديث فوائد كثيرة غير ما تقدم، ذكرها الحافظ والنووي من شاء الوقوف عليها رجع إلى الفتح وشرح مسلم للنووي (متفق عليه) واللفظ للبخاري، فقد تقدم إن مسلما رواه بلفظ "عقالاً" مكان "عناقاً" والحديث أخرجه البخاري في الزكاة وفي استنابة المرتدين وفي الاعتصام، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي في الإيمان، وأبوداود في الزكاة والنسائي فيه وفي الجهاد وفي المحاربة والبيهقي وابن حبان وغيرهم، وأخرج مالك في الموطأ طرفا من قول أبي بكر قال مالك: بلغه أن أبابكر الصديق. قال: لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه لم يزد على هذا.
1806-
قوله: (يكون كنز أحدكم) أي المال المكنوز أي المجموع أو المدفون من غير إخراج الزكاة (شجاعاً) أي يصير حية وينقلب ويتصور (يفر منه صاحبه) أي صاحب الكنز أو صاحب الشجاع، والإضافة لأدنى ملابسة (وهو) أي الشجاع (يطلبه) ولا يتركه (حتى يلقمه) من الألقام (أصابعه) لأن المانع الكانز يكتسب المال بيديه. قال السيد جمال الدين: وهو يحتمل احتمالين. أحدهما: أن يلقم الشجاع أصابع صاحب المال على أن يكون أصابعه بدلاً من الضمير، وثانيهما: أن يلقم صاحب المال الشجاع أصابع نفسه أي يجعل أصابع نفسه لقمة الشجاع تأمل - انتهى. قال الطيبي: ذكر فيما تقدم أن الشجاع يأخذ بلهزمتيه أي شدقيه، وخص هنا بألقام الأصابع، ولعل السر فيه إن المانع يكتسب المال بيديه ويفتخر بشدقيه فخصا بالذكر، أو أن البخيل قد يوصف بقبض اليد، قالوا: يد فلان مقبوضة وأصابعه مكفوفة، كما أن الجواد يوصف ببسطها. قال الشاعر:
تعود بسط الكف لو أنه ثناها بقبض لم تطعه أنامله
انتهى. قال القاري: والأظهر أن يقال كل يعذب بما هو الغالب عليه، ويحتمل أن مانع الزكاة يعذب بجميع ما مر في الأحاديث، فيكون ماله تارةً يجعل صفائح وتارةً يتصور شجاعاً أقرع يطوقه، وتارةً يتبعه ويفر منه حتى يلقمه أصابعه (رواه أحمد) وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1 ص389) . وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
1807-
(21) وعن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله، إلا جعل الله يوم القيامة في عنقه شجاعاً، ثم قرأ علينا مصداقة من كتاب الله، {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله} الآية. رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
1808-
(22) وعن عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما خالطت الزكاة مالاً قط إلا أهلكته)) .
ــ
1807-
قوله: (ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل الله يوم القيامة في عنقه شجاعاً) هذا لفظ الترمذي وللنسائي: ما من رجل له مال لا يؤدي حق ماله إلا جعل له طوقاً في عنقه، شجاع أقرع وهو يفر منه وهو يتبعه، ولفظ ابن ماجه، من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع حتى يطوق به عنقه، وأخرجه أحمد بلفظ:"لا يمنع عبد زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه يفر منه وهو يتبعه فيقول أنا كنزك"(ثم قرأ) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في رواية ابن ماجه (علينا مصداقة) أي ما يصدقه ويوافقه (من كتاب الله) الظاهر أنه حال من مصداقة أو من بيان له وما بعده بدل بعض من الكل {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله} الآية في الترمذي بعده، وقال مرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقة:{سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} [آل عمران: 180](رواه الترمذي) في التفسير واللفظ له (والنسائي وابن ماجه) في الزكاة وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص377) والبيهقي (ج4 ص81) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال المنذري في الترغيب: بعد إيراده رواه ابن ماجه والنسائي بإسناد صحيح وابن خزيمة في صحيحه- انتهى. وأخرجه الحاكم في التفسير (ج2 ص298- 299) وابن جرير عن ابن مسعود موقوفاً.
1808-
قوله: (ما خالطت الزكاة مالاً قط) بأن يكون صاحب مال من النصاب فيأخذ الزكاة أو بأن لم يخرج من ماله الزكاة. قال المنذري: هذا الحديث يحتمل معنيين، أحدهما: أن الصدقة ما تركت في مال ولم تخرج منه إلا أهلكته، ويشهد لهذا حديث عمر مرفوعاً: ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بحبس الزكاة (أخرجه الطبراني في الأوسط وفيه عمر ابن هارون وهو ضعيف) والثاني: إن الرجل يأخذ الزكاة وهو غني عنها فيضعها مع ماله فيهلكه، وبهذا فسره الإمام أحمد (كما سيأتي)(إلا أهلكته) أي نقصته أو أفنته أو قطعت بركته أي إذا لم تخرج الزكاة من مال وجبت فيه أهلكته أي محقته بأن سلطت عليه الآفات كسرقة وغصب وحرق، أو المراد قلت بركته حتى لا ينتفع به وإن كان موجوداً فهو حينئذٍ كالهالك المعدوم. وقال الطيبي: يحتمل محقته واستصالته لأن الزكاة كانت حصناً له
رواه الشافعي والبخاري في تاريخه، والحميدي، وزاد. قال يكون قد وجب عليك صدقة، فلا تخرجها، فيهلك الحرام الحلال، وقد احتج به من يرى تعلق الزكاة بالعين.
ــ
أو أخرجته من كونه منتفعاً به لأن الحرام غير منتفع شرعاً (رواه الشافعي) في باب الهدية للوالي بسبب الولاية (ج2 ص50) من كتاب الأم بلفظ: لا تخالطه الصدقة مالاً إلا أهلكته (والبخاري في تاريخه) الكبير في ترجمة محمد بن عثمان بن صفوان بن أمية الجحمي القرشي (ج1 180) بلفظ: "ما خالطت الصدقة مالاً قط إلا أهلكته"(والحميدي) كلهم من طريق محمد بن عثمان بن صفوان الجحمي المكي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ومحمد بن عثمان هذا لم يذكر البخاري فيه جرحاً ولا تعديلاً وهو من رجال ابن ماجه. قال الحافظ في تهذيبه (ج9 ص337) : روى عن هشام بن عروة والحكم بن اربان وغيرهما، وروى عنه الشافعي والحميدي وأحمد ابن حنبل وإبراهيم بن حمزة الزبيري (وعنه البخاري) وغيرهم. قال أبوحاتم: منكر الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الدارقطني: ليس بقوى. وقال في التقريب: ضعيف. والحديث أخرجه أيضاً ابن عدي، والبزار، والبيهقي، وأشار المنذري إلى ضعفه حيث صدره بلفظة روى. وقال الهيثمي (ج3 ص64) : بعد عزوه إلى البزار. وفيه عثمان بن عبد الرحمن الجحمي. قال أبوحاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به - انتهى. قلت: إن كان ما وقع في نسخة مجمع الزوائد المطبوعة صحيحاً فعثمان هذا من رجال الترمذي وابن ماجه. قال البخاري: فيه أنه مجهول، وقال الساجي: يحدث عن محمد بن زياد بأحاديث لا يتابع عليها وهو صدوق، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه مناكير، كذا في تهذيب التهذيب (ج7 ص136) وقال الحافظ في التقريب: ليس بالقوى (وزاد) أي الحميدي (قال) أي البخاري في تفسير الحديث (يكون قد وجب عليك صدقة فلا تخرجها فيهلك الحرام الحلال) فكأنها تعينت واختلطت (وقد احتج به من يرى تعلق الزكاة بالعين) أي لا بالذمة، قال الشوكاني: احتجاج من احتج به على تعلق الزكاة بالعين صحيح، لأنها لو كانت متعلقة بالذمة لم يستقم هذا الحديث، لأنها لا تكون في جزء من أجزاء المال فلا يستقيم اختلاطها بغيرها، ولا كونها سبباً لإهلاك ما خالطته - انتهى. وقال الطيبي: فإن قلت: هذا الحديث ظاهر في معنى المخالطة فإنها معنى ومبني تستدعي شيئين متمايزين يختلط أحدهما بالآخر، فأين هذا المعنى من قول من فسرها بإهلاك الحرام الحلال. قلت: لما جعلت الزكاة متعلقة بعين المال لا بالذمة، جعل قدر الزكاة المخرج من النصاب معيناً ومشخصاً، فيستقيم الخلط بنا بقي من النصاب - انتهى. قال في اللمعات: وإلى تعلق الزكاة بالعين ذهب الأئمة الثلاثة، ومن تبعهم، ولهذا لا يجوزون دفع القيم في الزكاة؛ لأنها قربة تعلقت بمحل، فلا تتأدى بغيره كالهدايا والضحايا. وتعلق الزكاة بالمال عندهم تعلق شركة، لأن المنصوص عليه هو الشأة، فالشارع أوجب
هكذا في المنتقى، وروى البيهقي، في شعب الإيمان، عن أحمد بن حنبل، بإسناده إلى عائشة، وقال أحمد في خالطت تفسيره إن الرجل يأخذ الزكاة، وهو موسر، أو غنى، وإنما هي للفقراء.
ــ
المنصوص عليه عيناً، والواجب لا يسع تركه - انتهى. قلت: ذهب الحنيفة إلى أنها متعلقة بعين المال، صرح به الدر المختار وغيره، وهو مذهب المالكية كما صرح به الزرقاني، وأشار إليه الباجي، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وأحد قولي الشافعي، وذهب ابن حزم إلى أنها واجبة في ذمة صاحب المال لا في عين المال، وهو القول الثاني للشافعي، والرواية الثانية عن أحمد. قال ابن قدامة (ج2 ص679) : الزكاة تجب في الذمة في إحدى الروايتين عن أحمد، وهو أحد قولي الشافعي، لأن إخراجها من غير النصاب جائز، فلم تكن الواجبة فيه كزكاة الفطر، ولأنها لو وجبت فيه لامتنع تصرف صاحب المال فيه، ولتمكن المستحقون من إلزامه أداء الزكاة من عينه، واسقطت الزكاة بتلف النصاب من غير تفريط كسقوط ارش الجنابة بتلف الجاني، والرواية الثانية أنها تجب في العين، وهذا قول الثاني للشافعي، وهذه الرواية هي الظاهرة عند بعض أصحابنا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: في أربعين شاة شأة، وقوله: فيما سقت السماء العشر، وغير ذلك من الألفاظ الواردة بحرف"في" وهي للظرفية. وإنما جاز الإخراج من غير النصاب رخصة. وفائدة الخلاف أنها إذا كانت في الذمة فحال على ماله حولان لم يؤد زكاتهما وجب عليه أداءها لما مضى، ولا تنقص عنه الزكاة في الحول الثاني، وكذلك إن كان أكثر من نصاب لم تنقص الزكاة. وإن مضى عليه أحوال، فلو كان عنده أربعون شاة مضى عليها ثلاثة أحوال لم يؤد زكاتها وجب عليه ثلاث شياه، لأن الزكاة وجبت في ذمته، فلم يؤثر في تنقيص النصاب، وإن قلنا الزكاة تنعلق بالعين. وكان النصاب مما تجب الزكاة في عينه فحالت عليه أحوال لم تؤد زكاتها تعلقت الزكاة في الحول الأول من النصاب بقدرها، فإن كان فيه نصاباً لا زيادة عليه فلا زكاة فيه فيما بعد الحول الأول، لأن النصاب نقص فيه- انتهى. (هكذا) أي الحديث مع تخريجه وما ذكر من زيادة الحميدي إلى قوله: وقد احتج به من يرى تعلق الزكاة بالعين (في المنتقى) من أخبار المصطفى لمجد الدين أبي البركات ابن تيمية (وروى البيهقي في شعب الإيمان) أي هذا الحديث (وقال أحمد في خالطت) أي في لفظ"خالطت" الواقع في صدر الحديث (تفسيره) أي معناه أو تأويله وهو مقبول قول أحمد (إن الرجل يأخذ الزكاة وهو موسر أو غنى) شك من الراوي (وإنما هي) أي الزكاة (للفقراء) أي ولأمثالهم وغلبوا؛ لأنهم أكثر من البقية. وقال الشافعي: يعني أي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله أعلم أي بمراد كلام رسوله إن خيانة الصدقة تتلف المال المخلوط بالخيانة من الصدقة - انتهى.