الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
(2) باب قصة حجة الوداع
(الفصل الأول)
2579 -
(1) عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ــ
(باب قصة حجة الوداع) وبوب أبو داود لحديث جابر بـ ((باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم)) والنووي في شرح مسلم بـ ((باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم)) قال القاري: الوداع بفتح الواو مصدر ودع توديعًا، كسلم سلامًا وكلم كلامًا، وقيل: بكسر الواو فيكون مصدرًا لموادعة وهو لوداعه الناس في تلك الحجة، وهي بفتح الحاء وكسرها. قال الشمني: لم يسمع في حاء ذي الحجة إلا الكسر، قال صاحب الصحاح: الحجة المرة الواحدة، وهو من الشواذ، لأن القياس بالفتح - انتهى. وعلى القياس روى سيبويه ((قالوا: حجة واحدة يعني بالفتح يريدون عمل سنة واحدة)) .
2579 -
قوله (عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلخ، حديث جابر هذا أصل كبير وأجمع حديث في الباب، قال النووي: هو أي جابر أحسن الصحابة سياقة لرواية حديث حجة الوداع، فإنه ذكرها من حين خروج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى آخرها فهو أضبط لها من غيره، وقال: وهو حديث عظيم مشتمل على جمل من الفوائد ومهمات من مهمات القواعد، وهو من أفراد مسلم لم يروه البخاري في صحيحه، ورواه أبو داود كرواية مسلم. قال عياض: وقد تكلم الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا. وصنف فيه أبو بكر بن المنذر جزءًا كبيرًا، وخرج فيه من الفقه مائة ونيفًا
مكث بالمدينة تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج،
ــ
وخمسين نوعًا ولو تقصى لزيد على هذا القدر قريب منه – انتهى. ونوه به الحافظ الذهبي في ترجمته جابر، فقال: وله منسك صغير في الحج، أخرجه مسلم، وعقد له الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية فصلاً خاصًا قال فيه: وهو وحده منسك مستقل. ثم ساقه (ج 5: ص 146 – 149) وقال الأبي: حديث جابر هذا عظيم القدر، اشتمل على قواعد كثيرة من الدين بينها صلى الله عليه وسلم عند خروجه من الدنيا وانتقاله إلى ما أعد الله سبحانه له من الكرامة، ولم يبق صلى الله عليه وسلم بعد حجته هذه إلا قليلاً بعد أن أشرقت الأرض بنوره وعلت كلمة الإيمان (مكث) بضم الكاف وفتحها أي لبث (بالمدينة) كذا في جميع النسخ مطابقًا للمصابيح وليس هو عند مسلم بل هو للنسائي والشافعي وابن الجارود وأحمد فهو من الزيادات على رواية مسلم (تسع سنين لم يحج) بعد الهجرة أي لكنه اعتمر. قال الألباني: اتفق العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة وهي حجة الوداع هذه، وعلى أنها كانت سنة عشر، واختلفوا في وقت ابتداء فرضه على أقوال، أقربها إلى الصواب أنه سنة تسع أو عشر، وهو قول غير واحد من السلف، واستدل له ابن القيم في ((زاد المعاد)) بأدلة قوية فليراجعها من شاء، وعلى هذا فقد بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج فورًا من غير تأخير، بخلاف الأقوال الأخرى فيلزم منها أنه تأخر بأداء الفريضة، ولذا اضطر القائلون بها إلى الاعتذار عنه صلى الله عليه وسلم ولا حاجة بنا نحن إلى ذلك – انتهى. وقد سبق الكلام في ذلك مفصلاً (ثم أُذِن) بضم الهمزة وكسر الذال المشددة مبني للمجهول، أي نادى مناد بإذنه، ويجوز بناؤه للمعلوم أي أمر بأن ينادي بيتهم، وقال السندي: قوله ((ثم أذن)) من التأذين والإيذان أي نادى وأعلم، والمراد أمر بالنداء فنادى المنادي، ويحتمل على بعد أن يقرأ على بناء المفعول – انتهى. وعلى كلا الاحتمالين فالمراد إعلام الناس بحجه صلى الله عليه وسلم وإشاعته بينهم ليتأهبوا للحج معه ويتعلموا المناسك والأحكام ويشاهدوا أفعاله وأقواله ويوصيهم ليبلغ الشاهد الغائب وتشيع دعوة الإسلام وتبلغ الرسالة القريب والبعيد، وفيه أنه يستحب للإمام إيذان الناس بالأمور المهمة ليتأهبوا لها لا سيما في هذه الفريضة الكثيرة الأحكام المفروضة ابتداء (في العاشرة) أي السنة العاشرة من الهجرة (أن) أي بأن (رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج) أي خارج
فقدم المدينة بشر كثير، فخرجنا معه، حتى إذا أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ــ
إلى الحج ومريد له وقاصده. قال القاري: وفي النسخ أي من المشكاة ((إن)) بالكسر فيكون من جملة المقول – انتهى. وزاد في رواية أحمد والنسائي وابن الجارود ((هذا العام)) (فقدم المدينة بشر كثير) قال القاري: تحقيقًا لقوله تعالى: {يأتوك رجالاً} أي مشاة {وعلى كل ضامر} أي راكبين على كل بعير ضعيف {يأتين من فج عميق} أي طريق بعيد {ليشهدوا منافع لهم} (22 – 27، 28) أي ليحضروا منافع دينية ودنيوية وأخروية – انتهى. وتقدم الكلام في عدد الذين كانوا معه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وفي رواية مسلم بعد هذا ((كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله)) . وفي رواية للنسائي:((فلم يبق أحد يقدر أن يأتي راكبًا أو راجلاً إلا قدم فتدارك الناس ليخرجوا معه)) (فخرجنا معه) أي لخمس بقين من ذي القعدة كما رواه النسائي وابن الجارود والبيهقي أي بين الظهر والعصر. وروى الترمذي وابن ماجة عن أنس والطبراني عن ابن عباس أن حجه عليه الصلاة والسلام كان على رحل رث يساوي أربعة دراهم (حتى إذا أتينا) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا في المصابيح وفي صحيح مسلم ((حتى أتينا)) أي بسقوط لفظة ((إذا)) وكذا وقع عند أبي داود وغيره (فولدت أسماء بن عميس) بمهملتين مصغرًا، الخثعمية، صحابية فاضلة، كانت أولاً تحت جعفر بن أبي طالب ثم تزوجها أبو بكر بعد قتل جعفر ثم علي بن أبي طالب وولدت لهم، وهي أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين لأمها، هاجرت إلى الحبشة مع زوجها جعفر. قال الحافظ: كان عمر يسألها عن تعبير الرؤيا، ماتت بعد علي (محمد بن أبي بكر) الصديق وهو من أصغر الصحابة، ولاه علي بن أبي طالب مصر وكان ربيبه، قتله أصحاب معاوية بمصر سنة ثمان وثلاثين. وقال الحافظ: له رؤية، وكان عليّ يثني عليه ويفضله لأنه كانت له عبادة واجتهاد، وكان على رجالة عليّ يوم صفين، قتل سنة ثمان وثلاثين (فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) الظاهر أنها أرسلت زوجها الصديق، ويدل له ما رواه مالك في موطأه عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن أسماء بنت عميس أنها ولدت محمد بن أبي بكر فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل عليه أيضًا ما رواه النسائي من حديث أبي بكر فأتى أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأمره أن
كيف أصنع؟ قال: " اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي ". فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد،
ــ
يأمرها أن تغتسل (كيف أصنع؟) أي في باب الإحرام. وقال الباجي في شرح رواية الموطأ: يحتمل أن أبا بكر سأل أن النفاس الذي يمنع صحة الصلاة والصوم يمنع صحة الحج فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا ينافي الحج؛ ويحتمل أنه سأل عن اغتسالها للإحرام إن علم أن إحرامها بالحج يصح فخاف أن النفاس يمنع الاغتسال الذي يوجب حكم الطهر (قال: اغتسلي) فيه غسل النفساء للإحرام وإن لم تطهر، وفي حكمها الحائض فهو للنظافة لا للطهارة. قال القاري: ولذا لا ينوبه التيمم ويظهر من كلام الخطابي أن العلة عنده التشبه بالطاهرات حيث قال في معالم السنن: في الحديث استحباب التشبه من أهل التقصير بأهل الفضل والكمال والإقتداء بأفعالهم طمعًا في درك مراتبهم ورجاء لمشاركتهم في نيل المثوبة، ومعلوم أن اغتسال الحائض والنفساء قبل أوان الطهر لا يطهرهما ولا يخرجهما عن حكم الحدث وإنما هو لفضيلة المكان والوقت. قال الولي العراقي: هذا يدل على أن العلة عنده في اغتسالهما التشبه بأهل الكمال وهن الطاهرات. والظاهر أنه إنما هو لشمول المعنى الذي شرع الغسل لأجله وهو التنظيف وقطع الرائحة الكريهة لدفع أذاها عن الناس عند اجتماعهم، وبذلك علَّلَه الرافعي ولا يرد عليه التيمم عند العجز، لأن التنظيف هو أصل مشروعيته للإحرام فلا ينافيه قيام التراب مقامه، لأنه يقوم مقام الغسل الواجب فأولى المسنون وبعد استمرار الحكم قد لا توجد علته في بعض المحال – انتهى. قلت: وهذا عند من قال بمشروعية التيمم وإجزائه عند العجز. وأما الذي لم يقل به فلا إيراد عليه. وقد تقدم الكلام في ذلك في شرح حديث زيد بن ثابت في الفصل الثاني من باب الإحرام والتلبية. قال الخطابي: وفي أمره صلى الله عليه وسلم الحائض والنفساء بالاغتسال دليل على أن الطاهر أولى بذلك. وقال الزرقاني: وفيه الاغتسال للإحرام مطلقًا لأن النفساء إذا أمرت به مع أنها غير قابلة للطهارة كالحائض فغيرهما أولى (واستثفري) بالثاء المثلثة بعد الفوقية أمر من الاستثفار وهو أن تحتشي المرأة قطنًا وتشد في وسطها شيئًا وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفيها من قدامها ومن ورائها في ذلك المشدود في وسطها، والمقصود أن تجعل هناك ما يمنع من سيلان الدم تنزيهًا أن تظهر النجاسة عليها، إذ لا تقدر على أكثر من ذلك. قال النووي: فيه أمر الحائض والنفساء والمستحاضة بالاستثفار وهو أن تشد في وسطها شيئًا وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفيها من قدامها ومن ورائها في ذلك المشدود في وسطها، وهو شبيه بثفَر الدابة بفتح الفاء (وأحرمي) أي بالنية والتلبية، قاله القاري. وفيه صحة إحرام النفساء ومثلها الحائض، وأولى منهما الجنب لأنهما شاركتاه في شمول اسم الحدث وزادتا عليه بسيلان الدم وهو مجمع عليه (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي ركعتين للظهر، وقيل سنة الإحرام (في المسجد) أي في مسجد ذي الحليفة. قال ابن العجمي في منسكه: ينبغي إن كان الميقات مسجد أن يصلي ركعتي الإحرام فيه ولو صلاهما في غير المسجد فلا بأس، ولو أحرم بغير صلاة جاز، ولا يصلي في الأوقات المكروهة، وتجزئ المكتوبة عنهما كتحية المسجد. وقيل:
ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء أهل بالتوحيد:" لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ". قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج،
ــ
صلى الظهر. وقد قال ابن القيم: ولم ينقل أنه عليه الصلاة والسلام صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر، كذا في المرقاة. وقد تقدم الكلام في ذلك في شرح حديث ابن عمر في الفصل الثاني من باب الإحرام والتلبية (ثم ركب القصواء) بفتح القاف وبالمد، اسم ناقته صلى الله عليه وسلم ولها أسماء أخرى مثل العضباء والجدعاء، وقيل: هي أسماء لنوق له صلى الله عليه وسلم فقال القاضي: قال ابن قتيبة: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم نوق: القصواء والجدعاء والعضباء. قال أبو عبيد: العضباء اسم لناقة النبي صلى الله عليه وسلم ولم تسم بذلك لشيء أصابها. قال القاضي: قد ذكر هنا أنه ركب القصواء، وفي آخر هذا الحديث ((خطب على القصواء)) ، وفي غير مسلم ((خطب على ناقته الجدعاء)) . وفي حديث آخر:((على ناقة خرماء)) . وفي آخر ((العضباء)) ، وفي حديث آخر ((كانت له ناقة لا تسبق)) ، وفي آخر ((تسمى مخضرمة)) . وهذا كله يدل على أنها ناقة واحدة خلاف ما قاله ابن قتيبة وأن هذا كان اسمها أو وصفها لهذا الذي بها خلاف ما قال أبو عبيد. لكن يأتي في كتاب النذر أن القصواء غير العضباء كما سنبينه هناك. قال الحربي: العضب والجدع والخرم والقصو والخضرمة في الآذان، قال ابن الأعرابي: القصواء التي قطع طرف أذنها، والجدع أكثر منه. وقال الأصمعي: والقصو مثله. قال: وكل قطع في الأذان جدع، فإن جاوز الربع فهي عضباء، والمخضرم مقطوع الأذنين، فإن اصطلمتا فهي صلماء، وقال أبو عبيد: القصواء المقطوعة الأذن عرضًا، والمخضرمة المستأصلة والمقطوعة النصف فما فوفه. وقال الخليل: المخضرمة مقطوعة الواحدة والعضباء مشقوقة الأذن، قال الحربي: فالحديث يدل على أن العضباء اسم لها، وإن كانت عضباء الأذن فقد جعل اسمها، هذا آخر كلام القاضي. وقال محمد بن إبراهيم التيمي التابعي: إن العضباء والقصواء والجدعاء اسم لناقة واحدة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم (حتى إذا استوت به ناقته على البيداء أهل) وفي صحيح مسلم ((حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله، وما عمل من شيء عملنا به، فأهل يعني رفع صوته)) واللفظ المذكور في الكتاب هو لابن الجارود (بالتوحيد) يعني قوله: لبيك لا شريك لك. وفيه إشارة إلى مخالفة ما كانت الجاهلية تزيده بعد قوله ((لا شريك لك)) فقد كانوا يقولون: ((إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك)) كما تقدم (لبيك اللهم لبيك) إلخ. وفي رواية مسلم بعد ذكر التلبية ((وأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئًا منه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته)) وفي رواية أحمد وابن الجارود ((ولبى الناس والناس يزيدون ((ذا المعارج)) ونحوه من الكلام، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع فلا يقول لهم شيئًا)) (قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج) أي لسنا ننوي شيئًا من النيات إلا نية
لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن
ــ
الحج. قال السندي: قوله ((لا ننوي إلا الحج)) أي أول الأمر ووقت الخروج من البيوت وإلا فقد أحرم بعض بالعمرة أو هو خبر عما كان عليه حال غالبهم، أو المراد أن المقصد الأصلي من الخروج كان الحج وإن نوى بعض العمرة – انتهى. (لسنا نعرف العمرة) هو تأكيد للحصر السابق قبل. قال القاضي: أي لا نرى العمرة في أشهر الحج استصحابًا لما كان من معتقدات أهل الجاهلية، فإنهم كانوا يرون العمرة محظورة في أشهر الحج ويعتمرون بعد مضيها. وقيل: معناه ((ما قصدناها ولم تكن في ذكرنا)) وقد تقدم شيء من الكلام في هذا في شرح حديث عائشة الذي فيه ذكر انقسام الناس بين مفرد ومتمتع وقارن (حتى إذا أتينا البيت معه) أي وصلناه بعد ما نزل بذي طوى وبات بها واغتسل فيها ودخل مكة من الثنية العليا صبيحة الأحد رابع ذي الحجة وقصد المسجد من شق باب السلام ولم يصل تحية المسجد لأن تحية البيت المقصود منه هو الطواف، فمن ثم استمر صلى الله عليه وسلم على مروره في ذلك المقام حتى (استلم الركن) أي الركن الأسود وإليه ينصرف الركن عند الإطلاق، وفي رواية أحمد وابن الجارود ((الحجر الأسود)) والاستلام افتعال من السلام بمعنى التحية، وأهل اليمن يسمون الركن بالمحيا لأن الناس يحيونه بالسلام، وقيل من السلام بكسر السين، وهي الحجارة واحدتها سلِمة بكسر اللام، يقال: استلم الحجر إذا لثمه وتناوله، والمعنى: وضع يديه عليه وقبله، واستلم النبي صلى الله عليه وسلم الركن اليماني أيضًا في هذا الطواف كما في حديث ابن عمر ولم يقبله، وإنما قبل الحجر الأسود وذلك في كل طوفة. قلت: والسنة في الحجر الأسود تقبيله إن تيسر ذلك، فإن شق التقبيل استلمه بيده وقبلها، وإلا استلمه بنحو عصا وقبلها وإلا أشار إليه، ولا يقبل ما يشير به ولا يشرع شيء من هذا في الأركان الأخرى إلا الركن اليماني فإنه يحسن استلامه أي لمسه فقط، وفي المواهب وشرحه للزرقاني: واعلم أن للبيت أربعة أركان، الأول له فضيلتان، كون الحجر الأسود فيه، وكونه على قواعد إبراهيم أي أساس بنائه، وللثاني وهو الركن اليماني الثانية فقط، وليس للآخرين شيء منهما فلذلك يقبل الأول كما في الصحيحين عن ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم قبل الحجر الأسود. وفي البخاري عن ابن عمر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله. ويستلم الثاني فقط لما في الصحيح عن ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني. ولا يقبل الآخران ولا يستلمان إتباعًا للفعل النبوي لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم، هذا على قول الجمهور. واستحب بعضهم تقبيل اليماني أيضًا، وأجاب الشافعي عن قول من قال كمعاوية ((وقد قبل الأربعة: ليس شيء من البيت مهجورًا)) فرد عليه ابن عباس فقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، بأنا لم ندع استلامهما هجرًا للبيت، وكيف يهجره وهو يطوف به، ولكنا نتبع السنة فعلاً أو تركًا، ولو كان ترك استلامهما هجرًا لها لكان ترك استلام ما بين الأركان هجرًا لها، ولا قائل به. وروى الشافعي عن ابن عمر قال: استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود فاستلمه أي مسح بيده عليه ثم وضع شفتيه عليه طويلاً يقبله. ومفاده استحباب الجمع بينهما – انتهى. ويسن عند التكبير عند الركن
فطاف سبعًا، فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم، فقرأ {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} فصلى ركعتين، فجعل المقام بينه وبين البيت. وفي رواية: أنه قرأ في الركعتين {قل هو الله أحد} و {قل يا أيها الكافرون}
ــ
الأسود في كل طوفة لحديث ابن عباس الآتي في باب الطواف: قال طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعيره كلما أتى الركن أشار إليه بشيء كان عنده وكبر. رواه البخاري. قال الألباني: وأما التسمية فلم أرها في حديث مرفوع، وإنما صح عن ابن عمر أنه كان إذا استلم الحجر قال: بسم الله والله أكبر. أخرجه البيهقي (ج 5: 79) وغيره بسند صحيح كما قال النووي والعسقلاني. ووهم ابن القيم فذكره من رواية الطبراني مرفوعًا، وإنما رواه موقوفًا كالبيهقي كما ذكر الحافظ في التلخيص – انتهى. (فطاف سبعًا) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا وقع في المصابيح، وفي رواية مختصرة عند النسائي والترمذي وليس هو عند مسلم (فرمل) أي مشى بسرعة مع تقارب الخطى وهز كتفيه، وفي رواية لمسلم ((ثم مشى على يمينه فرمل)) (ثلاثًا) أي ثلاث مرات من الأشواط السبعة، زاد في رواية لأحمد ((حتى عاد إليه)) . (ومشى) أي على السكون والهينة (أربعًا) أي في أربع مرات وكان مضطبعًا في جميعها، والاضطباع أن يجعل وسط الرداء تحت منكبه الأيمن ويجعل طرفيه على عاتقه الأيسر ويكون منكبه الأيمن منكشفًا والأيسر مستورًا. قال النووي: في الحديث أن المحرم إذا دخل مكة قبل الوقوف بعرفات يسن له طواف القدوم وهو مجمع عليه، وفيه أن الطواف سبعة أشواط. وفيه أن السنة الرمل في الثلاث الأول ويمشي على عادته في الأربع الأخيرة (ثم تقدم) قال القاري: وفي نسخة صحيحة من نسخ مسلم (نفذ) بالنون والفاء والذال المعجمة، أي توجه، قلت: وكذا وقع في رواية لابن الجارود (إلى مقام إبراهيم) بفتح الميم أي موضع قيامه، وهو الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت، وفيه أثر قدميه، موضوع قبالة البيت (فقرأ: واتخذوا) بكسر الخاء على الأمر وبفتحها على الخبر (من مقام إبراهيم) أي بعض حواليه (مصلى) بالتنوين أي موضع صلاة الطواف (فصلى ركعتين) كذا في جميع النسخ الحاضرة عندنا، وهكذا وقع في المصابيح، وفي السنن للنسائي والترمذي، وليس هو عند مسلم، ووقع عند أحمد وابن الجارود ((حتى إذا فرغ)) أي من الطواف ((عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين)) (فجعل المقام بينه وبين البيت) أي صلى خلفه بيانًا للأفضل وإن جاز في أي موضع شاء (وفي رواية) وفي المصابيح ((ويروى)) وفي صحيح مسلم ((فكان أبي أي محمد بن علي بن الحسين يقول ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يقرأ في الركعتين)) إلخ (أنه قرأ في الركعتين) أي بعد الفاتحة (قل هو الله أحد) أي إلى آخرها في إحداهما (وقل يا أيها الكافرون) أي بتمامها في الأخرى. والواو لمطلق الجمع فلا إشكال. قال الطيبي: كذا في صحيح مسلم وشرح السنة في إحدى الروايتين، وكان من الظاهر تقديم سورة الكافرون كما في رواية المصابيح. وقال النووي: معناه قرأ
ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ {إن الصفا والمروة من شعائر الله} أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا، فرقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال: " لا إله إلا الله
ــ
في الركعة الأولى بعد الفاتحة ((قل يا أيها الكافرون)) وفي الثانية بعد الفاتحة ((قل هو الله أحد)) وقد ذكر البيهقي (ج 5: ص 91) بإسناد صحيح على شرط مسلم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت فرمل من الحجر الأسود ثلاثًا ثم صلى ركعتين قرأ فيهما ((قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد)) كذا في المرقاة. قلت: وفي رواية للنسائي ((فصلى ركعتين)) فقرأ فاتحة الكتاب، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد)) ، وفي رواية للترمذي ((قرأ في ركعتي الطواف بسورتي الإخلاص:((قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد)) وفي الحديث دليل لما أجمع عليه العلماء أنه ينبغي لكل طائف إذا فرغ من طوافه أن يصلي خلف المقام ركعتي الطواف، واختلفوا هل هما واجبتان أم سنتان؟ وسيأتي ذكر الخلاف في باب الطواف إن شاء الله (ثم رجع إلى الركن فاستلمه) قال النووي: فيه دلالة لما قاله الشافعي وغيره من العلماء أنه يستحب للطائف طواف القدوم إذا فرغ من الطواف وصلاته خلف المقام أن يعود إلى الحجر الأسود فيستلمه ثم يخرج من باب الصفا ليسعى، واتفقوا على أن هذا الاستلام ليس بواجب وإنما هو سنة لو تركه لم يلزمه دم – انتهى. وعند الحنفية العود إلى الحجر إنما يستحب لمن أراد السعي بعده وإلا فلا، كما في البحر وغيره (ثم خرج من الباب) أي باب الصفا (إلى الصفا) أي إلى جانبه،قال في الهداية: إن خروجه عليه الصلاة والسلام من باب الصفا لأنه كان أقرب الأبواب إلى الصفا لا أنه سنة. والصفا والمروة علمًا جبلين بمكة ومن مشاعرها (فلما دنا) أي قرب (قرأ: إن الصفا والمروة من شعائر الله) أي من أعلام مناسكه. قال القاري: جمع شعيرة وهي العلامة التي جعلت للطاعات المأمور بها في الحج عندها كالوقوف والرمي والطواف والسعي (أَبْدَأُ) بصيغة المتكلم أي وقال: أبدأ (بما بدأ الله به) يعني ابتدأ بالصفا لأن الله بدأ بذكره في كلامه، فالترتيب الذكري له اعتبار في الأمر الشرعي إما وجوبًا أو استحبابًا وإن كانت الواو لمطلق الجمع في الآية. قال السندي: هذا يفيد أن بداءة الله تعالى ذكرًا تقتضي البداءة عملاً، والظاهر أنه يقتضي ندب البداءة عملاً لا وجوبًا، والوجوب فيما نحن فيه من دليل آخر (فبدأ) أي في سعيه (فرقِي) بكسر القاف أي صعد (عليه) أي على جبل الصفا (حتى رأى البيت) أي إلى أن رآه (فاستقبل القبلة) وضع الظاهر موضع الضمير تنصيصًا على أن البيت قبلة وتنبيهًا على أن المقصود بالذات هو التوجه إلى القبلة لا خصوص رؤية البيت، قاله القاري. وقال في اللمعات: وكان إذ ذاك يرى من الصفا، والآن حجبها بناء الحرم (وقال لا إله إلا الله) قال الطيبي: إنه قول آخر غير التوحيد والتكبير، ويحتمل أن يكون كالتفسير له والبيان، والتكبير وإن لم يكن ملفوظًا به لكن معناه مستفاد من هذا
وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ". ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل ومشى إلى المروة،
ــ
القول، أي لأن معنى التكبير التعظيم. قال القاري: والأظهر أنه قول آخر (وحده) حال مؤكدة أي منفردًا بالألوهية أو متوحدًا بالذات (لا شريك له) في الألوهية فيكون تأكيدًا، أو في الصفات فيكون تأسيسًا وهو الأولى (له الملك وله الحمد) زاد في رواية أبي داود والنسائي والدرامي وابن ماجه والبيهقي والشافعي ((يحيي ويميت)) (أنجز وعده) أي وفَّى بما وعده بإظهاره عز وجل للدين (ونصر عبده) أي عبده الخاص نصرًا عزيزًا، وعند أحمد ((صدق عبده)) بدل ((نصر)) ومعنى تصديق الله تعالى لعبده تأييده بالمعجزات والله تعالى أعلم (وهزم) وفي رواية ((وغَلب)) (الأحزاب وحده) أي هزمهم بغير قتال من الآدميين ولا بسبب من جهتهم. قال تعالى {فأرسلنا عليهم ريحًا وجنودًا لم تروها} (23: 9) والمراد بالأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وكان ذلك في شوال سنة أربع من الهجرة، وقيل سنة خمس ويمكن أن يكون المراد بالأحزاب أنواع الكفار الذين تحزبوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغُلبوا بالهزيمة والفرار (ثم) لمجرد الترتيب دون التراخي (دعا بين ذلك) أي بين مرات هذا الذكر بما شاء (قال مثل هذا) أي الذكر (ثلاث مرات) قال الطيبي: كلمة ((ثم)) تقتضي التراخي وأن يكون الدعاء بعد الذكر، ((وبين)) تقتضي التعدد والتوسط بين الذكر بأن يدعو بعد قوله ((على كل شيء قدير)) الدعاء، فتمحل من قال: لما فرغ من قوله ((وهزم الأحزاب وحده)) دعا بما شاء ثم قال مرةً أخرى هذا الذكر ثم دعا، حتى فعل ذلك ثلاثًا، فهذا إنما يستقيم على التقديم والتأخير بأن يذكر قوله ((ثم دعا بين ذلك)) بعد قوله ((قال مثل هذا ثلاث مرات)) وتكون ((ثم)) للتراخي في الإخبار لا تأخر زمان الدعاء عن الذكر، ويلزم أن يكون الدعاء مرتين – انتهى. وقال السندي: يقول الذكر ثلاث مرات ويدعو بعد كل مرة. قال النووي: قوله ((أبدأ بما بدأ الله به)) إلخ. في هذا أنواع من المناسك: منها أن السعي يُشترط فيه أن يبدأ من الصفا وبه قال الشافعي ومالك والجمهور. وقد ثبت في رواية النسائي هذا الحديث بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ابدأوا بما بدأ الله به ". هكذا بصيغة الجمع. ومنها أنه ينبغي أن يرقى على الصفا والمروة، وفي هذا الرقي خلاف، قال جمهور أصحابنا: هو سنة ليس بشرط ولا واجب، فلو تركه صح سعيه لكن فاتته الفضيلة. قال أصحابنا: يستحب أن يرقى على الصفا والمروة حتى يرى البيت إن أمكنه. ومنها أنه يسن أن يقف على الصفا مستقبل الكعبة ويذكر الله تعالى بهذا الذكر المذكور ويدعو ويكرر الذكر والدعاء ثلاث مرات، هذا هو المشهور عند أصحابنا. وقال جماعة من أصحابنا يكرر الذكر ثلاثًا والدعاء مرتين فقط والصواب الأول – انتهى. (ثم نزل ومشى إلى المروة) كذا في جميع النسخ،
حتى انصبت قدماه في بطن الوادي، ثم سعى حتى إذا صعدنا مشى، حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طواف على المروة، نادى وهو على المروة والناس تحته،
ــ
وهكذا في المصابيح، وفي مسلم ((ثم نزل إلى المروة)) وفي رواية النسائي ((ثم نزل ماشيًا)) أي إلى المروة (حتى انصبَّت) بتشديد الباء (قدماه) أي انحدرتا بالسهولة، ومنه ((إذا مشى كأنه ينحط في صبب)) أي موضع منحدر، وهو مجاز من قولهم ((صببت الماء فانصب)) أي سكبته فانسكب (في بطن الوادي) أي المسعى، وفي رواية للنسائي ((في بطن المسيل)) يعني انحدرتا بالسهولة حتى وصلتا إلى بطن الوادي، والمراد به المنخفض من (ثم سعى) وفي رواية لأحمد ((رمل)) يعني أسرع في المشي مع تقارب الخطى في بطن الوادي (حتى إذا صعِدتا) بكسر العين، أي ارتفعت قدماه عن بطن الوادي وخرجتا منه إلى طرفه الأعلى. قال الطيبي: معناه ارتفعتا عن بطن الوادي إلى المكان العالي لأنه في مقابلة ((انصبت قدماه)) أي دخلتا في الحدور (مشى) أي سار على السكون، يعني إذا بلغ المرتفع من الوادي مشى باقي المسافة إلى المروة على عادة مشيه. قال النووي: فيه استحباب السعي الشديد في بطن الوادي حتى يصعد ثم يمشي باقي المسافة إلى المروة على عادة مشيه، وهذا السعي مستحب في كل مرة من المرات السبع في هذا الموضع، والمشي مستحب فيما قبل الوادي وبعده، ولو مشى في الجميع أو سعى في الجميع أجزأه وفاتته الفضيلة، هذا مذهب الشافعي وموافقيه. وعن مالك فيمن ترك السعي الشديد في موضعه روايتان: إحداهما كما ذكر، والثانية تجب عليه إعادته – انتهى. وقال في اللباب: ويستحب أن يكون السعي بين الميلين فوق الرمل دون العدو، وهو في كل شوط، أي بخلاف الرمل في الطواف فإنه مختص بالثلاثة الأول خلافًا لمن جعله مثله، فلو تركه أو هرول في جميع السعي، فقد أساء ولا شيء عليه، وإن عجز عنه صبر حتى يجد فرجة، وإلا تشبه بالساعي في حركته، وإن كان على دابة حركها من غير أن يؤذي أحدًا – انتهى. (حتى أتى المروة) زاد في رواية أحمد ((فرقى عليها حتى نظر إلى البيت)) (ففعل على المروة كما فعل) أي مثل ما فعله (على الصفا) من الرقي واستقبال القبلة والذكر والدعاء. قال النووي: فيه أنه يسن عليها من الذكر والدعاء والرقي مثل ما يسن على الصفا، وهذا متفق عليه (حتى إذا كان) تامة أي وجد (آخر طواف) أي سعى (على المروة) متعلق بكان. وفي رواية لأحمد وابن الجارود ((فلما كان السابع عند المروة)) قال النووي: قوله ((حتى إذا كان آخر طواف على المروة)) فيه دلالة لمذهب الشافعي والجمهور أن الذهاب من الصفا إلى المروة يحسب مرة، والرجوع إلى الصفا ثانية، والرجوع إلى المروة ثالثة وهكذا فيكون ابتداء السبع من الصفا وآخرها بالمروة. وقال ابن بنت الشافعي وأبو بكر الصيرفي من أصحابنا يحسب الذهاب إلى المروة والرجوع إلى الصفا مرةً واحدة فيقع آخر السبع في الصفا، وهذا الحديث الصحيح يرد عليهما. وكذلك عمل المسلمين على تعاقب الأزمان، والله أعلم – انتهى. (نادى وهو على المروة والناس تحته) كذا في جميع النسخ
فقال: " لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت، لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي، فليحل وليجعلها عمرة ".
ــ
الحاضرة عندنا، وهكذا في المصابيح، وليست هذه الجملة في صحيح مسلم (فقال) وفي بعض النسخ ((قال)) أي بدون الفاء، قال الطيبي: هو جواب إذا، قال القاري: وفي نسخة صحيحة أي من المشكاة ((فقال)) بزيادة الفاء، وأما ما في بعض النسخ ((نادى وهو على المروة والناس تحته فقال)) فلا أصل له، وزاد في رواية لأحمد وابن الجارود بعد قوله ((قال)) ((يا أيها الناس)) (لو أني استقبلت) أي لو علمت في قبل (من أمري ما استدبرت) أي ما علمته في دبر منه، والمعنى لو ظهر لي هذا الرأي الذي رأيته الآن لأمرتكم به في أول أمري وابتداء خروجي و (لم أسُق الهدي) بضم السين، يعني لما جعلت عليَّ هديًا وأشعرته وقلدته وسقته بين يدي، فإنه إذا ساق الهدي لا يحل حتى ينحر، ولا ينحر إلا يوم النحر، فلا يصح له فسخ الحج بعمرة بخلاف من لم يسق، إذ يجوز له فسخ الحج، وهذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متمتعًا. قال الخطابي: إنما قال هذا استطابة لنفوس أصحابه لئلا يجدوا في أنفسهم أنه أمرهم بخلاف ما يفعله في نفسه. وقد يستدل بهذا الحديث من يجعل التمتع أفضل (وجعلتها) أي الحجة (عمرة) يعني كنت متمتعًا من أول الأمر من غير سوق الهدي، وقال القاري: أي جعلت إحرامي بالحج مصروفًا إلى العمرة كما أمرتكم به موافقة. قال ابن القيم في شرح قوله صلى الله عليه وسلم ((لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت)) إلخ: يعني أنه لو كان هذا الوقت الذي تكلم فيه هو وقت إحرامه لكان أحرم بعمرة ولم يسق الهدي، لأن الذي استدبره هو الذي فعله ومضى فصار خلفه والذي استقبله هو الذي لم يفعله بعد، بل هو أمامه، فمقتضاه أنه لو كان كذلك لأحرم بالعمرة دون هدي. وقال الزرقاني في شرحه: أي لو عن لي هذا الرأي الذي رأيته آخر وأمرتكم به في أول أمري لما سقت الهدي، أي لما جعلت عليَّ هديًا وسقته بين يدي، فإن من ساقه لا يحل حتى ينحره وإنما ينحره يوم النحر، فلا يصح له فسخ الحج بعمرة، ومن لا هدي معه يجوز له فسخه – انتهى. قال النووي: وفي الحديث دليل على جواز قول ((لو)) في التأسف على فوات أمور الدين ومصالح الشرع، وأما الحديث الصحيح في أن ((لو)) تفتح عمل الشيطان، فمحمول على التأسف على حظوظ الدنيا ونحوها وقد كثرت الأحاديث الصحيحة في استعمال ((لو)) في غير حظوظ الدنيا ونحوها، فيجمع بين الأحاديث بما ذكرناه، والله أعلم (فمن كان منكم) الفاء جواب شرط محذوف، أي إذا كان الأمر ما ذكرت من أني سقت الهدي فمن كان منكم (ليس معه هدي) بإسكان الدال وكسرها وتشدد الياء مع الكسرة وتخفف مع الفتح، قاله النووي. (فليحل) بكسر الحاء، وفي رواية عند أحمد ((فليحْلل)) بسكون الحاء، أي ليصر حلالاً وليخرج من إحرامه بعد فراغه من أفعال العمرة (وليجعلها) أي الحجة (عمرة) إذ قد أبيح له ما حرم عليه بسبب الإحرام حتى يستأنف الإحرام للحج، والواو لمطلق الجمع إذ الجعل مقدم على الخروج، لأن المراد من الجعل
فقام سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى، وقال:" دخلت العمرة في الحج. مرتين، لا بل لأبد أبد ".
ــ
الفسخ، وهو أن يفسخ نية الحج ويقطع أفعاله ويجعل إحرامه وأفعاله للعمرة، أو الواو للعطف التفسيري قاله القاري. وفي رواية عطاء عن جابر عند البخاري ومسلم ((فقال: أحلوا من إحرامكم)) (أي اجعلوا حجكم عمرة وتحللوا منها بالطواف والسعي) فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا وأقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج، واجعلوا التي قدمتم بها متعة. قال الحافظ: أي اجعلوا الحجة المفردة التي أهللتم بها عمرة تتحللوا منها فتصيروا متمتعين، فأطلق على العمرة متعة مجازًا، والعلاقة بينهما ظاهرة – انتهى. (فقام سراقة بن مالك بن جعشم) زاد في رواية أحمد وابن الجارود ((وهو في أسفل المروة)) وسُرَاقة بضم السين وتخفيف الراء وقاف، وهو الكنانيّ المدلجيّ، وقد ينسب إلى جده، يكنى أبا سفيان، وهو الذي ساخت فرسه في قصة الهجرة، وأسلم يوم الفتح. قال أبو عمرو: مات في خلافة عثمان سنة أربع وعشرين، وقيل بعد عثمان. وجده جُعْشم بضم الجيم وسكون المهملة وضم المعجمة وفتحها لغة حكاها الجوهري (ألعامنا هذا أم لأبد؟) معناه هل جواز فسخ الحج إلى العمرة (كما هو الظاهر من سياق الحديث) أو الإتيان بالعمرة في أشهر الحج أو مع الحج يختص بهذه السنة أم للأبد؟ أي من الحال والاستقبال، وفي رواية للنسائي وابن ماجه والبيهقي ((أرأيت عمرتنا)) وفي لفظ ((متعتنا)) ألعامنا هذا أم للأبد؟ (واحدة في الأخرى) أي جعل واحدة من الأصابع في الأخرى، فواحدة منصوب بعامل مضمر والحال مؤكدة (وقال دخلت العمرة في الحج) زاد في رواية ابن الجارود وأحمد ((إلى يوم القيامة)) (مرتين) أي قالها مرتين (لا) أي ليس لعامنا هذا فقط (بل لأبد أبد) بإضافة الأول إلى الثاني، والأبد الدهر، أي هذا لآخر الدهر، أو بغير الإضافة وكرره للتأكيد، وزاد في رواية ابن الجارود وأحمد ((ثلاث مرات)) يعني أن ذلك جائز في كل عام لا يختص بعام دون آخر إلى يوم القيامة، وكرر ذلك ثلاثًا للتأكيد ((وشبك بين أصابعه)) إشارة إلى اشتراك كل الأعوام في ذلك بدون اختصاص أحدها، وقد اختلف العلماء في سؤال سراقة، فقال بعضهم المراد منه الإتيان بالعمرة في أشهر الحج. وذهب فريق إلى أن المراد بذلك القران، يعني اقتران الحج بالعمرة، وقال آخرون: المراد منه فسخ الحج إلى العمرة، فعلى الأول يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم:((دخلت العمرة في الحج)) أي حلت العمرة في أشهر الحج وصحت والمقصود إبطال ما زعمه أهل الجاهلية من أن العمرة لا تجوز في أشهر الحج وعليه الجمهور. وعلى الثاني دخلت العمرة في الحج أي اقترنت به لا تنفك عنه لمن نواها معًا، وتندرج أفعال العمرة في أفعال الحج حتى يتحلل منهما معًا. قيل: ويدل عليه تشبيك الأصابع، وفيه أنه حينئذٍ لا مناسبة بين السؤال والجواب فتدبر، وعلى الثالث أي دخلت نية العمرة في نية الحج بحيث أن من نوى الحج صح له الفراغ منه بالعمرة، قال النووي: وهو ضعيف. وقال القاري بعد ذكره:
.............................................................
ــ
أقول هذا هو الظاهر من سياق الحديث وسباقه، والله تعالى أعلم. وقال الحافظ: وتعقب أي كلام النووي بأن سياق السؤال يقوي هذا التأويل، بل الظاهر أن السؤال وقع عن الفسخ، والجواب وقع عما هو أعم من ذلك حتى يتناول التأويلات الثلاثة المذكورة - انتهى. وقيل: معنى دخولها في الحج سقوط وجوب العمرة بوجوب الحج. قال النووي: وسياق الحديث يقتضي بطلان هذا التأويل. قلت: حديث جابر هذا صريح في أن سؤال سراقة عن فسخ الحج إلى العمرة وجواب النبي صلى الله عليه وسلم له يدل على تأييد مشروعيته كما ترى، لأن الجواب مطابق للسؤال، ومعنى فسخ الحج إلى العمرة أن من أحرم بالحج مفردًا أو قارنًا ولم يسق الهدي وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة قبل الوقوف بعرفة، له أن يفسخ نيته بالحج وينوي عمرة مفردة فيقصر ويحل من إحرامه ليصير متمتعًا، وقد اختلف العلماء في هذا الفسخ هل هو خاص بالصحابة تلك السنة خاصة أم باق ولغيرهم إلى يوم القيامة؟ فقال أحمد والظاهرية وعامة أهل الحديث: ليس خاصًا بل هو باق إلى يوم القيامة، فيجوز لكل من أحرم بحج مفردًا أو قارنًا وليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة، ويتحلل بأعمالها. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء من السلف والخلف: هو مختص بهم في تلك السنة لا يجوز بعدها، وإنما أمروا به تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج، واستدل للجمهور بحديث أبي ذر عند مسلم:((قال كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة)) . وفي رواية قال: ((كانت لنا رخصة)) . يعني المتعة في الحج. ومراد أبي ذر بالمتعة المذكورة المتعة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها أصحابه، وهي فسخ الحج إلى العمرة، واستدلوا على أن الفسخ المذكور هو مراد أبي ذر رضي الله عنه بما رواه أبو داود بسنده أن أبا ذر كان يقول في من حج ثم فسخها بعمرة لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: فهذه الرواية فيها التصريح من أبي ذر بفسخ الحج في العمرة، وهي تفسر مراده بالمتعة في رواية مسلم. وضعفت رواية أبي داود هذه بأن في سنده محمد ابن إسحاق وهو مدلس، وقد رواه عن عبد الرحمن بن الأسود بالعنعنة، وعنعنة المدلس لا تقبل عند أهل الحديث حتى يصح السماع عن طريق أخرى. وأجيب عن تضعيف هذه الرواية بوجهين، الأول: أن مشهور مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة صحة الاحتجاج بالمرسل، ومعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى، والثاني: أن المقصود من رواية أبي داود المذكورة بيان المراد برواية مسلم، والبيان يقع بكل ما يزيل الإبهام ولو قرينة أو غيرها كما هو مقرر في الأصول، واستدل أيضًا للجمهور القائلين بأن الفسخ المذكور خاص بذلك الركب وتلك السنة بما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارمي من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث بن بلال بن الحارث عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة؟ قال: " بل لكم خاصة ". ورد المجوزون للفسخ استدلال الجمهور بالحديثين المذكورين من جهتين: الأولى: تضعيف الحديثين المذكورين، قالوا: حديث بلال بن الحارث فيه ابنه الحارث ابن بلال وهو مجهول. وقال أحمد: حديث بلال بن الحارث عندي ليس يثبت ولا
.........................................................................
ــ
أقول به ولا يعرف هذا الرجل يعنى الحارث بن بلال. قال: وقد روى فسخ الحج إلى العمرة أحد عشر صحابيًا، أين يقع الحارث بن بلال منهم؟ قالوا: وحديث أبي ذر عند مسلم موقوف عليه وليس بمرفوع، وإذا كان الأول في سنده مجهول والثاني موقوفًا فيما هو مسرح للاجتهاد تبين عدم صلاحيتهما للاحتجاج، والثانية من جهتي رد الحديثين المذكورين هي أنهما معارضان بأقوى منهما وهو حديث جابر الذي نحن في شرحه وأجاب الجمهور عن تضعيف الحديثين المذكورين بأن حديث بلال المذكور سكت عليه أبو داود، ومعلوم من عادته أنه لا يسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج ولم يثبت في الحارث بن بلال جرح. وقد قال الحافظ في التقريب فيه:((هو مقبول)) . قالوا: واعتضد حديثه بما رواه مسلم وأبو داود عن أبي ذر كما تقدم. وأما حديث أبي ذر فإن قلنا: إن الخصوصية التي ذكرها أبو ذر بذلك الركب مما لا مجال للرأي فيه فهو حديث صحيح له حكم الرفع، وقائله اطلع على زيادة علم خفيت على غيره، وإن قلنا: إنه مما للرأي فيه مجال وحكمنا بأنه موقوف على أبي ذر فصدق لهجة أبي ذر المعروف وتقاه وبعده من الكذب يدلنا على أنه ما جزم بالخصوصية المذكورة إلا وهو عارف صحة ذلك. قالوا: ورد حديث الحارث بن بلال بأنه مخالف لحديث جابر في سؤال سراقة المدلجى النبي صلى الله عليه وسلم وإجابته له بقوله: " بل للأبد ". لا يستقم، لأنه لا معارضة بين الحديثين لإمكان الجمع بينهما، والمقرر في علم الأصول وعلم الحديث أنه إذا أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع بينهما إجماعًا ولا يرد غير الأقوى منهما بالأقوى لأنهما صادقان وليسا بمتعارضين، وإنما أجمع أهل العلم على وجوب الجمع بين الدليلين إن أمكن، لأن إعمال الدليلين معًا أولى من إلغاء أحدهما كما لا يخفى، ووجه الجمع بين الحديثين المذكورين أن حديثي بلال بن الحارث المزني وأبي ذر رضي الله عنهما محمولان على أن معنى الخصوصية المذكورة التحتم والوجوب فتحتم فسخ الحج في العمرة ووجوبه خاص بذلك الركب لأمره صلى الله عليه وسلم له بذلك، ولا ينافي ذلك بقاء جوازه ومشروعيته إلى أبد الأبد. وقوله في حديث جابر ((بل للأبد)) محمول على الجواز وبقاء المشروعية إلى الأبد فاتفق الحديثان، كذا حقق الشيخ الشنقيطي في ((أضواء البيان)) ثم قال: الذي يظهر لنا صوابه في حديث: ((بل للأبد)) . وحديث الخصوصية بذلك الركب المذكورين هو ما اختاره العلامة الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية، وهو الجمع المذكور بين الأحاديث بحمل الخصوصية المذكورة على الوجوب والتحتم وحمل التأييد المذكور على المشروعية والجواز أو السنة، ولا شك أن هذا هو مقتضى الصناعة الأصولية والمصطلحية كما لا يخفى. وقال أيضًا: والصواب هو ما ذكرنا من الجمع بين الأدلة، ووجهه ظاهر لا إشكال فيه. وقال النووي في شرح المهذب في الجواب عن قول الإمام أحمد:((أين يقع الحارث بن بلال من أحد عشر صحابيًا رووا الفسخ عنه صلى الله عليه وسلم)) ما نصه: قلت: لا معارضة بينهم وبينه حتى يقدموا عليه لأنهم أثبتوا الفسخ للصحابة ولم يذكروا حكم غيرهم، وقد وافقهم الحارث في إثبات الفسخ للصحابة، ولكنه زاد زيادة لا تخالفهم وهي اختصاص الفسخ بهم -
...................................................................
ــ
انتهى. قلت: وقد اختلف القائلون بالفسخ في حكمه هل هو واجب أو مستحب، فذهب الإمام أحمد إلى أنه مستحب، ومال فريق إلى الوجوب، منهم ابن حزم وابن القيم. قال ابن حزم: وهو قول ابن عباس وعطاء ومجاهد وإسحاق. قلت: واستدل لهم بما رواه أحمد وابن ماجة وأبو يعلى من حديث البراء بن عازب، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال: فأحرمنا بالحج، فلما قدمنا مكة قال:" اجعلوا حجكم عمرة ". قال: فقال الناس: يا رسول الله قد أحرمنا بالحج فكيف نجعلها عمرة؟ قال: " انظروا ما آمركم به فافعلوا ". فردوا عليه القول فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة غضبان فرأت الغضب في وجهه. فقالت: من أغضبك أغضبه الله. قال: " وما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع ". قال ابن القيم: بعد ذكر حديث البراء: ونحن نشهد علينا أنا لو أحرمنا بحج لرأينا فرضًا علينا فسخه إلى عمرة تفاديًا من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإتباعًا لأمره، فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده ولا صح حرف واحد يعارضه ولا خص به أصحابه دون من بعدهم، بل أجرى الله على لسان سراقة أن سأله هل ذلك مختص بهم؟ فأجابه بأن ذلك كائن لأبد الأبد. فما ندري ما يقدم على هذه الأحاديث (يعني التي تدل على جواز فسخ الحج إلى العمرة) . وهذا الأمر المؤكد الذي غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من خالفه - انتهى. قال الشوكاني: استدل بقول البراء ((فغضب)) . من قال بوجوب الفسخ لأن الأمر لو كان أمر ندب لكان المأمور مخيرًا بين فعله وتركه، ولما كان يغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مخالفته لأنه لا يغضب إلا لانتهاك حرمة من حرمات الدين لا لمجرد مخالفة ما أرشد إليه على جهة الندب ولا سيما وقد قالوا له: قد أحرمنا بالحج فكيف نجعلها عمرة؟ فقال لهم: " انظروا ما آمركم به فافعلوا ". فإن ظاهر هذا أن ذلك أمر حتم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان أمره ذلك لبيان الأفضل أو لقصد الترخيص لهم بين لهم بعد هذه المراجعة أن ما أمرتكم به هو الأفضل. أو قال لهم: إني أردت الترخيص لكم والتخفيف عنكم (قال) وقد أطال ابن القيم في الهدي الكلام على الفسخ ورجح وجوبه وبين بطلان ما احتج به المانعون منه، فمن أحب الوقوف على جميع ذيول هذه المسألة فليراجعه. وإذا كان الموقع في مثل هذا المضيق هو إفراد الحج، فالحازم المتحري لدينه الواقف عند مشتبهات الشريعة ينبغي له أن يجعل حجه من الابتداء متمتعًا أو قرانًا مما هو مظنة البأس إلى ما لا بأس به، فإن وقع في ذلك فالسنة أحق بالإتباع، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل – انتهى. قلت: القول الراحج عندنا هو ما ذهب إليه أحمد ومن وافقه من أن فسخ الحج إلى العمرة ليس خاصًا للصحابة في تلك السنة، بل يجوز أو يسن ويستحب لكل من أحرم بحج وليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة ويتحلل بأعمالها ليصير متمتعًا. وأما حديث أبي ذر وبلال بن الحارث فمحمولان على الوجوب يعني أن وجوب فسخ الحج إلى العمرة خاص بذلك الركب في تلك السنة. وأما الجواز والاستحباب فهو باق للأمة إلى يوم القيامة، وهو محمل حديث جابر وغيره من أحاديث الفسخ، ولا منافاة بين اختصاص الوجوب بالصحابة وبين بقاء المشروعية والاستحباب إلى أبد الأبد، وعلى ذلك
وقدم علي من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:" ماذا قلت حين فرضت الحج؟ " قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك.
ــ
حمل الإمام ابن تيمية تلك الأحاديث كما تقدم وهو محمل حسن، والله تعالى أعلم. (وقدم عليٌّ من اليمن) لأنه صلى الله عليه وسلم كان بعثه إليها، وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث عليًا إلى نجران فلقيه بمكة، وقد أحرم، وفي رواية عطاء عن جابر كما سيأتي ((قال: فقدم عليّ من سعايته)) قال القاضي: أي من عمله في الصدقات. قال: ((وقال بعض علمائنا: الذي في غير هذا الحديث ((أن عليًا إنما بعثه أميرًا لا عاملاً على الصدقات، إذ لا يجوز استعمال بني هاشم على الصدقات، لقوله صلى الله عليه وسلم للفضل بن العباس وعبد المطلب بن ربيعة حين سألاه ذلك: إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)) ولم يستعملهما. قال القاضي: يحتمل أن عليًا ولي الصدقات وغيرها احتسابًا، أو أعطي عمالته عليها من غير الصدقة. قال: وهذا أشبه لقوله: ((من سعايته)) . والسعاية تختص بالصدقة. واستحسنه النووي إلا أنه ذهب إلى أن السعاية لا تختص بالصدقة بل تستعمل في مطلق الولاية، وإن كان أكثر استعمالها في الولاية على الصدقة، واستدل لذلك بما في حديث حذيفة في رفع الأمانة. قال: ولقد أُتي عليَّ زمان ولا أبالي أيكم بايعت، لئن كان مسلمًا ليردنه عليَّ دينه، ولئن كان نصرانيًا أو يهوديًا ليردنه عليَّ ساعيه - يعني الوالي عليه - انتهى. (بِبُدْن النبي صلى الله عليه وسلم) بضم الباء وسكون الدال جمع بَدَنة بفتح الباء والدال، والبَدَنة واحدة الإبل سميت به لعظمها وسمنها، وتقع على الجمل والناقة، وقد تطلق على البقرة. ونسبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن عليًا رضي الله عنه اشتراها له، لا أنها من السعاية على الصدقة كما يتبادر إلى الذهن، وكان عددها سبعًا وثلاثين بَدَنة، وكان عدد الهدي الذي ساقه النبي صلى الله عليه وسلم معه من المدينة ثلاثًا وستين بَدَنة كما جاء في رواية الترمذي، وأعطى عليًا البُدْن التي جاءت معه من اليمن وهي تمام المائة. قال الزرقاني: ظاهر قوله ((قدم عليّ من اليمن بِِبُدْن النبي صلى الله عليه وسلم)) أن البُدْن للمصطفى. وفي رواية النسائي (ومسند أحمد والمنتقى لابن الجارود)((قدم عليّ من اليمن بهدي وساق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة هديًا)) . وظاهره أن الهدي كان لعلي رضي الله عنه، فيحتمل أن عليًا قدم من اليمن بهدي لنفسه وهدي النبي صلى الله عليه وسلم فذكر كل راوٍ واحدًا منهما – انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في هذا عند ذكر نحر هذه البُدْن إن شاء الله تعالى. ووقع عند مسلم وغيره بعد هذا ((فوجد (أي عليّ) فاطمة ممن حل ولبست ثيابًا صبيغًا واكتحلت فأنكر ذلك عليها (ظنًّا أنه لا يجوز) فقالت: إن أبي أمرني بهذا، قال (أي جعفر بن محمد عن أبيه) فكان عليٌّ يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشًا على فاطمة للذي صنعت مستفتيًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت عليها فقال:" صدقت صدقت ")) . (فقال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (ماذا قلت حين فرضت الحج؟) أي ألزمته على نفسك بالنية والتلبية، وفي رواية أحمد وابن الجارود ((وقال لعليّ:" بم أهللت "؟)) أي بأي شيءٍ نويت حين أحرمت بحج أو عمرة أو بهما؟ (قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك) فيه
قال: " فإن معي الهدي، فلا تحل ". قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة. قال: فحل الناس كلهم وقصروا، إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية
ــ
أنه لا يصح الإحرام معلقًا وهو أن يحرم إحرامًا كإحرام فلان، فينعقد إحرامه ويصير محرمًا بما أحرم به فلان. قال النووي: في هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أنه يصح الإحرام معلقًا بأن ينوي إحرامًا كإحرام زيد فيصير هذا المعلق كزيد، فإن كان زيد محرمًا بحج كان هذا بالحج أيضًا، وإن كان بعمرة فبعمرة، وإن كان بهما فبهما، وإن كان زيد أحرم مطلقًا صار هذا محرمًا إحرامًا مطلقًا فيصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة، ولا يلزمه موافقة زيد في الصرف– انتهى. ومذهب الحنفية في ذلك أن الإحرام المعلق حكمه حكم الإحرام المبهم. أي يصح عندهم ولكن لا يلزمه موافقة من أحرم على إحرامه. (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (فإن معي) بسكون الياء وفتحها. قال القاري: أي إذا علقت إحرامك بإحرامي، فإني أحرمت بالعمرة ومعي (الهدي) ولا أقدر أن أخرج من العمرة بالتحلل (فلا تحل) نهي أو نفي، أي لا تحل أنت بالخروج من الإحرام كما لا أحل حتى تفرغ من العمرة والحج. وفي رواية ((فأهد وامكث حرامًا كما أنت)) . (قال) أي جابر (فكان جماعة الهدي) أي من الإبل، والهدي – بالتشديد والتخفيف – ما يهدى إلى البيت الحرام من النعم لتنحر، قاله الجزري. (الذي قدم به) أي بذلك الهدي (عليّ من اليمن) أي له صلى الله عليه وسلم (والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم) زاد في رواية النسائي وأبي داود وابن ماجة وابن الجارود والبيهقي ((من المدينة)) (مائة) أي من الهدي، وفي رواية الدارمي ((مائة بدنة)) (فحل الناس) أي خرج من الإحرام من لم يكن معه هدي بعد الفراغ من العمرة (كلهم) أي أكثرهم. قال النووي: فيه إطلاق اللفظ العام وإرادة الخاص لأن عائشة لم تحل ولم تكن ممن ساق الهدي، والمراد بقوله ((حل الناس كلهم)) أي معظمهم (وقصروا) قال الطيبي: وإنما قصروا مع أن الحلق أفضل لأن يبقى لهم بقية من الشعر حتى يحلق في الحج – انتهى. وليكونوا داخلين في المقصرين والمحلقين جامعين بين العمل بالرخصة والعزيمة، كذا في المرقاة. قال المحب الطبري: فيه دليل على استحباب التقصير للمتمتع وتوفير الشعر للحلق في الحج، ويشبه أن يكون ذلك عن أمره صلى الله عليه وسلم إذ عنه يأخذون مناسكهم وبه يقتدون، وبذلك أمرهم فقال:" خذوا عني مناسككم ". (إلا النبي صلى الله عليه وسلم) استثناء من ضمير ((حلوا)) (ومن كان معه هدي) عطف على المستثنى (فلما كان يوم التروية) بفتح التاء وسكون الراء المهملة وكسر الواو وتخفيف الياء، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، سمي بذلك لأن الحجاج كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعده أي يستقون ويسقون إبلهم فيه استعدادًا للوقوف يوم عرفة، إذ لم يكن في عرفات ماء جار كزماننا. وقيل: لأن قريشًا كانت تحمل الماء من مكة إلى منى للحاج تسقيهم وتطعمهم فيروون منه، وقيل لأن الإمام يروي فيه الناس من أمر المناسك، وقيل لأن إبراهيم عليه السلام
توجهوا إلى منى، فأهلوا بالحج، وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة،
ــ
تروى فيه أي تفكر في ذبح ولده وأنه كيف يصنع، تنبيه: لستة أيام متوالية من أيام ذي الحجة أسماء، فاليوم الثامن: يوم التروية، واليوم التاسع: عرفة، والعاشر: النحر، والحادي عشر: القَرّ – بفتح القاف وتشديد الراء – لأنهم يقرون فيه بمنى، والثاني عشر: يوم النفر الأول، والثالث عشر: النفر الثاني (توجهوا) أي أرادوا التوجه (إلى منى) ينون، وقيل: لا ينون. فيكتب بالألف، سميت به لأنه يمنى الدماء في أيامها أي يراق ويسفك، أو لأنه يعطي الحجاج مناهم لإكمال أفعال الحج فيها (فأهلوا بالحج) أي من البطحاء كما في رواية لأحمد والشيخين والطحاوي والبيهقي، يعني أحرم به من كان خرج عن إحرامه بعد الفراغ من العمرة، وفي رواية لأحمد ((حتى إذا كان يوم التروية وأرادوا التوجه إلى منى أهلوا بالحج)) قال المحب الطبري: فيه بيان وقت إهلال أهل مكة والمتمتعين. وفيه إشارة إلى أن المحرم من مكة لا يقدم طوافه وسعيه لأنه إذا اشتغل بذلك لا يسمى متوجهًا. قال النووي: والأفضل عند الشافعي وموافقيه أن من كان بمكة وأراد الإحرام بالحج أحرم يوم التروية عملاً بهذا الحديث. وفيه بيان أن السنة أن لا يتقدم أحد إلى منى من قبل يوم التروية. وقد كره مالك ذلك. وقال بعض السلف: لا بأس به. ومذهبنا أنه خلاف السنة – انتهى. (وركب النبي صلى الله عليه وسلم) أي حين طلوع الشمس من يوم التروية وسار من مكة إلى منى (فصلى بها) أي بمنى في موضع مسجد الخيف (الظهر والعصر) إلخ. كل صلاة لوقتها (ثم مكث) أي لبث بعد أداء الفجر (قليلاً حتى طلعت الشمس) فيه أن السنة أن لا يخرجوا من منى حتى تطلع الشمس. وهذا متفق عليه. ومبيته صلى الله عليه وسلم بمنى وصلاته تلك الصلوات بها دليل على استحباب ذلك، وهذا المبيت أجمع أهل العلم على الفرق بينه وبين مبيت ليالي منى فأوجبوا على تارك ذلك ما أوجبوا، ولم يوجبوا على تارك المبيت بمنى ليلة عرفة أي ليلة التاسع من ذي الحجة شيئًا، قاله ابن المنذر. وقال النووي: هذا المبيت سنة ليس بركن ولا واجب فلو تركه فلا دم عليه بالإجماع – انتهى. (وأمر بقبة) عطف على ((ركب)) أو حال، أي وقد أمر بضرب خيمة بنمرة قبل قدومه إليها (من شعر) بفتح العين وسكونها (تضرب له) بصيغة المجهول (بنمرة) بفتح النون وكسر الميم وفتح الراء المهملة، وهو غير منصرف، موضع على يمين الخارج من المازمين إذا أراد الموقف. وقال الطيبي: هو موضع بجنب عرفات وليس من عرفات. وقال في اللمعات: اسم موضع قريب عرفات، وهي منتهى أرض الحرم، وكان بين الحل والحرم – انتهى. قال الأبي: لما أراد صلى الله عليه وسلم أن يظهر مخالفة الجاهلية أراد أن يظهر ذلك ابتداء ليتأهبوا لذلك. وقال النووي: في هذا الحديث جواز الاستظلال للمحرم بقبة وغيرها. ولا خلاف في جوازه للنازل. واختلفوا في جوازه للراكب، فمذهبنا جوازه، وبه قال كثيرون، وكرهه مالك وأحمد، وفيه جواز اتخاذ القباب وجوازها من شعر - انتهى. وقال المحب
فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة،
ــ
الطبري: وفي أمره صلى الله عليه وسلم بضرب القبة في نمرة دليل على الرخصة في حجز المواضع من الصحاري وأشباهها حيث لا ضرر على أحد في ذلك الغزو والحج وسائر الأسفار، وقال النووي أيضًا: فيه استحباب النزول بنمرة إذا ذهبوا من منى لأن السنة أن لا يدخلوا عرفات إلا بعد زوال الشمس وبعد صلاتي الظهر والعصر جمعًا، فالسنة أن ينزلوا بنمرة، فمن كان له قبة ضربها ويغتسلون للوقوف قبل الزوال، فإذا زالت الشمس سار بهم الإمام إلى مسجد إبراهيم عليه السلام وخطب لهم خطبتين خفيفتين، ويخفف الثانية جدًا، فإذا فرغ منها صلى بهم الظهر والعصر جامعًا بينهما، فإذا فرغ من الصلاة سار إلى الموقف – انتهى. (فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي من منى إليها (ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام) . قال الزرقاني في شرح المواهب: ظاهره أنه ليس لقريش شك في شيء إلا في وقوفه عند المشعر، فإنهم يشكون فيه، وليس المراد ذلك بل عكسه، وهو أنهم لا يشكون في أنه صلى الله عليه وسلم سيقف عند المشعر الحرام على ما كانت عادتهم من وقوفهم به، ويقف سائر الناس بعرفة فقال الأبي: الأظهر في ((إلا)) أنها زائدة و ((أن)) في موضع النصب على إسقاط الجار، أي ولا يشك قريش في أنه واقف عند المشعر – انتهى. وقيل الشك ها هنا بمعنى الظن أي لا تظن قريش إلا أنه يقف عند المشعر لأنه من مواقف الحمس وأهل حرم الله. وقال الطيبي: أي ولم يشكوا في أنه يخالفهم في المناسك بل تيقنوا بها إلا في الوقوف فإنهم جزموا بأنه يوافقهم فيه، فإن أهل الحرم كانوا يقفون عند المشعر الحرام، وهو جبل في المزدلفة، يقال له قزح، وعليه جمهور المفسرين والمحدثين، وقيل إنه كل المزدلفة وهو بفتح العين وقيل بكسرها، ذكره النووي (كما كانت قريش تصنع في الجاهلية) معناه أن قريشًا كانت في الجاهلية تقف بالمشعر الحرام، وكان سائر العرب يتجاوزون المزدلفة ويقفون بعرفات فظنت قريشًا أن النبي صلى الله عليه وسلم يقف في المشعر الحرام على عادتهم ولا يتجاوزه، فتجاوزه صلى الله عليه وسلم إلى عرفات لأن الله تعالى أمره بذلك في قوله {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} (2: 199) أي سائر العرب غير قريش، وإنما كانت قريش تقف بالمزدلفة لأنها من الحرم، وكانوا يقولون: نحن أهل حرم الله فلا نخرج منه. وقد يتوهم أنه صلى الله عليه وسلم كان يوافقهم قبل البعثة، وليس كذلك لما جاء في بعض الأحاديث الصحيحة صريحًا أنه كان يقف مع عامة الناس قبل النبوة أيضًا (فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال النووي: معناه جاوز المزدلفة ولم يقف بها، بل توجه إلى عرفات (حتى أتى عرفة) أي قاربها، لأنه فسره بقوله ((وجد القبة قد ضربت بنمرة فنزل بها)) وقد سبق أن نمرة ليست من عرفات، وقد قدمنا أن دخول عرفات قبل صلاتي الظهر والعصر جمعًا خلاف السنة. وقال الطبري: الظاهر أن المراد بإتيان عرفة القرب منها، فإن نمرة دونها، وسميت عرفة بذلك لتعريف جبرئيل إبراهيم المناسك، وقيل لمعرفة آدم حواء هناك، أو
فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس، أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس، وقال: " إن دماءكم وأموالكم
ــ
لتعارف الناس، أو لاعترافهم بذنوبهم أو لصبر الناس، والعرفة الصبر. وقيل: إن إبراهيم رأى ليلة التروية ذبح ولده فتروى يومه، وعرف في الثاني ونحر في الثالث، فسميت الأيام بذلك. وقوله ((فأجاز)) قيل هي لغة وجاز وأجاز بمعنى. وقيل جاز الموضع سلكه وسار فيه، وأجازه خلفه وقطعه. قال الأصمعي: جاز مشى فيه، وأجازه قطعه (قد ضربت) أي بنيت (فنزل بها) أي بالقبة. وهذا يدل على جواز استظلال المحرم بالخيمة ونحوها (حتى إذا زاغت) أي نزل بها واستمر فيها حتى إذا مالت الشمس وزالت عن كبد السماء من جانب الشرق إلى جانب الغرب (أمر بالقصواء) أي بإحضارها، وقد تقدم ضبطها وشرحها في أول شرح الحديث (فرحلت له) على البناء المجهول مخففًا أي شد على ظهرها الرحل ليركبها النبي صلى الله عليه وسلم (فأتى) أي فركبها فأتى (بطن الوادي) هو وادي عُرَنة بضم العين وفتح الراء المهملتين بعدها نون، وليست من عرفات (فخطب الناس) أي وعظهم وخطب خطبتين الأولى لتعريفهم المناسك والحث على كثرة الذكر والدعاء بعرفة، والثانية قصيرة جدًا لمجرد الدعاء، قاله القاري. وفيه دليل على أن الخطبة كانت على الراحلة، وفي معناها المواضع المرتفعة. قال الزرقاني: في الحديث أنه يستحب للإمام أن يخطب يوم عرفة في هذا الموضع، وبه قال الجمهور والمدنيون والمغاربة من المالكية وهو المشهور. فقول النووي:((خالف فيها المالكية)) . فيه نظر، إنما قول العراقيين منهم، والمشهور خلافه. واتفق الشافعية أيضًا على استحبابها خلافًا لما توهمه عياض والقرطبي – انتهى. قال النووي: ومذهب الشافعي أن في الحج أربع خطب مسنونة: إحداها يوم السابع من ذي الحجة يخطب عند الكعبة بعد صلاة الظهر، والثانية هذه التي ببطن عرنة يوم عرفات، والثالثة يوم النحر، والرابعة يوم النفر الأول وهو اليوم الثاني من أيام التشريق، قال أصحابنا: وكل هذه الخطب أفراد وبعد صلاة الظهر إلا التي يوم عرفات، فإنها خطبتان وقبل الصلاة. قال أصحابنا: ويعلمهم في كل خطبة من هذه ما يحتاجون إليه إلى الخطبة الأخرى، والله أعلم – انتهى كلام النووي. وارجع لمزيد التفصيل إلى ((القرى لقاصد أم القرى)) لمحب الدين الطبري (ص 338، 339، 491، 493)، والفتح الرباني (ج 12: ص 133، 215، 216) ، وفتح الباري (ج 7: ص 166) وعند الحنفية في الحج ثلاث خطب أولاها وثانيتها ما ذكره النووي، وثالثتها بمنى في اليوم الحادي عشر فيفصل بين كل خطبتين بيوم وكلها سنة. والراجح عندنا في تعيين أيام الخطبة هو ما ذهب إليه الشافعية، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك (إن ماءكم وأموالكم) زاد في حديث ابن عباس عند أحمد والبخاري والترمذي والبيهقي وفي حديث ابن عمر عند البخاري ((وأعراضكم)) والعِرض بكسر العين موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو في سلفه. قال الحافظ: هذا الكلام على حذف المضاف أي سفك دمائكم وأخذ أموالكم
حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.
ــ
وثلب أعراضكم – انتهى. وقيل المعنى: إن انتهاك دمائكم وأموالكم وأعراضكم، قيل: وهذا أولى مما ذكره الحافظ، لأن ذلك إنما يحرم إذا كان بغير حق فلا بد من التصريح به، فلفظة ((انتهاك)) أولى، لأن موضوعها لتناول الشيء بغير حق (حرام عليكم) قال الزرقاني: معنى الحديث إن دماء بعضكم على بعض حرام، وأموال بعضكم على بعض حرام وإن كان ظاهر اللفظ أن دم كل واحد حرام عليه نفسه، ومال كل واحد حرام عليه نفسه فليس بمراد، لأن الخطاب للمجموع، والمعنى فيه مفهوم، ولا تبعد إرادة المعنى الثاني. أما الدم فواضح، وأما المال فمعنى تحريمه عليه تحريم تصرفه فيه على غير الوجه المأذون فيه شرعًا، قاله الولي العراقي (كحرمة يومكم هذا) أي متأكدة التحريم شديدته كحرمة يومكم هذا يعني يوم عرفة (في شهركم هذا) أي ذي الحجة (في بلدكم هذا) أي مكة، وإنما شبهها في الحرمة بهذه الأشياء لأنهم كانوا لا يرون استباحتها وانتهاك حرمتها بحال: وقال ابن المنير: قد استقر في القواعد أن الأحكام لا تتعلق إلا بأفعال المكلفين، فمعنى تحريم اليوم والبلد والشهر تحريم أفعال الاعتداء فيها على النفس والمال والعرض، فما معنى إذًا تشبيه الشيء بنفسه؟ وأجاب بأن المراد أن هذه الأفعال في غير هذا البلد وهذا الشهر وهذا اليوم مغلظة الحرمة، عظيمة عند الله، فلا يستهل المعتدي كونه تعدى في غير البلد الحرام والشهر الحرام، بل ينبغي له أن يخاف خوف من فعل ذلك في البلد الحرام، وإن كان فعل العدوان في البلد الحرام أغلظ فلا ينفي كون ذلك في غيره غليظًا أيضًا، وتفاوت ما بينهما في الغلظ لا ينفع المعتدي في غير البلد الحرام، فإن فرضناه تعدى في البلد الحرام فلا يستسهل حرمة البلد بل ينبغي أن يعتقد أن فعله أقبح الأفعال وأن عقوبته بحسب ذلك فيراعى الحالتين – انتهى. وقال الزرقاني: وفي تقديم اليوم على الشهر وهو على البلد الترقي، فالشهر أقوي من اليوم، وهو ظاهر في الشهر لاشتماله على اليوم فاحترامه أقوى من احترام جزئه، وأما زيادة حرمة البلد فلأنه محرم في جميع الشهور لا في هذا الشهر وحده، فحرمته لا تخص به فهو أقوى منه – انتهى. قال الحافظ: وفي مشروعية ضرب المثل وإلحاق النظير بالنظير ليكون أوضح للسامع، وإنما شبه حرمة الدم والعرض والمال بحرمة اليوم والشهر والبلد، لأن المخاطبين بذلك كانوا لا يرون تلك الأشياء ولا يرون هتك حرمتها ويعيبون على من فعل ذلك أشد العيب، وقال في موضع آخر: ومناط التشبيه في قوله ((كحرمة يومكم)) وما بعده ظهوره عند السامعين، لأن تحريم البلد والشهر واليوم كان ثابتًا في نفوسهم مقررًا عندهم بخلاف الأنفس والأموال والأعراض فكانوا في الجاهلية يستبيحونها، فطرأ الشرع عليهم بأن تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم، فلا يرد كون المشبه به أخفض رتبة من المشبه لأن الخطاب إنما وقع بالنسبة لما اعتاده المخاطبون قبل تقرير الشرع – انتهى. وقال الطيبي: هذا من تشبيه ما لم تجر به العادة بما جرت به لأنهم عالمون بحرمة الثلاث كما في قوله تعالى {وإذ
ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث. وكان مسترضعًا في بني سعد فقتله هذيل.
ــ
نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة} (7: 171) كانوا يستبيحون دماءهم وأموالهم في الجاهلية في غير الأشهر الحرام ويحرمونها فيها، كأنه قيل: إن دماءكم وأموالكم محرمة عليكم أبدًا كحرمة الثلاث – انتهى. (ألا) بالفتح والتخفيف للتنبيه. (كل شيء من أمر الجاهلية) يعني الذي أحدثوه والشرائع التي شرعوها في الحج وغيره قبل الإسلام (تحت قدميَّ) بتشديد الياء مثنى (موضوع) أي مردود وباطل حتى صار كالشيء الموضوع تحت القدمين. قال في اللمعات: يحتمل أن يكون قوله ((موضوع)) ، وقوله ((تحت قدميَّ)) خبرين، أو الخبر هو موضوع وتحت ظرف له وهو الأظهر، والمراد بالوضع تحت القدم إبطاله وتركه، وتقول العرب في الأمر الذي لا يكاد يراجعه ويذكره ((جعلت ذلك تحت قدميّ)) . (ودماء الجاهلية موضوعة) أي متروكة لا قصاص ولا دية ولا كفارة. أعادها للاهتمام أو لييني عليه ما بعده من الكلام، قاله القاري. وقال الولي العراقي: يمكن أنه عطف خاص على عام لاندراج دمائها في أمورها، ويمكن أنه لا يندرج لحمل أمورها على ما ابتدعوه وشرعوه. وإيجاب القصاص على القاتل ليس مما ابتدعوه، وإنما أريد قطع النزاع بإبطال ذلك، لأن منها ما هو حق، ومنها ما هو باطل، وما يثبت وما لا يثبت (وإن أول دم أضع) أي أضعه وأتركه (من دمائنا) أي من دماء أهل الإسلام يعني أبدأ في وضع الدماء التي يستحق المسلمون ولايتها بأهل بيتي وأقاربي. قال النووي: فيه أن للإمام وغيره ممن يأمر بمعروف وينهى عن منكر ينبغي أن يبدأ بنفسه وأهله فهو أقرب إلى قبول قوله وإلى طيب نفس من قرب عهده بالإسلام (دم ابن ربيعة بن الحارث) أي ابن عبد المطلب، واسم هذا الابن إياس، قاله الجمهور والمحققون، وقيل حارثة، وقيل تمام، وقيل آدم، وقال الدارقطني: وهو تصحيف. ولبعض رواة مسلم وأبي داود ((دم ربيعة)) وهو وهم، لأن ربيعة عاش حتى توفي زمن عمر سنة ثلاث وعشرين، وتأوله أبو عبيد بأنه نسبه إليه لأنه ولي دم ابنه، وهو حسن ظاهر، به تتفق الروايتان. وربيعة هذا هو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم يكنى ((أبا أروى)) وكان أسن من عمه العباس بسنتين، صحابي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، توفي في أول خلافة عمر، وقيل في أواخرها سنة ثلاث وعشرين (وكان) كذا في جميع النسخ من المشكاة والمصابيح، وفي صحيح مسلم والمنتقى لابن الجارود ((كان)) أي بدون واو العاطفة، وهكذا ذكره المحب الطبري (مسترضعًا) على بناء المجهول، أي كان لهذا الابن ظئر ترضعه من بني سعد (فقتله) أي ابن ربيعة، وقوله ((فقتله)) كذا في جميع النسخ من المشكاة أي بصيغة المذكر، وفي صحيح مسلم ((فقتلته)) بلفظ التأنيث، وهكذا عند أبي داود وابن الجارود، وكذا في المصابيح (هُذَيل) بهاء مضمومة فمعجمة مفتوحة، وكان ابن ربيعة هذا طفلاً صغيرًا، يحبو بين البيوت فأصابه حجر في حرب بني سعد مع قبيلة هُذَيل
وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء
ــ
فقتلته هُذَيل. قال الولي العراقي: ظاهره أنها تعمدت قتله. وذكر الزبير بن بكار: أنه كان صغيرًا يحبو بين البيوت فأصابه حجر في حرب كانت بين بني سعد وبين ليث بن بكر، كذا ذكره عياض والنووي وغيرهما ساكتين عليه وهو مناف لقوله ((فقتلته هُذَيل)) لأنهم غير بني ليث إذ هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، وليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة كما بينه أبو عبيد القاسم بن سلام في أنسابه، كذا في شرح المواهب (وربا الجاهلية) معناه الزيادة على رأس المال، ولذا جاء الخبر ((موضوعة)) بالتاء على معنى ما في نسخ مسلم، وهذا إيضاح إذ المقصود مفهوم من لفظ ربا، لأن الربا هو الزيادة فإذا وضع الربا فمعناه وضع الزيادة. قال الولي: ولا شك أن عطف هذا على أمر الجاهلية من عطف الخاص على العام، لأنه من إحداثاتهم وشرعهم الفاسد (موضوع) المراد بالوضع الرد والإبطال أي الزائد على رأس المال مردود كما قال الله تعالى {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم} (2: 279) وقوله ((موضوع)) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا في سنن أبي داود والمنتقى والبيهقي ولمسلم ((موضوعة)) بالتأنيث، وهكذا في المصابيح، وكذا ذكره المحب الطبري (وأول ربا أضع من ربانا) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود والبيهقي والمنتقى ((وأول ربا أضع ربانا)) أي بدون لفظة ((من)) ، وهكذا في المصابيح وكذا ذكره الطبري، وعلى هذا ((ربانا)) خبر المبتدأ، وقوله (ربا عباس بن عبد المطلب) بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف أي هو ربا العباس (فإنه موضوع كله) يحتمل عود ضمير ((إنه)) لربا العباس تأكيدًا لوضعه، ويحتمل لجميع الربا أي ربا العباس موضوع لأن الربا موضوع كله، قاله الولي العراقي. وإنما ابتدأ في وضع دماء الجاهلية ورباها من أهل الإسلام بأهل الإسلام بأهل بيته ليكون أمكن في قلوب السامعين وأسد لأبواب الطمع في الترخيص (فاتقوا الله في النساء) قال الطيبي: هو عطف من حيث المعنى على دمائكم وأموالكم أي فاتقوا الله في استباحة الدماء ونهب الأموال، وفي النساء، وهو من عطف الطلب على الخبر بالتأويل كما عطف {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} (36: 59) على قوله {إن أصحاب الجنة} وقال الولي العراقي: يحتمل أن الفاء زائدة لأن الرواية بدونها، وأنها للسببية لأنه لما قرر إبطال أمر الجاهلية وكان من جملتها منع النساء من حقوقهن وترك إنصافهن أمرهم بمتابعة الشرع في إنصافهن، فكأنه قيل: فبسبب إبطال أمر الجاهلية اتقوا الله في النساء وأنصفوهن، فإن تركه من أمر الجاهلية، قال: و ((في)) تحتمل السببية نحو {فذلكن الذي لمتنني فيه} (12: 32) والظرفية مجازًا نحو {ولكم في القصاص حياة} (2: 179) أي إن النساء ظرف للتقوى المأمور بها – انتهى. قلت: وقع عند الجارود والبيهقي ((اتقوا الله)) أي بدون الفاء، وفي الحديث الحث على مراعاة حق النساء والوصية بهن ومعاشرتهن بالمعروف، وقد
فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله،
ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه،
ــ
جاءت أحاديث كثيرة صحيحة في الوصية بهن وبيان حقوقهن والتحذير من التقصير في ذلك فليراجعها من شاء في الترغيب والترهيب للمنذري ورياض الصالحين للنووي (فإنكم أخذتموهن بأمان الله) أي بعهده وهو ما عهد إليكم فيهن. قال النووي: هكذا في كثير من أصول مسلم ((بأمان الله)) بلا هاء، وفي بعضها ((بأمانة الله)) قلت: وكذا أي بالهاء وقع عند أبي داود والشافعي وابن الجارود وابن ماجة والبيهقي. قال الزرقاني: أي بأن الله ائتمنكم عليهن فيجب حفظ الأمانة وصيانتها بمراعاة حقوقها والقيام بمصالحها الدينية والدنيوية، وما وقع في كثير من أصول مسلم يقوي أن في قوله ((أخذتموهن)) دلالة على أنها كالأسيرة المحبوسة عند زوجها، وله التصرف فيها والسلطنة عليها حسبما بينه الشرع، ويوافقه قوله في رواية أخرى ((فإنهن عوان عندكم)) جمع عانية وهي الأسيرة، لكنها ليست أسيرة خائفة كغيرها من الأسراء بل هي أسيرة آمنة (واستحللتم فروجهن بكلمة الله) في معناه أربعة أقوال، الأول: أن المراد بكلمة الله أمره وحكَّمه وإباحته المنزلة في كتابه وهو قوله {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} (4: 3) قال النووي: هذا هو الصحيح، ورجحه القرطبي في المفهم إذ قال: فإن حكم الله كلامه المتوجه للمحكوم عليه على جهة الاقتضاء أو التخيير. الثاني: المراد كلمة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله، إذ لا تحل مسلمة لغير مسلم. الثالث: المراد كلمة النكاح التي يستحل بها الفروج، أي الصيغ التي ينعقد بها النكاح من الإيجاب والقبول لأن الله تعالى أمر بها. الرابع: أن المراد قوله تعالى {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (2: 229) قال الخطابي: هذا أحسن الوجوه. (ولكم عليهن) أي من الحقوق لما ذكر صلى الله عليه وسلم استحلال الزوج بكلمة الله وعلم منه تأكيد الصحبة بين الزوجين انتقل إلى بيان ما على كل واحد منهما من الحقوق، وبدأ بحق الأزواج لأنهم المخاطبون (أن لا يوطئن) بهمزة أو بإبدال التخفيف صيغة جمع الإناث من الإيطاء أي من باب الإفعال (فرشكم أحدًا تكرهونه) أي تكرهون دخوله في بيوتكم، وعبر عن بفرش لأن الداخل يطأ المنزل الذي يدخل فيه. قال المازري: قيل المراد بذلك أن لا يستخلين بالرجال ولم يرد زناها، لأن ذلك يوجب حدها، ولأن ذلك حرام مع من يكرهه الزوج ومن لا يكرهه. وقال الخطابي: معنى الحديث أن لا يأذن لأحد من الرجال يدخل فيتحدث إليهن، وكان الحديث من الرجال إلى النساء من عادات العرب ولا يرون بذلك عيبًا ولا يعدونه ريبة، فلما نزلت آية الحجاب ثار النساء مقصورات، ونهى عن محادثتهن والقعود إليهن، وليس المراد بوطئي الفرش هنا نفس الزنا لأنه محرم على الوجوه كلها. فلا معنى لاشتراط الكراهية فيه، ولو أريد الزنا لكان الضرب الواجب فيه هو المبرح الشديد والعقوبة المؤلمة من الرجم دون الضرب الذي ليس بمبرح. وذكر القاضي عياض نحوه. وقال النووي بعد ذكر كلام المازري
فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف،
وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله. وأنتم تسألون عني،
ــ
والقاضي: والمختار أن معناه: أن لا يأذن لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم والجلوس في منازلكم، سواء كان المأذون له رجلاً أجنبيًا أو امرأة أو أحدًا من محارم الزوجة، فالنهي يتناول جميع ذلك، وهذا حكم المسألة عند الفقهاء أنها لا يحل لها أن تأذن لرجل ولا امرأة ولا محرم ولا غيره في دخول منزل الزوج إلا من علمت أو ظنت أن الزوج لا يكرهه، لأن الأصل تحريم دخول منزل الإنسان حتى يوجد الإذن في ذلك منه أو عرف رضاه باطراد العرف بذلك ونحوه ومتى حصل الشك في الرضا ولم يترجح شيء ولا وجدت قرينة لا يحل الدخول ولا الإذن، والله أعلم (فإن فعلن ذلك) أي الإيطاء المذكور بدون رضاكم بلفظ صريح أو بقرائن (ضرباً غير مبرح) بضم الميم وفتح الموحدة وكسر الراء المشددة وبالحاء المهملة من البرح وهو المشقة، والضرب المبرح هو الضرب الشديد الشاق، ومعناه اضربوهن ضربًا ليس بشديد ولا شاق. وفيه إباحة ضرب الرجل امرأته للتأديب (ولهن عليكم رزقهن) أي وجوبًا، والمراد بالرزق النفقة من المأكول والمشروب، وفي معناه سكناهن (بالمعروف) أي على قدر كفايتهن من غير سرف ولا تقتير أو باعتبار حالكم فقرًا وغنىً، وفيه وجوب نفقة الزوجة وكسوتها، وذلك ثابت بالكتاب والسنة والإجماع (وقد تركت فيكم ما) أي فيما بينكم وما موصولة أو موصوفة (لن تضلوا بعده) أي بعد تركي إياه فيكم أو بعد التمسك به والعمل بما فيه ويؤيد الأول قوله (إن اعتصمتم به) أي في الاعتقاد والعمل. وفي هذا التركيب إبهام وتوضيح وذلك لبيان أن هذا الشيء الذي تركه فيهم شيء جليل عظيم فيه جميع المنافع الدينية والدنيوية، ثم لما حصل من هذا التشوق التام للسامع وتوجه إلى استماع ما يرد بعده واشتاقت نفسه إلى معرفته بينه بقوله (كتاب الله) بالنصب بدل من مفعول تركت، جزم به الولي. فإن كان الرواية وإلا فيجوز رفعه بأن خبر مبتدأ محذوف، أي هو كتاب الله ولم يذكر السنة مع أن بعض الأحكام يستفاد منها لاندراجها تحته، فإن الكتاب هو المبين للكل بعضها بلا واسطة وبعضها بواسطة، قال تعالي {ونزلنا الكتاب تبيانًا لكل شيء} (16: 89) وقال تعالي {لتبين للناس ما نزل إليهم} (16: 44) كذا في شرح المواهب. وقال القاري: إنما اقتصر على الكتاب لأنه مشتمل على العمل بالسنة لقوله تعالي {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} (4: 59) وقوله {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (59: 7) فيلزم من العمل بالكتاب العمل بالسنة، وفيه إيماء إلى أن الأصل الأصيل هو الكتاب (وأنتم تسئلون) بصيغة المجهول. وفي رواية أبي داود والدارمي وابن ماجه وابن الجارود والبيهقي ((مسئولون)) (عني) أي عن تبليغي وعدمه، قال الطيبي: قوله ((وأنتم تسئلون)) عطف على مقدر، أي قد بلغت ما أرسلت به إليكم جميعًا غير تارك لشيء مما بعثت به وأنتم تسئلون عني يوم القيامة هل بلغت؟
…
بأي شيء
فما أنتم قائلون؟ " قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: " اللهم اشهد. اللهم اشهد "،
ــ
تجبيون؟ ودل على هذا المحذوف الفاء في قوله (فما أنتم قائلون؟) أي إذا كان الأمر على هذا فبأي شيء تجيبون؟ (قالوا: نشهد أنك قد بلغت) أي رسالات ربك (وأديت) أي الأمانة (ونصحت) أي الأمة (فقال بإصبعه) أي أشار بها (السبابة) بالجر (يرفعها إلى السماء) حال من فاعل ((قال)) أي رافعًا إياها أو من السبابة أي مرفوعة (وينكتها إلى الناس) بفتح التحية وسكون النون وضم الكاف بعدها فوقية، كذا في نسخ المشكاة والمصابيح بالتاء الفوقانية، وهكذا في مسلم الطبعات المصرية والهندية، من نكت الأرض بالقضيب إذا ضرب الأرض بالقضيب فيؤثر فيها، وهذا بعيد من معني الحديث. وقيل مجاز من الإشارة بقرينة إلى، وفي المرقاة ((وينكتها إلى الناس)) أي يشير بها إليهم كالذي يضرب بها الأرض، والنكت ضرب رأس الأنامل إلى الأرض. وفي البارع ((قال الأصمعي: ضربه فنكته بالفوقية أي ألقاه على رأسه فوقع متنكتًا)) وذكره الفارابي في باب قتل فيحتمل أن يكون الحديث من هذا، والمعني: ينكسها - انتهى. وقال عياض: كذا (أي بالفوقية) الرواية في مسلم وهو بعيد المعني. قيل: صوابه ((ينكبها)) بموحدة، وكذا رويناه عن شيخنا أبي الوليد هشام بن أحمد في مسلم ومن طريق ابن الأعرابي عن أبي داود في سننه بموحدة، ومن طريق أبي بكر التمار عنه بفوقية، ومعناه يرددها ويقلبها إلى الناس مشيرًا لهم، وهو من نكب كنانته إذا قلبها. وقال القرطبي: روايتي في هذه اللفظة وتقييدي على من أعتمده من الأئمة المقتدين بضم الياء وفتح النون وكسر الكاف مشددة وضم الباء بواحدة أي يعدلها إلى الناس، وروي ينكبها مخففة الباء والنون وضم الكاف ومعناه يقلبها، وهو قريب من الأول وروي ينكتها بفوقية وهي أبعدها – انتهى. وقال الجزري في النهاية: في حديث حجة الوداع ((وينكبها إلى الناس)) أي يميلها إليهم، يريد بذلك أن يشهد الله عليهم، يقال: نكبت الإناء نكبًا ونكبته تنكيبًا إذ أماله وكبه (اللهم اشهد) أي على عبادك بأنهم أقروا بأني قد بلغت. والمعنى ((اللهم اشهد أنت إذ كفى بك شهيدًا)) . قال الزرقاني في شرح المواهب: فإن قيل ليس في هذه الخطبة ذكر شيء من المناسك فيرد ذلك على قول الفقهاء ((يعلمهم الخطيب ما يحتاجون إليه إلى الخطبة الأخرى)) أجيب بأنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بفعله للمناسك عن بيانه بالقول لأنه أوضح، واعتنى بما أهمه في الخطبة التي قالها. والخطباء بعد ليست أفعالهم قدوة ولا الناس يعتنون بمشاهدتها ونقلها فاستحب لهم البيان بالقول، وفيه حجة للمالكية وغيرهم أن خطبة عرفة فردة إذ ليس فيه أنه خطب خطبتين. وما روي في بعض الطرق أنه خطب خطبتين، فضعيف كما قاله البيهقي وغيره. قلت: روى الشافعي بسنده عن جابر قال: راح النبي صلى الله عليه وسلم إلى الموقف بعرفة فخطب الناس الخطبة الأولى، ثم أذن بلال، ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة الثانية ففرغ من الخطبة وبلال من الأذان، ثم أقام بلال فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر. قال الشوكاني في
ثلاث مرات. ثم أذن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئًا.
ــ
النيل (ج 4: ص 287) : حديث جابر هذا أخرجه أيضًا البيهقي وقال: تفرد به إبراهيم بن أبي يحيى، وفي حديث جابر الطويل الذي أخرجه مسلم ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم خطب ثم أذن بلال، ليس فيه ذكر أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة الثانية وهو أصح، ويترجح بأمر معقول هو أن المؤذن قد أمر بالإنصات للخطبة، فكيف يؤذن ولا يستمع الخطبة. قال المحب الطبري: وذكر الملا في سيرته أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من خطبته أذن بلال وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغ بلال من الأذان تكلم بكلمات ثم أناخ راحلته وأقام بلال الصلاة، وهذا أولى مما ذكره الشافعي، إذ لا يفوت به سماع الخطبة من المؤذن – انتهى كلام الشوكاني. وقال الطبري بعد ذكر رواية الملا من سيرته ما لفظه: وهذا وإن كان قريبًا مما ذهب إليه الشافعي إلا أنه ليس فيه أن الخطبة تكون مع الأذان، ثم إن تلك الكلمات لم يقل إنها كانت خطبة – انتهى. (ثم أذن بلال) لم يقع لفظ بلال في مسلم وإنما هو عند الدارمي وابن ماجة وابن الجارود والبيهقي، وزاد الدارمي ((بنداء واحد)) (ثم أقام فصلى العصر) أي جمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر، وهذا الجمع كجمع المزدلفة جمع نسك عند الحنفية وبعض أصحاب الشافعي، وجمع سفر عند الشافعي وأكثر أصحابه، فمن كان حاضرًا أو مسافرًا دون مرحلتين كأهل مكة لم يجز له الجمع عند الشافعي كما لا يجوز له القصر. والحديث يدل على أن الجمع بين الظهر والعصر بعرفة بأذان واحد وإقامتين، واختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال، الأول: أداؤهما بأذان واحد وإقامتين لحديث جابر هذا، وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشافعي وأبو ثور وأحمد في رواية ومالك في رواية، وبه قال ابن القاسم وابن الماجشون وابن المواز من المالكية. والقول الثاني: بإقامتين من غير أذان، وروي ذلك عن ابن عمر. قال ابن قدامة في شرح قول الخرقي ((وإن أذن فلا بأس)) كأنه ذهب إلى أنه مخير بين أن يؤذن للأولى أو لا يؤذن. وكذا قال أحمد، لأن كلاً مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأذان أولى، وهو قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي – انتهى. والقول الثالث: بأذانين وإقامتين وهو الأشهر من مذهب مالك كما في الجلاب، وهو المذكور في المدونة، وروي ذلك عن ابن مسعود. قال ابن قدامة: وإتباع ما جاء في السنة أولى. واعلم أنه اشترط الحنفية للجمع بين الظهر والعصر بعرفة الجماعة فيهما والإمام الأعظم أو نائبه، بخلاف الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، فلم يشترطوا له الإمام ونائبه ولا الجماعة، وإليه ذهب الثوري والنخعي، ولا يشترط الإمام ولا الجماعة عند مالك والشافعي وأحمد وهو الراجح عندنا (ولم يصل بينهما شيئًا) أي من السنن والنوافل، وذلك للاستعجال بالوقوف. قال الطبري: قوله ((ثم أذن ثم أقام)) قال ابن المنذر: عرف جابر أن وقت الأذان في يوم عرفة عند فراغ الإمام من خطبته. وقال الشافعي: يخطب الخطبة الثانية مع استفتاح المؤذن بالأذان ويفرغ من فراغه، ويستدل بحديث رواه عن جابر فذكر الحديث الذي قدمناه. قال الطبري: وهذا يغاير حديث مسلم
ثم ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات،
ــ
من وجهين أحدهما في وقت الأذان والثاني في مكان الخطبة، فإن مسلمًا ذكر أن الخطبة كانت ببطن الوادي قبل إتيان الموقف، والشافعي ذكر أنها بعد إتيان عرفة وحديث مسلم أصح، ويترجح بوجه معقول، وهو أن المؤذنين قد أمروا بالإنصات كما أمر به سائر الناس، وكيف يؤذن من قد أمر بالإنصات؟ ثم لا يبقى للخطبة معنى، إذ يفوت المقصود منها أكثر الناس لاشتغال سمعهم بالأذان عن استماعها، قال البيهقي: وهذا التفصيل في ابتداء بلال بالأذان، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة الثانية ففرغ من الخطبة وبلال من الأذان مما تفرد به ابن أبي يحيى، ثم ذكر الطبري رواية الملا من سيرته، وقد ذكرناها مع كلامه عليها قبل ذلك، ثم قال الطبري: وقال مالك: إن شاء يؤذن والإمام يخطب، وإن شاء يؤذن بعد الفراغ من الخطبة. وقال مرة أخرى إذا فرغ الإمام من الخطبة ابتدأ بالأذان ثم بالإقامة ثم بالصلاة. قال ابن حزم: وهذا القول الثاني عن مالك هو الصحيح الذي لا يجوز تعديه لصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه نأخذ إقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا خير في مخالفته. قال الطبري: وجمعه صلى الله عليه وسلم بالناس بعرفة دليل على جواز الجمع في السفر القصير، إذ لم ينقل عن أحد من أهل مكة التخلف عن الصلاة معه صلى الله عليه وسلم، فإن الجمع بعلة النسك، وفي المسألة ثلاثة أقوال، أحدها: أنه بعلة أصل السفر، الثاني، بعلة السفر الطويل، الثالث: بعلة النسك. وقال في موضع آخر: قد اختلف أصحابنا هل كان جمعه صلى الله عليه وسلم بعلة مطلق السفر أو الطويل أو بعلة النسك؟ والظاهر أنه بعلة النسك حتى يجوز للآفاقي والمكي والمزدلفي والمعرفي، وعلى الأول لا يجوز للمعرفي، وعلى الثاني لا يجوز لغير الآفاقي، ولا خلاف أنه سنة، حتى لو صلى كل صلاة وحدها في وقتها جاز (ثم ركب) أي القصواء كما في رواية ابن الجارود أي وسار (حتى أتى الموقف) أي أرض عرفات، أو اللام للعهد والمراد موقفه الخاص ويؤيده قوله (فجعل بطن ناقته القصواء) بالجر (إلى الصخرات) بفتحتين، قال الطيبي: أي منتهيًا إليها، وتعقبه الأبي فقال: إن كان الوقوف على الصخرات صح هذا التقدير، والأظهر أنه تجوز بالبطن عن الوجه، والتقدير: وجعل وجه ناقته، وهذا إن كانت الصخرات في قبلته لأنه إنما وقف مستقبل القبلة. وقال القرطبي: يعني أنه علا على الصخرات ناحية منها حتى كانت الصخرات تحاذي بطن ناقته. قال الولي العراقي: لا حاجة إلى هذا لأن من وقف بحذاء صخرة على ناقة صار بطنها بحذائها أي إلى جانبها، وليس يشترط في محاذاة بطن الناقة لها أن يكون عاليًا عليها – انتهى. وقال الطبري: ظاهر قوله ((جعل بطن ناقته إلى الصخرات)) يدل على أنه كان واقفًا على الصخرات حتى يكون بطن الناقة إليها، ويؤيده ما رواه ابن إسحاق في سيرته أنه صلى الله عليه وسلم قال:((هذا الموقف)) للجبل الذي كان واقفًا عليه - انتهى. قال النووي: الصخرات حجرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات فهذا هو الموقف المستحب. وأما ما اشتهر بين العوام من الاعتناء بصعود الجبل وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلا فيه فغلط، بل الصواب جواز الوقوف في
وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة، فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس،
وذهبت الصفرة قليلاً، حتى غاب القرص،
ــ
كل جزءٍ من أرض عرفات، وأن الفضيلة في موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصخرات، فإن عجز فليقرب منه بحسب الإمكان. وأما وقت الوقوف فهو ما بين زوال الشمس يوم عرفة وطلوع الفجر الثاني من يوم النحر فمن حصل بعرفات في جزء من هذا الزمان صح وقوفه، ومن فاته ذلك فاته الحج. هذا مذهب الشافعي وجماهير العلماء، وقال مالك: لا يصح الوقوف في النهار منفردًا بل لا بد من الليل وحده، فإن اقتصر على النهار لم يصح وقوفه، وقال أحمد: يدخل وقت الوقوف من الفجر يوم عرفة، وأجمعوا على أن أصل الوقوف ركن لا يصح الحج إلا به (وجعل المشاة بين يديه) الحَبْل بفتح الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة ثم لا هو المستطيل من الرمل، وقيل: هو التل الضخم منه والمشاة بضم الميم جمع ماشٍ، وأضيف الحبل إليه لاجتماعهم هناك من الموقف، والمراد به صف المشاة ومجتمعهم في مشيهم تشبيها بحبل الرمل. وقيل: أراد طريقهم الذي يسلكونه في الرمل. وقال النووي: روي حبل بالحاء المهملة وإسكان الباء، وروي جبل بالجيم وفتح الباء، قال القاضي عياض: الأول أشبه بالحديث، وحبل المشاة أي مجتمعهم، وحبل الرمل ما طال منه وضخم. وأما بالجيم فمعناه طريقهم، وحيث تسلك الرجالة، وتعقبه الولي العراقي بأن ما ذكره من رواية هذه اللفظة بوجهين، وترتب هذين المعنيين على هذين الوجهين لم أره في كلام القاضي لا في الإكمال ولا في المشارق ولا في كلام غيره أيضًا - انتهى. وقال الطبري: حبل المشاة بالحاء المهملة مفتوحة والباء موحدة ساكنة ثم لام أي صفهم ومجتمعهم في مشيهم، فكأنه عبر بحبل المشاة عن المشاة أنفسهم، وقد ضبطه بعضهم بالجيم وصححه شيخنا أبو عمرو بن الصلاح في منسكه، قال: وبه شهدت المشاهدة، وذكره بعض من صنف في الأمكنة المتعلقة بالحجيج وهو الظاهر – انتهى. (واستقبل القبلة) فيه أنه يستحب استقبال القبلة في الوقوف بعرفة (فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس) قال القاري: أي أكثرها أو كادت أن تغرب (وذهبت الصفرة قليلاً) أي ذهابًا قليلاً (حتى غاب القرص) قال القاري: أي جميعه – انتهى. هكذا هو في جميع النسخ مسلم بلفظ ((حتى)) بفوقية فتحتية، ولأبي داود (والبيهقي)((حين)) بتحتية فنون، وقيل إنه الصواب، وهو مفهوم الكلام، ولحتى وجه قاله عياض. وقال النووي: ويحتمل أن الكلام على ظاهره ويكون قوله ((حتى غاب القرص)) بيانًا لقوله ((غربت الشمس وذهبت الصفرة)) لأن غروبها قد يطلق مجازًا على مغيب معظم القرص، فأزال ذلك الاحتمال بقوله حتى غاب القرص – انتهى. وقال القاري: قيل: صوابه حين غاب القرص، وفيه نظر إذ لا يظهر معنى لقوله ((ذهبت الصفرة قليلاً حين غاب القرص)) وكأن القائل غفل عن قيد القلة وذهل عن الرواية التي تطابق الدراية – انتهى. وفيه تنبيه على الاحتياط والمكث بعد الغروب حتى تذهب الصفرة لأجل الحائل من الجبال،
وأردف أسامة، ودفع حتى أتى المزدلفة،
ــ
وفي وقوفه صلى الله عليه وسلم على راحلته وإطالته الوقوف عليها دليل على إباحة ذلك مطلقًا خلافًا لمن كرهه، ويحتمل أن يكون ذلك مقصورًا على ما هو قرابة دون غيره من المباح وعلى ما خف أمره دون الأحمال الثقال والمحامل الثقيلة بالركبان المتعددة لما فيه من إتعاب الحيوان من غير ضرورة (وأردف أسامة) أي ابن زيد، وفي مسلم وغيره ((أردف أسامة خلفه)) وكذا هو في المصابيح، وسقط لفظ ((خلفه)) من جميع نسخ المشكاة. قال النووي: فيه جواز الإرداف إذا كانت الدابة مطيقة، وقد تظاهرت به الأحاديث. وقال الطبري: وإردافه صلى الله عليه وسلم أسامة رخصة في ركوب اثنين على بعير واحد، وأن ذلك لا ينقص من منصب الجليل شيئًا، وبيان فضل أسامة بتخصيصه بذلك دون من حضره في ذلك الوقت، وكذلك فضل الفضل في إردافه في ثاني الحال، وفضل عليٍّ باستنابته في النحر وبإشراكه في هديه (ودفع) أي ابتدأ السير ودفع نفسه ونحاها أو دفع ناقته وحملها على السير، قاله الجزري. وقال السيوطي: أي خرج من عرفات، وفي رواية ((أفاض وعليه السكينة)) وفي مسلم ((ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق)) (بفتح الشين المعجمة والنون المخففة فقاف أي ضم وضيق) للقصواء الزمام (يعني ضم رأسها إليه وبالغ في الضم، يقال شنق لها وأشنق) حتى أن رأسها ليصيب مَوْرِك رحله (بفتح الميم وسكون الواو وكسر الراء هو الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدام واسطة الرحل إذا مل من الركوب، وقال عياض: هو بفتح الراء وهو قطعة أدم محشوة تجعل في مقدم الرحل شبه المخدة الصغيرة يضع الراكب رجليه عليها متوركًا ليستريح من وضعهما في الركاب، أراد أنه قد بالغ في جذب رأسها إليه ليكفها عن السير، ورَحْله بفتح الراء وسكون الحاء المهملة. قال القسطلاني: وفي نسخة لمسلم ((رجله)) بكسر الراء بعدها جيم. قال النووي: وفي هذا استحباب الرفق في السير من الراكب بالمشاة وبأصحاب الدواب الضعيفة) ويقول بيده اليمنى (أي يشير بها) أيها الناس السكينة السكينة (بالنصب أي الزموا السكينة وهي الرفق والطمأنينة وعدم الزحمة، فالنصب على الإغراء. قال النووي: فيه أن السكينة في الدفع من عرفات سنة، فإذا وجد فرجة يسرع كما ثبت في الحديث الآخر) كلما أتى حِبلاً من الحِبال (بالحاء المهملة المكسورة جمع حبل وقد تقدم معناه) وأرخى لها قليلاً (أي أرخى للقصواء الزمام إرخاءً قليلاً أو زمانًا قليلاً) حتى تصعد (بفتح التاء المثناة فوق من صعد، وروي بضمها من أصعد يقال: صعد في الجبل وأصعد في الأرض لا غير أي ذهب وسار، ومنه قوله تعالى {إذ تصعدون} (3: 153)(حتى أتى المزدلفة) أصله مزتلفة فأبدل من التاء دال لقرب المخرج وهي موضع بين عرفة ومنى وكلها من الحرم، وهي المسماة بجَمْع – بفتح الجيم وسكون الميم وعين مهملة، وسميت جمعًا لأن آدم وحواء عليهما السلام بعد ما أهبطا إلى الأرض كل واحد في موضع اجتمعا به. وقيل: لأنه يجمع فيها بين صلاتين المغرب والعشاء. وقيل: لأن الناس يجتمعون فيها، وسميت بالمزدلفة لذلك أيضًا من الازدلاف وهو الاجتماع، وقيل:
فصلى بها المغرب والعشاء،
ــ
لأنهم يزدلفون إلى الله تعالى أي يتقربون إليه بالوقوف بها. وقيل لأن آدم أزلف إلى حواء بها أي دنا وقرب منها. والازدلاف الاقتراب والتقرب والزلفة والزلفى القربة. وقيل لاقترابهم فيها من منى، يقال ((له زلفى عند فلان)) أي قربى منه. وقال النووي: المزدلفة من التزلف والازدلاف وهو التقرب، لأن الحجاج إذا أفاضوا من عرفات ازدلفوا إليها أي مضوا إليها وتقربوا منها. وقيل: سميت بذلك لمجيء الناس إليها في زلف من الليل أي ساعات. قال: والمزدلفة كلها من الحرم، وحدها ما بين مازمي عرفة ووادي محسر، وليس هذان الحدان منها. ويدخل في المزدلفة جميع تلك الشعاب والجبال الداخلة في الحد المذكور. قال الشاه ولي الله الدهلوي: إنما دفع صلى الله عليه وسلم من عرفات بعد الغروب ردًا لتحريف الجاهلية، فإنهم كانوا لا يدفعون إلا قبل الغروب ولأن قبل الغروب غير مضبوط وبعد الغروب أمر مضبوط، وإنما يؤمر في مثل ذلك اليوم بالأمر المضبوط. قال: والسر في المبيت بمزدلفة أنه كان سنة قديمة فيهم، ولعلهم اصطلحوا عليها لما رأوا من أن للناس اجتماعًا لم يعهد مثله في غير هذا الموطن، ومثل هذا مظنة أن يزاحم بعضهم ويحطم بعضهم بعضًا. وإنما براحهم بعد المغرب وكانوا طول النهار في تعب يأتون من كل فج عميق فلو تجشموا أن يأتوا منى والحال هذه لتعبوا (فصلى بها المغرب والعشاء) أي جمع بينهما في وقت العشاء. قال: المحب الطبري: وهذا الجمع سنة بإجماع من العلماء، وإنما اختلفوا فيما لو صلى كل صلاة في وقتها فعند أكثر العلماء يجوز. وقال الثوري وأصحاب الرأي: إن صلى المغرب دون مزدلفة فعليه الإعادة، وجوزوا في الظهر والعصر أن يصلى كل صلاة في وقتها مع كراهية – انتهي. وقال الرافعي: لو انفرد بعضهم في الجمع بعرفة أو بمزدلفة أو صلى إحدى الصلاتين مع الإمام والأخرى وحده جاز. ويجوز أن يصلى المغرب بعرفة أو في الطريق، وقال أبو حنيفة: لا يجوز ويجب الجمع بمزدلفة – انتهي. وقال النووي: في الحديث أن السنة للدافع من عرفات أن يؤخر المغرب إلى وقت العشاء، ويكون هذا التأخير بنية الجمع ثم يجمع بينهما في المزدلفة في وقت العشاء وهذا مجمع عليه، لكن مذهب أبي حنيفة وطائفة أنه يجمع بسبب النسك، ويجوز لأهل مكة والمزدلفة ومنى وغيرهم. والصحيح عند أصحابنا أنه جمع بسبب السفر فلا يجوز إلا لمسافر سفرًا يبلغ به مسافة القصر، وللشافعي قول ضعيف أنه يجوز الجمع في كل سفر وإن كان قصيرًا، وقال بعض أصحابنا: هذا الجمع بسبب النسك كما قال أبو حنيفة. قال أصحابنا ولو جمع بينهما في وقت المغرب في أرض عرفات أو في الطريق أو في موضع آخر أو صلى كل واحدة في وقتها جاز جميع ذلك لكنه خلاف الأفضل، هذا مذهبنا وبه قال جماعات من الصحابة والتابعين، وقاله الأوزاعي وأبو يوسف وأشهب وفقهاء أصحاب الحديث. وقال أبو حنيفة وغيره من الكوفيين: يشترط أن يصليهما بالمزدلفة ولا يجوز قبلها. وقال مالك: لا يجوز أن يصليهما قبل المزدلفة إلا من به أو بدابته عذر فله أن يصليهما قبل المزدلفة بشرط كونه بعد مغيب الشفق – انتهي.
بأذان واحد وإقامتين،
ــ
قلت: مذهب الحنفية على ما ذكره أصحابهم أنه يعيد مغربًا أداه في الطريق أو عرفات ما لم يطلع الفجر، هذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف يجزئه وقد أساء. واستدل لأبي يوسف بأنه أداها في وقتها فلا تجب إعادتها كما بعد طلوع الفجر إلا أن التأخير من السنة فيصير مسيئًا بتركه، واستدل لهما بحديث أسامة ((الصلاة أمامك)) معناه وقت الصلاة، قالوا: وبه يفهم وجوب التأخير، وإنما وجب ليمكنه الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة فكان عليه الإعادة ما لم يطلع الفجر ليصير جامعًا بينهما، وإذا طلع الفجر لا يمكنه الجمع فتسقط الإعادة – انتهي. وقال الجمهور: معني قوله ((الصلاة أمامك)) أي موضع صلاة المغرب والعشاء أمامك وهو المزدلفة، وهو محمول عندهم على الأولوية (بأذان واحد وإقامتين) قال النووي: فيه أنه يصلي صلاة المغرب والعشاء في وقت العشاء بأذان للأولى وإقامتين لكل واحدة إقامة، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا، وبه قال أحمد وأبو ثور وابن الماجشون المالكي والطحاوي الحنفي. وقال مالك: يؤذن ويقيم للأولي ويؤذن ويقيم أيضًا للثانية، وهو محكي عن ابن عمر وابن مسعود، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: بأذان واحد وإقامة واحدة، وللشافعي وأحمد قول أنه يصلي كل واحدة بإقامتها بلا أذان. وقال الثوري: يصليهما جميعًا بإقامة واحدة وهو يحكى أيضًا عن ابن عمر – انتهي. وقال الزبيدي في شرح الإحياء بعد ذكر حديث جابر الطويل عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمزدلفة المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ما نصه: وهو قول أحمد وأصح قولي الشافعي وغيرهما من العلماء، وبه قال زفر من أصحابنا واختاره الطحاوي، ورجحه ابن الهمام، واستدلوا بحديث جابر هذا. وقال أبو حنيفة: بأذان واحد وإقامة واحدة لما أخرج أبو داود من حديث أشعث بن أبي الشعثاء عن أبيه قال: أقلبت مع ابن عمر من عرفات إلى المزدلفة فأذن وأقام أو أمر إنساناً فأذن وأقام فصلى بنا المغرب ثلاث ركعات ثم التفت إلينا فقال: الصلاة، فصلى بنا العشاء ركعتين، فقيل له في ذلك، فقال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم هكذا. وأخرج الطبراني عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة بأذان واحد وإقامة واحدة، ثم ذكر الزبيدي ما رواه مسلم من حديث ابن عمر في الجمع بين الصلاتين بإقامة واحدة وما رواه أبو الشيخ من حديث ابن عباس كذلك. قال ابن الهمام: فقد علمت ما في هذا من التعارض فإن لم يرجع ما اتفق عليه الصحيحان على ما انفرد به مسلم وأبو داود حتى تساقطا، كان الرجوع إلى الأصل يوجب تعدد الإقامة بتعدد الصلاة كما في قضاء الفوائت بل أولى لأن الصلاة الثانية هنا وقتية، فإذا أقيم للأولى المتأخرة عن وقتها المعهود كانت الحاضرة أولى أن يقام لها بعدها. وقال مالك: بأذانين وإقامتين، واحتج بفعل ابن مسعود أخرجه أحمد والبخاري وابن أبي شيبة، ولفظ الأخير ((فلما أتي جمعًا أذن وأقام فصلى المغرب ثلاثاً ثم تعشى ثم أذن وأقام فصلى العشاء ركعتين)) ومنهم من قال: يجمع بينهما بإقامتين دون أذان واحتجوا بما رواه البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بجمع، كل واحدة بإقامة ولم يسبح بينهما ولا على أثر كل
ولم يسبح بينهما شيئًا،
ــ
واحدة منهما، وأخرجه أبو داود وقال: ولم يناد في الأولى. وفي رواية عنده أيضًا ((ولم يناد في واحدة منهما)) وحكى البغوي والمنذري أن هذا قول الشافعي وإسحاق بن راهويه، وحكى غيرهما أن أصح قولي الشافعي أنه يجمع بينهما بأذان وإقامتين ومنهم من قال: بإقامة واحدة دون أذان، ودليلهم ما رواه الشيخان والنسائي عن ابن عمر أنه صلى بجمع المغرب والعشاء بإقامة واحدة ثم انصرف فقال هكذا صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المكان، وأخرجه أبو داود وزاد بعد قوله ((بإقامة واحدة)) ((ثلاثًا واثنين)) وبه قال سفيان الثوري وقال: أيهما فعلت أجزأك. قال المحب الطبري بعد ذكر هذه الروايات ما لفظه: وهذه الأحاديث المختلفة في هذا الباب توهم التضاد والتهافت، وقد تعلق كل من قال بقول منها بظاهر ما تضمنه ويمكن الجمع بين أكثرها فنقول قوله ((بإقامة واحدة)) أي لكل صلاة أو على صفة واحدة لكل منهما، ويتأيد برواية من صرح بإقامتين، ثم نقول: المراد بقول من قال كل واحدة يإقامة، أي ومع إحداهما أذان، تدل عليه رواية من صرح بأذان وإقامتين، وأما قول ابن عمر لما فرغ من المغرب ((الصلاة)) قد يوهم الاكتفاء بذلك دون إقامة، ويتأيد برواية من روى أنه صلاهما بإقامة واحدة، فنقول: يحتمل أنه قال ((الصلاة)) تنبيهًا لهم عليها لئلا يشتغلوا عنها بأمر آخر، ثم أقام بعد ذلك أو أمر بالإقامة، وليس في الحديث أنه اقتصر على قوله الصلاة ولم يقم، ونقول: العمدة من هذه الأحاديث كلها حديث جابر دون سائر الأحاديث، لأن من روى أنه جمع بإقامة معه زيادة علم على من روى الجمع دون أذان ولا إقامة، وزيادة الثقة مقبولة، ومن روى بإقامتين فقد أثبت ما لم يثبته من روى بإقامة فقضى به عليه، ومن روى بأذان وإقامتين وهو حديث جابر وهو أتم الأحاديث فقد أثبت ما لم يثبته من تقدم ذكره فوجب الأخذ به والوقوف عنده، ولو صح حديث مسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث ابن مسعود الذي أخذ به مالك من أذانين وإقامتين لوجب المصير إليه لما فيه من إثبات الزيادة، ولكن لا سبيل إلى التقدم بين يدي الله ورسوله ولا إلى الزيادة على ما صح عنه صلى الله عليه وسلم انتهى. وقال ابن حزم: وأشد الاضطراب في ذلك عن ابن عمر فإنه روي عنه من عمله الجمع بينهما بلا أذان ولا إقامة، وروي عنه أيضًا بإقامة واحدة، وروي عنه موقوفاً بأذان واحد وإقامة واحدة، وروي عنه مسندًا الجمع بينهما بإقامتين، وروي عنه مسندًا بأذان واحد وإقامة واحدة – انتهى. وقد ظهر مما ذكرنا من كلام الزبيدي وابن الهمام والطبري وابن حزم أن الروايات في هذا الباب مختلفة جدًا وقد تقدم وجه التطبيق والجمع بينهما ورجحان وحدة الأذان لإقامة في الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة (ولم يسبح بينهما شيئًا) أي لم يصل بين المغرب والعشاء شيئًا من النوافل والسنن. والنافلة تسمى سبحة لاشتمالها على التسبيح ففيه المولاة بين الصلاتين المجموعتين. وقد ورد الفصل بينهما بإناخة كل إنسان بعيره في حديث أسامة عند الشيخين وهذا لا ينافي الموالاة. وأما سنة المغرب
ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة،
ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام،
ــ
وراتبة العشاء فلم يرد ذكرها في حديث خلافًا لما هو المعتمد عند الحنفية (ثم اضطجع) أي للنوم تقوية للبدن ورحمة للأمة، لأن في نهاره عبادات كثيرة يحتاج إلى النشاط فيها (حتى طلع الفجر) قال في المواهب وشرحه: وترك عليه السلام قيام الليل تلك الليلة ونام حتى أصبح لما تقدم له من الأعمال بعرفة من الوقوف من الزوال إلى ما بعد الغروب، واجتهاده عليه السلام في الدعاء وسيره بعد الغروب إلى المزدلفة، واقتصر فيها على صلاة المغرب والعشاء قصرًا لها وجمعًا لهما جمع تأخير، ورقد بقية ليلته مع كونه عليه السلام كان يقوم الليل حتى تورمت قدماه، ولكنه أراح نفسه الشريفة لما تقدم في عرفة من التعب، وقد قال: إن لجسدك عليك حقًا. ولما هو بصدده يوم النحر من كونه نحر بيده الشريفة ثلاثًا وستين بدنة، وباقي المائة نحره عليّ، وذهب إلى مكة لطواف الإفاضة ورجع إلى منى – انتهى. قال القاري: ثم المبيت عندنا سنة وعليه بعض المحققين من الشافعية، وقيل: واجب، وهو مذهب الشافعي، وقيل: ركن لا يصح الحج إلا به كالوقوف بعرفة وعليه جماعة من الأجلة. وقال مالك: النزول واجب والمبيت سنة، وكذا الوقوف بعده ثم المبيت بمعظم الليل، والصحيح أنه بحضور لحظة بالمزدلفة – انتهى. وقال النووي: بمزدلفة ليلة النحر بعد الدفع من عرفات نسك، وهذا مجمع عليه، لكن اختلف العلماء هل هو واجب أم ركن أم سنة؟ والصحيح من قولي الشافعي أنه واجب، لو تركه أثم وصح حجمه ولزمه دمه. والثاني أنه سنة لا إثم في تركه ولا يجب فيه دم ولك يستحب. وقال جماعة من أصحابنا: هو ركن لا يصح الحج إلا به كالوقوف بعرفات، قاله من أصحابنا ابن بنت الشافعي وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وقاله خمسة من أئمة التابعين وهم علقمة والأسود والشعبي والنخعي والحسن البصري، والله أعلم. والسنة أن يبقى بالمزدلفة حتى يصلي بها الصبح إلا الضعفة، فالسنة لهم الدفع قبل الفجر كما سيأتي في موضعه وفي أقل المجزئ من هذا المبيت ثلاثة أقوال عندنا، الصحيح: ساعة في النصف الثاني من الليل، والثاني: ساعة في النصف الثاني أو بعد الفجر قبل طلوع الشمس، والثالث: معظم الليل (فصلى الفجر حين تبين له الصبح) أي ظهر له. قال النووي: فيه أن السنة أن يبالغ بتقديم صلاة الصبح في هذا الموضع ويتأكد التبكير بها في هذا اليوم أكثر من تأكده في سائر السنة للإقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن وظائف هذا اليوم كثيرة، فسن المبالغة بالتكبير للصبح ليتسع الوقت للوظائف (ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام) زاد في رواية أبي داود وابن ماجة وابن الجارود والبيهقي ((فرقى عليه)) والمشعر بفتح الميم والعين كما في القرآن، وقيل بكسر الميم، موضع خاص من المزدلفة، سمي بالمشعر لأنه معلم للعادة، والحرام لأنه من الحرم أو لحرمته. قال النووي: المَشعر بفتح الميم هذا هو الصحيح وبه جاء القرآن، وتظاهرت
..............................................................
ــ
به روايات الحديث، ويقال أيضًا بكسر الميم، والمراد به هنا قزح بضم القاف وفتح الزاي وبحاء مهملة وهو جبل معروف في المزدلفة، وهذا الحديث حجة الفقهاء في أن المشعر الحرام هو قزح، وقال جماهير المفسرين وأهل السير والحديث: المشعر الحرام جميع المزدلفة – انتهى. وقال المحب الطبري (ص 126) : في قوله ((حتى أتى المشعر الحرام)) حجة لمن قال: المشعر الحرام هو الجبل الصغير المعروف بالمزدلفة يقال له قزح، والأفصح في المشعر فتح الميم، وأكثر كلام العرب بكسرها، ولا نعرف الكسر في القراءة إلا شاذًا – انتهى. وقد روى الشيخان من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بالمزدلفة وقال: وقفت ها هنا ومزدلفة كلها موقف. وروى أبو داود والترمذي وصححه من حديث عليّ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصبح يجمع أتى قزح فوقف عليه، وقال: هذا قزح وهو الموقف وجمع كلها موقف. وروى سعيد بن منصور من حديث ابن عمر: أنه رأى ناسًا يزدحمون على الجبل الذي يقف عليه الإمام، فقال: يا أيها الناس! لا تشقوا على أنفسكم، ألا إن ما ها هنا مشعر كله. وعنه قال: المشعر الحرام المزدلفة كلها. أخرجه أبو ذر، ذكر هذه الأحاديث الطبري (ص 379) ثم قال حديث ابن عمر هذا مصرح بأن المشعر الحرام هو المزدلفة، وكذلك تضمنه كثير من كتب التفسير في قوله تعالى {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام} (2: 198) وحديث عليّ وجابر يدلان على أن قزح هو المشعر الحرام وهو المعروف في كتب الفقه، فتعين أن يكون في أحدهما حقيقة وفي الآخر مجازًا دفعًا للاشتراك، إذ المجاز خير منه، فترجح احتماله عند التعارض فيجوز أن يكون حقيقة في قزح، فيجوز إطلاقه على الكل لتضمنه إياه، وهو أظهر الاحتمالين في الآية، فإن قوله تعالى ((عند المشعر الحرام)) يقضي أن يكون الوقوف في غيره وتكون المزدلفة كلها عنده، لما كانت كالحريم له، ولو أريد بالمشعر الحرام المزدلفة لقال: في المشعر الحرام، ويجوز أن يكون حقيقة في المزدلفة كلها، وأطلق على قزح وحده تجوزًا لاشتمالها عليه، وكلاهما وجهان من وجوه المجاز، أعني إطلاق اسم الكل على البعض، وبالعكس. وهذا القائل يقول: حروف المعاني يقوم بعضها مقام بعض، فقامت ((عند)) مقام ((في)) ومنه ((ولهم اللعنة)) أي عليهم، وفي الحديث والأثر ما يصدق كل واحد من الاحتمالين، وقزح موضع من المزدلفة وهو موقف قريش في الجاهلية، إذ كانت لا تقف بعرفة. وقال الجوهري: قزح اسم جبل بالمزدلفة. قال الطبري: وقد بني عليه بناء، فمن تمكن من الرقي عليه رقى، وإلا وقف عنده مستقبل القبلة، فيدعو ويكبر ويهلل ويوحد ويكثر من التلبية إلى الإسفار، ولا ينبغي أن يفعل ما تطابق عليه الناس اليوم من النزول بعد الوقوف من درج في وسطه ضيقة يزدحم الناس على ذلك حتى يكاد يهلك بعضهم بعضًا، وهو بدعة شنيعة بل يكون نزوله من حيث رقيه من الدرج الظاهرة الواسعة. وقد ذكر ابن الصلاح في منسكه: أن قزح جبل صغير آخر المزدلفة، ثم قال أي ابن الصلاح بعد ذلك: وقد استبدل الناس بالوقوف على الموضع الذي ذكرناه الوقوف على بناء مستحدث في وسط المزدلفة، ولا تتأدى به هذه
فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًا،
ــ
السنة، هذا آخر كلامه، والظاهر أن البناء إنما هو على الجبل كما تقدم ذكره، ولم أر ما ذكره لغيره – انتهى كلام الطبري. (فاستقبل القبلة) يعني الكعبة (فدعاه) وفي لفظ ((فحمد الله)) أخرجه أبو داود وابن ماجة وابن الجارود والبيهقي. قال المحب الطبري: يستحب للحاج أن يدعو بدعاء ابن عمر المتقدم في فصل ركعتي الطواف وبعد السعي، يريد بذلك ما رواه أبو ذر عن ابن عمر أنه كان إذا قدم حاجًا طاف بالبيت سبوعًا ثم صلى ركعتين يطيل فيهما الجلوس فيكون جلوسه أطول من قيامه لمدحه ربه وطلبه حاجته، يقول مرارًا: اللهم اعصمني بدينك وطاعتك وطواعية رسولك، اللهم جنبني حدودك، اللهم اجعلني ممن يحبك، ويحب ملائكتك، ويحب رسلك، ويحب عبادك الصالحين. اللهم حببني إليك وإلى ملائكتك وإلى رسلك وإلى عبادك الصالحين. اللهم يسرني لليسرى، وجنبني العسرى، واغفر لي في الآخرة والأولى. اللهم اجعلني أوف بعهدك الذي عاهدت عليه واجعلني من أئمة المتقين ومن ورثة جنة النعيم، واغفر لي خطيئتي يوم الدين. وكان يقول ذلك على الصفا والمروة وبعرفات وبجمع وعلى الجمرتين وفي الطواف. قال الطبري: وفي رواية بعد قوله ((واغفر لي خطيئتي يوم الدين)) : اللهم إنك قلت: ادعوني استجب لكم وإنك لا تخلف الميعاد، اللهم إذ هديتني للإسلام فلا تنزعني منه ولا تنزعه مني حتى تتوفاني عليه وقد رضيت عني، اللهم لا تقدمني لعذاب ولا تؤخرني لسيء العيش. أخرجه سعيد بن منصور، وأخرج مالك طرفًا منه، وأخرجه بكماله ابن المنذر (وكبره) أي قال: الله أكبر (وهلَّلَه) أي قال: لا إله إلا الله (ووحده) أي قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلخ. فالنبي صلى الله عليه وسلم أحق من يعمل بقوله تعالى: {فاذكروا الله عن المشعر الحرام واذكروه كما هداكم} (2: 198)(فلم يزل واقفًا) فيه أن الوقوف على قزح من مناسك الحج وهذا لا خلاف فيه. قال الشاه ولي الله الدهلوي: وإنما شرع الوقوف بالمشعر الحرام لأنه كان أهل الجاهلية يتفاخرون ويتراؤن فأبدل من ذلك إكثار ذكر الله ليكون كابحاً عن عادتهم ويكون التنويه بالتوحيد في ذلك المواطن كالمنافسة،كأنه قيل: هل يكون ذكركم الله أكثر أو ذكر أهل الجاهلية مفاخرهم أكثر؟ (حتى أسفر جدًا) أي أضاء الفجر إضاءة تامة، فالضمير في أسفر يعود إلى الفجر المذكور أولاً، وقوله ((جدًا)) بكسر الجيم أي إسفارًا بليغًا. قال المحب الطبري: هذا كمال السنة في المبيت بالمزدلفة، وعليه اعتمد من أوجب ذلك. وقال أبو حنيفة: إذا لم يكن بها بعد طلوع الفجر لزمه دم إلا لعذر من ضعف أو غيره، فإن كان بها أجزأه وإن لم يكن قبله، وهو ظاهر ما نقله البغوي عن مالك وأحمد، وفي وجوب المبيت عندنا قولان الأصح وجوبه، والمعتمد فيه أدنى جزء بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر هذا هو المشهور، وللشافعي قول آخر ((إلى طلوع الشمس)) فمن كان بها فيه فلا شيء عليه وإن لم يكن قبله، ومن دفع قبله فعليه دم على الأصح – انتهى. وقال ابن عابدين: الوقوف عند المشعر الحرام واجب عندنا لا سنة
فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس، حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً،
ــ
والبيتوتة بمزدلفة سنة مؤكدة إلى الفجر لا واجبة خلافاً للشافعي فيهما كما في اللباب (فدفع) أي ذهب إلى منى (قبل أن تطلع الشمس) هذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى منى قبل طلوع الشمس، وبه أخذ الجمهور. قال النووي: قال ابن مسعود وابن عمر وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء: لا يزال واقفًا فيه يدعو ويذكر حتى يسفر الصبح جدًا كما في الحديث. وقال مالك: يدفع منه قبل الإسفار. قال الطبري: قال أهل العلم: وهذه سنة الإسلام أن يدفع من المزدلفة عند الإسفار قبل طلوع الشمس. قال طاوس: كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة قبل أن تغيب الشمس ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير، فأخر الله هذه وقدم هذه. قال الشافعي: يعني قدم المزدلفة قبل أن تطلع الشمس وأخر عرفة إلى أن تغيب الشمس (وأردف الفضل بن عباس) أي بدل أسامة (حتى أتي بطن محسر) بضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المشددة المهملتين، اختلفوا في محسر فقيل: هو واد بين مزدلفة ومنى. قال ابن القيم: ومحسر برزخ بين منى ومزدلفة لا من هذه ولا من هذه. وقيل: ما صب منه في المزدلفة فهو منها، وما صب منه في منى فهو منها، وصوبه بعضهم. وقد جاء ((ومزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر)) فيكون على هذا قد أطلق بطن محسر، والمراد منه ما خرج من مزدلفة، وإطلاق اسم الكل على البعض جائز مجازًا شائعًا. وقال الطحاوي: ليس وادي محسر من منى ولا من المزدلفة، فالاستثناء في قوله ((إلا وادي محسر)) منقطع. قال الطبري: سمي بذلك لأنه حسر فيه قيل أصحاب الفيل أي أعيي، وقيل: لأنه يحسر سالكيهم ويتعبهم، يقال حسرت الناقة أتعبتها، وأهل مكة يسمون هذا الوادي وادي النار، يقال: أن رجلاً اصطاد فيه فنزلت نار فأحرقته (فحرك قليلاً) أي حرك ناقته وأسرع السير قليلاً. قال النووي: هي سنة من سنن السير في ذلك الموضع. قال أصحابنا: يسرع الماشي ويحرك الراكب دابته في وادي محسر ويكون ذلك قدر رمية بحجر – انتهى. قال الشافعي في الأم: وتحريكه صلى الله عليه وسلم الراحلة فيه يجوز أن يكون فعل ذلك لسعة الموضع. قال الطبري: وهكذا كل من خرج من مضيق في قضاء جرت العادة بتحريكه فيه، وقيل يجوز أن يكون فعله لأنه مأوى الشياطين. وقيل لأنه كان موقفًا للنصارى فاستحب الإسراع فيه. وقال الأسنوي: وظهر لي معنى آخر في حكمة الإسراع وهو أنه مكان نزل فيه العذاب على أصحاب الفيل القاصدين هدم البيت فاستحب فيه الإسراع لما ثبت في الصحيح أمره المار على ديار ثمود ونحوهم بذلك. قال ابن القيم: وهذه كانت عادته صلى الله عليه وسلم في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه وكذلك فعل في سلوكه الحجر وديار ثمود، تقنع بثوبه وأسرع السير – انتهى. وقال الشاه ولى الله الدهلوي: إنما أوضع بالمحسر لأنه محل هلاك أصحاب الفيل فمن شأن من خاف الله وسطوته أن يستشعر الخوف في ذلك الموطن ويهرب من الغضب، ولما
ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها
ــ
كان استشعاره أمرًا خفيًا ضبط بفعل ظاهر مذكر له منبه للنفس عليه - انتهى. قال الزرقاني: وهذا الجواب أي ما قاله الطبري وابن القيم والأسنوي في وجه التسمية بمحسر وفي حكمة الإسراع فيه مبني على قول الأصح خلافه، وهو أن أصحاب الفيل لم يدخلوا الحرم وإنما أهلكوا قرب أوله. وقال القاري: المرجح عند غير هؤلاء أنهم لم يدخلوه، وإنما أصابهم العذاب قبيل الحرم قرب عرفة فلم ينج منهم إلا واحد أخبر من ورائهم (ثم سلك الطريق الوسطي) وهي غير طريق ذهابه إلى عرفات، وذلك كان بطريق ضب، وهذا طريق المازمين وهما جبلان. قال النووي: فيه أن سلوك هذا الطريق في الرجوع من عرفات سنة، وهو غير الطريق الذي ذهب فيه إلى عرفات. وهذا معنى قول أصحابنا يذهب إلى عرفات في طريق ضب، ويرجع في طريق المازمين ليخالف الطريق تفاؤلاً بغير الحال كما فعل صلى الله عليه وسلم في دخول مكة حين دخلها من الثنية العليا وخرج من الثنية السفلى، وخرج إلى العيد في طريق ورجع في طريق آخر، وحول ردائه في الاستسقاء (التي تخرج) وفي رواية النسائي وأبي داود والدارمي وابن ماجة وابن الجارود والبيهقي ((التي تخرجك)) (على الجمرة الكبرى) قال النووي: الجمرة الكبرى هي العقبة وهي الجمرة التي عند الشجرة (حتى أتى) عطف على سلك أي حتى وصل (الجمرة التي عند الشجرة) أي جمرة العقبة، هذا يدل على أنه كان إذ ذاك هناك شجرة (فرماها) أي ضحى كما في رواية. أعلم أنه ذكر الغزالي في الإحياء ما يدل على أن رمى الجمار أمري تعبدي والعقل والنفس معزولان فيه كغالب أعمال الحجاج، وهو الذي صرح به العارفون في كتبهم، وربما يفهم منه أنه غير معقول المعنى، وليس إلا التعبد والتشبه بإبراهيم عليه السلام فقط. قال الزبيدي متعقبًا على كلام الغزالي: وهو ليس على ظاهره، فإن رمى الجمار اعتبار لأهله في سياقه غموض ودقة، ثم ذكره على سبيل الإجمال. من شاء الوقوف عليه فليرجع إلى شرح الإحياء وقال الشاه ولى الله الدهلوي: والسر في رمى الجمار ما ورد في نفس الحديث من أنه إنما جعل لإقامة ذكر الله عز وجل، وتفصيله أن أحسن أنواع توقيت الذكر وأكملها وأجمعها لوجوه التوقيت أن يوقت بزمان وبمكان ويقام معه ما يكون حافظًا لعدده محققًا لوجوده على رؤوس الأشهاد حيث لا يخفى شيء، وذكر الله نوعان يقصد به الإعلان بانقياده لدين الله، والأصل فيه اختيار مجامع الناس دون الإكثار، ومنه الرمي، ولذلك لم يؤمر بالإكثار هناك، ونوع يقصد به انصباغ النفس بالتطلع للجبروت، وفيه الإكثار، وأيضًا ورد في الأخبار ما يقتضى أنه سنة سنها إبراهيم عليه السلام حين طرد الشيطان، ففي حكاية مثل هذا الفعل تنبيه للنفس أي تنبيه - انتهى. قال النووي: في حديث أن السنة للحاج إذا دفع من مزدلفة فوصل منى أن يبدأ بجمرة العقبة ولا يفعل شيئاً قبل رميها، ويكون ذلك قبل نزوله. وأما حكم الرمي فالمشروع منه يوم النحر رمى جمرة العقبة لا غير بإجماع المسلمين وهو نسك بإجماعهم. ومذهبنا أنه
بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف
ــ
واجب ليس بركن، فإن تركه حتى فاتته أيام الرمي عصى ولزمه دم وصح حجه، وقال مالك: يفسد حجه (بسبع حصيات) فيه أن الرمي بسبع حصيات. قال النووي: ويجب رميها بسبع حصيات، فلو بقيت منهن واحدة لم يكفه الست – انتهى. وعند الحنفية إذا ترك أكثر السبع لزمه دم كما لو لم يرم أصلاً، وأن ترك أقل منه كثلاث فما دونها فعليه لكل حصاة صدقة ولا يشترط الموالاة بين الرميات بل يسن ويكره تركها. قال النووي: ولا يجوز عند الشافعي والجمهور الرمي بالكحل والزرنيخ والذهب والفضة وغير ذلك مما يسمى حجراً وجوزه أبو حنيفة بكل ما كان من أجزاء الأرض أي من جنسها كالحجر والمدر والتين والمغرة، وكل ما يجوز التيمم به (يكبر مع كل حصاة منها) قال النووي: فيه أنه يسن التكبير مع كل حصاة، وفيه أنه يجب التفريق بين الحصيات فيرميهن واحدة واحدة، فإن رمى السبعة رمية واحدة حسب ذلك كله حصاة واحدة عندنا وعند الأكثرين، وموضع الدلالة لهذه المسألة قوله ((يكبر مع كل حصاة فهذا تصريح بأنه رمى كل حصاة وحدها مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي بعد هذا في أحاديث الرمي " لتأخذوا عنى مناسككم " انتهى. (مثل حصى الخَذْف) بفتح الخاء وسكون الذال المعجمتين. قال في النهاية: الخذف هو رميك حصاة أو نواة تأخذها بين سبابتيك وترمي بها. والمراد بيان مقدار الحصى التي يرمي بها في الصغر والكبر، وفسروا حصى الخذف بقدر حبة الباقلاء. قال النووي: فيه أن قدر الحصيات بقدر حصى الخذف وهو نحو حبة الباقلاء، وينبغي أن لا يكون أكبر ولا أصغر، فإن كان أكبر أو أصغر أجزأه بشرط كونه حجرًا. وقال المحب الطبري: قال عطاء بن أبي رباح حصى الخذف مثل طرف الإصبع. وقال الشافعي: هو أصغر من الأنملة طولاً وعرضًا، ومنهم من قال: كقدر النواة، ومنهم من قال: بقدر الباقلاء. وفيه تنبيه على استجاب الرمي بذلك – انتهى. وقوله ((مثل حصى الخذف)) هكذا في جميع النسخ من المشكاة والمصابيح، وهكذا وقع عند بعض رواة مسلم وكذا رواه أبو داود والبيهقي، ووقع في أكثر نسخ مسلم ((يُكَبِّرُ مع كل حصاة منها حصى الخذف)) أي بغير لفظة مثل، وكذا وقع عند ابن الجارود وكذا نقله المحب الطبري. قال الطيبي: حصى الخذف بدل من الحصيات. وقال النووي: هكذا هو في النسخ، وكذا نقله القاضي عياض عن معظم النسخ. قال: وصوابه ((مثل حصى الخذف)) قال: وكذلك رواه غير مسلم، وكذا رواه بعض رواة مسلم، هذا كلام القاضي. قلت: والذي في النسخ من غير لفظة مثل هو الصواب بل لا يتجه غيره ولا يتم الكلام إلا كذلك، ويكون قوله (حصى الخذف)) متعلقًا بحصيات، أي رماها بسبع حصيات حصى الخذف يكبر مع كل حصاة، فحصى الخذف متصل بحصيات، واعترض بينهما ((يكبر مع كل حصاة)) وهذا هو الصواب والله أعلم – انتهى كلام النووي. قال القاري بعد نقل كلام النووي: وعندي أن اتصال حصى الخذف بقوله مع كل حصاة أقرب لفظًا وأنسب
رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستين بدنة بيده، ثم أعطى عليًا
فنحر ما غبر، وأشركه في هديه،
ــ
معنى، ومع هذا الاعتراض ولا تخطئة على إحدى النسختين، فإن تعلقه بحصاة أو حصيات لا ينافي وجود مثل لفظًا أو تقديرًا، غايته أنه إذا كان موجودًا فهو واضح معنى وإلا فيكون من باب التشبيه البليغ، وهو حذف أداة التشبيه أي كحصى الخذف بل لا يظهر للتعلق غير هذا المعنى. فالروايتان صحيحتان، وما سيأتي في الحديث عن جابر رواه الترمذي بلفظ ((وأمرهم أن يرموا بمثل حصى الخذف)) وروى مسلم عنه بلفظ ((رمى الجمرة بمثل حصى الخذف)) يرجح وجود المثل ويؤيد تقديره، والله تعالى أعلم بالصواب (رمى من بطن الوادي) قال القاري: بدل من قوله ((فرماها)) أو استيناف مبين وهو الأظهر. قال النووي: فيه أن السنة أن يقف للرمي في بطن الوادي بحيث يكون منى وعرفات والمزدلفة عن يمينه ومكة عن يساره، وهذا هو الصحيح الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة، وقيل يقف مستقبل الكعبة وكيفما رمى أجزأه (ثم انصرف) أي رجع عن جمرة العقبة (إلى المَنْحر) بفتح الميم أي موضع النحر، قال الزرقاني: موضع معروف بمنى وكلها منحر كما في الحديث. قال ابن التين: منحر النبي صلى الله عليه وسلم عند الجمرة الأولى التي تلي المسجد، فللنحر فيه فضيلة على غيره لقوله ((هذا المنحر وكل منى منحر)) . وقال عياض: فيه دليل على أن المنحر موضع معين من منى. وحيث يذبح منها أو من الحرم أجزأه (فنحر ثلاثًا وستين بدنة بيده) قال القاري: الظاهر أن لفظ المشكاة جمع بين الروايتين، فإن الرواية الصحيحة ((ثلاثًا وستين بيده)) بدون لفظة بدنة، قال النووي: هكذا هو في النسخ ثلاثًا وستين بيده، وكذا نقله القاضي عن جميع الرواة سوى ابن ماهان، فإنه رواه بدنة. قال: وكلاهما صواب، الأول أصوب. قلت: وكلاهما حري فنحر ثلاثًا وستين بدنة بيده. وقال المحب الطبري: قوله: ((ثلاثًا وستين بيده)) فيه دليل على استحباب ذبح المرء نسيكته بيده، وعند ابن ماهان بدنة مكان بيده، وكل صواب، وبيده أصوب، لقوله ((ثم أعطى عليًا فنحر ما غبر)) ويجوز أن يقال بدنة أصوب لأن قوله ((بيده)) لا يفيد أن المنحور بدن أو غيرها بخلاف قوله بدنة، وإسناد الفعل إليه يفيد أنه فعل بنفسه من حيث الظاهر فلا حاجة إلى قوله بيده، وذكر بعض أهل المعاني أن نحر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا وستين بيده إشارة إلى منتهى عمره، ويكون قد أهدى من كل عام بدنة – انتهى. وقال الشاه ولي الدين الدهلوي: إنما نحر بيده هذا العدد ليشكر ما أولاه الله في كل سنة من عمره ببدنة (ثم أعطى) أي بقية البدن (عليًا فنحر) أي عليّ (ما غَبَر) بفتح المعجمة والموحدة وبالراء أي ما بقي من المائة (وأشركه) أي النبي صلى الله عليه وسلم عليًا (في هديه) أي في نفس الهدي، ويحتمل أنه أشركه في نحره، قال النووي: ظاهره أنه شاركه في نفس الهدي، قال القاضي عياض: وعندي أنه لم يكن تشريكًا حقيقة بل أعطاه قدرًا يذبحه – انتهى. وفيه جواز الاستنابة في ذبح الهدي، وذلك جائز بالإجماع إذا
.............................................................................
ــ
كان النائب مسلمًا، وفيه استحباب تعجيل ذبح الهدايا وإن كانت كثيرة في يوم النحر ولا يؤخر بعضها إلى أيام التشريق قاله النووي. وقد روى أبو داود عن عليّ لما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه فنحر ثلاثين بيده وأمرني فنحرت سائرها، وفيه محمد بن إسحاق وقد عنعن، وبه أعله المنذري. وروى أبو داود أيضًا عن غرفة (بغين معجمة مفتوحة، وقيل مهملة وهو وهم، وقال الخزرجي: بضم أوله وإسكان ثانيه، وقال الفتني في المغني: بغين وراء وفاء مفتوحات) بن الحارث الكندي: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأتى بالبدن فقال: ادعو لي أبا حسن، فدعي له عليّ، فقال: خذ بأسفل الحربة وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلاها، ثم طعنا بها البدن، فلما فرغا ركب بغلته وأردف عليًا، وجمع الولي العراقي باحتمال أنه صلى الله عليه وسلم انفرد بنحر ثلاثين بدنة، وهي التي ذكرت في حديث عليّ، واشترك هو وعليّ في نحر ثلاث وثلاثين بدنة، وهي المذكورة في حديث غرفة، وقول جابر ((نحر ثلاثًا وستين)) مراده كل ما له دخل في نحره إما منفردًا به أو مع مشاركة عليّ، وجمع الحافظ بين حديثي عليّ وجابر بأنه صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثين ثم أمر عليًا أن ينحر فنحر سبعًا وثلاثين، ثم نحر صلى الله عليه وسلم ثلاثًا وثلاثين، قال: فإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح أي مع مشاركة عليّ ليلئم مع حديث غرفة وإن لم يذكره. وقال عياض: الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم نحر البدن التي جاءت معه من المدينة وكانت ثلاثًا وستين كما رواه الترمذي، وأعطى عليًا البدن التي جاءت معه من اليمن وهي تمام المائة. وقال الطبري بعد ذكر حديث غرفة: يجوز أن يكون هذا في غير المائة المذكورة أو يكون في الثلاث وستين منها، وأضيف الفعل إليه صلى الله عليه وسلم لأن من مسك بأعلى الحربة كان هو المتمكن من النحر دون الآخر والله أعلم. وقد روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر في حجته سبع بدنات. أخرجه البخاري. وذكره ابن حزم وقال في الجمع بين الأحاديث: يخرجوا هذا على وجوه، أحدها، أنه صلى الله عليه وسلم لم ينحر بيده أكثر من هذه للسبع، وأمر من نحر ما بعد ذلك إلى ثلاث وستين بحضرته ثم غاب وأمر عليًا بنحر ما بقي إما بنفسه أو بالإشراف على ذلك. الثاني: أن يكون أنس لم يشاهد إلا نحره صلى الله عليه وسلم سبعًا فقط بيده وشاهد جابر تمام نحره صلى الله عليه وسلم الباقي فأخبر كل منهما بما رأى. الثالث: أنه نحر بيده منفردًا سبع بدن، ثم أخذ هو وعليّ الحربة فنحرا كذلك تمام ثلاث وستين كما قال غرفة بن الحارث الكندي، ثم انفرد عليّ بنحر الباقي من المائة كما قال جابر. قال ابن القيم: فإن قيل: فكيف تصنعون بالحديث الذي رواه أحمد وأبو داود عن عليّ قال: لما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه فنحر ثلاثين بيده وأمرني فنحرت سائرها؟ قلنا: هذا غلط، انقلب على الراوي، فإن الذي نحر ثلاثين هو علي والنبي صلى الله عليه وسلم نحر سبعًا بيده لم بشاهده علي ولا جابر، ثم نحر ثلاثًا وستين أخرى فبقى من المائة ثلاثون فنحرها عليّ فانقلب على الراوي عدد ما نحره علي بما نحره النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قيل: فما تصنعون بحديث عبد الله بن قرط؟ قال: قرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدنات خمس فطفقن يزدلفن إليه بأيهن يبدأ؟ الحديث أخرجه أبو داود وغيره، قيل: نقبله ونصدقه، فإن المائة لم تقرب إليه جملة، وإنما كانت تقرب إليه إرسالاً فقرب منهن
ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها،
ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت،
ــ
إليه خمس بدنات رسلاً، وكان ذلك الرسل يبادرن ويتقربن إليه ليبدأ بكل واحدة منهن – انتهى. وقال الطبري بعد ذكر وجوه الجمع المذكورة عن ابن حزم: ليس في واحد من هذه الوجوه الثلاثة جمع بين الأحاديث الثلاثة، فإن الأول والثاني يخرج منهما حديث غرفة، والثالث يخرج منه حديث جابر، والأولى أن يقال: نحر سبعًا منفردًا، ثم تمام الثلاث والستين هو وعلي، ونسب الفعل إليه صلى الله عليه وسلم لما ذكرناه، ثم أمر عليًا بنحر ما بقي من المائة، والله أعلم (ثم أمر من كل بدنة) أي من المائة (ببضعة) بفتح الباء الثانية أي بقطعة من لحمها. قال النووي: البَضعة بفتح الباء لا غير وهي القطعة من اللحم. وقال الجوهري: هذه بالفتح وأخواتها بالكسر مثل القطعة والفلذة والفدرة والكسفة والخرقة، وفي العدد تكسر وتفتح مذكرًا كان أو مؤنثًا (فجعلت) أي القطع (في قدر) بكسر القاف (فأكلا من لحمها) قال المظهري: الضمير المؤنث يعود إلى القدر لأنها مؤنث سماعي. قال الطيبي: ويحتمل أن يعود إلى الهدايا. قال النووي: قال العلماء: لما كان الأكل من كل واحدة سنة، وفي الأكل من كل واحدة من المائة منفردة كلفة جعلت في قدر أي جمعت في قدر واحدة ليكون تناوله من مرق الجميع كالأكل من جميعها. ويأكل من اللحم المجتمع في المرق ما تيسر. وفيه استحباب الأكل من الهدي والأضحية. وأجمع العلماء على أن الأكل من الهدي والأضحية سنة ليس بواجب، وقد استدل به على جواز الأكل من هدي المتعة والقران على القول بأنه كان متمتعًا أو قارنًا، وقد تقدم أن الأصح عند المحققين من الشافعية أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا في آخره، فيرد عليهم أنه كيف أكل من هداياه وكان فيها دم القران أيضًا فلم يكن إذًا كلها هدايا تطوع وأضحية، ولا يجوز الأكل من الهدي الواجب كهدي التمتع والقران والنذر في مذهب الشافعي؟ قال الطبري: ولا حجة في هذا الحديث عليهم، إذ الواجب عليه سبع بدنة ويكون الأكل من حصة التطوع – انتهى. ولا يخفى ما فيه من التعسف (فأفاض إلى البيت) أي أسرع إلى بيت الله ليطوف به طواف الإفاضة، ويسمى أيضًا طواف الزيارة وطواف الفرض والركن. قال الطبري: الإفاضة الدفع في السير. وقال ابن عرفة: أفاض من المكان إذا أسرع منه لمكان آخر. وقال غيره: أصل الإفاضة الصب فاستعير للدفع في السير، وأصله أفاض نفسه أو راحلته فرفضوا ذكر المفعول حتى أشبه غير المتعدي. وطواف الإفاضة هو الذي يكون إثر الإفاضة من منى إلى مكة، ويقال له أيضًا طواف الزيارة وطواف الفرض. قال النووي: طواف الإفاضة ركن من أركان الحج بإجماع المسلمين وأول وقته عندنا من نصف ليلة النحر وأفضله بعد رمي جمرة العقبة وذبح الهدي والحلق، ويكون ذلك ضحوة يوم النحر. ويجوز في جميع يوم النحر بلا كراهة، ويكره تأخيره عنه بلا عذر، وتأخيره عن أيام التشريق أشد كراهة، ولا يحرم تأخيره سنين متطاولة ولا آخر لوقته، بل يصح ما دام الإنسان حيًّا وشرطه أن يكون بعد الوقوف بعرفات، حتى لو طاف للإفاضة بعد نصف
فصلى بمكة الظهر،
ــ
ليلة النحر قبل الوقوف ثم أسرع إلى عرفات فوقف قبل الفجر لم يصح طوافه لأنه قدمه على الوقوف – انتهى. وعند الحنفية أول وقت لطواف الإفاضة بعد طلوع الفجر يوم النحر وهو في يوم النحر الأول أفضل، ويمتد وقته إلى آخر العمر، فإن أخره عن أيام النحر كره تحريماً ووجب لترك الواجب وهذا عند الإمكان كذا في الدر المختار. وقال المحب الطبري: قد دلت الأحاديث على استحباب وقوع طواف الإفاضة في يوم النحر وأن يكون ضحوة النهار، وأول وقته عندنا الشافعية نصف الليل من ليلة النحر بدليل حديث أم سلمة أنها رمت الجمرة قبل الفجر ليلة النحر ثم مضت إلى مكة فأفاضت. وقال أبو حنيفة: أول وقته من طلوع الفجر ولا حد لآخر وقته عندنا ولا يجب بتأخيره عن أيام التشريق دم، وبه قال أحمد، وقال مالك: إن تطاول الزمان فعليه دم، وقال مرة لا شيء عليه. وقال أبو حنيفة: إن أخره إلى اليوم الثالث من أيام التشريق وجب عليه الدم وهو خلاف قول الكافة - انتهى. قال القاري: وأكثر العلماء ومنهم أبو حنيفة لا يجوز طواف الإفاضة بنية غيره خلافاً للشافعي حيث قال: لو نوى غيره كنذر أو وداع (أو تطوع أو قدوم) وقع الإفاضة - انتهى. واتفق العلماء على أنه لا يشرع في طواف الإفاضة رمل ولا اضطباع إذا كان قد رمل واضطبع في طواف القدوم (فصلى بمكة الظهر) قال النووي: فيه محذوف تقديره فأفاض فطاف بالبيت طواف الإفاضة ثم صلى الظهر، فحذف ذكر الطواف لدلالة الكلام عليه – انتهى. واختلف أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر يوم النحر؟ ففي رواية جابر هذه أنه صلى بمكة، وكذا قالت عائشة عند أبي داود وغيره، ولفظه عند أبي داود قال: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق، الحديث وسيأتي في الفصل الثاني من باب خطبة يوم النحر ورمى أيام التشريق. وفي حديث ابن عمر في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى. وقد ذكره المصنف في باب الحلق فهذا تعارض فرجح ابن حزم في كتاب حجة الوداع له قول عائشة وجابر وتبعه على ذلك جماعة بأربعة أوجه، أحدها: أنهما اثنان وهما أولى من الواحد وثانيها: أن عائشة أخص الناس به ولها من القرب والاختصاص ما ليس لغيرها، وثالثها: أن سياق جابر لحجته صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها أتم سياق وهو أحفظ للقصة، وضبطها حتى ضبط جزئيتها، حتى أقر منها ما لا يتعلق بالمناسك وهو نزوله في الطريق فبال عند الشعب وتوضأ وضوءاً خفيفاً، فمن ضبط هذا القدر فهو يضبط صلاة صلاته الظهر يوم النحر أولى. ورابعها: أن حجة الوداع كانت في آذار (وهو الشهر السادس في السنة – يونيو أو حزيران – من الشهور الرومية الشمسية على ما قال صاحب القاموس: يستوي فيه الليل والنهار ولا يكون النهار أطول من الليل، أو هو الشهر الثالث – مارس – بين شباط (فبرائر) ونيسان (أبريل) من الشهور الرومية الشمسية على ما قال غيره، ويكون في الليل أطول
..........................................................................
ــ
من النهار) قد دفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى وخطب بها الناس ونحر بها بدنه المائة وقسمها وطبخ له من لحمها وأكل منه ورمى الجمرة وحلق رأسه وتطيب ثم أفاض وشرب من ماء زمزم ووقف عليهم وهم يسقون، وهذه أعمال يظهر منها أنها لا تنقضي في مقدار يمكن معه الرجوع إلى منى بحيث يدرك وقت الظهر في فصل آذار، ورجحت طائفة أخرى قول ابن عمر بأمور أربعة، أحدها: أنه لا يحفظ عنه في حجته صلى الله عليه وسلم صلى أنه صلى الفرض بجوف مكة بل إنما كان يصلي بمنزله بالمسلمين مدة مقامه، فكان يصلي بهم أين نزلوا لا يصلي في مكان آخر غير المنزل العام، والثاني: أن حديث ابن عمر متفق عليه أي رواه الشيخان، وحديث جابر من أفراد مسلم التي انفرد بها عن البخاري، فحديث ابن عمر أصح، فإن رواته أحفظ وأشهر، ولاتفاق الشيخين عليه، والثالث: أن حديث عائشة قد اضطرب في وقت طوافه، فروي عنها أنه طاف نهارًا، وفي رواية لأحمد وأبي داود والترمذي عنها أنه صلى الله عليه وسلم أخر الطواف إلى الليل (كما سيأتي) وفي رواية عند أبي داود عنها أنه أفاض أي طاف طواف الإفاضة من آخر يومه كما تقدم. والجمع وإن أمكن بين روايتها الثلاث بأن قولها ((إلى الليل)) أي إلى قربه بدليل قولها في الرواية الثانية من آخر يومه، وذلك بالنهار، وهو الرواية الأولى فلم تضبط فيه وقت الإفاضة ولا مكان الصلاة فتقدم رواية من ضبط، والرابع: أن حديث ابن عمر أصح منه بلا نزاع، حديث عائشة من رواية محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن ابن القاسم ولم يصرح بالسماع بل عنعن الحديث فلا يقدم على حديث عبد الله بن عمر، لأن رواته ثقات حفاظ مشاهير، وجمع النووي بين حديثي جابر وابن عمر بأنه صلى الله عليه وسلم طاف للإفاضة قبل الزوال ثم صلى الظهر بمكة أول الوقت، ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرةً أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك فيكون متنفلاً بالظهر الثانية التي بمنى. قال: وما ورد عن عائشة وغيرها أنه أخر الزيارة يوم النحر إلى الليل فمحمول على أنه عاد للزيارة مع نسائه لا لطواف الإفاضة، كذا في المواهب وشرحه للزرقاني. وقد بسط ابن القيم الكلام في ذلك في الهدي بأكثر من هذا، من شاء فليراجعه، تنبيه: حديث ابن عمر المذكور كما عزاه الزرقاني إلى الصحيحين عزاه أيضًا إليهما المجد ابن تيمية والجزري والمنذري والمحب الطبري وهو وهمٌ منهم، فإن حديث ابن عمر هذا من أفراد مسلم لم يخرجه البخاري في صحيحه، نعم قال في باب ((الزيارة يوم النحر)) : وقال لنا أبو نعيم: ثنا سفيان عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه طاف طوافًا واحدًا، ثم يقيل ثم يأتي منى يعني يوم النحر. وهذا كما ترى موقوف على ابن عمر من فعله، وليس فيه ذكر صلاة الظهر، ثم قال البخاري: ورفعه عبد الرزاق قال حدثنا. فعلقه ولم يذكر لفظه، قال العيني: وصل هذا التعليق مسلم: أنبأنا محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى، وهكذا عزى حديث ابن عمر هذا إلى مسلم فقط الزيلعي في نصب الراية والبيهقي في معرفة السنن والسنن الكبرى والنابلسي في ذخائر المواريث وكل ذلك دليل على أن حديث ابن عمر من أفراد مسلم
فأتى على بني عبد المطلب يسقون
ــ
مثل حديث جابر وعلى هذا فلا يصح ترجيح حديث ابن عمر على حديث جابر بأنه اتفق عليه الشيخان وهو الوجه الثاني من وجوه ترجيح حديث ابن عمر الأربعة المذكورة، هذا، وقد تعقب القاري على ما جمع به النووي بين حديثي جابر وابن عمر بأنه لا يحمل فعله صلى الله عليه وسلم على القول المختلف في جوازه فيأول بأنه صلى الله عليه وسلم صلى بمكة ركعتي الطواف وقت الظهر ورجع إلى منى فصلى الظهر بأصحابه، أو يقال: الروايتان حيث تعارضتا فقد تساقطتا فتترجح صلاته بمكة لكونها فيها أفضل، ثم قال متعقبًا على التأويل الذي أول النووي به حديث عائشة أنه أخر الزيارة إلى الليل بأنه لا دلالة على التأويل المذكور لا لفظًا ولا معنىً، ولا حقيقة ولا مجازًا مع الغرابة في عرض كلامه إلى أنه عاد للزيارة فالأحسن أن يقال: معناه جوز تأخير الزيارة مطلقًا إلى الليل أو أمر بتأخير زيارة نسائه إلى الليل - انتهى. وأجيب أيضًا عن حديث عائشة في تأخير طواف الزيارة: إلى الليل بأن أحاديث طواف الإفاضة يوم النحر نهارًا أصح وأثبت فإنها مروية في الصحيحين فترجح على ما يخالفها، وبأن تحمل الأحاديث الدالة على الطواف نهارًا يوم النحر، وحديث عائشة على الطواف في بقية أيام النحر، وبما قال ابن حبان من أنه صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة ونحر ثم تطيب للزيارة ثم أفاض فطاف بالبيت طواف الزيارة ثم رجع إلى منى فصلى الظهر بها والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة بها، ثم ركب إلى البيت ثانيًا وطاف به طوافًا آخر بالليل، فعلى هذا ما رواه أحمد عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار ليلاً، إما أن يكون المراد به طواف الوادع أو طواف تطوع وزيارة محضة نافلة، وقد روى البيهقي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة من ليالي منى، وروى الطبراني أيضًا نحوه وسيأتي مزيد الكلام في حديث عائشة في باب خطبة يوم النحر ورمي أيام التشريق حيث ذكره المصنف من رواية عائشة وابن عباس رضي الله عنهما، وقيل أي في وجه الجمع بين حديثي جابر وابن عمر: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم صلى بمنى أيضًا مقتديًا خلف رجل من أصحابه وقال المحب الطبري: الجمع بين الروايات كلها ممكن إذ يحتمل أن يكون صلى منفردًا في أحد الموضعين ثم مع جماعة في الآخر أو صلى بأصحابه بمنى ثم أفاض فوجد قوماً لم يصلوا فصلى بهم، ثم لما رجع وجد قوماً آخرين لم يصلوا فصلى بهم لأنه صلى الله عليه وسلم لا يتقدمه أحد في الصلاة، أو كرر الصلاة بمكة ومنى ليبين جواز الأمرين في هذا اليوم توسعة على الأمة، ويجوز أن يكون أذن في الصلاة في أحد الموضعين فنسب إليه وله نظائر – انتهى. والراجح عندنا في الجمع بين حديثيهما هو ما ذكره النووي بأنه صلى الله عليه وسلم طاف طواف الإفاضة قبل الزوال ثم صلى الظهر بمكة في أول وقتها ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك فيكون متنفلاً بالظهر الثانية التي بمنى، وسيأتي شيء من الكلام في ذلك في شرح حديث ابن عمر في باب الحلق (فأتى) أي بعد فراغه من طواف الإفاضة (على بني عبد المطلب) هم أولاد العباس وجماعته لأن سقاية الحاج كانت وظيفته (يسقون) أي مر
على زمزم، فقال:" انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم ". فناولوه دلوا فشرب منه.
ــ
عليهم وهم ينزعون الماء من بئر زمزم ويسقون الناس (على زمزم) قال النووي: معنى قوله ((يسقون على زمزم)) أي يغرفون بالدلاء ويصبونه في الحياض ونحوها ويسبلونه للناس، وأما ((زمزم)) فهي البئر المشهورة في المسجد الحرام بينها وبين الكعبة ثمان وثلاثون ذراعاً، قيل سميت زمزم لكثرة مائها، يقال ماء زمزوم وزمزم وزمازم إذا كان كثيراً. وقيل لضم هاجر رضي الله عنها لمائها حين انفجرت وزمها إياه، وقيل: لزمزمة جبريل عليه السلام وكلامه عند فجره إياها. وقيل إنها غير مشتقة ولها أسماء أخر ذكرتها في تهذيب اللغات مع نفائس أخرى تتعلق بها، منها أن علياً رضي الله عنه قال: خير بئر في الأرض زمزم، وشر بئر في الأرض برهوت. قلت: أخرج الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام الطعم وشفاء السقم، وشر ماء على وجه الأرض ماء بوادي برهوت بقية حضر موت كرجل الجراد من الهوام تصبح تتدفق وتمسي لا بلال فيها. قال الهيثمي بعد عزوه للطبراني: ورجاله ثقات، وصححه ابن حبان. وبَرهُوت – بفتح الباء الموحدة والراء المهملة وضم الهاء وآخره تاء مثناة - بئر عتيقة بحضر موت لا يستطاع النزول إلى قعرها، ويقال:((بُرْهوت)) بضم الباء وسكون الراء (انزعوا) بكسر الزاي من النزع وهو الاستقاء. قال النووي: معناه استقوا بالدلاء وانزعوها بالرشاء (بني عبد المطلب) يعني العباس ومتعلقيه بحذف حرف النداء. وفي حديث ابن عباس عند الشيخين ((أتى زمزم وهم يسقون عليها فقال: اعملوا فإنكم على عمل صالح)) (فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم) قال النووي: معناه لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج ويزدحمون عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لاستقيت معكم لكثرة فضيلة هذا الاستقاء – انتهى. وقيل: قال ذلك شفقة على أمته من الحرج والمشقة، والأول أظهر، وفيه بقاء هذه التكرمة لبني العباس كبقاء الحجابة لبني شيبة (فناولوه) أي أعطوه (فشرب منه) أي من الدلو أو من الماء. وفيه دليل على استجاب الشرب للناسك من ماء زمزم والإكثار منه. وذكر الواقدي أنه لما شرب صب على رأسه، وذكر أبو ذر في منسكه عن عليّ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أفاض دعا بسجل من زمزم فتوضأ. وأخرجه أحمد أيضًا، وقال: فدعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ. وأخرجه أيضًا من حديث ابن عباس وفي رواية عنده أنهم لما نزعوا الدلو غسل منه وجهه وتمضمض فيه ثم أعادوه فيها، وكذلك أخرجه سعيد بن منصور. قيل: ويستحب أن يشرب قائمًا، واستدل لذلك بما روى البخاري من طريق عاصم عن الشعبي أن ابن عباس حدثهم قال: سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم. قال عاصم: فحلف عكرمة ما كان يومئذ إلا على بعير. وفي
رواه مسلم.
ــ
الاستدلال بذلك على استحباب شرب ماء زمزم قائماً نظر، لأنه يجوز أن يكون الأمر فيه على ما حلف عليه عكرمة، وهو أنه شرب وهو على الراحلة، ويطلق عليه ((قائم)) ويكون ذلك مراد ابن عباس من قوله ((قائماً)) فلا يكون بينه وبين النهى عن الشرب قائماً تضاد، ويجوز أن يحمل على ظاهره ويكون دليلاً على إباحة الشرب قائماً يعنى أنه عليه الصلاة والسلام شربه قائمًا لبيان الجواز. وقيل أو لعذر به في ذلك المقام من الطين أو الازدحام والله أعلم. فوائد: الأولى: أخرج أحمد وابن ماجة من حديث جابر مرفوعًا: " ماء زمزم لما شرب له ". وأخرجه الدارقطني وزاد: " إن شربته تستشفي به شفاك الله، وإن شربته ليشبعك أشبعك الله، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله، وهي هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل ". وروى أبو داود الطيالسي من حديث أبي ذر مرفوعاً: " إنها مباركة، إنها طعام طعم وشفاء سقم ". وقد شربه جماعة من العلماء لمآرب فوجدوها ونالوها. الثانية: رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تحمل من ماء زمزم وتخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحمله، وأخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، والبيهقي والحاكم وصححه، قال الشوكاني: فيه دليل على استجاب حمل ماء زمزم إلى المواطن الخارجة عن مكة. وأخرج الأزرقي عن ابن أبي حسين قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سهيل بن عمرو يستهديه من ماء زمزم فبعث إليه براويتين وجعل عليهما كرًا غوطيًا، قيل الكرجنس من الثياب الغلاظ، وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم استهدى سهيل بن عمرو من ماء زمزم. ذكره الهيثمي وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه عبد الله بن المؤمل المخزومي وثقه ابن سعد وابن حبان وقال: يخطئ، وضعفه جماعة. الثالثة: عن ابن عباس أنه قال: إذا شربت من ماء زمزم فاستقبل القبلة، واذكر اسم الله تعالى، وتنفس وتضلع منها، فإذا فرغت فاحمد الله، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن بيننا وبين الناس أي المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم ". وعن عكرمة قال: كان ابن عباس إذا شرب من زمزم قال: اللهم إني أسالك علمًا نافعًا ورزقًا واسعًا وشفاءً من كل داء. أخرجهما الدارقطني وابن ماجة. والتضلع الامتلاء حتى تمتد أضلاعه. وفي هذين الأثرين بيان آداب شرب ماء زمزم (رواه مسلم) أي بطوله، وأخرجه أيضًا أبو نعيم في المستخرج على صحيح مسلم وأبو داود والدارمي وابن ماجة وابن الجارود في المنتقى (رقم 465: 469) والبيهقي (ج 5: ص 7 - 9) كلهم من طريق جعفر بن محمد الصادق عن أبيه محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبي جعفر الباقر، قال: دخلنا على جابر بن عبد الله فسأل عن القوم حتى انتهى إليَّ فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين فأهوي بيده إلى رأسي فنزع زري الأعلى ثم زري الأسفل ثم وضع كفه بين ثديي وأنا يومئذ غلام شاب، فقال مرحبًا بك يا ابن أخي، سل عم شئت فسألته وهو أعمى وحضر وقت الصلاة فقام في نساجة متلحفًا بها، كلما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها، ورداؤه إلى جنبه على المشجب، فصلى بنا فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بيده فعقد تسعاً، فقال: إن
2580 – (2) وعن عائشة، قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من أهل بعمرة ولم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما ".
ــ
رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج، الحديث. وأخرج القسم الأكبر منه أبو داود الطيالسي في مسنده (رقم 1668)، وأحمد (ج 3: ص320 - 321) وعبد بن حميد وابن أبي شيبة والبزار. وروى قطعًا متفرقة منه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي والدارمي وابن ماجة، ومالك في موطئه، ومن طريقه محمد في موطئه، والشافعي والطحاوي في شرح المعاني وفي مشكل الآثار، والطبراني في الصغير، والدارقطني في سننه، والحاكم في المستدرك، والبيهقي، وأحمد في مسنده، وابن سعد في الطبقات، وأبو نعيم في الحلية.
2580-
قوله (وعن عائشة قالت: خرجنا) أي معاشر الصحابة (مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع) وفي مسلم ((مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع)) والذي في المشكاة موافق لما ذكره الجزري في جامع الأصول (فمنا من أهل بعمرة) أي مفردة، والمعني: أحرم بها أو لبى بها مقرونة بالنية (ومنا من أهل بحج) أي مفرد أو مقرون بعمرة (فلما قدمنا) أي كلنا (مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي صحيح مسلم ((حتى قدمنا مكة فقال رسول صلى الله عليه وسلم)) وكان قدومهم مكة صبيحة الأحد رابع ذي الحجة (من أهل بعمرة ولم يهد) من الإهداء أي لم يكن معه هدي (فليَحلِل) بفتح الياء وكسر اللام، أي فليخرج من الإحرام بحلق أو تقصير (ومن أحرم بعمرة وأهدى) أي كان معه هدي (فليهل بالحج مع العمرة) التي أحرم بها، والمعنى لا يحل من عمرته بل يدخل الحج في العمرة ليكون قارنًا ففيه جواز إدخال الحج على العمرة (ثم لا يحل حتى يحل منهما) يعني لا يخرج من الإحرام ولا يحل له شيء من المحظورات حتى يتم العمرة والحج جميعًا. قال الولي العراقي في شرح رواية عروة عن عائشة عند مسلم ((فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه هدي فليهل بالحج مع عمرته، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا)) . قال المالكية والشافعية: هذه الرواية دالة على أن السبب في بقاء من ساق الهدي على إحرامه حتى يحل من الحج كونه أدخل الحج على العمرة، وأنه ليس السبب في ذلك مجرد سوق الهدي فما يقوله أبو حنيفة وأحمد ومن وافقهما إن المعتمر المتمتع إذا كان معه هدي لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر وهم تمسكوا بقوله في رواية عقيل عن الزهري في الصحيحين ((فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه "
…
الحديث. وهي ظاهرة في الدلالة لمذهبهم، لكن تأولها أصحابنا على أن معناها: ومن أحرم بعمرة وأهدى فليهل بالحج ولا يحل حتى ينحر هديه. واستدلوا على صحة هذا التأويل برواية عروة عن عائشة المتقدمة، وقالوا: هذا التأويل متعين، لأن القضية واحدة والراوي واحد فيتعين الجمع بين الروايتين – انتهى.
وفي رواية: " فلا يحل حتى يحل بنحر هديه.
ــ
وذكر نحو ذلك الزرقاني في شرح الموطأ في شرح باب دخول الحائض مكة، وقال المحب الطبري (ص 85) في شرح حديث ابن عمر عند الشيخين بلفظ ((فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس:" من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم عليه حتى يقضي حجته، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد)) الحديث. قال الطبري: قد تعلق أبو حنيفة بهذا الحديث واستدل له على ما ذهب إليه من أن المعتمر في أشهر الحج، المريد للحج إذا كان معه الهدي فلا يحل من عمرته ويبقى على إحرامه حتى يحج، ولا دلالة فيه، إذ يكون المراد به من جمع بين الحج والعمرة، ويدل عليه ما سيأتي في الفصل بعده – انتهى. يشير بذلك إلى ما رُوِيَ عن عائشة قالت: وأما من ساق الهدي منهم فأدخل الحج على عمرته ولم يحل، أخرجه ابن حبان. وقال الشوكاني: استدل بما في البخاري من حديث عائشة: ((من أحرم بعمرة فأهدى فلا يحل حتى ينحر)) على أن من اعتمر فساق هديًا لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر، وتأول ذلك المالكية والشافعية على أن معناه: من أحرم بعمرة فأهدى فأهل بالحج فلا يحل له حتى ينحر هديه. ولا يخفى ما فيه من التعسف – انتهى. (وفي رواية) أي بدل قوله: " ثم لا يحل حتى يحل منهما ". (فلا يحل) بالنفي، ويحتمل النهي (حتى يحل بنحر هديه) أي يوم النحر، فإنه لا يجوز له نحر الهدي قبله، وقوله ((حتى يحل بنحر هديه)) كذا في المشكاة والمصابيح، وفي مسلم ((حتى ينحر هديه)) . وفي جامع الأصول ((حتى يحل نحر هديه)) اعلم أن ها هنا روايتين أوردهما مسلم في صحيحه، الأولى: رواية عقيل عن ابن شهاب الزهري عن عروة عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج حتى قدمنا مكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه، ومن أهل بحج فليتم بحجه ". قالت عائشة: فحضت، إلخ. والرواية الثانية: من طريق معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللت بعمرة ولم أكن سقت الهدي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من كان معه هدي فليهل بالحج مع عمرته ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا ". قالت: فحضت، إلخ. وقد ظهر بهذا ما وقع في سياق المشكاة تبعًا للبغوي من الخلل. قال الطيبي: قوله: ((ومن أحرم بعمرة وأهدى)) مع قوله ((وفي رواية حتى يحل بنحر هديه)) دل على أن من أحرم بعمرة وأهدى لا يحل حتى يحل بنحر هديه (وبه قال أبو حنيفة وأحمد) وقال مالك والشافعي: يحل إذا طاف وسعى وحلق. والرواية الأولى أعني قوله ((فليهل بالحج مع العمرة)) دلت على أنه أمر المعتمر بأن يقرن الحج بالعمرة فلا يحل إلا بنحر هذا الهدي فوجب حمل هذه الرواية الثانية على الأخرى، لأن القصة واحدة – انتهى. وقال النووي: قوله (أي في رواية عقيل عن الزهري عن عروة) : من أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه. هذا الحديث ظاهر في الدلالة لمذهب أبي حنيفة وأحمد
ومن أهل بحج فليتم حجه ". قالت: فحضت، ولم أطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة،
ــ
وموافقيهما في أن المعتمر المتمتع إذا كان معه هدي لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر. ومذهب مالك والشافعي وموافقيهما أنه إذا طاف وسعى وحلق حل من عمرته وحل له كل شيء في الحال سواء كان ساق هديًا أم لا. واحتجوا بالقياس على من لم يسق الهدي وبأنه تحلل من نسكه فوجب أن يحل له كل شيء كما لو تحلل المحرم بالحج، وأجابوا عن هذه الرواية بأنها مختصرة من الروايات التي ذكرها مسلم بعدها والتي ذكرها قبلها عن عائشة قالت:((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا ")) . فهذه الرواية مفسرة للمحذوف من الرواية التي احتج بها أبو حنيفة وتقديرها ((ومن أحرم بعمرة وأهدى فليهلل بالحج ولا يحل حتى ينحر هديه)) ولا بد من هذا التأويل لأن القضية واحدة، والراوي أي المخرج وهو عائشة واحد، فيتعين الجمع بين الروايتين على ما ذكرناه، والله أعلم - انتهى. وقد اتضح بهذا وبما ذكرنا قبل ذلك من كلام الولي العراقي أن السبب في بقاء المعتمر الذي ساق الهدي على إحرامه عند الشافعية والمالكية هو إدخال الحج على العمرة لا مجرد سوق الهدي، واستدلوا لذلك برواية معمر ومن وافقه عن الزهري عن عائشة عن عروة عن عائشة، وعند الحنفية والحنابلة مدار الحكم هو مجرد سوق الهدي ومستندهم رواية عقيل عن الزهري، والراجح عندنا هو قول الحنابلة ومن وافقهم لتظافر الروايات الصحيحة الصريحة بذلك، والله أعلم (ومن أهل بحج فليتم حجه) هذا بظاهره يقتضي أنه ما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة مع أن الصحيح الثابت برواية أربعة عشر من الصحابة هو أنه أمر لمن لم يسق الهدي بفسخ الحج وجعله عمرة فحينئذٍ لا بد من حمل هذا الحديث على من ساق الهدي، والأمر بالفسخ لمن لم يسق الهدي فلا منافاة، قاله السندي في حاشية مسلم. وقد ذكرنا في شرح حديث عائشة المتقدم في باب الإحرام والتلبية أن قوله ((من أهل بحج)) معناه أي وأهدى فليتم حجه لئلا يخالف هذا الحديث لأحاديث فسخ الحج إلى العمرة (قالت: فحضت) أي بسرف قبل دخول مكة كما صح عنها، واتفقوا على أن ابتداء حيضها كان بسرف وذلك يوم السبت لثلاث خلون من ذي الحجة، واختلفوا في موضع طهرها، وسيأتي بيان الاختلاف فيه (ولم أطف بالبيت) أي للعمرة، لأن الطهارة شرط للطواف أو واجب، ولأن الطواف في المسجد والحائض ممنوع من الدخول فيه (ولا بين الصفا والمروة) أي ولم أسع بينهما. قال الطيبي: قوله: ((ولا بين الصفا والمروة)) عطف على المنفي قبله على تقدير ((ولم أسع)) نحو ((علفتها تبنًا وماءً باردًا)) ويجوز أن يقدر ((ولم أطف)) على المجاز لما في الحديث ((وطاف بين الصفا والمروة سبعة أشواط)) وإنما ذهب إلى التقدير دون الانسحاب لئلا يلزم استعمال اللفظ الواحد حقيقة ومجازًا في حالة واحدة - انتهى. أي لأن حقيقة الطواف الشرعي لم توجد لأنها الطواف بالبيت، وأجيب أيضًا بأنه سمى السعي طوافًا على حقيقته اللغوية، فالطواف لغة المشي قاله الزرقاني. وإنما لم تسع عائشة بين الصفا والمروة لأنه لا يصح السعي إلا بعد الطواف وإلا فالحيض لا يمنع السعي.
فلم أزل حائضًا حتى كان يوم عرفة،
ــ
قال ابن قدامة في المغني (ج2: ص394) : أكثر أهل العلم يرون أن لا تشترط الطهارة للسعي بين الصفا والمروة. وممن قال ذلك عطاء ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. وكان الحسن يقول: إن ذكر قبل أن يحل فليعد الطواف، وإن ذكر بعد ما حل فلا شيء عليه. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة حين حاضت: اقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت. ولأن ذلك عبادة لا تتعلق بالبيت فأشبهت الوقوف. قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: إذا طافت المرأة بالبيت ثم حاضت سعت بين الصفا والمروة ثم نفرت. ورُوِيَ عن عائشة وأم سلمة أنهما قالتا: إذا طافت المرأة بالبيت وصلت ركعتين ثم حاضت فلتطف بالصفا والمروة. رواه الأثرم. والمستحب مع ذلك لمن قدر على الطهارة أن لا يسعى إلا متطهرًا، وكذلك يستحب أن يكون طاهرًا في جميع مناسكه. ولا يشترط أيضًا الطهارة من النجاسة والستارة للسعي، لأنه إذا لم تشترط الطهارة من الحدث وهي آكد فغيره أولى. وقد ذكر بعض أصحابنا رواية عن أحمد: أن الطهارة في السعي كالطهارة في الطواف، ولا يعول عليه - انتهى. قال الباجي: إن السعي إنما يكون بأثر الطواف بالبيت، فإذا لم يمكن الحائض الطواف بالبيت لم يمكنها السعي بين الصفا والمروة، وإن لم تكن من شرطه الطهارة، لأنه عبادة لا تعلق لها بالبيت ولو طرأ على المرأة الحيض بعد كمال الطواف يصح سعيها - انتهى. وقال ابن قدامة: السعي تبع للطواف لا يصح إلا أن يتقدمه طواف، فإن سعى قبله لم يصح. وبذلك قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي. وقال عطاء: يجزئه، وعن أحمد يجزئه إن كان ناسيًا، وإن عمدًا لم يجزئه سعيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن التقديم والتأخير في حال الجهل والنسيان قال: لا حرج. ووجه الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سعى بعد طوافه وقد قال: " لتأخذوا عنى مناسككم ". فعلى هذا إن سعى بعد طوافه ثم علم أنه طاف بغير طهارة لم يعتد بسعيه ذلك – انتهى. وقال الحافظ: حكى ابن المنذر عن عطاء قولين فيمن بدأ بالسعي قبل الطواف بالبيت، وبالإجزاء قال بعض أهل الحديث، واحتج بحديث أسامة بن شريك (الآتي في الباب الذي بعد باب الحلق) أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: سعيت قبل أن أطوف؟ قال: طف ولا حرج. وقال الجمهور: لا يجزئه، وأولوا حديث أسامة على من سعى بعد طواف القدوم وقبل طواف الإفاضة انتهى. وقال ابن القيم: قوله ((سعيت قبل أن أطواف)) في هذا الحديث ليس بمحفوظ، والمحفوظ تقديم الرمي والنحر والحلق بعضها على بعض. وفي التمهيد: اختلف العلماء فيمن قدم السعي على الطواف فقال عطاء بن أبي رباح يجزيه ولا يعيد السعي ولا شيء عليه، وكذلك قال الأوزاعي وطائفة من أهل الحديث. واختلف في ذلك عن النووي فرُوي عنه مثل قول الأوزاعي وعطاء ورُوي عنه أنه يعيد السعي. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: لا يجزيه وعليه أن يعيد إلا أن مالكاً قال: يعيد الطواف والسعي جميعًا. وقال الشافعي: يعيد السعي وحده ليكون بعد الطواف ولا شيء عليه – انتهى مختصرًا. (فلم أزل حائضاً حتى كان يوم عرفة) اختلف في موضع طهرها بعد الاتفاق على أنها حاضت بسرف. قال الزرقاني: وفي
ولم أهلل إلا بعمرة، فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم: أن أنقض رأسي وأمتشط، وأهل بالحج، وأترك العمرة.
ــ
مسلم عن مجاهد عنها أنها تطهرت بعرفة، وعن القاسم عنها ((وطهرت صبيحة ليلة عرفة حين قدمنا منى)) وله عنه أيضًا ((فخرجت في حجتي حتى نزلنا منى فتطهرت، ثم طفنا بالبيت)) فاتفقت الروايات كلها على أنها طافت طواف الإفاضة يوم النحر، وجمع بين رواية مجاهد والقاسم بأنه انقطع الدم عنها بعرفة وما رأت الطهر إلا بعد أن نزلت منى. وقول ابن حزم:((حاضت يوم السبت لثلاث خلون من ذي الحجة وطهرت يوم السبت عاشره)) إنما أخذه من روايات مسلم المذكورة – انتهى. وقال ابن القيم في الهدي: أما موضع حيضها فهو بسرف بلا ريب وموضع طهرها قد اختلف فيه فقيل بعرفة هكذا روى مجاهد عنها وروى عروة عنها أنها أظلها يوم عرفة وهي حائض، ولا تنافي بينهما، والحديثان صحيحان، وقد حملهما ابن حزم على معنيين فطهر عرفة هو الاغتسال للوقوف عنده. قال: لأنها قالت: تطهرت بعرفة. والتطهر غير الطهر. قال: وقد ذكر القاسم يوم طهرها أنه يوم النحر، وحديثه في صحيح مسلم. قال: وقد اتفق القاسم وعروة على أنها كانت يوم عرفة حائضًا وهما أقرب الناس منها. وقد روى أبو داود حدثنا محمد بن إسماعيل ثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عنها خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موافين هلال ذي الحجة، فذكرت الحديث وفيه ((فلما كانت ليلة البطحاء طهرت عائشة)) . وهذا إسناد صحيح لكن قال ابن حزم: إنه حديث منكر مخالف لما روى هؤلاء كلهم عنها وهو قوله ((إنها طهرت ليلة البطحاء)) وليلة البطحاء كانت بعد يوم النحر بأربع ليال، وهذا محال إلا أننا لما تدبرنا وجدنا هذا اللفظة ليست من كلام عائشة فسقط التعلق بها لأنها هي مما دون عائشة وهي أعلم بنفسها. قال: وقد روى حديث حماد بن سلمة هذا وهيب بن خالد وحماد بن زيد فلم يذكرا هذا اللفظة. قلت: يتعين تقديم حديث حماد بن زيد ومن معه على حديث حماد بن سلمة لوجوه، أحدها: أنه أحفظ وأثبت من حماد بن سلمة، الثاني: أن حدثيهم فيه إخبارها عن نفسها، وحديثه فيه الإخبار عنها. الثالث: أن الزهري روى عن عروة عنها الحديث، وفيه ((فلم أزل حائضاً حتى كان يوم عرفة)) وهذه الغاية هي التي بينها مجاهد والقاسم عنها لكن قال عنها ((فتطهرت بعرفة)) والقاسم قال ((يوم النحر)) انتهى كلام ابن القيم. (ولم أهلل) أي لم أحرم أولاً (إلا بعمرة) هذا نص في أن عائشة لم تحرم إلا بعمرة وأنها كانت معتمرة ابتداء (فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أنقض) بضم القاف (رأسي) أي أحل ضفر شعره (وأمتشط) أي أسرحه بالمشط وقيل أو بالأصابع (وأهل بالحج) أي أمرني أن أحرم بالحج (وأترك العمرة) وفي رواية ((فقال انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة)) وفي رواية ((أمسكي عن عمرتك)) وفي أخرى:((ارفضي عمرتك)) . قال الحنفية: معنى الحديث: أمرني أن أخرج من إحرام العمرة وأتركها باستباحة المحظورات من التمشيط وغيره لعدم القدرة على الإتيان بأفعالها بسبب الحيض. واستدلوا
..............................................................................
ــ
بذلك على أن المرأة إذا أهلت بالعمرة متمتعة فحاضت قبل أن تطوف واستمر حيضها حتى جاء يوم عرفة تركت العمرة وأهلت بالحج مفردة، فإذا فرغت من الحج أحرمت بالعمرة قضاء ويلزمها دم لرفض العمرة. وقال الجمهور في معنى الحديث: أي أمرني أن أترك العمل للعمرة من الطواف والسعي وتقصير شعر الرأس وأرفض إتمام أفعالها، وأمرني أن أدخل الحج على العمرة فأكون قارنة، فليس المراد هنا بترك العمرة إسقاطها جملة أي إبطالها، وإنما المراد ترك أفعالها وإرداف الحج عليها حتى تصير قارنة وتتدرج أفعالها في أفعال الحج. قال ابن قدامة: المتمتعة إذا حاضت قبل الطواف للعمرة لم يكن لها أن تطوف بالبيت لأنها ممنوعة من دخول المسجد ولا يمكنها أن تحل من عمرتها ما لم تطف بالبيت، فإن خشيت فوات الحج أحرمت بالحج مع عمرتها وتصير قارنة، وهذا قول مالك والأوزاعي والشافعي وكثير من أهل العلم. وقال أبو حنفية: ترفض العمرة وتهلل بالحج. قال أحمد: ما قال هذا أحد غير أبي حنفية، وأحتج بما روى عروة عن عائشة قالت: أهللنا بعمرة – الحديث. وفيه ((فقال: انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة، قالت: ففعلت، فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن أبي بكر التنعيم فاعتمرت معه، فقال: هذه عمرة مكان عمرتك)) متفق عليه. وهذا يدل على أنها رفضت عمرتها وأحرمت بحج من وجوه ثلاثة، أحدها: قوله ((دعي عمرتك)) والثاني: قوله ((وامتشطي)) والثالث قوله ((هذه عمرة مكان عمرتك)) ولنا ما روى جابر قال: أقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كانت بسرف عركت – الحديث. وفيه قال: ((فاغتسلي ثم أهلي بالحج)) . ففعلت ووقفت المواقف كلها ثم قال: ((قد حللت من حجك وعمرتك)) . وروى طاوس عن عائشة أنها قالت: أهللت بعمرة فقدمت ولم أطف حتى حضت، ونسكت المناسك كلها وقد أهللت بالحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوم النفر: يسعك طوافك لحجك وعمرتك. رواهما مسلم. وهما يدلان على ما يدلان على ما ذكرنا جميعه، ولأن إدخال الحج على العمرة جائز بالإجماع من غير خشية الفوات فمع خشية الفوات أولى. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن لمن أهل بعمرة أن يدخل عليها الحج ما لم يفتتح الطواف بالبيت، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان معه هدي في حجة الوداع أن يهل بالحج مع العمرة ومع إمكان الحج مع بقاء العمرة لا يجوز رفضها لقول الله تعالى:{وأتموا الحج والعمرة لله} (2: 196) ولأنها متمكنة من إتمام عمرتها بلا ضرر فلم يجز رفضها كغير الحائض. ثم أجاب ابن قدامة عن رواية عروة بأن قوله ((انقضي رأسك وامتشطي ودعي العمرة)) قد انفرد به عروة وخالف به سائر من روى عن عائشة حين حاضت، وقد روى طاوس والقاسم والأسود وعمرة عن عائشة ولم يذكروا ذلك. وحديث جابر وطاوس مخالفان لهذه الزيادة ولا يخفى ما في هذا الجواب من التعسف. ثم قال ابن قدامة: ويحتمل أن قوله ((دعي العمرة)) أي دعيها بحالها وأهلي بالحج معها، أو دعي أفعال العمرة فإنها تدخل في أفعال الحج – انتهى. وقال الخطابي: استشكل بعض أهل العلم أمره لها بنقض رأسها ثم
...........................................................................
ــ
بالامتشاط. وكان الشافعي يتأوله على أنه أمرها أن تدع العمل للعمرة وتدخل عليها الحج فتصير قارنة، قال: وهذا لا يشاكل القصة. وقيل: إن مذهبها أن المعتمر إذا دخل مكة استباح ما يستبيحه الحاج إذا رمى الجمرة. قال: وهذا لا يعلم وجهه. وقيل: كانت مضطرة إلى ذلك. قال: ويحتمل أن يكون نقض رأسها كان لأجل الغسل لنهل بالحج لا سيما أن كانت ملبدة فتحتاج إلى نقض الضفر، وأما الامشاط فلعل المراد به تسريحها شعرها بأصابعها برفق حتى لا يسقط منه شيء ثم تضفره كما كان ذكره الحافظ. وقال ابن القيم بعد ذكر مسلك الجمهور وتقويته: أما قوله ((وانقضي رأسك وامشطي)) . فهذا مما أعضل على الناس ولهم فيها أربعة مسالك، أحدها: أنه دليل على رفض العمرة كما قالت الحنفية. المسلك الثاني: أنه دليل على أنه يجوز للمحرم أن يمشط رأسه، ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع على منعه من ذلك ولا تحريمه، وهذا قول ابن حزم وغيره. المسلك الثالث: تعليل هذه اللفظة وردها بأن عروة انفرد بها وخالف بها سائر الرواة، وقد روى حديثها طاوس والقاسم والأسود وغيرهم فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظة. المسلك الرابع: أن قوله ((دعي العمرة)) . أي دعيها بحالها لا تخرجي منها، وليس المراد تركها. قالوا: ويدل عليه وجهان، أحدهما: قوله ((يسعك طوافك لحجك وعمرتك)) الثاني: قوله: ((كوني في عمرتك)) . قالوا: وهذا أولى من حمله على رفضها لسلامته من التناقض- انتهى. وقال الزرقاني: وأجاب جماعة منهم الشافعي باحتمال أن معنى ((دعي عمرتك)) اتركي التحلل منها وأدخلي عليها الحج فتصير قارنة، ويؤيده قوله في رواية مسلم ((وأمسكي عن العمرة)) أي عن أعمالها، وإنما قالت:((وأرجع بحجة)) . لاعتقادها أن إفراد العمرة بالعمل أفضل كما وقع لغيرها من أمهات المؤمنين. قال الحافظ: واستبعد هذا التأويل لقولها في رواية عطاء عنها ((وأرجع أنا بحجة ليس معها عمرة)) أخرجه أحمد. وهذا يقوي قول الكوفيين أن عائشة تركت العمرة وحجت مفردة، لكن في رواية عطاء عنها ضعف. وأجاب الحنفية عن ذلك بأن ضعف رواية عطاء منجبر برواية البخاري:((يصدرون بنسكين وأصدر بنسك)) وفي رواية ((قالت: يا رسول الله اعتمرتم ولم اعتمر)) . قال الحافظ: والرافع للإشكال في ذلك ما رواه مسلم من حديث جابر: ((أن عائشة أهلت بعمرة حتى إذا كانت بسرف حاضت فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أهلي بالحج حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وسعت فقال: قد حللت من حجك وعمرتك)) . ولمسلم من طريق طاوس عنها ((فقال صلى الله عليه وسلم: طوافك يسعك لحجك وعمرتك)) . فهذا صريح في أنها كانت قارنة. قال الزرقاني: وتعقب بأن قوله ((انقضى رأسك وامتشطي)) ظاهر في إبطال العمرة، لأن المحرم لا يفعل مثل ذلك لتأديته إلى نتف الشعر، وأجيب بجوازهما للمحرم حيث لا يؤدي إلى نتف الشعر مع الكراهة بغير عذر أو كان ذلك لأذى برأسها فأباح لها ذلك كما أباح لكعب بن عجرة الحلاق لأذى برأسه، أو نقض رأسها لأجل الغسل لتهل بالحج ولا سيما إن كانت تلبدت فتحتاج إلى نقض الضفر، ولعل المراد بالامتشاط تسريح شعرها بأصابعها برفق حتى لا يسقط منه شيء ثم تضفره كما كان، أو أعادت
ففعلت، حتى قضيت حجي بعث معي
ــ
الشكوى بعد رمي جمرة العقبة فأباح لها الامتشاط حينئذٍ. قال المازري: هو تعسف بعيد من لفظ الحديث، أو كان مذهبها أن المعتمر إذا دخل مكة استباح ما يستبيحه الحاج إذا رمى الجمرة. قال الخطابي: وهذا لا يعلم وجهه – انتهى. وقال ابن دقيق العيد قي شرح العمدة: لما حمل أصحاب الشافعي ومالك أمره عليه السلام بترك العمرة على ترك المضي في أعمالها لا على رفضها بالخروج منها وأنها أهلت بالحج مع بقاء العمرة وكانت قارنة اقتضى ذلك أن يكون قد حصل لها عمرة، وأشكل حينئذٍ قولها ((ينطلقون بحج وعمرة، وأنطلق بحج)) إذ هي أيضًا قد حصل لها حج وعمرة لما تقرر من كونها صارت قارنة فاحتاجوا إلى تأويل هذا اللفظ فأولوا قولها ((ينطلقون بحج وعمرة، وأنطلق بحج)) على أن المراد ينطلقون بحج مفرد عن عمرة وعمرة مفردة عن حج وأنطلق بحج غير مفرد عن عمرة، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة ليحصل لها قصدها في عمرة مفردة عن حج، هذا حاصل ما قيل في هذا مع أن الظاهر خلافه بالنسبة إلى هذا الحديث، لكن الجمع بين الروايات ألجأهم إلى مثل هذا - انتهى. وإنما أعمرها من التنعيم تطييبًا لقلبها لكونها لم تطف بالبيت لما دخلت معتمرة وقد وقع في رواية لمسلم من حديث جابر وكان النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً سهلاً إذا هويت الشيء تابعها عليه، وأما ما قاله صلى الله عليه وسلم لها بعد ما اعتمرت من التنعيم فقال: هذه مكان عمرتك، فمعناه العمرة المنفردة التي حصل لغيرها التحلل منها بمكة ثم أنشأوا الحج منفردًا - فعلى هذا فقد حصل لعائشة عمرتان. قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: ((يسعك طوافك لحجك وعمرتك)) . تصريح بأن عمرتها باقية صحيحة مجزية وأنها لم تلغها ولم تخرج منها، فيتعين تأويل ((ارفضي عمرتك)) . و ((دعي عمرتك)) على ما ذكرناه من رفض العمل فيها وإتمام أفعالها والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى لما مضت مع أخيها عبد الرحمن ليعمرها من التنعيم ((هذه مكان عمرتك)) فمعناه أنها أرادت أن يكون لها عمرة منفردة عن الحج كما حصل لسائر أمهات المؤمنين وغيرهن من الصحابة الذين فسخوا الحج إلى العمرة وأتموا العمرة وتحللوا منها قبل يوم التروية، ثم أحرموا بالحج من مكة يوم التروية، فحصل لهم عمرة منفردة وحجة منفردة، وأما عائشة فإنما حصل لها عمرة مندرجة في حجة بالقران، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوم النفر:((يسعك طوافك لحجك وعمرتك)) أي وقد تمَّا وحُسِبا لك جميعًا فأبت وأرادت عمرة منفردة كما حصل لباقي الناس، فلما اعتمرت عمرة منفردة قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: هذه مكان عمرتك، أي التي كنت تريدين حصولها منفردة غير مندرجة فمنعك الحيض من ذلك، وهكذا يقال في قولها:((يرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج)) أي يرجعون بحج منفرد وعمرة منفردة وأرجع أنا وليس لي عمرة منفردة، وإنما حرصت على ذلك لتكثير أفعالها - انتهى. (فَفَعلْتُ) بسكون اللام على صيغة المتكلم، أي ما أمرها النبي صلى الله عليه وسلم من النقض والامتشاط وترك العمرة والإهلال بالحج (حتى قضيت حجي) أي أديته وأتممته فالقضاء بمعنى الأداء (بعث معي) قيل جملة استئنافية ذكره الطيبي. وفي مسلم ((قالت: ففعلت ذلك حتى إذا قضيت حجي بعث)) إلخ. وكان إرسالها مع أخيها عبد الرحمن ليلة البطحاء أو الحصبة
عبد الرحمن بن أبي بكر، وأمرني أن أعتمر مكان عمرتي من التنعيم.
ــ
وهي ليلة الأربعاء رابع عشرة ذي الحجة (عبد الرحمن بن أبي بكر) الصديق القرشي التيمي يكنى أبا عبد الله، وقيل بل يكنى أبا محمد، وقيل أبا عثمان، أمه أم رومان والدة عائشة فهو شقيقها، وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة، وقيل عبد العزى، فغيره النبي صلى الله عليه وسلم، وتأخر إسلامه إلى أيام الهدنة، فأسلم وحسن إسلامه. وقيل: إنما أسلم يوم الفتح هو ومعاوية في وقت واحد. ويقال: إنه شهد بدرًا مع المشركين ودعا إلى البراز فقام إليه أبوه ليبارزه فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: متعنا بنفسك، ثم أسلم وحسن إسلامه، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية، وكان أسن ولد أبي بكر. قال الزبير بن بكار: كان رجلاً صالحًا وكانت فيه دعابة. وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب في حديث ذكره أن عبد الرحمن بن أبي بكر لم يجرب عليه كذبة قط. وقال ابن عبد البر: كان من أشجع رجال قريش وأرماهم بسهم، وحضر اليمامة مع خالد بن الوليد فقتل سبعة من كبارهم منهم محكم اليمامة ابن طفيل، رماه بسهم في نحره فقتله. وأخرج الزبير عن عبد الله بن نافع قال: خطب معاوية فدعا الناس إلى بيعة يزيد فكلمه الحسين بن عليّ وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر، فقال له عبد الرحمن: أهرقلية كلما مات قيصر كان قيصر مكانه؟ لا نفعل والله أبدًا. وبعث إليه معاوية بعد ذلك بمائة ألف درهم فردها؛ وقال: لا أبيع ديني بدنياي. وخرج إلى مكة فمات بها قبل أن تتم البيعة ليزيد، وكان موته فجأة من نومة نامها بمكان على عشرة أميال من مكة. وقيل: توفي بحبشى، وهو على اثني عشر ميلاً من مكة فحمل إلى مكة فدفن بها. ولما بلغ عائشة خبره خرجت حاجة فوقفت على قبره وأنشدت أبيات متمم بن نويرة في أخيه مالك:
وكنا كندماني جذيمة حقبة _
…
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكًا _
…
بطول اجتماع لم نبت ليلة معًا
ثم قالت: لو حضرتك دفنتك حيث مت. روى عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث منها في الصحيح، وعن أبيه وروى عنه ابنه عبد الله وحفصة وابن أخيه القاسم بن محمد وغيرهم. قال الخزرجي: له ثمانية أحاديث اتفقا على ثلاثة، مات سنة ثلاث وخمسين، قاله ابن سعد. وقيل بعد ذلك (وأمرني أن أعتمر مكان عمرتي) أي بدلها، نصب على المصدر. قاله ابن الملك. أي عمرتي التي تركتها (من التنعيم) متعلق بأعتمر، وزاد في رواية عند الشيخين وغيرهما. ((فاعتمرت فقال: هذه (أي العمرة) مكان عمرتك)) . قال الزرقاني: بالرفع على الخبرية وبالنصب على الظرفية وعامله محذوف، وهو الخبر أي كائنة أو مجعولة مكان عمرتك. قال عياض: والرفع أوجه عندي إذ لم يرد به الظرف، إنما أراد عوض عمرتك. فمن قال: كانت قارنة، قال: مكان عمرتك التي أردت أن تأتي بها مفردة، وحينئذٍ فتكون عمرتها من التنعيم تطوعًا لا عن فرض لكنه أراد تطييب نفسها بذلك. ومن قال: كانت مفردة قال: مكان عمرتك التي فسخت الحج إليها. ولم
..............................................................................................
ــ
تتمكني من الإتيان بها للحيض. وقال السهيلي: الوجه النصب على الظرف لأن العمرة ليست بمكان لعمرة أخرى لكن إن جعلت مكان بمعنى عوض أو بدل مجازًا أي هذه بدل عمرتك جاز الرفع حينئذٍ – انتهى. والتَّنْعِيم تفعيل بفتح المثناة الفوقية وسكون النون وكسر العين المهملة، موضع على ثلاثة أميال أو أربعة من مكة أقرب الحل إلى البيت، سمي به لأن على يمينه جبل نُعيم (بضم النون) ، وعلى يساره جبل ناعم، والوادي اسمه نَعمان (بفتح النون) قاله في القاموس. قال المحب الطبري: هو أمام أدنى الحل وليس بطرف الحل، ومن فسره بذلك فقد تجوز وأطلق اسم الشيء على ما قرب منه، ذكره القسطلاني. وقال الحافظ: مكان خارج مكة على أربعة أميال منها إلى جهة المدينة كما نقله الفاكهي. وقال المحب الطبري: التنعيم أبعد من أدنى الحل إلى مكة بقليل وليس بطرف الحل بل بينهما نحو ميل، ومن أطلق عليه طرف الحل فهو تجوز. قال الحافظ: وأراد بالنسبة إلى بقية الجهات. واختلف في موضع إحرام عائشة فروى الأزرقي عن ابن جريج قال: رأيت عطاء يصف الموضع الذي أحرمت منه عائشة فأشار إلى الموضع الذي وراء الأكمة وهو المسجد الخَرِب (بفتح الخاء المعجمة وكسر الراء المهملة) . ونقل الفاكهي عن ابن جريج وغيره أن ثم مسجدين يزعم أهل مكة أن الخرب الأدنى من الحرم هو الذي أحرمت منه عائشة، وقيل: هو المسجد الأبعد عن الأكمة الحمراء، ورجحه المحب الطبري (ص 576) وقال الفاكهي: لا أعلم ذلك إلا أني سمعت ابن أبي عمير يذكر عن أشياخه أن الأول هو الصحيح عندهم. والحديث يدل على أن إعمارها من التنعيم كان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصرح منه ما أخرجه أبو داود من طريق حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا عبد الرحمن أردف أختك عائشة فأعمرها من التنعيم – الحديث. ونحوه رواية الأسود عن عائشة عند البخاري قال: ((فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم)) . وفي رواية عن الأسود والقاسم جميعًا عنها بلفظ ((فاخرجي إلى التنعيم)) وهو صريح بأن ذلك كان عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك يفسر قوله في رواية القاسم عنها بلفظ ((اخرج بأختك من الحرم)) ، وأما ما رواه أحمد من طريق ابن أبي مليكة عنها في هذا الحديث ((قال: ثم أرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: احملها خلفك حتى تخرج من الحرم، فوالله ما قال: فتخرجها إلى الجعرانة ولا إلى التنعيم)) فهي رواية ضعيفة لضعف أبي عامر الخراز الراوي له عن ابن أبي مليكة، ويحتمل أن يكون قوله ((فوالله)) إلخ من كلام من دون عائشة، قاله متمسكًا لإطلاق قوله ((فأخرجها من الحرم)) لكن الروايات المقيدة بالتنعيم مقدمة على المطلقة فهو أولى ولا سيما مع صحة أسانيدها، كذا في الفتح، وعقد البخاري في صحيحه لحديث عبد الرحمن بن أبي بكر في أمره صلى الله عليه وسلم إياه إعمارها من التنعيم ((باب عمرة التنعيم)) . قال الحافظ: يعني هل تتعين لمن كان بمكة أم لا؟ وإذا لم تتعين هل لها فضل على الاعتمار من غيرها من جهات الحل أو لا؟ قال صاحب الهدي: لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر مدة إقامته بمكة قبل الهجرة ولا اعتمر بعد الهجرة إلا داخلاً إلى مكة، ولم يعتمر قط خارجًا من مكة إلى
قالت: فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا،
ثم طافوا طوافًا بعد أن رجعوا من منى،
ــ
الحل ثم يدخل مكة بعمرة كما يفعل الناس اليوم، ولا ثبت عن أحد من الصحابة أنه فعل ذلك في حياته إلا عائشة وحدها. قال الحافظ: وبعد أن فعلته عائشة بأمره دل على مشروعيته. واختلف السلف في جواز الاعتمار في السنة أكثر من مرة فكرهه مالك وخالفه مطرف وطائفة من أتباعه وهو قول الجمهور. واستثنى أبو حنيفة يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، ووافقه أبو يوسف إلا في يوم عرفة، واستثنى الشافعي البائت بمنى لرمي أيام التشريق، وفيه وجه اختاره بعض الشافعية فقال بالجواز مطلقًا كقول الجمهور. والله أعلم. وقد تقدم شيء من الكلام في ذلك في شرح حديث أبي هريرة ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما)) . قال الحافظ: واختلفوا أيضًا هل يتعين التنعيم لمن اعتمر من مكة، وتقدم الكلام فيه أيضًا في شرح حديث ابن عباس في المواقيت. قال الحافظ: واستدل بحديث عبد الرحمن بن أبي بكر في إعمار عائشة من التنعيم على تعين الخروج إلى الحل لمن أراد العمرة ممن كان بمكة، وهو أحد قولي العلماء. والثاني: تصح العمرة ويجب عليه دم لترك الميقات. وليس في حديث الباب ما يدفع ذلك. واستدل به أيضًا على أن أفضل جهات الحل التنعيم. وتعقب بأن إحرام عائشة من التنعيم إنما وقع لكونه أقرب جهة الحل إلى الحرم لا لأنه الأفضل. وقال في باب ((أجر العمرة على قدر التعب)) بعد ذكر ما روى الدارقطني والحاكم من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في عمرتها: ((إنما أجرك في عمرتك على قدر نفقتك)) . استدل به على أن الاعتمار لمن كان بمكة من جهة الحل القريبة أقل أجرًا من الاعتمار من جهة الحل البعيدة، وهو ظاهر هذا الحديث. وقال الشافعي في الإملاء: أفضل بقاع الحل للاعتمار الجعرانة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم منها، ثم التنعيم لأنه أذن لعائشة منها. قال: وإذا تنحى عن هذين الموضعين فأين أبعد حتى يكون أكثر لسفره كان أحب إليّ. وحكى الموفق في المغني عن أحمد: أن المكي كلما تباعد في العمرة كان أعظم لأجره. وقال الحنفية: أفضل بقاع الحل للاعتمار التنعيم، ووافقهم بعض الشافعية والحنابلة. ووجهه ما قدمناه أنه لم ينقل أن أحدًا من الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم خرج من مكة إلى الحل ليحرم بالعمرة غير عائشة، وأما اعتماره صلى الله عليه وسلم من الجعرانة فكان حين رجع من الطائف مجتازًا إلى المدينة. ولكن لا يلزم من ذلك تعين التنعيم للفضل لما دل عليه هذا الخبر أن الفضل في زيادة التعب والنفقة، وإنما يكون التنعيم أفضل من جهة أخرى تساويه إلى الحل من جهة أبعد منه – انتهى. (فطاف) أي طواف العمرة (الذين كانوا أهلوا بالعمرة) وحدها يعني الذين أفردوا العمرة عن الحج (بالبيت) متعلق بطاف أي عند دخولهم مكة (وبين الصفا والمروة) أي وسعوا بينهما. وقال القاري: الطواف يراد به الدور الذي يشمل السعي فصح العطف ولم يحتج إلى تقدير عامل وجعله نظير ((علفتها تبنًا وماء باردًا)) (ثم حلوا) أي خرجوا من العمرة بالحلق أو التقصير ثم أحرموا بالحج من مكة (ثم طافوا طوافًا) أي للحج يوم النحر، وهو طواف الإفاضة (بعد أن رجعوا من منى) أي إلى
............................................................................................
ــ
مكة، وقد سقط عنهم طواف القدوم إجماعًا لأنهم صاروا في حكم أهل مكة، والمكي لا طواف عليه للقدوم إلا ما حُكي عن الإمام أحمد: أن المتمتع يطوف يوم النحر أولاً للقدوم ثم يطوف طوافًا آخر للحج. قال الخرقي: إن كان متمتعًا فيطوف بالبيت سبعًا وبالصفا والمروة سبعًا كما فعل بالعمرة ثم يعود فيطوف طوافًا ينوي به الزيارة. قال ابن قدامة: أما الطواف الأول الذي ذكره الخرقي ها هنا فهو طواف القدوم، لأن المتمتع لم يأت به قبل ذلك والطواف الذي طافه في العمرة كان طوافها. ونص أحمد على أنه مسنون للمتمتع في رواية الأثرم، قال: قلت لأبي عبد الله رحمه الله: فإذا رجع أعني المتمتع كم يطوف ويسعى؟ قال: يطوف ويسعى لحجه ويطوف طوافًا آخر للزيارة، عاودناه في هذا غير مرة فثبت عليه. وكذلك الحكم في القارن والمفرد إذا لم يكونا أتيا مكة قبل يوم النحر ولا طافا للقدوم فإنهما يبدآن بطواف القدوم قبل طواف الزيارة نص عليه أحمد أيضًا، واحتج بما روت عائشة قالت: فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا فطافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم. وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا، فحمل أحمد قول عائشة على أن طوافهم لحجهم هو طواف القدوم، ولأنه قد ثبت أن طواف القدوم مشروع، فلم يكن تعين طواف الزيارة مسقطًا له كتحية المسجد عند دخوله قبل التلبس بصلاة الفرض ولم أعلم أحدًا وافق أبا عبد الله على هذا الطواف الذي ذكره الخرقي، بل المشروع طواف واحد للزيارة كمن دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة فإنه يكتفي بها عن تحية المسجد، ولأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه الذين تمتعوا معه في حجة الوداع ولا أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا، وحديث عائشة دليل على هذا فإنها قالت: طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وهذا هو طواف الزيارة، ولم تذكر طوافًا آخر، ولو كان هذا الذي ذكرته طواف القدوم لكانت قد أخلت بذكر طواف الزيارة الذي هو ركن الحج لا يتم الحج إلا به، وذكر ما يستغنى عنه، وعلى كل حال فما ذكرت إلا طوافًا واحدًا، فمن أين يستدل به على طوافين؟ وأيضًا فإنها لما حاضت قرنت الحج إلى العمرة بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن طافت للقدوم ولا أمرها به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الخرقي في موضع آخر في المرأة إذا حاضت فخشيت فوات الحج: أهلت بالحج وكانت قارنة ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم، ولأن طواف القدوم لو لم يسقط بالطواف الواجب لشرع في حق المعتمر طواف للقدوم مع طواف العمرة، لأنه أول قدوم إلى البيت فهو به أولى من المتمتع الذي يعود إلى البيت بعد رويته وطوافه به، وفي الجملة إن هذا الطواف المختلف فيه ليس بواجب، وإنما الواجب طواف واحد وهو طواف الزيارة، وهو في حق المتمتع كهو في حق القارن والمفرد في أنه ركن للحج لا يتم إلا به – انتهى كلام ابن قدامة. واختار الشيخ تقي الدين ابن تيمية ما رجحه ابن قدامة وصححه الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب. قال ابن القيم بعد ما حكى كلام ابن قدامة المتقدم: لم يرفع كلام أبي محمد يعني ابن قدامة الإشكال، وإن كان
وأما الذين جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافًا واحدًا.
ــ
الذي أنكره أي من تكرار الطواف يوم النحر بعد الوقوف للمتمتع هو الحق كما أنكره، والصواب في إنكاره فإن أحدًا لم يقل إن الصحابة لما رجعوا من عرفة طافوا للقدوم وسعوا ثم طافوا للإفاضة بعده ولا النبي صلى الله عليه وسلم، هذا لم يقع قطعًا ولكن كان منشأ الإشكال أن أم المؤمنين فرقت بين المتمتع والقارن فأخبرت أن القارنين طافوا طوافًا واحدًا وأن الذين أهلوا بالعمرة طافوا طوافًا أخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وهذا غير طواف الزيارة قطعًا فإنه يشترك فيه القارن والمتمتع فلا فرق بينهما فيه، ولكن الشيخ أبو محمد لما رأى قولها في المتمتعين ((أنهم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى)) قال: ليس في هذا ما يدل على أنهم طافوا طوافين، والذي قاله حق ولكن لم يرفع الإشكال، فقالت طائفة: هذه الزيادة من كلام عروة أو ابنه هشام: أدرجت في الحديث وهذا لا يتبن، ولو كان فغايته أنه مرسل ولم يرتفع الإشكال عنه بالإرسال، فالصواب أن الطواف الذي أخبرت به عائشة وفرقت به بين المتمتع والقارن هو الطواف بين الصفا والمروة، لا الطواف بالبيت، وزال الإشكال جملة فأخبرت عن القارنين أنهم اكتفوا بطواف واحد بينهما لم يضيفوا إليه طوافًا آخر يوم النحر، وهذا هو الحق. وأخبرت عن المتمتعين أنهم طافوا بينهما طوافًا آخر بعد الرجوع من منى للحج، وذلك الأول كان للعمرة، وهذا هو قول الجمهور – انتهى. (وأما الذين جمعوا الحج والعمرة) أي ابتداء أو إدخالاً لأحدهما في الآخر. وفي رواية ((وأما الذين كانوا أهلوا بالحج (أي مفردًا) أو جمعوا الحج والعمرة)) (أي قارنوا) (فإنما طافوا طوافًا واحدًا) أي بعد الوقوف بعرفة يوم النحر للحج والعمرة جميعًا. قال الزرقاني: لأن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد، لأن أفعال العمرة تندرج في أفعال الحج، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور، وقال الحنفية: لا بد للقارن من طوافيين وسعيين – انتهى. وقال العيني: في الحديث – يعني حديث عائشة - حجة لمن قال الطواف الواحد والسعي الواحد يكفيان للقارن وهو مذهب عطاء والحسن وطاوس، وبه قال مالك وأحمد والشافعي وإسحاق وأبو ثور وداود إلى آخر ما قال. قلت: هكذا صرح غير واحد من شراح الحديث من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم بأن الحديث حجة للأئمة الثلاثة في وحدة الطواف للقارن خلافًا للحنفية القائلين بالطوافين له، قيل: والحديث بظاهره مشكل على الجميع لأنه يدل على اكتفائهم بطواف واحد، وقد ثبت بالأحاديث الصحيحة أنهم طافوا ثلاثة أطوفة: الأول طواف القدوم، والثاني طواف الإفاضة، والثالث طواف الوداع، ولذلك اتفق الجميع على أن القارن يطوف ثلاثة أطوفة، طواف القدوم والركن والوداع، وزادت الحنفية على ذلك طواف العمرة فصارت أربعة. قال ابن قدامة: الأطوفة المشروعة في الحج ثلاثة: طواف الزيارة، وهو ركن الحج، لا يتم إلا به بغير خلاف، وطواف
.............................................................................................
ــ
القدوم، وهو سنة لا شيء على تاركه، وطواف الوداع، واجب ينوب عنه الدم إذا تركه، وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري. وقال مالك: على تارك طواف القدوم دم، ولا شيء على تارك طواف الوداع، وحكي عن الشافعي كقولنا في طواف الوداع، وكقوله في طواف القدوم – انتهى. وعد النووي في مناسكه طواف القدوم من السنن والوداع من الواجبات. وصرح الدردير بوجوب طواف القدوم، وصرح أتباع الأئمة الثلاثة في فروعهم أن القارن حكمه حكم المفرد خلافًا للحنفية، فالقارن عند أتباع الثلاثة يطوف ثلاثة أطوفة كالمفرد، الأول طواف القدوم، والثاني طواف الإفاضة يوم النحر، لكنه عندهم للحج والعمرة كليهما فإنه دخل عمل العمرة في عمل الحج، والثالث طواف الصدر، وأما الحنفية فزادوا على ذلك طواف العمرة وقالوا: طواف الإفاضة هو للحج فقط فصارت أطوفة القارن عندهم أربعة. قال في الهداية في بيان القارن: إذا دخل مكة ابتدأ فطاف بالبيت سبعة أشواط، يرمل في الثلاث الأول منها ويسعى بعدها بين الصفا والمروة، وهذه أفعال العمرة ثم يبدأ بأفعال الحج فيطوف طواف القدوم ويسعى بعده كما بينا في المفرد – انتهى. وقيل الأطوفة للقارن عند الحنفية أيضًا ثلاثة كالمفرد لكن الطواف الأول يوم الورود واللقاء هو للعمرة وتداخل فيه طواف القدوم، والطواف الثاني أي يوم النحر هو للحج فقط. قال الشيخ محمد أنور الكشميري الحنفي: ويمكن أن يقال: إن الطواف الأول يوم القدوم كان للعمرة وتداخل فيه طواف القدوم. وقال الشيخ ثناء الله الفاني فتى في تفسيره: قلت: وذلك الطواف والسعي كان لعمرته وكفاه عن طواف القدوم لحجه – انتهى. ولكن ظاهر حديث عائشة مخالفًا للأحاديث الدالة على تعدد الطواف للمفرد والقارن احتاج الجميع إلى توجيهه وتأويله فقال السندي في حاشيته على البخاري: ظاهر الحديث أنهم إنما اقتصروا من الطوافين الذين طافهما السابقون على أحدهما إما الأول وإما الثاني، وليس الأمر كذلك بل هم أيضًا طافوا الطوافين الأول والثاني جميعًا، ذلك مما لا خلاف فيه، وقد جاء صريحًا عن ابن عمر، ففي صحيح مسلم عنه " وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، إلى أن قال: " وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة، إلى أن قال: ونحر هديه يوم النحر وأفاض وطاف بالبيت وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهدى وساق الهدي من الناس. ثم ذكر عن عائشة أنها أخبرت بمثل ذلك، وسيجيء هذا الحديث في البخاري أيضًا في باب سوق البدن، فالمراد كما سبق أنهم طافوا للركن طوافًا واحدًا والسابقون طافوا للركن طوافين، وقال أيضًا: قوله ((وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا)) أي ما طافوا طواف الفرض إلا طوافًا واحدًا هو طواف الإفاضة، والذي طافوا أولاً كان طواف القدوم الذي هو من السنن لا من الفرائض بخلاف الذين حلوا فإنهم طافوا أولاً فرض العمرة ثم فرض الحج فطافوا طوافين للفرض، ولم يرد أن الذين جمعوا ما طافوا أولاً حين القدوم أو ما طافوا آخرًا بعد الرجوع من منى كما يفيده ظاهر الكلام
..............................................................................................
ــ
كيف والنبي صلى الله عليه وسلم كان من الذين جمعوا على التحقيق وعلى مقتضى هذا الحديث، لأنه كان معه الهدي ألبتة، وقد ثبت أنه طاف أولاً حين قدم وطاف ثانيًا طواف الإفاضة حين رجع من منى، بل لعله ما ثبت أن أحدًا ترك الطواف عند القدوم ولا طواف الإفاضة، فلا فرق بين الطائفتين إلا بصفة الافتراض، فطواف من حل كان مرتين فرضًا وطواف من لم يحل كان مرة فرضًا، والله تعالى أعلم، والحاصل أن إحدى الطائفتين طافوا طوافين للنسكين والثانية طافوا لهما واحدًا – انتهى. وقال الباجي: قولهما ((أما الذين أهلوا بالحج أو جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا)) تريد - والله أعلم – أحد وجهين: أما أنهم لم يطوفوا غير طواف واحد للورود وطواف واحد للإفاضة إن كانوا قرنوا قبل دخول مكة، وإن كانوا أردفوا فلم يطوفوا غير طواف واحد وهو طواف الإفاضة، ويحتمل أن يريد بذلك أنهم سعوا لهما سعيًا واحدًا والسعي يسمى طوافًا، والوجه الثاني: أن طوافهم كان على صفة واحدة لم يزد القارن فيه على طواف المفرد، وذلك أن القارن لم يفرد العمرة بطواف وسعي بل طاف لهما كما طاف المفرد للحج، وهذا نص في صحة ما ذهب إليه مالك ومن وافقه في أن حكم القارن في ذلك حكم المفرد - انتهى. ثم قال: وهؤلاء جمعوا الحج والعمرة لا يخلو أن يكونوا أهلوا بهما جميعًا أو أردفوا الحج على العمرة إذ أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فإن كانوا ممن أهل بهما فقد طافوا لهما طواف الورود، وسعوا بأثره، ثم طافوا لهما بعد ذلك طواف الإفاضة ولم يسعوا بعده. وأما من أردف الحج على العمرة فإن كان أردفه قبل الوصول إلى مكة فحكمه حكم من أهل بهما وقد تقدم حكمه. وأما من أردفه بعد الوصول إلى مكة وقبل التلبس بالطواف فإنه لا يطوف بالبيت ولا يسعى بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى لأنه محرم بالحج من مكة، ومن أحرم بالحج من مكة فليس عليه طواف ورود، فهذا المردف لما أحرم بالحج من مكة لا تأثير لما تقدم من عمرته في الورود ولا في غير ذلك من الأفعال غير وجوب الدم للقران – انتهى. وقال ابن قدامة ما محصله: أن المراد الطواف الواحد للزيارة بعد الرجوع عن منى بخلاف المتمتع فإنه يطوف عند أحمد إذ ذاك طوافين: طواف القدوم وطواف الزيارة، لأن المتمتع لم يأت بطواف القدوم قبل ذلك، والطواف الذي طافه قبل الخروج إلى منى كان للعمرة، وعلى هذا معنى قولها ((طوافًا واحدًا)) أي يوم النحر للزيارة فقط لا للقدوم طوافًا آخر كما يفعله المتمتع عند الحنابلة، وقد تقدم كلام ابن قدامة بتمامه. وأجاب الحنفية عن حديث الباب وأولوه بوجوه، فقال بعضهم إن المراد بقوله:" طوافًا واحدًا " أي طاف لكل واحد منهما طوافًا يشبه الطواف الذي للآخر – انتهى. ولا يخفى ما في هذا التأويل من التعسف، وقال الطحاوي: إن عائشة أرادت بقولها: ((وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا لهما طوافًا واحدًا)) يعني الذين تمتعوا بالعمرة إلى الحج، لأن حجتهم كانت مكية، والحجة المكية لا يطاف لها إلا بعد عرفة. قال: والمراد بقولها "جمعوا بين الحج والعمرة، جمع متعة لا جمع قران – انتهى. قال الحافظ
.............................................................................................
ــ
بعد ذكره: وإني لكثير التعجب منه في هذا الموضع كيف ساغ له هذا التأويل، وحديث عائشة مفصل للحالتين فإنها صرحت بفعل من تمتع ثم من قرن حيث قالت: فطاف الذين أهلوا بالعمرة ثم حلوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى. فهؤلاء أهل التمتع، ثم قالت: وأما الذين جمعوا، إلخ. فهؤلاء أهل القران وهذا أبين من أن يحتاج إلى إيضاح – انتهى. وقال بعضهم: إن مقصود عائشة بهذا الحديث ليس بيان وحدة الطواف وتعدده بل المراد بيان أنهم طافوا للتحلل عن الحج والعمرة طوافًا واحدًا يعني أن القارن يكون مهلاً بإحرامين والطواف يكون محلاً للإحرام فكان مقتضاه أن يكون المحل طوافين للإحرامين كما وقع للمتمتعين لكن القارن يكفي له للتحلل عن الإحرامين طواف واحد. وهذا التأويل أيضًا بعيد جدًا، لا يخفى بعده وتعسفه على المنصف، واختار ابن القيم وجهًا آخر فقال: الصواب أن الطواف الذي أخبرت به عائشة وفرقت به بين المتمتع والقارن هو الطواف بين الصفا والمروة لا الطواف بالبيت فأخبرت عن القارنين أنهم اكتفوا بطواف واحد بينهما لم يضيفوا إليه طوافًا آخر يوم النحر وهذا هو الحق، وأخبرت عن المتمتعين أنهم طافوا بينهما طوافًا آخر بعد الرجوع من منى للحج وذلك الأول كان للعمرة وهذا قول الجمهور، وتنزيل الحديث على هذا موافق لحديثها الآخر، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم " يسعك طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة لحجك وعمرتك " وكانت قارنة، ويوافق قول الجمهور ولكن يشكل عليه حديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه " لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا طوافه الأول، هذا يوافق قول من يقول يكفي المتمتع سعي واحد كما هو إحدى الروايتين عن أحمد نص عليها في رواية ابنه عبد الله وغيره، وعلى هذا فيقال عائشة أثبتت وجابر نفى، والمثبت مقدم على النافي، أو يقال مراد جابر من قرن من أصحابه مع النبي صلى الله عليه وسلم وساق الهدى كأبي بكر وعمر وطلحة وعلي رضي الله عنهم وذوي اليسار، فإنهم إنما سعوا سعيًا واحدًا، وليس المراد به عموم الصحابة، أو يعلل حديث عائشة بأن تلك الزيادة فيه مدرجة من قول هشام، وهذه ثلاث طرق للناس في حديثها، والله أعلم – انتهى كلام ابن القيم. قلت: والطريق الأخير ضعيف جدًا بل باطل لأنه ليس في طريق حديث عائشة هذا هشام فإنه من رواية مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عنها، فهذا إسناد غاية في الصحة، فممن الخطأ والإدراج؟ ويؤيده أن له طريقًا أخرى عنها في الموطأ في باب دخول الحائض مكة " عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عنهما " وهذا سند صحيح كالجبل ثبوتًا. وسيجيء الكلام في مسألة السعي بين الصفا والمروة للمتمتع بعد الرجوع من منى للحج. والراجح عندي في معنى الحديث هو ما قال السندي ومن وافقه، وهو المعروف في توضيح الحديث وتوجيهه عند القائلين بوحدة الطواف للقارن، وما اختاره ابن القيم وجيه أيضًا عندي وسيأتي إيضاحه، واعلم أنه اختلف العلماء في طواف القارن والمتمتع إلى ثلاثة مذاهب، الأول: أن على القارن طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا وأن ذلك يكفيه لحجه وعمرته، وأن على المتمتع طوافين وسعيين، وهذا مذهب
.............................................................................................
ــ
جمهور العلماء، منهم مالك والشافعي وأحمد في أصح الروايتين. الثاني: أن على كل واحد منهما سعيين وطوافين وهذا مذهب أبي حنيفة. الثالث: أنهما معًا يكفيهما طواف واحد وسعي واحد، وهو مروي عن الإمام أحمد كما تقدم في كلام ابن القيم، أما الجمهور المفرقون بين القارن والمتمتع القائلون بأن القارن يكفي لحجه وعمرته طواف زيارة واحد وهو طواف الإفاضة، وسعي واحد، فاحتجوا بأحاديث صحيحة ليس مع مخالفيهم ما يقاومها، منها حديث عائشة الذي نحن في شرحه، فإن قولها " وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا، نص صريح دال على اكتفاء القارن بطواف واحد لحجه وعمرته، وقال ابن القيم: إن المراد بالطواف في حديث عائشة هذا هو الطواف بين الصفا والمروة، وله وجه من النظر كما سيأتي، وقد أجاب الحنفية عن هذا الحديث بوجوه، منها أن روايات عائشة في حجتها وحجته صلى الله عليه وسلم مضطربة. قال العيني: أحاديث عائشة في هذا الباب مضطربة جدًا لا يتم بها الاستدلال لأحد من الخصوم، ثم ذكر بعض الاختلاف، قالوا: فيشكل على حديثها المدار في مثل هذه المسألة، قلت: حديث عائشة هذا صحيح ثابت اتفق عليه الشيخان، وهو نص في المسألة، وقد تقدم وجه الجمع بين ما يتوهم من الاختلاف في بعض رواياتها فرده بادعاء الاضطراب فيه أمر قبيح جدًا، ومنها ما تقدم عن الطحاوي، وقد تقدم الجواب عنه في كلام الحافظ. ومن الأحاديث التي استدل بها الجمهور ما رواه مسلم في صحيحه من طريق طاوس عن عائشة أنها أهلت بعمرة فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت فنسكت المناسك كلها وقد أهلت بالحج فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: يسعك طوافك لحجك وعمرتك – الحديث. ففي هذا الحديث الصحيح التصريح بأنها كانت محرمة أولاً بالعمرة ومنعها الحيض من الطواف فلم يمكنها أن تحل بعمرة فأهلت بالحج مع عمرتها الأولى فصارت قارنة، ومع كونها قارنة صرح بأنها يكفيها لهما طواف واحد. وروى مسلم أيضًا من طريق مجاهد عن عائشة أنها حاضت بسرف فتطهرت بعرفة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك- انتهى. وهذا الحديث الصحيح صريح في أن القارن يكفيه لحجه وعمرته طواف واحد وسعي واحد ومنها حديث ابن عمر عند الشيخين، روى البخاري من طريق أيوب عن نافع أن ابن عمر دخل ابنه عبيد الله بن عبد الله وظهره في الدار فقال: إني لا آمن أن يكون العام بين الناس قتال فيصدوك عن البيت فلو أقمت، فقال: قد خرج رسول الله عليه وسلم فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فإن حيل بيني وبينه أفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (33: 21) ثم قال: أشهدكم أني أوجبت مع عمرتي حجًا. قال: ثم قدم فطاف لهما طوافًا واحدًا – انتهى. وفيه دليل على أن القارن يكفيه طواف واحد لحجته وعمرته وأجاب بعض الحنفية عنه بأنه ليس بصريح في اكتفاء القارن بطواف واحد فإنه يحتمل أن يكون المراد بقوله " طوافًا واحدًا أي طاف لكل منهما طوافًا يشبه الطواف الذي للآخر، وكذا أولوا رواية عائشة المتقدمة كما سبق وفيه أنه يرفع
…
..............................................................................................
ــ
هذا الاحتمال قوله في الرواية الآتية " ورأى أنه قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول " وتأوله بعضهم بأن المراد أنه طاف للقدوم طوافًا واحدًا يعني أنه اكتفى قبل النحر بطوافه للقدوم في العمرة وكان هذا الطواف في الأصل للعمرة وتداخل فيه طواف القدوم فلم يعده، ثم طاف يوم النحر طوافًا للحج، وتأوله بعضهم بأن المراد أنه طاف طوافًا واحدًا للحل منهما جميعًا حيث لم يتحلل بعد أفعال العمرة يعني أنه طاف للإحلال منهما طوافًا واحدًا هو طواف الإفاضة، ولا يخفى ما في هذين التأويلين من التكلف والتعسف. وروى البخاري من طريق الليث عن نافع أن ابن عمر أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير فقيل له: إن الناس كائن بينهم قتال وإنا نخاف إن يصدوك، فقال {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} إذًا أصنع كما صنع رسول الله عليه وسلم، إني أشهدكم أني قد أوجبت عمرة، ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال: ما شأن الحج والعمرة إلا واحد أشهدكم أني قد أوجبت حجًا مع عمرتي وأهدى هديًا اشتراه بقديد، ولم يزد على ذلك فلم ينحر ولم يحل من شيء حرم منه ولم يحلق ولم يقصر حتى كان يوم النحر فنحر وحلق ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول. وقال ابن عمر: كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم – انتهى. وفي هذه الرواية التصريح من ابن عمر باكتفاء القارن بطواف واحد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل. قال الكرماني في شرح هذا الحديث: يعني أنه لم يكرر الطواف للقران بل اكتفى بطواف واحد. وقال الحافظ: قوله " بطوافه الأول " أي الذي طافه يوم النحر للإفاضة – انتهى. وقال السندي في حاشيته على البخاري: قوله " بطوافه الأول " أي بأول طواف طافه بعد النحر والحلق فإنه هو ركن الحج عندهم لا الذي طافه حين القدوم، وإن كان هو المتبادر من اللفظ فإنه للقدوم وليس بركن للحج، والله تعالى أعلم، وأجاب عنه بعض الحنفية بأن المراد به طواف القدوم كما هو المتبادر، وأن هذا الطواف الواحد أجزأ عن طواف القدوم للحج وطواف العمرة جميعًا، ثم طاف طواف الإفاضة يوم النحر ولم يذكره في الرواية وهو مراد ألبتة وإن تركه الرواي. قالوا: ويدل عليه قوله " وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم " ورسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كذلك حيث طاف يوم القدوم، وأجزأ ذلك الطواف الأول عن القدوم والعمرة جميعًا ثم طاف يوم النحر، وفيه أنه يلزم على هذا التأويل أن ابن عمر أو من دونه قد أخل بذكر طواف الزيارة الذي هو ركن الحج لا يتم الحج إلا به، وذكر ما يستغنى عنه، وفيه أيضًا أنه قد ثبت عنه طواف الإفاضة في رواية سالم عنه عند الشيخين حيث قال:"بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج " إلى أن قال " وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة إلى أن قال " ونحر هديه يوم النحر وأفاض وطاف بالبيت وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهدى وساق الهدي من الناس، ثم ذكر عن عائشة أنها أخبرت بمثل ذلك. قلت: واستدل بظاهر حديث لمالك فيما ذهب إليه من إجزاء طواف القدوم عن طواف الإفاضة لمن تركه جاهلاً أو نسيه. قال الحافظ: وتوهم بعضهم أنه أراد طواف القدوم. وقال ابن
...........................................................................................
ــ
عبد البر في حجة لمالك في قوله " إن طواف القدوم إذا وصل بالسعي يجزئ عن طواف الإفاضة لمن تركه جاهلاً أو نسيه حتى رجع إلى بلده وعليه الهدي، قال: ولا أعلم أحدًا قال به غيره وأصحابه، وتعقب بأنه إن حمل قوله " طوافه الأول " على طواف القدوم وأنه أجزأ عن طواف الإفاضة كان ذلك دالاً على الإجزاء مطلقًا ولو تعمده، لا بقيد الجهل والنسيان – انتهى. قلت: حمله على طواف القدوم والقول بسقوط طواف الإفاضة في تلك الصورة أو مطلقًا باطل بلا شك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بطوافه الذي طاف يوم دخل مكة بل طاف يوم النحر طواف الإفاضة الذي هو ركن الحج بإجماع المسلمين، وثبت ذلك ثبوتًا قطعيًا، وأما القول بأن ذلك الطواف الأول كان عن القدوم للحج وطواف العمرة جميعًا فادعاء محض ليس عليه أثارة من علم فلا يلتفت إليه، وقال السندي في حاشية البخاري بعد ذكر التأويل الذي نقلنا عنه ما لفظه: ولا يخفى أن بعض روايات حديث ابن عمر يبعد هذا التأويل ويقتضي أن الطواف الذي يجزئ عنهما هو الذي حين القدوم، ففي رواية للبخاري " ثم قدم فطاف لهما طوافًا واحدًا " وسيجيء في البخاري في باب من اشترى الهدي من الطريق بلفظ " ثم قدم فطاف لهما طوافًا واحدًا فلم يحل حتى حل منهما جميعًا " وسيجيء في باب الإحصار " وكان يقول أي ابن عمر: لا يحل حتى يطوف طوافًا واحدًا يوم يدخل مكة " وفي بعض روايات مسلم " فخرج حتى إذا جاء البيت طاف به سبعًا وبين الصفا والمروة سبعًا لم يزد عليه ورأى أنه مجزئ عنه وأهدى " وفي أخرى " ثم طاف لهما طوافًا واحدًا بالبيت وبين الصفا والمروة ثم لم يحل منهما حتى حل منهما بحجة يوم النحر " وفي رواية أخرى " ثم انطلق يهل بهما جميعًا حتى قدم مكة فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ولم يزد على ذلك ولم ينحر ولم يحلق حتى كان يوم النحر فنحر وحلق ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول " والنظر في هذه الروايات يبعد ذلك التأويل، لكن القول بأنه ما كان يرى طواف الإفاضة مطلقًا أو للقارن أيضًا قول بعيد، بل قد ثبت عنه طواف الإفاضة في صحيح مسلم كما ذكرنا في القول السابق عنه، فإما أنه لا يرى طواف الإفاضة للقارن ركن الحج، بل يرى أن الركن في حقه هو الأول والإفاضة سنة أو نحوها وهذا لا يخلو عن بعد، أو أنه يرى دخول طواف العمرة في طواف القدوم للحج، ويرى أن طواف القدوم من سنن الحج للمفرد إلا أن القارن يجزئه ذلك عن سنة القدوم للحج وعن فرض العمرة وتكون الإفاضة عنده ركنًا للحج فقط، هذا غاية ما ظهر لي في التوفيق بين روايات حديث ابن عمر ولم أر أحدًا تعرض لذلك مع البسط وجمع الطرق إلا ما قيل إن المراد بالطواف السعي بين الصفا والمروة ولا يخفى بعده أيضًا فإن مطلق الطواف ينصرف إلى طواف البيت سيما وهو مقتضى الروايات فلينظر بعده، والله تعالى أعلم – انتهى. قلت: حمله على الطواف بين الصفا والمروة لا بعد فيه، بل هو الظاهر، ويؤيد ذلك حديث جابر عند مسلم " لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا طوافه الأول " – انتهى. قال الشنقيطي: الذي
..............................................................................................
ــ
يظهر لي والله أعلم أن مراد ابن عمر في قوله " ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول " هو الطواف بين الصفا والمروة، ويدل على ذلك أمران: الأول هو ما وقع في بعض روايات مسلم " ثم طاف لهما طوافًا واحدًا بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم لم يحلل منهما حتى حل منهما بحجة "(قال النووي: معناه حتى حل منهما يوم النحر بعمل حجة مفردة) ومعلوم أن الحل بحجة لا يمكن بدون طواف الإفاضة، أما السعي في الحجة فيكفي فيه السعي الأول بعد طواف القدوم فيتعين أن الطواف الأول الذي رأى إجزاءه عن حجه وعمرته هو الطواف بين الصفا والمروة بدليل الرواية الصحيحة بأنه لم يحل منهما إلا بحجة يوم النحر وحجة يوم النحر أعظم أركانها طواف الإفاضة فبدونه لا تسمى حجة لأنه ركنها الأكبر المنصوص على الأمر به في كتاب الله في قوله تعالى {وليطوفوا بالبيت العتيق} (22: 29) الأمر الثاني هو أن ابن عمر قال: كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الروايات الصحيحة أنه اكتفى بسعيه بين الصفا والمروة بعد طواف القدوم لحجه وعمرته وأنه بعد إفاضته من عرفات طاف طواف الإفاضة يوم النحر على التحقيق فحديث ابن عمر هذا نص صحيح متفق عليه على أن القارن يعمل كعمل المفرد، وعلى هذا يحمل الطواف الواحد في حديث عائشة المتقدم فيفسر بأنه الطواف بين الصفا والمروة، لأن القارن لا يسعى لحجه وعمرته إلا مرة واحدة – انتهى كلام الشنقيطي. وأجاب بعض الحنفية عن رواية مسلم المذكورة في كلام الشنقيطي بأنه يحتمل أن هؤلاء الذين لم يطوفوا بين الصفا والمروة بعد طواف الإفاضة لأجل أنهم سعوا بينهما قبل الرواح إلى منى بأن يطوفوا بالبيت طواف النفل لأجل تقديم السعي جائز بعد أن يكون مسبوقًا بطواف كطواف القدوم أو طواف النفل فكان الغرض أنهم لم يعيدوا السعي مرة أخرى – انتهى. وفيه أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه القارنين أنهم طافوا طواف النفل وسعوا بعده بين الصفا والمروة قبل الرواح إلى منى، فحمله على ذلك بعيد جدًا. قال الشيخ محمد أنور: لم يثبت طواف النفل منه عليه صلوات الله وسلامه إلى العاشر، نعم ثبت بعد العاشر في ليالي منى برواية قوية. وقال بعضهم إن المراد في حديث جابر المذكور أن السعي الواحد لنسك واحد كافي، أي لا يحتاج إلى سعي آخر، وفيه أنه يأبى هذا التأويل ألفاظ حديث جابر وحديث ابن عمر وعائشة كما لا يخفى ذلك على من أمعن النظر فيها، ومن الأحاديث الصحيحة التي استدل بها للجمهور ما وقع في حديث جابر عند مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم:" دخلت العمرة في الحج " مرتين وتصريحه صلى الله عليه وسلم بدخولها فيه يدل على دخول أعمالها في أعماله حالة القران، قال الحافظ: دل هذا على أنها لا تحتاج أي عمرة بعد أن دخلت فيه إلى عمل آخر غير عمله. واستدل للجمهور أيضًا بما روى أحمد (ج 2: ص 67) والترمذي وابن ماجة وسعيد بن منصور من حديث ابن عمر، واللفظ لأحمد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرن بين حجته وعمرته أجزأه لهما طواف واحد ". ولفظ الترمذي " من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعًا " قال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح. وأعله الطحاوي بأن عبد العزيز بن محمد
.............................................................................................
ــ
الدراوردي (الراوي عن عبيد الله بن عمر) أخطأ فيه، وأن الصواب أنه موقوف، وتمسك في تخطئته بما رواه أيوب والليث وموسى بن عقبة وغير واحد عن نافع نحو سياق ما تقدم من أن ذلك وقع لابن عمر، وأنه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لا أنه روى هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم – انتهى. قال الحافظ: وهو تعليل مردود، فالدراوردي صدوق وليس ما رواه مخالفًا لما رواه غيره، فلا مانع من أن يكون الحديث عند نافع على الوجهين – انتهى. والحديث صححه الترمذي كما تقدم ثم أعله بنحو ما أعله به الطحاوي حيث قال: تفرد به الدراوردي على ذلك اللفظ، وقد رواه غير واحد عن عبيد الله بن عمر ولم يرفعوه وهو أصح – انتهى. قلت: وهكذا أعله ابن عبد البر في الاستذكار كما ذكره العيني والجواب عن ذلك كله أن حديث ابن عمر الذي قدمناه عن البخاري ليس بموقوف، لأن ابن عمر لما طاف لهما طوافًا واحدًا أخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وهذا عين الرفع فلا وقف ألبتة، ولا يبعد أن يكون قول ابن عمر " هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم " أي أمر من كان قارنًا أن يقتصر على طواف واحد، واستدل لهم أيضًا بما رواه الترمذي والنسائي عن جابر أن رسول الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة فطاف لهما طوافًا واحدًا. قال الترمذي: هذا حديث حسن، وفيه الحجاج بن أرطاة. واستدل لهم أيضًا بما روى عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل قال: حلف طاوس ما طاف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجه وعمرته إلا طوافًا وحدًا. قال الحافظ: هذا إسناد صحيح، وفيه بيان ضعف ما رُوي عن علي وابن مسعود من ذلك. وقد روى آل بيت علي عنه مثل الجماعة، قال جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أنه كان يحفظ عن علي " للقارن طواف واحد " خلاف ما يقول أهل العراق. ومما يضعف ما روي عن علي من ذلك أن أمثل طرقه عن رواية عبد الرحمن بن أذينة عنه، وقد ذكر فيها أنه يمتنع على من ابتدأ الإهلال بالحج أن يدخل عليه بالعمرة، وأن للقارن يطوف طوافين ويسعى سعيين. والذين احتجوا بحديثه لا يقولون بامتناع إدخال العمرة على الحج، فإن كانت الطريق صحيحة عندهم لزمهم العمل بما دلت عليه، وإلا فلا حجة فيها – انتهى كلام الحافظ. وفي الباب أيضًا عن ابن عباس عند ابن ماجة والدارقطني بنحو حديث جابر عند مسلم وعن أبي قتادة وأبي سعيد عند الدارقطني أيضًا بإسناد ضعيف وقد ثبت بما ذكرنا من الأحاديث والآثار الفرق بين القران والتمتع، وأن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد لعمرته وحجته كفعل المفرد. أما أدلة الجمهور على أن المتمتع لا بد له من طوافين وسعيين: طواف وسعي لعمرته وطواف وسعي لحجه فمنها ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج فقال: أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأتينا النساء، ولبسنا الثياب، وقال: من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من
.............................................................................................
ــ
المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدي-الحديث، وأخرجه أيضًا الإسماعيلي في مستخرجه، ومن طريقه البيهقي في سننه (ج 5: ص 23) وإسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح، وهو صريح في سعي المتمتع مرتين ومنها حديث عائشة المتقدم فإن قولها " فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافًا (آخر) بعد أن رجعوا من منى (لحجهم) وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا، يدل على الفرق بين القارن والمتمتع، وأن القارن يفعل كفعل المفرد والمتمتع يطوف لعمرته ويطوف لحجه، وقال بعض أهل العلم قول عائشة عن الذين أهلوا بالعمرة " ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم " تعني به الطواف بين الصفا والمروة على أصح الأقوال في تفسير هذا الحديث وأما قول من قال إنها أرادت بذلك طواف الإفاضة فليس بصحيح لأن طواف الإفاضة ركن في حق الجميع وقد فعلوه، وإنما المراد بذلك ما يخص المتمتع وهو الطواف بين الصفا والمروة مرة ثانية بعد الرجوع من منى. وأما من قال إن المتمتع كالقارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد وهو رواية عن الإمام أحمد فقد استدل بما رواه مسلم في صحيحه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا طوافهم الأول. قالوا: فهذا نص صحيح صرح فيه جابر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف هو ولا أصحابه إلا طوافًا واحدًا، ومعلوم أن أصحابه فيهم القارن، وهو من كان معه الهدي، وفيهم المتمتع، وهو من لم يكن معه هدي، وإذًا ففي هذا الحديث الصحيح الدليل على استواء القارن والمتمتع في لزوم طواف واحد وسعي واحد، وأجاب المخالفون عن هذا بأجوبة، الأول: هو أن الجمع واجب إن أمكن، قالوا: وهو ها هنا ممكن بحمل حديث جابر هذا على أن المراد بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يطوفوا إلا طوافًا واحدًا للعمرة والحج خصوص القارنين منهم كالنبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين ساقوا الهدي فإنهم بقوا على إحرامهم مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى حلوا من الحج والعمرة جميعًا، والقارن بين الحج والعمرة ليس عليه إلا سعي واحد كما دل عليه حديث جابر وغيره من الأحاديث الصحيحة وإن حمل حديث جابر على هذا كان موافقًا لحديث عائشة وحديث ابن عباس المتقدمين وبذلك يزول التعارض ويحصل العمل بالأحاديث كلها. الجواب الثاني: أنا لو سلمنا أن الجمع غير ممكن هنا في حديث جابر مع حديث عائشة وحديث ابن عباس كما جاء في ما رواه مسلم من طريق زهير عن أبي الزبير عن جابر قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج معنا النساء والولدان فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لم يكن معه الهدي فليحلل. قال، قلنا: أي الحل؟ قال: الحل كله. قال: فأتينا النساء ولبسنا الثياب ومسسنا الطيب، فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة – الحديث. ولفظ جابر في هذه الرواية لا يمكن حمله على القارنين بحال، لأنه صرح بأنهم حلوا الحل كله وأتوا النساء، ولبسوا الثياب، ومسوا الطيب، وأنهم أهلوا يوم التروية بحج، ومع هذا كله صرح
..............................................................................................
ــ
بأنهم كفاهم طوافهم الأول بين الصفا والمروة. ويؤيده ما وقع في حديث جابر عند أحمد (ج 3: ص 362) والطحاوي وأبي داود في باب الإفراد قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأربع خلون من ذي الحجة فلما طافوا بالبيت وبالصفا والمروة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوها عمرة إلا من كان معه الهدي، فلما كان يوم التروية أهلوا بالحج فلما كان يوم النحر قدموا فطافوا بالبيت ولم يطوفوا بين الصفا والمروة – انتهى. فإن حديث جابر ينفي طواف المتمتع بعد رجوعه من منى، وحديث عائشة وحديث ابن عباس يثبتانه، وقد تقرر في علم الأصول ومصطلح الحديث أن المثبت مقدم على النافي فيجب تقديم حديث ابن عباس وعائشة بأنهما مثبتان على حديث جابر النافي. الجواب الثالث: أن عدم طواف المتمتع بعد رجوعه من منى الثابت في صحيح مسلم رواه جابر وحده، وطوافه بعد رجوعه من منى رواه في صحيح البخاري وغيره ابن عباس وعائشة، وما رواه اثنان أرجح مما رواه واحد. وأما من قالوا: إن القارن والمتمتع يلزم كل واحد منهما طوافان وسعيان، طواف وسعي للعمرة وطواف وسعي للحج كأبي حنيفة ومن وافقه فقد استدلوا لذلك بأحاديث، فمنها حديث الصبي بن معبد التغلبي عند أبي حنيفة في مسنده رواه عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي عن الصبي بن معبد قال: أقبلت من الجزيرة حاجًا، إلى أن قال:" فأحببت أن أجمع عمرة إلى حجة فأهللت بهما جميعًا ولم أنس " وفيه " مضيت فطفت طوافًا لعمرتي وسعيت سعيًا لعمرتي ثم عدت ففعلت مثل ذلك، ثم بقيت حرامًا أصنع كما يصنع الحاج " وفي طريق آخر " كنت حديث عهد بنصرانية فقدمت الكوفة أريد الحج في زمان عمر بن الخطاب" وفيه " فلما قدم الصبي مكة طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة لعمرته ثم رجع حرامًا لم يحل من شيء ثم طاف بالبيت وبين الصفا والمروة لحجته " وفيه " فضرب عمر على ظهره وقال: هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم " وقال ابن حزم في المحلى (ج 7: ص 175) : روينا من طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي أن الصبي بن معبد التغلبي قرن بين العمرة والحج فطاف طوافين وسعى سعيين ولم يحل بينهما وأهدى وأخبر بذلك عمر بن الخطاب فقال: هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، وأجيب عن ذلك بأن إبراهيم النخعي لم يدرك الصبي ولا سمع منه ولا أدرك عمر فهو منقطع، وقد رواه الثقات مجاهد ومنصور عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن الصبي فلم يذكروا فيه طوافًا ولا طوافين ولا سعيًا ولا سعيين أصلاً، وإنما فيه قرن بين الحج والعمرة فقط، قاله ابن حزم في المحلى. قلت: رواه أبو داود والنسائي عن منصور، وابن ماجة عن الأعمش كلاهما عن أبي وائل عن الصبي بن معبد قال: أهللت بهما معًا، فقال عمر: هديت لسنة نبيك – انتهى. وكذا رواه مختصرًا أحمد وإسحاق بن راهويه وأبو داود الطيالسي في مسانيدهم وابن أبي شيبة في مصنفه وابن حبان في صحيحه والدارقطني في العلل. فرواية النخعي عن الصبي بن معبد لا يصح الاحتجاج بها لكونها منقطعة، ومنها حديث علي أخرجه النسائي في سننه الكبرى في مسند على من طريق حماد بن عبد الرحمن الأنصاري عن إبراهيم بن محمد بن الحنفية
............................................................................................
ــ
قال: طفت مع أبي وقد جمع يبن الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين، وحدثني أن عليًا فعل ذلك، وقد حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، ذكره الزيلعي ثم قال: قال صاحب التنقيح: وحماد هذا ضعفه الأزدي وذكره ابن حبان في الثقات، قال بعض الحفاظ: هو مجهول، والحديث من أجله لا يصح – انتهى. وقال الحافظ في الدراية: رواته موثقون وأخرجه محمد بن الحسن من قول علي موقوفًا بلفظ الأمر، وفي إسناده راو مجهول – انتهى. ولحديث علي إسناد آخر أخرجه الدارقطني (ص273) من طريق الحسن بن عماره عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن علي، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قرن وطاف طوافين وسعى سعيين – انتهى. والحسن بن عمارة ضعيف بإجماع منهم قاله السهيلي. وقال أبو حاتم ومسلم والنسائي والدارقطني وأحمد ويعقوب بن شيبة: متروك الحديث. وقال الجوزجاني: ساقط، وقال الساجي: ضعيف متروك أجمع أهل الحديث على ترك حديثه. وقال ابن معين: لا يكتب حديثه، وقال مرة ضعيف، وقال مرة: ليس حديثه بشيء، وقال عمرو بن علي: هو رجل صالح صدوق كثير الوهم والخطأ متروك الحديث. وقال عبد الله بن المديني عن أبيه: ما احتاج إلى شعبة فيه، أمره أبين من ذلك. قيل له: كان يغلط؟ قال: أي شيء كان يغلط؟ كان يضع. وقد أطال العقيلي في تضعيف الحسن بن عمارة في كتاب الضعفاء كما في نصب الراية. وأخرجه الدارقطني أيضًا عن حفص بن أبي داود عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي بنحوه، قال: وحفص هذا ضعيف وابن أبي ليلى رديء الحفظ كثير الوهم. وأخرجه أيضًا عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي حدثني أبي عن أبيه عن جده عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنًا فطاف طوافين وسعى سعيين – انتهى. قال: وعيسى بن عبد الله يقال له مبارك وهو متروك الحديث، ذكره الزيلعي (ج 3: ص 110) وسكت عنه، ومنها حديث ابن عمر أخرجه الدارقطني (ص271) من طريق الحسن بن عمارة عن مجاهد عن ابن عمر أنه جمع بين عمرة وحج فطاف لهما طوافين وسعى سعيين، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت – انتهى. قال الدارقطني بعد ذكر حديث ابن عمر هذا، وحديث علي المتقدم من طريق الحسن بن عمارة: لم يروهما غير الحسن بن عمارة وهو متروك ثم هو قد روى عن ابن عباس ضد هذا ثم أخرجه عن الحسن بن عمارة عن سلمة بن كهيل عن طاوس، قال سمعت ابن عباس يقول: لا والله ما طاف لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا طوافًا واحدًا فهاتوا من هذا الذي يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف لهما طوافين – انتهى. ومنها حديث ابن مسعود أخرجه الدارقطني من طريق أبي بردة عمرو بن يزيد عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرته وحجه طوافين وسعى سعيين وأبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود. قال الدارقطني: وأبو بردة متروك، ومن دونه في الإسناد ضعفاء – انتهى. وقال الحافظ في الدراية: وفيه أبو بردة عمرو بن يزيد أحد الضعفاء، ورواه عن حماد بن أبي سليمان، ومنها حديث عمران بن حصين أخرجه الدارقطني أيضًا من طريق
..............................................................................................
ــ
محمد بن يحيى الأزدي ثنا عبد الله بن داود عن شعبة عن حميد بن هلال عن مطرف عن عمران بن حصين، أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعيين – انتهى. قال الدارقطني: يقال إن محمد بن يحيى حدث بهذا من حفظه فوهم في متنه، والصواب بهذا الإسناد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة، وليس في ذكر الطواف ولا السعي، ويقال إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي وحدث به على الصواب كما حدثنا به محمد بن إبراهيم بن فيروز حدثنا محمد بن يحيى الأزدي به أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن – انتهى. قال: وقد خالفه غيره فلم يذكر فيه الطواف ولا السعي كما حدثنا به أحمد بن عبد الله بن محمد الوكيل ومحمد بن مخلد، قالا حدثنا القاسم بن محمد بن عباد المهلبي ثنا عبد الله بن داود عن شعبة بهذا الإسناد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن – انتهى. وقد ظهر كما ذكرنا أن جميع الأحاديث الدالة على طوافين وسعيين للقارن ليس فيها حديث قائم كما رأيت، وقال الحافظ في الفتح: واحتج الحنفية بما روي عن علي أنه جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل، وطرقه عن علي عند عبد الرزاق والدارقطني وغيرهما ضعيفة، وكذا أخرج من حديث ابن مسعود بإسناد ضعيف نحوه. وأخرج من حديث ابن عمر نحو ذلك. وفيه الحسن بن عمارة وهو متروك والمخرج في الصحيحين، وفي السنن عنه من طرق كثيرة الاكتفاء بطواف واحد. وقال البيهقي: إن ثبتت الرواية أنه طاف طوافين فيحمل على طواف القدوم وطواف الإفاضة، وأما السعي مرتين فلم يثبت وقال ابن حزم: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه شيء في ذلك أصلاً. قال الحافظ: لكن روى الطحاوي وغيره مرفوعًا عن علي وابن مسعود ذلك بأسانيد لا بأس بها إذا اجتمعت، ولم أر في الباب أصح من حديثي ابن عمر وعائشة المذكورين في هذا الباب انتهى. وقال ابن القيم: وأما من قال إنه حج قارنًا قرانًا طاف له طوافين وسعى سعيين كما قاله كثير من فقهاء الكوفة، فعذره ما رواه الدارقطني من حديث مجاهد عن ابن عمر وعن علي بن أبي طالب وعن علقمة عن عبد الله ابن مسعود وعن عمران بن حصين فذكر ألفاظ أحاديث هؤلاء الصحابة ثم قال: وما أحسن هذا العذر لو كانت هذه الأحاديث صحيحة بل لا يصح منها حرف واحد، أما حديث ابن عمر ففيه الحسن بن عمارة. وقال الدارقطني: لم يروه عن الحكم غير الحسن بن عمارة وهو متروك الحديث. وأما حديث علي ففي أحد سنديه حفص بن أبي داود. وقال أحمد ومسلم: حفص متروك الحديث. وقال ابن خراش: هو كذاب يضع الحديث، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ضعيف، وفي السند الثاني عيسى بن عبد الله، ويقال له مبارك. قال الدارقطني: هو متروك الحديث. وأما حديث علقمة عن عبد الله فيرويه أبو بردة عمرو بن يزيد عن حماد عن إبراهيم عن علقمة. قال الدارقطني: وأبو بردة ضعيف ومن دونه في الإسناد ضعفاء – انتهى. وفيه عبد العزيز بن أبان، قال يحيى: هو كذاب خبيث. وقال الرازي والنسائي: متروك الحديث، وأما حديث عمران بن حصين فهو مما غلط فيه محمد بن يحيى الأزدي وحدث به من حفظه فوهم فيه، وقد حدث به على الصواب مرارًا ويقال إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي – انتهى. واستدل أيضًا للحنفية بما روي من أثار بعض الصحابة كعلي وابن مسعود والحسن
..............................................................................
ــ
ابن علي والحسين بن علي ذكرها الزيلعي في نصب الراية (ج 3: ص 111) وابن حزم في المحلى (ج 7: ص 175، 176) مع الكلام عليها والبيهقي في المعرفة وفي السنن والحافظ في الدراية، وقد ذكرنا ما يعارض ذلك ويضعفه نقلاً عن الحافظ فتذكر، وإذا عرفت أن أحاديث السعيين والطوافين ليس فيها شيء قائم كما رأيت، فاعلم أن الذين قالوا بأن القارن يطوف طوافًا ويسعى سعيًا كفعل المفرد أجابوا عن تلك الأحاديث من وجهيين الأول: وهو ما بيناه الآن بواسطة نقل الزيلعي والحافظ ابن حجر وابن القيم عن الدارقطني وغيره من أوجه ضعفها. والثاني: أنا لو سلمنا أن بعضها يصلح للاجتهاد كما يقوله الحنفية وضعافها يقوي بعضها بعضًا فلا يقل مجموع طرقها عن درجة القبول كما أشار إليه الحافظ فهي معارضة بما هو أقوى منها وأصح وأرجح وأولى بالقبول من الأحاديث الثابتة في الصحيح الدالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل في قرانه إلا كما يفعل المفرد كحديث عائشة المتفق عليه وحديث ابن عمر عند البخاري، وكالحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: يكفيك طوافك بالبيت وبالصفا والمروة لحجك وعمرتك. كذا حققه الشنقيطي، ثم قال: وقد اتضح من جميع ما كتبناه في هذه المسألة أن التحقيق فيها أن القارن يفعل كفعل المفرد لاندراج أعمال العمرة في أعمال الحج، وأن المتمتع يطوف ويسعى لعمرته ثم يطوف ويسعى لحجته، ومما يوضحه من جهة المعنى أنه يطوف ويسعى لحجه بعد رجوعه من منى، أنه يهل بالحج بالإجماع، والحج يدخل في معناه دخولاً مجزومًا به الطواف والسعي، فلو كان يكفيه طواف العمرة التي حل منها وسعيها لكان إهلاله بالحج إهلالاً بحج لا طواف فيه ولا سعي، وهذا ليس بحج في العرف ولا في الشرع – انتهى. تنبيه: استدل بعض الحنفية لتعدد السعي بأنه وقع في بعض الروايات ذكر سعيه ماشيًا كما تقدم في حديث جابر الطويل عند مسلم وأبي داود وهو قوله: حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة – الحديث. قالوا: هذا صريح في السعي راجلاً وماشيًا على الأقدام ووقع في بعض الروايات ذكر سعيه راكبًا كما وقع في حديث جابر أيضًا عند مسلم في باب جواز الطواف على البعير " طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ليراء الناس وليشرف ويسألوه، فإن الناس غشوه " قالوا: فيكون السعي اثنين، الأول ماشيًا راجلاً بعد الطواف الأول عند دخول مكة وهو للقدوم عند الشافعية ومن وافقهم، وللقدوم والعمرة عندنا الحنفية، والسعي الثاني راكبًا، وتاريخ هذا السعي الثاني وإن كان غير معلوم يعني أنه كان قبل يوم النحر أو بعده لكن الأقرب والأليق بمسائل الحنفية أن يكون يوم النحر بعد طواف الإفاضة حيث يكون السعي مسبوقًا بطواف. ولم يطف النبي صلى الله عليه وسلم بعد طوافه للقدوم والعمرة على اختلاف المذهبين إلا هذا الطواف أي يوم النحر. وتأول ابن حزم قول جابر في قصة حجة الوداع " حتى إذا انصبت قدماه " أي وهو على راحلته، والنزول والصعود إنما هو نزول الناقة وصعودها. قال الحنفية: إن هذا التأويل غير مقبول، فإن ألفاظ الحديث وتبادرها يخالفه، وأيضًا من كان راكبًا لا يسعى بين الميلين الأخضرين بل يمشي، قالوا: ويرد هذا التأويل حديث بنت أبي تجراة (الآتي في باب دخول
............................................................................................
ــ
مكة والطواف) وفيه " فرأيته وإن ميزره ليدور من شدة السعي " قالوا: وتأول ابن حزم الرواية التي تدل على سعيه راكبًا بأن بعض الأشواط من السعي كان راكبًا وبعضها كان ماشيًا. قالوا: يرد هذا التأويل ما رواه أبو داود في باب الطواف الواجب عن أبي الطفيل عن ابن عباس أنه طاف سبعًا على راحلته فصرح فيه أنه طاف بينهما سبعة أشواط راكبًا. والظاهر أنه في حجة الوادع، يدل على ذلك ما وقع في رواية مسلم في باب استحباب الرمل في الطواف عن أبي الطفيل، قال: قلت لابن عباس: أراني قد رأيت رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: فصفه لي. قال، قلت: رأيته عند المروة على ناقة، وقد كثر الناس عليه. قال، فقال ابن عباس: ذاك رسول الله عليه وسلم، إنهم كانوا لا يدعون عنه ولا يكهرون – انتهى. قالوا: وهذه الواقعة واقعة حجة الوداع، لأن كثرة الناس وسؤالهم لا يكون إلا في حجة الوادع. قالوا: فظهر من هذا كله أن تعدد السعي لازم وإن لم يصرح به أحد. قلت: التأويل الثاني الذي نسبوه إلى ابن حزم صحيح متعين عندي، وأما رواية أبي داود فأصلها في صحيح مسلم ولكن ليست فيه هذه اللفظة، ويؤيد التأويل المذكور ما وقع في رواية عند مسلم بإسناده عن أبي الطفيل، قال: قلت لابن عباس: أرأيت هذا الرمل بالبيت؟ – الحديث. وفيه " قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس يقولون: هذا محمد، هذا محمد، حتى خرج العواتق من البيوت. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثر عليه ركب، والمشي والسعي أفضل – انتهى. فإن سياقه يدل على أن الركوب كان في أثناء السعي حين كثر الناس عليه فيه، وأما حديث بنت أبي تجراة فليس فيه تصريح أنه كان في حجته ولا أن سعيه ماشيًا كان في جميع الأشواط. قال المحب الطبري بعد ذكر الروايات التي تدل علي أنه صلى الله عليه وسلم سعى راكبًا ما لفظه: في هذه الأحاديث دلالة ظاهرة على ركوبه صلى الله عليه وسلم في السعي، والأحاديث المتقدمة في الفصل قبله وحديث جابر الطويل يدل على مشيه، فيحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم مشى في طوافه على ما دل عليه بعض الأحاديث، ثم خرج إلى السعي ماشيًا فسعى بعضه ماشيًا ورأته بنت أبي تجراة إذ ذاك، ثم لما كثر عليه ركب ناقته، ويؤيد ذلك قول بن عباس: وكان صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه فلما كثر عليه ركب، والسعي والمشي أفضل. فإن سياقه دال على أن الركوب كان في أثناء السعي حين كثر الناس عليه فيه. وذهب ابن حزم في كتابه المشتمل على صفة الحج الكبرى إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان راكبًا في جميع طوافه بين الصفا والمروة عملاً بحديث جابر هذا، قال: وما رواه في حديثه الطويل من أنه صلى الله عليه وسلم لما انصبت قدماه في بطن الوادي رمل، ليس بمعارض لما ذكرناه، لأن الراكب إذا انصب به بعيره فقد انصب جميع بدنه وانصبت قدماه أيضًا مع سائر جسده، وكذلك الرمل، يعني به رمل الدابة براكبها، ولم يطف صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة في تلك الحجة إلا مرة واحدة، وذكر في الحديث أنه كان فيه راكبًا، قال: ولا يقطع بأن طوافه صلى الله عليه وسلم بالبيت الأول كان راكبًا لأنه صلى الله عليه وسلم طاف في تلك الحجة مرارًا، منها طوافه الأول، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع، فالله أعلم أي تلك الأطواف كان راكبًا؟ قال الطبري: وظاهر حديث ابن عباس يرد هذا التأويل، وحديث بنت أبي تجراة
متفق عليه.
2581 – (3) وعن عبد الله بن عمر، قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج، فتمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى، ومنهم من لم يهد، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: " من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه،
ــ
يصرح برده، والمختار فيه ما تقدم ذكره جمعًا بين الأحاديث كلها. وأما ركوبه في الطواف بالبيت فكان في طواف الإفاضة. ويكون قول جابر المتقدم في هذا الفصل " طاف على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة " محمولاً على طواف الإفاضة والسعي بعد طواف القدوم وجمع بينهما لوقوع الركوب فيهما – انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد ومالك وأبو داود والنسائي وغيرهم.
2581-
قوله (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج) قد تقدم في شرح حديث ابن عمر في باب الإحرام والتلبية أن المراد بالتمتع ها هنا المعنى اللغوي وهو الانتفاع والالتذاذ، ولا شك أن ذلك في القران بوجود الاكتفاء عن النسكين بنسك، فالقارن متمتع من حيث اللغة ومن حيث المعنى، لأنه ترفيه باتحاد الميقات والإحرام والفعل. قال القاري: ظاهر هذا الحديث أنه أحرم بالعمرة أولاً ثم أحرم بالحج، ويدل عليه قوله " وبدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج " مع أنه ورد صريحًا في أحاديث أنه أحرم بالحج ثم أحرم بالعمرة فكيف يصار إليه؟ ولو ثبت لكان معارضًا، فالذي أدين الله تعالى به أنه صلى الله عليه وسلم لا يبتدئ بالعمرة بعد فرض الحج عليه في أول الوهلة، وقد اعتمر مرارًا بعد الهجرة، فالصواب أنه كان قارنًا أولاً، ومعنى قوله " بدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج" أنه لما جمع بين النسكين قد ذكر العمرة على الحج لأنه الوجه المسنون في القران دون العكس ثم كان أكثر ما يذكر في إحرامه الحج لأنه الأصل المفروض والسنة تابعة – انتهى. (فساق معه الهدي من ذي الحليفة) أي من الميقات، وفيه الندب إلى سوق الهدي من المواقيت من الأماكن البعيدة، وهي من السنن التي أغفلها كثير من الناس، قاله الحافظ (فتمتع الناس) قال القاري: أي أكثرهم هذا التمتع بالجمع اللغوي بالجمع بين العبادتين (مع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج) أي بضمها إليه (فكان من الناس) أي الذين أحرموا بالعمرة (من أهدى) وعند الشيخين بعده " فساق الهدي "(فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس) أي المعتمرين (من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه) فيه حجة على الشافعية ومن
ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد هديًا فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله ".
ــ
وافقهم في أن سوق الهدي لا يمنع التحلل عندهم، وقد تقدم بيانه في شرح حديث عائشة (ولمن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت) أي طواف العمرة (وليقصر) بتشديد الصاد. قال النووي: معناه أنه يفعل الطواف والسعي والتقصير ويصير حلالاً، وهذا دليل على أن الحلق أو التقصير نسك وهو الصحيح. وقيل استباحة محظور. قال: وإنما أمره بالتقصير دون الحلق مع أن الحلق أفضل ليبقى له شعر يحلقه في الحج (وليحلل) قال القاري: أي ليخرج من إحرام العمرة باستمتاع المحظورات. وقال الحافظ: هو أمر معناه الخبر، أي قد صار حلالاً فله فعل كل ما كان محظورًا عليه في الإحرام، ويحتمل أن يكون أمرًا على الإباحة لفعل ما كان عليه حرامًا قبل الإحلال (ثم ليهل بالحج) أي يحرم وقت خروجه إلى عرفة، ولهذا أتى بـ ثم الدالة على التراخي فلم يرد أنه يهل بالحج عقب إحلاله من العمرة (وليهد) أي ليذبح الهدي يوم النحر بعد الرمي قبل الحلق وهو هدي التمتع وهو واجب بشروطه المذكورة في كتب الفقه (فمن لم يجد هدايًا) أي لم يجد الهدي بذلك المكان ويتحقق له ذلك بأن يعدم الهدي أو يعدم ثمنه حينئذ أو يجد ثمنه لكن يحتاج إليه لأهم من ذلك، أو يجده لكن يمتنع صاحبه من بيعه أو يمتنع من بيعه إلا بغلائه فينتقل إلى الصوم كما هو نص القرآن، كذا في الفتح. وفسر الحنفية العجز من الهدي بأن لا يكون في ملكه فضل عن كفاف قدر ما يشتري به الدم ولا هو أي الدم في ملكه (ثلاثة أيام في الحج) قال القاري: أي في أشهره قبل يوم النحر، والأفضل أن يكون آخرها يوم عرفة. وقال الحافظ: أي بعد الإحرام به. قال النووي: هذا هو الأفضل وإن صامها قبل الإهلال بالحج أجزأه على الصحيح. وأما قبل التحلل من العمرة فلا على الصحيح، وجوزه الثوري وأصحاب الرأي، وعلى الأول فمن استحب صيام عرفة بعرفة قال: يحرم يوم السابع ليصوم السابع والثامن والتاسع، وإلا فيحرم يوم السادس ليفطر بعرفة، فإن فاته الصوم قضاه، وقيل: يسقط ويستقر الهدي في ذمته وهو قول الحنفية، وفي صوم أيام التشريق لهذا قولان للشافعية، أظهرهما: لا يجوز. قال النووي: وأصحهما من حيث الدليل الجواز – انتهى. (وسبعة إذا رجع إلى أهله) قال القاري: أي توسعة ولو صام بعد أيام التشريق بمكة جاز عندنا – انتهى. فالرجوع إلى الأهل عند الحنفية كناية عن الفراغ عن أفعال الحج. وقال النووي: أما صوم السبعة فيجب إذا رجع. وفي المراد بالرجوع خلاف، الصحيح في مذهبنا أنه إذا رجع إلى أهله، وهذا هو الصواب لهذا الحديث الصحيح الصريح، والثاني إذا فرغ من الحج ورجع إلى مكة من منى. وهذان القولان للشافعي ومالك، وبالثاني قال أبو حنيفة – انتهى. قلت: اختلفوا في تفسير قوله تعالى: {وسبعة إذا رجعتم} فقيل: إذا رجعتم إلى أهليكم، وهو أحد قولي الشافعي، أو إذا نفرتم وفرغتم من أعمال الحج ورجعتم إلى مكة وهو قوله
فطاف حين قدم مكة، واستلم الركن أول شيء، ثم خب ثلاثة أطواف ومشى أربعًا، فركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ثم سلم، فانصرف فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف، ثم لم يحل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر، وأفاض فطاف بالبيت، ثم حل من كل شيء حرم منه، وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ساق الهدي من الناس.
متفق عليه.
2582 – (4) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذه عمرة استمتعنا بها،
ــ
الثاني ومذهب أبي حنيفة (فطاف) أي النبي صلى الله عليه وسلم (حين قدم مكة) أي طواف القدوم (واستلم الركن) أي الحجر الأسود (أول شيء) أي من أفعال الطواف (ثم خب) أي رمل، والخب نوع من العدو كالرمل، والمراد هنا الرمل (ثلاثة أطواف) أي في ثلاثة أشواط. قال ابن الملك: إظهار للجلادة والرجولية في نفسه وفيمن معه من الصحابة كيلا يظن الكفار أنهم عاجزون ضعفاء، قال القاري: هذا كان علة فعله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء ثم استمرت السنة بعد زال العلة (ومشى) أي بسكون وهينة (أربعًا) أي في أربع مرات من لأشواط (فركع) أي صلى (حين قضى) أي أدى وأتم (عند المقام) متعلق بركع (ركعتين) أي صلاة الطواف (ثم سلم) أي من صلاته (فانصرف) أي عن البيت أو عن المسجد (فأتى الصفا) ظاهره أنه لم يتخلل بين صلاة الطواف والخروج إلى الصفا عمل آخر، لكن تقدم في حديث جابر في صفة الحج " ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا "(فطاف) أي سعى (بالصفا والمروة سبعة أطواف) أي أشواط. وفي الحديث مشروعية طواف القدوم للقارن والرمل فيه إن عقبه بالسعي، وأن الرمل هو الخبب، وأنه يصلي ركعتي الطواف وأنهما يستحبان خلف المقام، وتسمية السعي طوافًا (ثم لم يحل) وفي الصحيحين " ثم لم يحلل " (من شيء حرم منه حتى قضى حجه) تقدم أن سبب عدم إحلاله كونه ساق الهدي وإلا لكان يفسخ الحج إلى العمرة ويتحلل منها كما أمر به أصحابه (ونحر هديه يوم النحر) قال القاري: وهو التحلل الأول بالحلق فيما عدا الجماع. وقال الحافظ: استدل به على أن الحلق ليس بركن، وليس بواضح لأنه لا يلزم من ترك ذكره في هذا الحديث أن لا يكون وقع، بل هو داخل في عموم قوله " حتى قضى حجه "(وأفاض) أي إلى مكة (فطاف بالبيت) أي طواف الإفاضة (ثم حل من كل شيء حرم منه) وهو التحلل الثاني المحلل للنساء (وفعل مثلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ساق الهدي من الناس) وفي الصحيحين " من أهدى وساق الهدي من الناس " والموصول فاعل قوله " فعل " أي فعل من أهدى وساق الهدي مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه إشارة إلى عدم خصوصيته بذلك. (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 140) وأبو داود والنسائي والبيهقي.
2582-
قوله (هذه عمرة استمتعنا بها) قال القاري: الاستمتاع هنا تقديم العمرة والفراغ منها فهو في معناه