المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان ". - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٩

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

فهرس الكتاب

- ‌(2) باب قصة حجة الوداع

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(3) باب دخول مكة والطواف

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(4) باب الوقوف بعرفة

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(5) باب الدفع من عرفة والمزدلفة

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(6) باب رمي الجمار

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(7) باب الهدي

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(8) باب الحلق

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(9) باب

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(10) باب خطبة يوم النحر، ورمي أيام التشريق، والتوديع

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(11) باب ما يجتنبه المحرم

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(12) باب المحرم يجتنب الصيد

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(13) باب الإحصار، وفوت الحج

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(14) باب حرم مكة حرسها الله تعالى

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(15) باب حرم المدينة حرسها الله تعالى

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

الفصل: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان ".

لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان ". متفق عليه.

(الفصل الثاني)

.

2598 -

(14) عن المهاجر المكي،

ــ

للتنبيه (لا يحجُ) بضم الجيم، نهى أو نفى معناه نهى، ويفتح، ويكسر على أنه نهى ويؤيده رواية ((لا يحججن)) قاله القاري. وفي رواية ((أن لا يحج)) قال الحافظ:كذا للأكثر، وللكشميهني ((ألا لا يحج)) بأداة الاستفتاح قبل حرف النهي، وللبخاري في التفسير ((أن لا يحجن)) وهو يعين ذلك للنهي (بعد العام) أي بعد هذه السنة. وقال الحافظ: أي بعد الزمان الذي وقع فيه الإعلام بذلك (مشرك) أي كافر. قال الحافظ: هو منتزع من قوله تعالى: {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} (9: 28) والآية صريحة في منعهم دخول المسجد الحرام ولو لم يقصدوا الحج ولكن لما كان الحج هو المقصود الأعظم صرح لهم بالمنع منه فيكون ما وراءه أولى بالمنع، والمراد بالمسجد الحرام هنا الحرم كله. قال النووي: فلا يمكن مشرك من دخول الحرم بحال حتى لو جاء في رسالة أو أمر مهم لا يمكن من الدخول بل يخرج إليه من يقضي الأمر المتعلق به، ولو دخل خفية ومرض ومات نبش وأخرج من الحرم - انتهى. وقال العيني: وكذلك لا يمكن أهل الذمة من الإقامة بعد ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب. قاله في مرض موته صلى الله عليه وسلم (ولا يطوفن بالبيت عريان) أي مطلقًا في جميع الأيام غير مقيد بعام دون عام لقوله تعالى {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} (7: 31) وصح عن ابن عباس أنه نزل ردًا لما كانوا يفعلونه من الطواف بالبيت مع العري، يعني زعمًا منهم أنهم لا يعبدون ربهم في ثياب أذنبوا فيها. قال الحافظ: ذكر ابن إسحاق في سبب هذا الحديث أن قريشًا ابتدعت قبل الفيل أو بعده أن لا يطوف بالبيت أحد ممن يقدم عليهم من غيرهم أول ما يطوف إلا في ثياب أحدهم، فإن لم يجد طاف عرياناً، فإن خالف وطاف بثيابه ألقاها إذا فرغ ثم لم ينتفع بها، فجاء الإسلام فهدم ذلك كله. وفي الحديث حجة لاشتراط ستر العورة في الطواف كما يشترط في الصلاة والمخالف في ذلك الحنفية، قالوا: ستر العورة في الطواف ليس بشرط فمن طاف عرياناً أعاد ما دام بمكة، فإن خرج لزمه دم، قلت: قد اختلف هل ستر العورة في الطواف ليس بشرط فمن طاف عرياناً أعاد ما دام بمكة، فإن خرج لزمه دم. قلت: قد اختلف هل ستر العورة شرط لصحة الطواف أو لا؟ فذهب الجمهور إلى أنه شرط، وذهبت الحنفية إلى أنه ليس بشرط، فمن طاف عرياناً أعاد ما دام بمكة، فإن خرج لزمه دم، فهم ينكرون الاشتراط دون الوجوب، قالوا: وهو مدلول الحديث. (متفق عليه) أخرجه البخاري في أوائل الصلاة، وفي الحج، وفي تفسير سورة براءة، ومسلم في الحج، وأخرجه أيضًا النسائي والبيهقي.

2598 -

قوله (عن المهاجر المكي) هو مهاجر بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث القرشي المخزومي. قال

ص: 102

قال: سئل جابر عن الرجل يرى البيت يرفع يديه؟ فقال: قد حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم نكن نفعله.

ــ

الحافظ في تهذيب التهذيب: روى عن جابر وابن عمه عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث والزهري وهو من أقرانه، وعنه أبو قزعة سويد بن حجير الباهلي ويحيى بن أبي كثير، ذكره ابن حبان في الثقات. قلت: قال أبو حاتم في العلل: لا أعلم أحداً روى عن المهاجر بن عكرمة غير يحيى بن أبي كثير، والمهاجر ليس بالمشهور – انتهى. وقال في التقريب: إنه مقبول. قلت: ذكره البخاري في تاريخه (ج 4: ص 380) وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (ج 4/1/220) ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً (عن الرجل يرى البيت) أي الرجل الذي يرى البيت (يرفع يديه) أي هو مشروع أم لا؟ وهذا لفظ أبي داود، وفي رواية الترمذي ((أيرفع الرجل يديه إذا رأى البيت؟)) (فلم نكن نفعله) أي رفع اليدين عند رؤيته في الدعاء، وهذا لفظ النسائي. وعند أبي داود ((فلم يكن يفعله)) وللترمذي ((أفكنا نفعله)) والهمزة للإنكار، والحديث يدل على عدم رفع اليد في الدعاء عند رؤية البيت، وقد ورد ما يدل على استحباب ذلك فروى الشافعي عن ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال: اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابة، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا وبرًا. وهذا مرسل معضل فيما بين ابن جريج والنبي صلى الله عليه وسلم، وفي إسناده سعيد بن سالم القداح وفيه مقال. وروى البيهقي عن مكحول، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل مكة فرأى البيت رفع يديه وكبر وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا، إلخ. وهذا مرسل. وروى البيهقي أيضًا من طريق الشافعي عن سعيد بن سالم عن ابن جريج قال: حدثت عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ترفع الأيدي في الصلاة، وإذا رأى البيت، وعلى الصفا والمروة " – الحديث قال البيهقي: هو منقطع، لم يسمعه ابن جريج من مقسم، ورواه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس، وعن نافع عن ابن عمر مرة موقوفًا عليهما ومرة مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وابن أبي ليلى هذا غير قوي في الحديث وقد اختلف العلماء في ذلك كما اختلفت الروايات. فذهب أبو حنيفة ومالك إلى عدم الرفع. قال في اللباب وشرحه للقاري: ولا يرفع يديه عند رؤية البيت ولو حال دعائه لعدم ذكره في المشاهير من كتب الأصحاب كالقدوري والهداية والكافي والبدائع، بل قال السروجي: المذهب تركه. وكلام الطحاوي في شرح معاني الآثار صريح أنه يكره الرفع عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وقيل: يرفع. ونقل عن جابر رضي الله عنه أن ذلك من فعل اليهود، وسماه البصروي مستحبًا إلخ. وقال في غنية الناسك: استحب المحققون من أهل المذهب للقادم رفع اليدين عند رؤية البيت للدعاء، منهم الكرماني والبصروي وابن الهمام وعلى القاري وهو مذهب الشافعي وأحمد – انتهى. واحتج لمن ذهب إلى كراهة الرفع وعدم مشروعيته بحديث جابر، وهو حديث حسن وقال سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق: يرفع

ص: 103

.............................................................................................

ــ

يديه. قال ابن المنذر: وبه أقول. قال النووي: وهو مذهبنا. وقال الشافعي بعد أن أورد حديث ابن جريج: ليس في رفع اليدين عند رؤية البيت شيء فلا أكرهه ولا أستحبه. قال البيهقي: وكأنه لم يعتمد على الحديث لانقطاعه. قال ابن قدامة (ج 3: ص 369) : ويستحب رفع اليدين عند رؤية البيت، رُوي ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وبه قال الثوري وابن المبارك والشافعي وإسحاق بن راهويه، وكان مالك لا يرى رفع اليدين لما رُوي عن المهاجر المكي، قال سئل جابر بن عبد الله فذكر حديث الباب ثم قال: ولنا ما روى أبو بكر بن المنذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن: افتتاح الصلاة واستقبال البيت – الحديث. قال ابن قدامة: وهذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم وذاك من قول جابر، وخبره عن ظنه وفعله، وقد خالفه ابن عمر وابن عباس، ولأن الدعاء مستحب عند رؤية البيت، وقد أمر برفع اليدين عند الدعاء – انتهى. وقال النووي في شرح المهذب: قال أصحابنا رواية المثبت للرفع أولى، لأن معه زيادة علم، وقال البيهقي رواية غير جابر في إثبات الرفع مع إرسالها أشهر عند أهل العلم من حديث مهاجر وله شواهد، وإن كانت مرسلة. والقول في مثل هذا قول من رأى وأثبت. وقال الخطابي في المعالم: قد اختلف الناس في هذا فكان ممن يرفع يديه إذا رأى البيت سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وضعف هؤلاء حديث جابر لأن مهاجراً راويه عندهم مجهول، وذهبوا على حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ترفع الأيدي في سبعة مواطن، إلخ – ورُوي عن ابن عمر أنه كان يرفع اليدين عند رؤية البيت، وعن ابن عباس مثل ذلك – انتهى. قلت: قد تقدم أن مهاجرًا المكي وثقه ابن حبان، وقال الحافظ: إنه مقبول. فحديث جابر على الأقل حسن. وأما حديث ابن عباس في رفع الأيدي في سبعة مواطن ففي سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو سيء الحفظ. قال الشوكاني: ليس في الباب ما يدل على مشروعية رفع اليدين عند رؤية البيت وهو حكم شرعي لا يثبت إلا بالدليل، وأما الدعاء عند رؤية البيت فقد رويت فيه أخبار وآثار، منها ما أخرجه ابن المغلس أن عمر كان إذا نظر إلى البيت قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام. ورواه سعيد بن منصور في السنن عن ابن عيينة عن يحيى بن سعيد ولم يذكر عمر، ورواه الحاكم عن عمر أيضًا. وكذلك رواه البيهقي عنه – انتهى. تنبيه: قال الطبري: وأول موضع يقع فيه بصره على البيت رأس الردم لمن يأتي من أعلى مكة، وقد كان ذلك فأما اليوم فقد سد بالأبنية. وقال ابن جاسر: والدعاء المذكور يقوله إذا عاين البيت لا عند وصوله للمحل الذي كان يرى منه البيت قبل ارتفاع الأبنية وهو المسمى أولاً برأس الردم والآن يسمى بالمدعى. قال شيخ الإسلام: ولم يكن قديمًا بمكة بناء يعلو على البيت ولا كان فوق الصفا والمروة والمشعر الحرام بناء ولا كان بمنى بناء ولا بعرفات مسجد ولا عند الجمرات مسجد، بل كل هذه محدثة بعد الخلفاء الراشدين، ومنها ما أحدث بعد الدولة الأموية، فكان البيت يرى قبل دخول المسجد، فمن رأى البيت قبل دخول المسجد فعل ذلك أي الرفع

ص: 104

رواه الترمذي، وأبو داود.

2599 – (15) وعن أبي هريرة، قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل مكة، فأقبل إلى الحجر فاستلمه، ثم طاف بالبيت، ثم أتى الصفا فعلاه حتى ينظر إلى البيت، فرفع يديه فجعل يذكر الله ما شاء ويدعو. رواه أبو داود.

2600 – (16) وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الطواف حول البيت

ــ

والدعاء، وقد استحب ذلك من استحبه عند رؤية البيت، ولو كان بعد دخول المسجد - انتهى. (رواه الترمذي وأبو داود) وأخرجه البيهقي (ج 5: ص 73) وهو حديث حسن كما عرفت.

2599 – قوله (أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي توجه من المدينة (فدخل مكة) قال القاري: أي للحج أو للعمرة، والظاهر أن المراد يوم فتح مكة كما يدل عليه حديث أبي هريرة الطويل عند مسلم في باب فتح مكة (فأقبل إلى الحجر) أي توجه إلى الحجر الأسود، أو إلى بمعنى على (فاستلمه) أي باللمس والتقبيل (ثم طاف بالبيت)

أي سبعة أشواط (ثم أتى الصفا) أي بعد ركعتي الطواف (فعلاه) أي صعده (حتى ينظر إلى البيت) وفي أبي داود ((حيث ينظر إلى البيت)) وفي حديث جابر الطويل المتقدم ((فرقى عليه حتى رأى البيت، وأنه فعل في المروة مثل ذلك)) قال القاري: وهذا كان في الصفا باعتبار ذلك الزمن، وأما الآن فالبيت يُرى من باب الصفا قبل رقيه لما حدث من ارتفاع الأرض ثمه حتى اندفن كثير من درج الصفا. وقيل بوجوب الرقي مطلقاً. وأما الرقي الآن في المروة فلا يمكن كما أن رؤية البيت منها لا تمكن لكن بصدر العقد المشرف عليها دكة فيستحب رقيها عملاً بالوارد ما أمكن (فرفع يديه) أي للدعاء على الصفا لا لرؤية البيت لما سبق، وأما ما يفعله العوام من رفع اليدين مع التكبير على هيأة رفعهما في الصلاة فلا أصل له (فجعل يذكر الله ما شاء) أي من التكبير والتهليل والتحميد والتوحيد (ويدعو) أي بما شاء. قال القاري: وفيه إشارة إلى المختار عند محمد أن لا تعين في دعوات المناسك لأنه يورث خشوع الناسك. وقال ابن الهمام: لأن توقيتها يذهب بالرقة لأنه يصير كمن يكرر محفوظة وإن تبرك بالمأثور فحسن – انتهى. وقوله ((يذكر الله ما شاء ويدعو)) كذا في جميع النسخ، وفي أبي داود ((يذكر الله ما شاء أن يذكره ويدعوه)) . وفي الحديث الابتداء بالطواف في أول دخول مكة سواء كان محرمًا بحج أو بعمرة أو غير محرم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم دخلها في هذا اليوم، وهو يوم الفتح غير محرم بإجماع المسلمين وكان على رأسه المغفر. والأحاديث متظاهرة على ذلك، والإجماع منعقد عليه، قاله النووي. وفيه أيضًا رفع اليدين للدعاء على الصفا عند رؤية البيت (رواه أبو داود) قال المنذري: وأخرجه مسلم بنحوه في الحديث الطويل في الفتح يعني فتح مكة.

2600-

قوله (الطواف حول البيت) أي الدوران حول الكعبة. وقوله ((حول البيت)) احتراز من الطواف

ص: 105

مثل الصلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير ".

ــ

بين الصفا والمروة (مثل الصلاة) بالرفع على الخبرية، وجوز النصب أي نحوهما، وفي رواية ((الطواف بالبيت صلاة)) أي مثلها في عدة من الأحكام كستر العروة والطهارة، وقيل أي مثلها في الثواب أو في التعليق بالبيت (إلا أنكم تتكلمون فيه) أي يجوز لكم الكلام في الطواف بخلاف الصلاة. وقال القاري: أي تعتادون الكلام فيه قال الطيبي: يجوز أن يكون الاستثناء متصلاً أي الطواف كالصلاة في الشرائط التي هي الطهارة وغيرها إلا في التكلم، ويجوز كونه منقطعًا أي الطواف مثل الصلاة لكن رخص لكم في التكلم فيه. وقال القاري: الاستثناء إما متصل أي مثلها في كل معتبر فيها وجودًا وعدمًا إلا التكلم يعني وما في معناه من المنافيات من الأكل والشرب وسائر الأفعال الكثيرة، وإما منقطع أي لكن رخص لكم في الكلام. وفي العدول عن قوله ((إلا الكلام)) نكتة لطيفة لا تخفى، ويعلم من فعله عليه الصلاة والسلام عدم شرطية الاستقبال، وليس لأصل الطواف وقت مشروط وبقى بقية شروط الصلاة من الطهارة الحكمية والحقيقية وستر العورة، فهي معتبرة عند الشافعي كالصلاة وواجبات عندنا. لأنه لا يلزم من مثل الشيء أن يكون مشاركًا له في كل شيء على الحقيقة مع أن الحديث من الآحاد، وهو ظني لا يثبت به الفرضية – انتهى. وقال المناوي: استدل به الخطابي على اشتراط الطهارة له. وقول ابن سيد الناس: المشبه لا يعطي قوة المشبه به من كل وجه وقد نبه على الفرق بينهما بحل الكلام فيه، رده المحقق أبو زرعة، لأن التحقيق أنه صلاة حقيقة إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة وهي حقيقة شرعية، ويكون لفظ الصلاة مشتركًا اشتراكًا لفظيًا بين المعهودة والطواف، ولا يرد إباحة الكلام فيه، لأن كل ما يشرط في الصلاة يشترط فيه إلا ما يستثنى، والمشي مستثنى، إذ لا يصدق اسم الطواف شرعًا إلا به. وقال المحب الطبري: في قوله صلى الله عليه وسلم: " الطواف بالبيت صلاة ". دليل على أن الطواف يشترط فيه الطهارة والستارة، وأن حكمه حكم الصلاة إلا فيما وردت فيه الرخصة من الكلام بشرط أن يكون بخير، ووجهه أنه جعله صلاة أو مثل الصلاة، ومقتضى ذلك إبطاله بالكلام مطلقًا، فلما رخص في كلام خاص وجب أن يقتصر عليه، فلا يلحق به ما عداه تقليلاً لمخالفة الدليل وما ورد في إباحة الكلام مطلقًا، فيحمل على هذا المقيد (فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير) أي من ذكر الله وإفادة علم واستفادته على وجه لا يشوش على الطائفين. وقال الطبري: من الخير المشار إليه في الحديث أن يسلم الرجل على أخيه ويسأله عن حاله وأهله ويأمر الرجل الرجل بالمعروف وينهاه عن المنكر وأشباه ذلك من تعليم جاهل أو إجابة مسألة، وهو مع ذلك كله مقبل على الله تعالى في طوافه، خاشع بقلبه، ذاكر بلسانه، متواضع في مسألته، يطلب فضل مولاه ويعتذر إليه، فمن كان بهذا الوصف رجوت أن يكون ممن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تبارك وتعالى يباهي بالطائفين. وقال أيضًا: واعلم أن التحدث في الطواف على غير النحو المتقدم خطأ كبير وغفلة عظمية، ومن لابس ذلك فقد لابس ما يمقت عليه، خصوصًا إن صدر ممن ينسب

ص: 106

رواه الترمذي، والنسائي، والدارمي، وذكر الترمذي جماعة وقفوه على ابن عباس.

ــ

إلى العلم والدين فإنه إذا أنكر على من دونه احتج به فصار فتنة لكل مفتون، ومن آثر محادثة المخلوق في أمر الدنيا والإقبال عليه والإصغاء لحديثه على ذكر خالقه والإقبال عليه وعلى ما هو متلبس به من عبادته فهو غبين الرأي، لأن طوافه بجسده وقلبه لاه ساه قد غلب عليه الخوض فيما لا يعنيه حتى استرسل في عبادته كذلك، فهو إلى الخسران أقرب منه إلى الربح، ومثل هذا خليق بأن يشكوه البيت إلى الله عز وجل وإلى جبريل، ولعل الملائكة تتأذى به، وكثير من الطائفين يتبرمون منه، فعلى الطائف أن يبذل جهده في مجانبة ذلك – انتهى. والحديث رواه أحمد من طريق حسن بن مسلم عن طاوس عن رجل أدرك النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إنما الطواف صلاة، فإذا طفتم فأقلوا الكلام ". ورواه النسائي من هذا الطريق موقوفًا، ثم رواه من طريق حنظلة بن أبي سفيان عن طاوس، قال: قال عبد الله بن عمر: أقلوا الكلام في الطواف فإنما أنتم في الصلاة. وقوله ((فأقلوا الكلام)) أي فلا تكثروا فيه الكلام، وإن كان جائزًا، لأن مماثلته للصلاة تقتضي أن لا يتكلم فيه أصلاً كما لا يتكلم فيه الصلاة، فحين أباح الله تعالى فيه الكلام رحمة منه تعالى على العبد فعليه أن يشكر الله عز وجل ولا يكثر فيه الكلام ولا يتكلم إلا بخير أو لضرورة (رواه الترمذي والنسائي والدارمي) واللفظ للترمذي، وأخرجه أيضًا الحاكم (ج 1: ص 459) والدارقطني وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي وغيرهم، وفي قول المصنف ((والنسائي)) نظر، فإن الحديث عنده من طريق طاوس موقوف ولم يسم الصحابي كما تقدم (وذكر الترمذي جماعة وقفوه على ابن عباس) قلت: قال الترمذي بعد رواية الحديث من طريق جرير عن عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس مرفوعًا ما لفظه ((وقد رُوي عن ابن طاوس وغيره عن طاوس عن ابن عباس موقوفًا، ولا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث عطاء بن السائب)) – انتهى. قال الحافظ في التلخيص: الحديث رواه الترمذي والحاكم والدارقطني من حديث ابن عباس، وصححه ابن السكن وابن خزيمة وابن حبان. وقال الترمذي: رُوي مرفوعًا وموقوفًا، ولا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث عطاء ومداره على عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس. واختلف في رفعه ووقفه ورجح الموقوف النسائي والبيهقي وابن الصلاح والمنذري والنووي، وزاد أن رواية الرفع ضعيفة، وفي إطلاق ذلك نظر، فإن عطاء بن السائب صدوق، وإذا رُوي عنه الحديث مرفوعًا تارة وموقوفًا أخرى فالحكم عند هؤلاء الجماعة للرفع، والنووي ممن يعتمد ذلك ويكثر منه، ولا يلتفت إلى تعليل الحديث به إذا كان الرافع ثقة فيجيء على طريقته أن المرفوع صحيح، فإن اعتل عليه بأن عطاء بن السائب اختلط ولا تقبل إلا رواية من رواه عنه قبل اختلاطه، أجيب بأن الحاكم أخرجه من رواية سفيان الثوري عنه، والثوري ممن سمع قبل اختلاطه باتفاق، وإن كان الثوري قد اختلف عليه في وقفه ورفعه. فعلى طريقتهم تقدم رواية الرفع أيضًا، والحق أنه.

ص: 107

2601 – (17) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نزل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضًا من اللبن، فسودته خطايا بني آدم ".

ــ

من رواية سفيان موقوف، ووهم عليه من رفعه وقد بسط الحافظ الكلام ها هنا، من شاء الوقوف فليرجع إلى التلخيص (ص 47) .

2601-

قوله (وهو أشد بياضًا من اللبن) جملة حالية (فسودته خطايا بني آدم) أي صارت ذنوب بني آدم الذين يمسحون الحجر سببًا لسواده، واللفظ المذكور للترمذي، ولأحمد ((الحجر الأسود من الجنة، وكان أشد بياضًا من الثلج حتى سودته خطايا أهل الشرك)) . وفي رواية الطبراني ((الحجر الأسود من حجارة الجنة وما في الأرض من الجنة غيره، وكان أبيض كالمها (مقصورًا جمع مهاة وهي البلورة) ولولا ما مسه من رجس الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلا برئ)) والحديث محمول على ظاهره إذ لا مانع نقلاً ولا عقلاً، فالركن الأسود حجر من حجارة الجنة حقيقة، وليس فيه غرابة وبعد واستحالة، والحديث صحيح كما قال الترمذي وغيره، وله شواهد كما ستعرف، وأوله بعض الشراح بإرادة المبالغة في تعظيم شأن الحجر وتفظيع أمر الخطايا والذنوب، والمعنى أن الحجر لما فيه من الشرف والكرامة واليمن والبركة يشارك جواهر الجنة فكأنه نزل منها. قال القاضي البيضاوي: لعل هذا الحديث جار مجرى التمثيل والمبالغة في تعظيم شأن الحجر وتفظيع أمر الخطايا والذنوب، والمعنى أن الحجر لما فيه من الشرف والكرامة وما فيه من اليمن والبركة شارك جواهر الجنة فكأنه نزل منها، وأن خطايا بني آدم تكاد تؤثر في الجماد فيجعل المبيض منها مسودًا فكيف فكيف بقلوبهم (يعني ففيه تخويف وتنبيه، فإن الرجل إذا علم أن الذنب يسود الحجر خاف أن يسود بدنه بشؤم ذنوبه ويذهب نور الإيمان) أو لأنه من حيث أنه مكفر للخطايا محاء للذنوب لما رُوي عن ابن عمر مرفوعًا (كما سيأتي)((إن مسحهما كفارة للخطايا)) كأنه من الجنة وكثرة تحمله أوزار بني آدم صار كأنه كان ذا بياض شديد فسودته الخطايا، وقيل: في هذا الحديث امتحان إيمان الرجل، فإن كان كامل الإيمان يقبل هذا ولا يتردد وإن كان ضعيف الإيمان يتردد والكافر ينكر، وقال التوربشتي: هذا الحديث محتمل أن يراد منه ما دل عليه الظاهر ومحتمل أن يأول على ما يستقيم عليه المعنى من باب الاتساع، ولسنا نرى بحمد الله تعالى خلاف الظواهر في السنن إلا إذا عارضه من السنن الثوابت ما يحوج إلى التأويل أو وجدنا اللفظ في كلامهم بين الأمر في المجاز والاستعارة فسلكنا به ذلك المسلك، وإذ قد عرفنا من أصل الدين بالنصوص الثابتة أن الجنة وما احتوت عليه من الجواهر مباينة لما خلق في هذه الدار الفانية في حكم الزوال والفناء وإحاطة الآفات بها، فإن ذلك خلق خلقًا محكمًا غير قابل لشيء من ذلك، وقد وجدنا الحجر أصابه الكسر حتى صار فلقًا، وذلك من أقوى أسباب الزوال لم نستعبد فيه مذهب التأويل

ص: 108

.............................................................................................

ــ

وذلك بأن نقول: جعل الحجر لما وضع فيه من الأنس والهيبة واليمن والكرامة كالشيء الذي نزل من الجنة وأراد به مشاركته جواهر الجنة في بعض أوصافها كأنه نزل من الجنة، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم ((العجوة من الجنة)) وقد علمنا أنه أراد بذلك مشاركتها ثمار الجنة في بعض ما جعل فيها من الشفاء والبركة بدعائه صلى الله عليه وسلم بذلك فيها ولم يرد ثمار الجنة نفسها للاستحالة التي شاهدنا فيها كاستحالة غيرها من الأطعمة ولخلوها من النعوت والصفات الواردة في ثمار الجنة، وتأويل قوله ((نزل من الجنة)) أي الصفات الموهوبة لها كأنها من الجنة. قال الله تعالى:{وأنزلنا الحديد} (57: 25) وقال: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} (39: 6) فحمل الإنزال على معنى القضاء والقسمة، ومنهم من ذهب فيه إلى معنى الخلق، ومنهم من قال إنه أقام إنزال الأسباب فيها مقام إنزالها نفسها. وأما قوله صلى الله عليه وسلم:((وهو أشد بياضًا من اللبن)) . فمعناه أن الحجر كان من الصفاء والنورانية على هذا النعت فسودته خطايا بني آدم، ومعنى هذا القول – والله أعلم – أن كون بني آدم خطائين مقتحمين على موارد الهلكات، اقتضي أن يكون الحجر على الشاكلة التي هو عليها من السواد لئلا يتسارع إليهم المقت والعقوبة من الله تعالى، فإن كل من شاهد آية خارقة للعادة ثم بخس بحقها استحق الطرد من الله فأضيف التسويد إلى الخطايا لأنها كانت السبب في ذلك. ومن الدليل على هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر الآتي ((إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما)) الحديث. فالذي طمس نورهما هو الله سبحانه وتعالى حكمة بالغة منه في الشيء الذي ذكرناه. ثم لمعنى آخر وهو كونه أتم فائدة في حال المكلفين، لأنه إذا عظموه حق تعظيمه من غير مشاهدة آية باهرة صح إيمانهم بالغيب، وذلك من أعلى مقامات أهل الإيمان فيكون من أجدى الأشياء في محور الخطايا وتمحيص الذنوب، وذلك إحدى المعنيين في إضافة التسويد إلى الخطايا لاقتضاءها ذلك من طريق الحكمة. وقال بعض الفضولية: إنه لو كان هذا الذي رووه من تسويد خطايا بني آدم الحجر واقعًا لتناقلته الأمم في عجائب الأخبار، ولقد أجبت عن ذلك في كتاب المناسك وأعطيت القول حقه في موضعين منه، ولم أرد ترديد القول ها هنا إيثار للاختصار – انتهى. قلت: لا ملجئ للتأويل الذي ذكره القاضي والتوربشتي بل يحمل الحديث على ظاهره، إذ لا مانع من ذلك عقلاً ولا سمعًا لاسيما وقد جاء هذا الحديث عند الطبراني بلفظ يبعد التأويل كما تقدم، قال الشيخ عبد الحق الدهلوي: ولعمري ما في الحديث ما يخالف الدليل القاطع الحاكم باستحالته حتى يجب تأويله وصرفه عن ظاهره، أما النزول من الجنة فلا استحالة فيه فإن الجنة فيها جواهر، فيمكن أن الله أنزل منها شيئًا إلى الأرض حتى يحمل الإنزال على معنى القضاء والقسمة أو معنى الخلق أو إقامة إنزال الأسباب فيها مقام إنزالها نفسها كما في قوله تعالى:{وأنزلنا الحديد} {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} وأما قولهم إنا قد عرفنا بالنصوص الثابتة أن الجنة وما احتوت عليه من الجواهر مباينة لما خلق في هذه الدار الفانية في الخواص (إلى آخر ما قالوا) فنقول: يمكن أن يكون فقدان خواص الجنة لنزوله إلى هذه الدار وسراية أحوالها وأحكامها إليه ويستأنس له بما يأتي من حديث عبد الله بن عمر

ص: 109

رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

ــ

((إن الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاء ما بين المشرق والمغرب)) . وكما قالوا في الجواب عن أقوال الزائغين في كون ما بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره روضة من رياض الجنة، على تقدير كونه محمولاً على الحقيقة أنه لو كان من الجنة لما نجوع ونظمأ فيها. وكما في عكس هذه الصورة من صعود بعض الأنبياء في السماء من عدم انحلال قواهم وفساد مزاجهم وتغير أحوالهم كما في الدنيا، فليكن ها هنا كذلك، والله على كل شيء قدير. ومثل هذا الكلام في قوله ((أشد بياضًا فسودته خطايا بني آدم)) بأن يكون في ابتداء نزوله أبيض، ثم جعل لذنوب بني آدم ومس أيديهم خاصية وسببية في تسويده. وأما قول بعض الزائغين بأنه لو كان هذا الذي رووه من تسويد خطايا بني آدم الحجر واقعًا لتناقلته الأمم في عجائب الأخبار فساقط من درجة الاعتبار، ولا استبعاد فيه، نعم لو قيل: المراد هو الظاهر ولكن يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى مناسب لم يستعبد. ثم ذكر الشيخ الدهلوي ما قيل في تأويل الحديث مما سبق في كلام القاضي والتوربشتي، ثم قال: وهذا كله تأويلات وتمحلات من النفس ناشئة من ضيق دائرة الإيمان ومن شرح الله صدره للإيمان ووسع دائرة المعرفة لصدقه ويقول: آمنا به، والله على كل شيء قدير، غايته أن يقال: إن المراد هو الظاهر، ويحتمل – والله أعلم – أن يكون المراد ما ذكرنا من المعاني المتناسبة فافهم، وبالله التوفيق. تنبيه: قال المحب الطبري: قد اعترض بعض الملحدة فقال: كيف يسود الحجر خطايا أهل الشرك ولا يبيضه توحيد أهل الإيمان؟ والجواب عنه من ثلاثة أوجه، الأول: ما تضمنه حديث ابن عباس (عند الأزرقي) أن الله عز وجل إنما طمس نوره ليستر زينته عن الظلمة، وكأنه لما تغيرت صفته التي كانت كالزينة له بالسواد كان ذلك السواد له كالحجاب المانع من الرؤية، وإن رُؤي جرمه، إذ يجوز أن يطلق عليه أنه غير مريء كما يطلق على المرأة المستترة بثوب أنها غير مرئية. قال الحافظ بعد ذكر هذا الجواب مختصرًا: أخرجه (أي حديث ابن عباس الذي أشار إليه الطبري) الحميدي في فضائل مكة بإسناد ضعيف – انتهى. الثاني: أجاب به ابن حبيب فقال: لو شاء الله لكان ذلك وما علمت أيها المعترض أن الله تعالى أجر العادة بأن السواد يصبغ ولا ينصبغ والبياض ينصبغ ولا يصبغ. والثالث: أن يقال بقاؤه أسود – والله أعلم – إنما كان للاعتبار، وليعلم أن الخطايا إذا أثرت في الحجر فتأثيرها في القلوب أعظم – انتهى. (رواه أحمد) (ج 1: ص 307، 329) (والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح) قال الحافظ في الفتح بعد نقل تصحيح الترمذي: وفيه عطاء بن السائب وهو صدوق لكنه اختلط، وجرير ممن سمع منه بعد اختلاطه، لكن له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة فيقوى بها. وقد رواه النسائي من طريق حماد بن سلمة عن عطاء مختصرًا ولفظه ((الحجر الأسود من الجنة)) وحماد ممن سمع من عطاء قبل الاختلاط، وله شاهد من حديث أنس عند الحاكم أيضًا - انتهى كلام

ص: 110

2602 – (18) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر: " والله ليبعثنه الله يوم القيامة، له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق ". رواه الترمذي،

ــ

الحافظ. قلت: حديث ابن عباس رواه أحمد من طريق حماد بن سلمة عن عطاء مطولاً كالترمذي كما تقدم فهو صحيح. وحديث أنس أخرجه الحاكم (ج 1: ص 456) من طريق داود بن الزبرقان عن أيوب السختياني عن قتادة عن أنس مرفوعًا: ((الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة)) . وسكت عنه الحاكم، وقال الذهبي: داود بن الزبرقان قال أبو داود: متروك. رواه أحمد من طريق شعبة وقتادة عن أنس موقوفًا عليه بلفظ ((الحجر الأسود من الجنة)) . ورواه البزار والبيهقي (ج 5: ص 75) والطبراني في الأوسط مرفوعًا، وفيه عمر بن إبراهيم العبدي وثقة ابن معين وغيره وفيه ضعف قاله الهيثمي (ج 3: ص 242) .

2602 – قوله (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر) أي في شأن الحجر الأسود ووصفه (ليبعثنه الله) أي ليظهرنه حال كونه (له عينان يبصر بهما) فيعرف من استلمه (ولسان ينطق به) . قال التوربشتي: البعث نشر الموتى، ولما كان الحجر من جملة الموات أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم أن الله قد قدر أن يهب له حياة يوم القيامة يستعد به للنطق، ويجعل له آلة يتميز بها بين المشهود له وغيره، وآلة يشهد به. شبه حاله بالأموات الذين كانوا رفاتًا فبعثوا لاستواء كل واحد منهما في انعدام الحياة أولاً ثم في حصوله ثانيًا (يشهد على من استلمه بحق) أي متلبسًا بحق وهو دين الإسلام، واستلامه بحق هو طاعة الله وإتباع سنة نبيه لا تعظيم الحجر نفسه، والشهادة عليه هي الشهادة على أدائه حق الله المتعلق به، وليست ((على)) للضرر، قاله السندي. وقال العراقي ((على)) هذا بمعنى اللام، وقال التوربشتي: المستلم بحق هو المؤمن بالله وبرسله؛ لوقوع فعله ذلك مطابقًا للأمر. قلت: قوله ((يشهد على من استلمه بحق)) كذا وقع عند الترمذي وابن ماجة وأحمد (ج 1: ص 307) والدارمي والبيهقي (ج 5: ص 75) ولأحمد (ج 1: ص 247، 266، 291) وابن حبان والحاكم (ج 1: ص 457) والدرامي والبيهقي في رواية ((يشهد لمن استلمه)) أي باللام. قال العراقي. والباء في ((بحق)) يحتمل تعليقها بيشهد أو باستلمه. وقال الشيخ الدهلوي في اللمعات: كلمة ((على)) باعتبار تضمين معنى الرقيب والحفيظ، وقوله ((بحق)) متعلق باستلمه أي استلمه إيمانًا وإحتسابًا، ويجوز أن يتعلق بيشهد، وهذا الحديث أيضًا محمول على ظاهره، فإن الله تعالى قادر على إيجاد البصر والنطق في الجمادات فإن الأجسام متشابهة في الحقيقة يقبل كل منها ما يقبل الآخر من الأعراض، ويأوله الذين في قلوبهم زيغ التفلسف. والله العاصم – ويقولون: إن ذلك كناية عن تحقيق ثواب المستلم وأن سعيه لا يضيع، والعجب من البيضاوي أنه قال: إن الأغلب على الظن أن المراد هذا وإن لم يمتنع حمله على الظاهر، ولا عجب فإنه مجبول على التفلسف في تفسير القرآن وشرح الأحاديث تجاوز الله عنه – انتهى كلام الشيخ (رواه الترمذي)

ص: 111

وابن ماجة، والدارمي.

2603 – (19) وعن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الركن والمقام

ــ

في أواخر الحج وقال: هذا حديث حسن (وابن ماجة والدارمي) وأخرجه أيضًا أحمد وابن خزيمة في صحيحه وابن حبان كما في موارد الظمآن، والحاكم والبيهقي، قال الحافظ في الفتح: وفي صحيح ابن خزيمة عن ابن عباس مرفوعًا ((إن لهذا الحجر لسانًا وشفتين يشهدان لمن استلمه يوم القيامة بحق)) وصححه أيضًا ابن حبان والحاكم – انتهى. وللطبراني في الكبير عن ابن عباس مرفوعًا ((يبعث الله الحجر الأسود والركن اليماني يوم القيامة ولهما عينان ولسان وشفتان يشهدان لمن استلمهما بالوفاء)) قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير من طريق بكر بن محمد القرشي عن الحارث بن غسان وكلاهما لم أعرفه - انتهى. وللحديث شاهد من حديث عبد الله بن عمرو، رواه أحمد (ج 2: ص 211) والطبراني في الأوسط مرفوعًا، قال:((يأتي الركن يوم القيامة أعظم من أبي قبيس، له لسان وشفتان)) قال الهيثمي: وزاد الطبراني ((يشهد لمن استلمه بالحق، وهو يمين الله عز وجل يصافح بها خلقه)) وفيه عبد الله بن المؤمل، وثقه ابن حبان وقال: يخطئ، وفيه كلام وبقية رجاله رجال الصحيح، ورواه الحاكم في المستدرك (ج 1: ص 457) من طريق عبد الله بن المؤمل مطولاً كرواية الطبراني، وصححه الحاكم. وقال الذهبي: عبد الله بن المؤمل واه. قال الشيخ أحمد شاكر: هذا غلو من الحافظ الذهبي – انتهى. وقد ظهر بهذا كله أن حديث ابن عباس الذي نحن في شرحه وإن اقتصر الترمذي على تحسينه فهو صحيح.

2603-

قوله (وعن ابن عمر) كذا في جميع نسخ المشكاة الموجودة عندنا، وهكذا وقع في المصابيح وهو خطأ والصواب ((عبد الله بن عمرو)) فالحديث من مرويات عبد الله بن عمرو بن العاص كما وقع عند الترمذي وغيره ممن أخرجه، وهكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج 10: ص 176) (إن الركن والمقام) المراد بالركن هنا الحجر الأسود كما في رواية أحمد (ج 2: ص 214) وبالمقام مقام إبراهيم عليه السلام، وهو الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه عند بناء البيت فقال ابن كثير في تفسيره (ج 1: ص 175) في تفسير قوله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} (2: 125) بعد ذكر روايات صلاته صلى الله عليه وسلم ركعتي الطواف خلف المقام: فهذا كله يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار. وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه (وكان الحجر يرتفع بارتفاع الجدار عند البناء، وكلما احتاج إلى قدر من الارتفاع كان يرتفع بإذن الله تعالى) وكلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها، وهكذا حتى تم جدارن الكعبة، وكانت

ص: 112

ياقوتتان. من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما، ولو لم يطمس نورهما لأضاء ما بين المشرق والمغرب ".

ــ

آثار قدميه ظاهرة فيه، ولم يزل هذا معروفًا تعرفه العرب في جاهليتها، ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية:

وموطئي إبراهيم في الصخر رطبة _

على قدميه حافيًا غير ناعل

إلى آخر ما ذكر، وذكره الحافظ في الجزء الثامن عشر من الفتح نقلاً عن ابن الجوزي، وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضًا كما روى عبد الله بن وهب في موطأه عن أنس والطبري في تفسيره عن قتادة. تنبيه: قد وضع الملك فيصل بن عبد العزيز حفظه الله بعد عصر يوم السبت ثامن عشر رجب سنة 1387 هـ المقام بداخل زجاج محاط بشباك صغير على هيأة منارة صغيرة طلبًا للتوسعة على الطائفين، وذلك بعد ما أزيلت الأعمدة والشباك الكبير وسقفهما الذي على المقام، فجزاه الله أحسن الجزاء، وصار المقام بعمله هذا بحيث يشاهد كل أحد فيه أثر قدمي إبراهيم عليه السلام غائصًا، فلله الحمد. تنبيه آخر: كان المقام من عهد إبراهيم لزق البيت إلى أن أخره عمر رضي الله عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن، أخرجه عبد الرزاق في مصنفه بسند صحيح عن عطاء وغيره وعن مجاهد أيضًا، وأخرج البيهقي عن عائشة مثله بسند قوي، ولفظه ((إن المقام كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمن أبي بكر ملتصقًا بالبيت ثم أخرجه عمر)) وأخرج ابن مردويه بسند ضعيف عن مجاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي حوله، والأول أصح، ولم تنكر الصحابة فعل عمر ولا من جاء بعدهم فصار إجماعًا، وكان عمر رأى أن إبقاءه يلزم منه التضييق على الطائفين أو على المصلين فوضعه في مكان يرتفع به الحرج وتهيأ له ذلك، لأنه الذي كان أشار باتخاذه مصلى، وأول من عمل عليه المقصورة الموجودة الآن، كذا في الفتح. وارجع للتفصيل إلى تفسير ابن كثير، وإلى القرى (ص 308) لمحب الدين الطبري. تنبيه ثالث: قال ابن جاسر: إذا حصل على الطائفين زحام من جهة مقام إبراهيم فإنه يسوغ تأخيره بقدر إزالة الضرر، لأن المقام ليس هو البقعة التي هو بها الآن، وإنما هو نفس الحجر، والله أعلم (ياقوتتان من ياقوت الجنة) قال القاري: المراد به الجنس فالمعنى أنهما من يواقيت الجنة. قلت: وقع عند ابن حبان والبيهقي في رواية والحاكم ((من يواقيت الجنة)) (طمس الله نورهما) أي أذهبه. قال القاري: أي بمساس المشركين لهما، ولعل الحكم في طمسهم ليكون الإيمان غيبيًا لا عينيًا، وقال الشاه ولي الدهلوي: يحتمل أن يكونا من الجنة في الأصل فلما جعلا في الأرض اقتضت الحكمة أن يرعى فيهما حكم نشأة الأرض فطمس نورهما (ولو لم يطمس) على بناء الفاعل، ويجوز أن يكون على بناء المفعول (لأضاء) كذا في طبعات الهند بصيغة الإفراد أي لأضاء كل واحد، أو هو لازم أي لاستنار بهما (ما بين المشرق والمغرب) وفي النسخ المصرية ((لأضاءا)) أي بالتثنية، وهكذا وقع في المصابيح، وفي رواية للحاكم، ولأحمد، وللترمذي وابن حبان والبيهقي ((لأضاءتا)) بصيغة التثنية للمؤنث أي لأنارتاه، فأضاء متعد. قال التوربشتي: لما كان الياقوت من

ص: 113

رواه الترمذي.

2604 – (20) وعن عبيد بن عمير، أن ابن عمر كان يزاحم على الركنين زحامًا ما رأيت

ــ

أشرف الأحجار ثم كان بعد ما بين ياقوت هذه الدار الفانية وياقوت الجنة أكثر مما بين الياقوت وغيره من الأحجار أعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أنها من ياقوت الجنة لنعلم أن المناسبة الواقعة بينهما وبين الأجزاء الأرضية في الشرف والكرامة والخاصية المجعولة لهما كما بين ياقوت الجنة وسائر الأحجار، وذلك مما لا يدرك بالقياس. وقال الشيخ الدهلوي: قوله ((ياقوتتان من ياقوت الجنة)) هذا أيضًا يؤلونه بأن المراد بيان شرفهما وكرامتهما لأن الياقوت من أشرف الأحجار ولا بد أن يكون ياقوت الجنة أشرف وأجود من ياقوت الدنيا، فكأنه قال كأنهما ياقوتتان من الجنة – انتهى. قال القاري: والحديث لا ينافي ما صح أيضًا ((ولولا ما مسهما من خطايا بني آدم لأضاءا ما بين المشرق والمغرب فإنهما لما مستهما تلك الخطايا طمس الله نورهما)) (رواه الترمذي) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 313، 314) وابن حبان في صحيحه وفي الثقات والحاكم (ج 1: ص 256) والبيهقي (ج5: ص 75) والدولابي في الكنى كلهم من طريق رجاء بن صبيح أبي يحيى عن مسافع بن شيبة الحجي عن عبد الله بن عمرو بن العاص. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث مرفوعًا: أخرجه أحمد والترمذي، وفي إسناده رجاء أبو يحيى وهو ضعيف، قال الترمذي: حديث غريب، ويروى عن عبد الله بن عمرو موقوفًا. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: وقفه أشبه، والذي رفعه ليس بقوي – انتهى. وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند: إسناد هذا الحديث صحيح، وبسط الكلام في الرد على الترمذي وفي تصحيح هذا الحديث، وفي الباب عن أنس أخرجه الحاكم مختصرًا وقد تقدم.

2604 – قوله (وعن عبيد بن عمير) بالتصغير فيهما، وهو عبيد بن عمير بن قتادة الليثي ثم الجندي أبو عاصم المكي قاص أهل مكة، ذكر البخاري أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره مسلم فيمن ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معدود في كبار التابعين، سمع عمر بن الخطاب وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعائشة أم المؤمنين وأبا ذر وغيرهم، وروى عنه ابنه عبد الله وعطاء ومجاهد وعمرو بن دينار وغيرهم، وهو مجمع على ثقته، مات قبل ابن عمر. وقال ابن حبان في الثقات: مات سنة (68) ولأبيه عمير بن قتادة صحبة ورواية (أن ابن عمر كان يزاحم) أي يغالب الناس (على الركنين) أي الحجر الأسود والركن اليماني (زحامًا) قال الطيبي: أي زحامًا عظيمًا، وهو يحتمل أن يكون في جميع الأشواط أو الشوطين الأول والآخر فإنهما آكد أحوالها. وقد قال الشافعي في الأم: ولا أحب الزحام في الاستلام إلا في بدء الطواف وآخره ولكن أريد به ما لا يتأذى به أحد أي ازدحامًا لا يحصل فيه أذى لأحد قوله صلى الله عليه وسلم لعمر: إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر. رواه الشافعي وأحمد (ما رأيت

ص: 114

أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزاحم عليه، قال: إن أفعل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن مسحهما كفارة للخطايا ". وسمعته يقول: " من طاف بهذا البيت أسبوعًا فأحصاه، كان كعتق رقبة ". وسمعته يقول: " لا يضع قدمًا ولا يرفع أخرى إلا حط

ــ

أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزاحم عليه) أي على ما ذكر أو على كل واحد، وقد جاء أنه ربما دمي أنفه من شدة تزاحمه، وكأنهم تركوه لما يترتب عليه من الأذى، فالافتداء بفعلهم سيما هذا الزمان أولى، قاله القاري. قلت: روى الشافعي في مسنده وأبو ذر عن القاسم بن محمد قال: رأيت ابن عمر يزاحم على الحجر حتى يدمى أنفه أو فوه. وروى سعيد بن منصور نحوه، وروى أبو الوليد الأزرقي عن نافع أن ابن عمر كان لا يدعهما حتى يستلمهما، ولقد زاحم على الركن مرة في شدة الزحام حتى رعف فخرج فغسل عنه فعاد فزاحم فلم يصل إليه حتى رعف الثانية فخرج يغسل عنه ثم رجع فما تركه حتى استلم. وروي عن نافع أيضًا قال: لقد رأيت ابن عمر يزاحم مرة حتى انبهر فتنحى فجلس في ناحية حتى استراح وعاد فلم يدعه حتى استلمه. وقوله ((انبهر)) هو من البهر بضم الباء، وهو ما يعتري الإنسان عند السعي الشديد والمزاحمة من النهيج وتتابع النفس. وروى سعيد بن منصور من غير طريق القاسم أنه قيل لابن عمر في ذلك فقال: هوت الأفئدة إليه فأريد أن يكون فؤادي معهم. وروى الفاكهي والبيهقي من طرق عن ابن عباس كراهة المزاحمة وقال: لا يؤذي (قال) أي ابن عمر استلالاً لفعله، وقال الطيبي: أي اعتذارًا (إن أفعل) أي هذا الزحام فلا ألام، فإن شرطية، والجزاء مقدر، ودليل الجواب قوله: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلخ. قاله القاري. وقال الشيخ الدهلوي في اللمعات: أي إن أزاحم فلا تنكروا علي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل استلامهما، فإني لا أطيق الصبر عنه، وفيه الحرص على الفضائل وارتكاب التعب والمشقة في تحصليها (كفارة للخطايا) وعند أحمد وابن حبان والبيهقي ((يحط الخطايا)) أي يسقطها، وهو كناية عن غفران الذنوب (وسمعته) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا (أسبوعًا) أي سبع مرات، ومنه قيل أسبوعًا للأيام السبعة، ويقال له سبوع بلا ألف على لغة قليلة، قال في المجمع: طاف أسبوعًا أي سبع مرات، والأسبوع الأيام السبعة، وسبوع بلا ألف لغية – انتهى. وقال القاري: أي سبعة أشواط كما في رواية (فأحصاه) قال السيوطي: أي لم يأت فيه بزيادة أو نقص. وقيل أي حافظ على وجباته وسننه وآدابه. وقال القاري: أن يكمله ويراعي ما يعتبر في الطواف من الشروط والآداب (كان كعتق رقبة) ولفظ أحمد ((من طاف أسبوعًا يحصيه وصلى ركعتين كان له كعدل رقبة)) والمعنى أن من طاف وصلى ركعتين بعد الطواف بالشروط المعتبرة كان له مثل إعتاق رقبة في الثواب (لا يضع) أي الطائف (قدمًا ولا يرفع أخرى) قال القاري: الظاهر لا يرفعها فكأنه عد أخرى باختلاف وصف الوضع والرفع، والتقدير: لا يضع قدمًا مرة ولا يرفع قدمًا مرة أخرى – انتهى. وعند أحمد ((ما رفع رجل قدمًا ولا وضعها)) (يعني في الطواف) (إلا حط

ص: 115

الله عنه بها خطيئة، وكتب له بها حسنة ". رواه الترمذي.

2605-

(21) وعن عبد الله بن السائب، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول ما بين الركنين:{ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} . رواه أبو داود.

ــ

الله عنه بها) أي إلا وضع الله ومحا عن الطائف بكل قدم أو بكل مرة من الوضع والرفع (خطيئة وكتب له بها حسنة) زاد ابن حبان ((ورفع له بها درجة)) ولأحمد ((إلا كتب له عشر حسنات وحط عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات)) (رواه الترمذي) وقال: هذا حديث حسن. أخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 3) وابن خزيمة في صحيحه والحاكم (ج 1: ص 489) وصححه ووافقه الذهبي، ورواه أحمد أيضًا (ج 2: ص 11) والنسائي وابن حبان والبيهقي وابن ماجة مختصرًا أي بعضه، رووه كلهم من طريق عطاء بن السائب عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه عن ابن عمر، وعطاء صدوق لكنه اختلط، وجرير (عند الترمذي والحاكم) وهشيم (عند أحمد) ممن سمع منه بعد اختلاطه لكن له طريق أخرى أيضًا فيتقوى بها، فقد رواه أحمد (ج 2: ص 11) وابن حبان كما في موارد الظمآن من طريق سفيان الثوري والنسائي من طريق حماد بن زيد كلاهما عن عطاء بن السائب، وقد سمعا منه قبل الاختلاط.

2605 – قوله (وعن عبد الله بن السائب) المخزومي المكي، له ولأبيه صحبة، وكان قارئ أهل مكة. تقدم ترجمته (ما بين الركنين) أي الحجر الأسود والركن اليماني كما في رواية لأحمد. وللحاكم ((فيما بين ركن بني جمح والركن الأسود)) وهكذا وقع في رواية أخرى لأحمد، وركن بني جمح هو اليماني ونسب إليهم لأن بيوتهم كانت إلى جهته وبنو جمح بطن من قريش، وكان بالمسجد باب يسمى بباب بني جمح لذلك (ربنا) منصوب بحذف حرف النداء (آتنا) من الإيتاء أي أعطنا (في الدنيا حسنة) أي العلم والعمل أو العفو والعافية والرزق الحسن أو حياة طيبة أو القناعة أو ذرية صالحة أو المرأة الصالحة الحسناء (وفي الآخرة حسنة) أي المغفرة والجنة والدرجات العالية أو مرافقة الأنبياء أو الرضا أو الرؤية واللقاء، وقيل الحور العين. وقيل في تفسير الحسنتين المذكورتين في الآية غير ذلك. قال القرطبي: والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين نعيم الدنيا والآخرة. قال: وهذا هو الصحيح فإن اللفظ يقتضي هذا كله، فإن حسنة نكرة في سياق الدعاء فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل، وحسنة الآخرة الجنة بإجماع – انتهى. (وقنا) أي احفظنا واكفنا، وأصله ((إوقنا)) حذفت الواو كما حذفت في ((يقي)) لأنها بين ياء وكسرة مثل يعد، هذا قول البصريين (عذاب النار) أي شدائد جهنم من حرها وزمهريرها وسمومها وغير ذلك، وقيل المراد بعذاب النار المرأة السليطة، والظاهر أن المراد جميع أنواع العقاب وأصناف العتاب. والحديث يدل على مشروعية الدعاء بالآية المذكورة في الطواف بين الركنين اليمانيين (رواه أبو داود) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 3: ص 411) وابن حبان والحاكم

ص: 116

2606 – (22) وعن صفية بنت شيبة، قالت: أخبرتني بنت أبي تجراة، قالت: دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين، ننظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة، فرأيته يسعى وإن مئزره

ــ

(ج 1: ص 455) وابن الجارود والبيهقي، ونسبه المنذري للنسائي أيضًا. والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي.

2606 – قوله (وعن صفية بنت شيبة) الحجبي، وعن صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدرية، اختلف في رؤيتها النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحافظ في التقريب: لها رؤية وحدثت عن عائشة وغيرها من الصحابة. وفي البخاري التصريح بسماعها من النبي صلى الله عليه وسلم، وأنكر الدارقطني إدراكها. وقال في تهذيبه: لها رؤية، وقال الدارقطني: لا تصح لها رؤية، وذكرها ابن حبان في ثقات التابعين. قلت: ذكر المزي في الأطراف أن البخاري قال في صحيحه: قال: أبان بن صالح عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، ففي هذا رد على ابن حبان، وقد أوضحت حال هذا الحديث فيما كتبته عن الأطراف – انتهى كلام الحافظ (أخبرتني بنت أبي تجراة) براء ثم ألف غير مهموزة ثم هاء، ضبطه الحافظ في الفتح بكسر المثناة وسكون الجيم بعدها راء ثم ألف ساكنة ثم هاء، وجاء عند البيهقي والدارقطني بلفظ ((تجرأة)) براء ثم ألف مهموزة ووقع عند أحمد (ج 6: ص 421، 422) ((تجزئة)) بزاي ثم همزة ثم هاء وهكذا وقع في نصب الراية والأم، والظاهر أنه تصحيف من الناسخ وصوابه تجراة أي براء مهملة ثم ألف غير مهموزة ثم هاء. وبنو تجراة قوم من كندة قدموا مكة. وابنة أبي تجراة هذه هي حبيبة بنت أبي تجراة إحدى نساء بني عبد الدار، قال الحافظ في تعجيل المنفعة: حبيبة بنت أبي تجراة العبدرية ويقال ((حيية)) بتحتانيتين وزن الأول، ويقال بالتصغير، لها صحبة، روى عنها عطاء. وصفية بنت شيبة في إسناد حديثها اضطراب، وقال في تهذيب التهذيب: اسم هذه المرأة الصحابية حبيبة بنت أبي تجراة وقيل تملك، وهي أم ولد شيبة، وقال في الإصابة: حبيبة بنت أبي تجراة العبدرية ثم الشيبية. قال: وقال أبو عمر: قيل اسمها حبيبة بفتح أوله، وقيل بالتصغير، وقال غيره: تجراة ضبطها الدارقطني بفتح المثناة من فوق، ثم قال أبو عمر: اختلف في صحابيتها بهذا الحديث على صفية بنت شيبة، وقد ذكرت لك في التمهيد. قال الحافظ: وقد تقدم من وجه آخر عن صفية عن برة، وقيل عن تملك، وقيل عن أم ولد لشيبة، وقيل عن صفية بلا واسطة، وقد استوعب أبو نعيم بيان طرقه، ومنها من طريق جبرة بنت محمد بن سباع عن حبيبة بنت أبي تجراة كذلك. وأخرجه النسائي من طريق بديل بن ميسرة عن مغيرة بن حكيم عن صفية بنت شيبة عن امرأة، وفي رواية ابن ماجة والبيهقي عن أم ولد لشيبة وقد تقدم سند حديث تملك في المثناة – انتهى (ننظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة) أي لنتشرف برؤيته ولنستفيد من علمه وبركته (فرأيته يسعى) أي يسرع (وإن) بكسر الهمزة والواو للحال (مئزره) بكسر الميم

ص: 117

ليدور من شدة السعي، وسمعته يقول:" اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ".

ــ

وسكون الهمز ويبدل أي إزاره (ليدور) أي حول رجليه (من شدة السعي) قال المظهر: يعني مئزره يدور حول رجليه ويلتف برجله من شدة عدوه، وفي رواية لأحمد ((حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره)) والحديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان ماشيًا في الطواف بين الصفا والمروة، وجاء ذلك صريحًا في حديث حسن. ولا ينافيه ما ورد أنه عليه الصلاة والسلام سعي راكبًا في حجة الوداع، لإمكان الجمع بأن مشيه كان في سعي عمرة من عمره، قاله القاري. وقال المحب الطبري بعد ذكر الأحاديث التي تدل على أنه صلى الله عليه وسلم سعى راكبًا: في هذه الأحاديث دلالة ظاهرة على ركوبه صلى الله عليه وسلم في السعي، والأحاديث المتقدمة في الفصل قبله وحديث جابر الطويل يدل على مشيه، فيحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم مشى في طوافه على ما دل عليه بعض الأحاديث، ثم خرج إلى السعي ماشيًا فسعى بعضه ماشيًا ورأته بنت أبي تجراة إذ ذاك، ثم لما كثر عليه ركب ناقته، ويؤيد ذلك قول ابن عباس ((وكان صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثر عليه ركب، والمشي والسعي أفضل)) فإن سياقه دال على أن الركوب كان في أثناء السعي حين كثر الناس عليه فيه. وذهب ابن حزم إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان راكبًا في جميع طوافه بين الصفا والمروة عملاً بحديث جابر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة ليراه الناس وليشرف عليهم وليسألوه، فإن الناس غشوه)) أخرجه مسلم. قال الطبري: وظاهر حديث ابن عباس يرد هذا التأويل، وحديث بنت أبي تجراة يصرح برده، والمختار فيه ما تقدم ذكره جمعًا بين الأحاديث كلها، وأما ركوبه في الطواف بالبيت فكان في طواف الإفاضة – انتهى مختصرًا. (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) قال الطيبي: أي فرض. فدل على أن السعي فرض ومن لم يسع بطل حجه عند الشافعي ومالك وأحمد – انتهى. قال القاري: وقال أبو حنيفة: السعي واجب لأن الحديث ظني وكذا المشي فيه مع القدرة وبترك الواجب يجب الدم – انتهى. وقد تقدم ذكر اختلاف الأئمة في حكم السعي في شرح حديث ابن عمر رقم (2589) في الفصل الأول من هذا الباب، والحديث قد استدل به من ذهب إلى أن السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة ركن من أركانهما لا يصح واحد منهما بدونه ولا يجبر بدم، وهم الجمهور مالك والشافعي وأصحابهما، وأحمد في رواية وهو حديث صحيح كما قال صاحب التلقيح وأقره ابن الهمام، أو حسن كما قال النووي. واستدل لهم أيضًا بقوله تعالى:{إن الصفا والمروة من شعائر الله} (2: 158) قالوا: تصريحه تعالى بأن الصفا والمروة من شعائر الله يدل على أن السعي بينهما أمر حتم لا بد منه، لأن شعائر الله عظيمة لا يجوز التهاون بها، وقد أشار البخاري في صحيحه إلى ذلك حيث قال: باب وجوب الصفا والمروة وجعل من شعائر الله. قال الحافظ: أي وجوب السعي بينهما مستفاد من كونهما جعلا من شعائر الله، قاله ابن المنير في الحاشية، واستدل لهم أيضًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف

ص: 118

..............................................................................................

ــ

في حجه وعمرته بين الصفا والمروة سبعًا. وقد دل على أن ذلك لا بد منه دليلان، الأول: هو ما تقرر في الأصول من أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان لبيان نص مجمل من كتاب الله يكون ذلك الفعل لازمًا وسعيه بين الصفا والمروة فعل بين به المراد من قوله تعالى {إن الصفا والمروة من شعائر الله} والدليل على أن فعله بيانًا للآية هو قوله صلى الله عليه وسلم: نبدأ بما بدأ الله به يعني الصفا، لأن الله بدأ بها في قوله {إن الصفا والمروة} الآية. وفي رواية عند النسائي ((ابدؤا بما بدأ الله به)) بصيغة الأمر. الدليل الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لتأخذوا عني مناسككم)) وفي رواية ((خذوا عني مناسككم)) وقد طاف بين الصفا والمروة سبعًا فيلزمنا أن نأخذ عنه ذلك من مناسكنا، ولو تركناه لكنا مخالفين أمره بأخذه عنه، والله تعالى يقول:{فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (24: 63) فاجتماع هذه الأمور الثلاثة يدل على اللزوم وهي كونه سعى بين الصفا والمروة سبعًا، وأن ذلك بيان منه لآية من كتاب الله، وأنه قال:" لتأخذوا عني مناسككم ". وكون ذلك السعي بيانًا لآية {إن الصفا والمروة من شعائر الله} الآية أمر لا شك فيه، ويدل عليه أمران أحدهما سبب نزول الآية لأنه ثبت في الصحيحين أنها نزلت في سؤالهم عن السعي بين الصفا والمروة، وإذا كانت نازلة جوابًا عن سؤالهم عن حكم السعي بين الصفا والمروة فسعى النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها بيان لها، والأمر الثاني: هو ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: " نبدأ بما بدأ الله به " يعني الصفا. ومن أدلة الجمهور على أن السعي فرض لا بد منه: ما رواه الشيخان عن عروة عن عائشة في سبب نزل قوله تعالى {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} وفيه ((قالت عائشة: وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما)) الحديث. وهذا صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم سن الطواف بين الصفا والمروة أي فرضه بالسنة. وقد أجابت عائشة عما يقال أن رفع الجناح في قوله {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} ينافي كونه فرضًا لأن ذلك في قوم تحرجوا من السعي بين الصفا والمروة، وظنوا أن ذلك لا يجوز لهم، فنزلت الآية مبينة أن ما ظنوه من الحرج في ذلك منفي. وقد تقرر في الأصول في أن النص الوارد في جواب سؤال لا مفهوم مخالفة له. وقال الحافظ في الفتح: قول عائشة رضي الله عنها ((سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بين الصفا والمروة)) أي فرضه بالسنة، وليس مرادها نفي فرضيته، ويؤيده قولها لم يتم الله حج أحدكم ولا عمرته ما لم يطف بينهما – انتهى. وأما ما جاء في بعض قراءات الصحابة ((فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما)) كما ذكره الطبري وابن المنذر وغيرهما عن أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم فقد أجيب عنه من وجهين، الأول: أن هذه القراءة لم تثبت قرآنًا لإجماع الصحابة على عدم كتبها في المصاحف العثمانية، وما ذكره الصحابي على أنه قرآن ولم يثبت كونه قرآنًا ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه لا يستدل به على شيء، وهو مذهب مالك والشافعي، ووجهه أنه لما لم يذكره إلا كونه قرآنًا فبطل كونه قرآنًا بطل من أصله، فلا يحتج به على شيء. وقال بعض أهل العلم: إذا بطل كونه قرآنًا لم يمنع ذلك من الاحتجاج به كأخبار الآحاد التي ليست بقرآن، فعلى القول الأول

ص: 119

رواه في شرح السنة، ورواه أحمد مع اختلاف.

ــ

فلا إشكال، وعلى الثاني فيجاب عنه بأن القراءة المذكورة تخالف القراءة المجمع عليها المتواترة، وما خالف المتواترة المجمع عليه إن لم يمكن الجمع بينهما فهو باطل، والنفي والإثبات لا يمكن الجمع بينهما لأنهما نقيضان. الوجه الثاني: هو ما ذكره الحافظ في الفتح عن الطبري والطحاوي من أن قراءة ((أن لا يطوف بهما)) محمولة على القراءة المشهورة ولا زائدة – انتهى. ولا يخلو من تكلف كما ترى. ومن أدلة الجمهور على لزوم السعي ما جاء في بعض روايات حديث أبي موسى في إهلاله عند الشيخين وفيه ((طف بالبيت وبين الصفا والمروة)) فهذا أمر صريح منه صلى الله عليه وسلم بذلك، وصيغة الأمر تقتضي الوجوب ما لم يقم دليل صارف عن ذلك، وقد دل على اقتضائها الوجوب الشرع واللغة كما بين في موضعه. ومن أدلتهم على أن السعي بين الصفا والمروة لا بد منه ما قدمنا ما رواه الترمذي عن ابن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم قال: من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعًا. قال المجد في المنتقى بعد ذكره: وفيه دليل على وجوب السعي ووقوف التحلل عليه، ومن أدلتهم على ذلك ما جاء في بعض الروايات الثابتة في الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: يجزئ عنك طوافك بين الصفا والمروة عن حجك وعمرتك، وهذا اللفظ في صحيح مسلم. قالوا: ويفهم من قوله هذا أنها لو لم تطف بينهما لم يحصل لها إجزاء عن حجها وعمرتها. هذا تلخيص ما ذكره الشنقيطي في هذه المسألة في أضواء البيان. تنبيه: قال القاري: اعلم أن سياق الحديث يفيد أن المراد بالسعي المكتوب الجري الكائن في بطن الوادي لكنه غير مراد بلا خلاف نعلمه فيحمل على أن المراد بالسعي الطواف بينهما، واتفق أنه عليه الصلاة والسلام قال لهم عند الشروع في الجري الشديد المسنون لما وصل إلى محله شرعًا أعني بطن الوادي، ولا يسن جري شديد في غير هذا المحل بخلاف الرمل في الطواف، إنما هو مشي فيه شدة وتصلب – انتهى (رواه) أي البغوي (في شرح السنة) أي بإسناده (وروى) وفي بعض النسخ ((رواه)) (أحمد مع اختلاف) في لفظه (ج 6: ص 421، 422) وأخرجه أيضًا الشافعي وإسحاق بن راهويه والحاكم في المستدرك في الفضائل وسكت عنه، ومن طريق أحمد الطبراني في معجمه ومن طريق الشافعي رواه الدارقطني ثم البيهقي في سننيهما وابن أبي شيبة في مصنفه والطحاوي وغيرهم. قال الحافظ في الإصابة: حبيبة بنت أبي تجراة العبدرية ثم الشيبية روى حديثها الشافعي عن عبد الله بن المؤمل، وابن سعد عن معاذ بن هانئ، ومحمد بن سنجر عن أبي نعيم، وابن أبي خثيمة عن شريح بن النعمان كلهم عن ابن المؤمل عن عمر بن عبد الرحمن بن محصن عن عطاء بن أبي رباح حدثتني صفية بنت شيبة عن امرأة يقال لها حبيبة بنت أبي تجراة، قالت: دخلنا دار أبي حسين في نسوة من قريش. فذكر الحديث ثم قال: وأخرجه الطحاوي من طريق معاذ، وقد وقع لنا بعلو في المعرفة لابن مندة من طريقه. وقد تقدم أنه اختلف في المرأة التي روت عنها صفية بنت شيبة، فقيل عن صفية عن برة، وقيل عن تملك، وقيل عن أم

ص: 120

...........................................................................................

ــ

ولد شيبة، وقيل عن صفية عن امرأة، وقيل عن صفية عن نسوة من بني عبد الدار، وقيل عن صفية بلا واسطة، أما حديث صفية عن برة فرواه الواقدي في كتاب المغازي وابن مندة كما في الإصابة. ومن طريق الواقدي روى البيهقي (ج 6: ص 98) وأما حديث تملك فأخرجه البيهقي في سننه والطبراني في معجمه وفيه المثنى بن الصباح، وقد وثقه ابن معين في رواية وضعفه جماعة. وأما حديث صفية عن أم ولد لشيبة فأخرجه ابن ماجة والبيهقي (ج 5: ص 98) وأما حديث صفية عن امرأة فأخرجه أحمد (ج 6: ص 437) والنسائي، قال الشوكاني: لعل المرأة المبهمة في حديث صفية هي حبيبة بنت أبي تجراة، وأما حديث صفية عن نسوة فأخرجه الدارقطني (ص 270) ومن طريقه البيهقي (ج 5: ص 97) وأما حديث صفية بلا واسطة فأخرجه الطبراني في معجمه الكبير، وفيه أيضًا المثنى بن لصباح، وحديث صفية بنت أبي تجراة قد أعله ابن عدي في الكامل بعبد الله بن المؤمل، وأسند تضعيفه عن أحمد والنسائي ووافقهم. وقال الحافظ في الفتح: وفي إسناد هذا الحديث عبد الله بن المؤمل وفيه ضعف. ومن ثم قال ابن المنذر: إن ثبت فهو حجة في الوجوب. قال الحافظ: له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة مختصرة، وعند الطبراني عن ابن عباس كالأولى، وإذا انضمت إلى الأولى قربت – انتهى. قلت: حديث ابن عباس في سنده المفضل بن صدقة، وهو متروك، قاله الهيثمي (ج 3: ص 241) وأما اختلاف الروايات في المرأة التي روت عنها صفية المذكورة هذا الحديث فلا يضر لتصريحها في رواية الدارقطني والبيهقي بأنها روت ذلك عن نسوة أدركن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذن فلا مانع من أن تسمى واحدة منهن في رواية وتسمى أخرى في رواية أخرى كما لا يخفى. قال الحافظ: اختلف على صفية بنت شيبة في اسم الصحابية التي أخبرتها به، ويجوز أن تكون أخذته عن جماعة فقد وقع عنه الدارقطني عنها أخبرتني نسوة من بني عبد الدار فلا يضره الاختلاف. انتهى. قلت: وطريق الدارقطني قد حسنها النووي في شرح المهذب حيث قال: احتج أصحابنا بحديث صفية بن شيبة عن نسوة من بني عبد الدار أنهن سمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد استقبل الناس في المسعى وقال:" يأيها الناس اسعوا فإن السعي قد كتب عليكم ". رواه الدارقطني والبيهقي بإسناد حسن – انتهى. وقال الزيعلي في نصب الراية (ج 3: ص 56) بعد ذكر رواية الدارقطني المذكورة: قال صاحب التنقيح: إسناده صحيح، وقال ابن الهمام في فتح القدير (ج 2: ص 751) مجيبًا عن إعلال ابن القطان حديث بنت أبي تجراة بابن المؤمل: وهذا لا يضر بمتن الحديث، إذ بعد تجويد المتقنين له لا يضره تخليط بعض الرواة، وقد ثبت من طرق عديدة منها طريق الدارقطني عن ابن المبارك أخبرني معروف بن مشكان أخبرني منصور بن عبد الرحمن عن أمه صفية قالت: أخبرني نسوة من بني عبد الدار اللاتي أدركن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث ثم قال: قال صاحب التنقيح: إسناده صحيح، ومعروف بن مشكان صدوق، لا نعلم من تكلم فيه، ومنصور هذا ثقة مخرج له في الصحيحين – انتهى. وقد علم مما ذكرنا أن بعض طرق هذا الحديث لا تقل عن درجة القبول، وهو نص في محل النزاع مع أنه معتضد بما ذكرناه من الأدلة الأخرى.

ص: 121

2607 – (23) وعن قدامة بن عبد الله بن عمار قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى بين الصفا والمروة على بعير لا ضرب ولا طرد ولا إليك. رواه في شرح السنة.

2608 – (24) وعن يعلى بن أمية قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت مضطجعًا ببرد أخضر.

ــ

2607 – قوله (وعن ابن قدامة) بضم القاف وتخفيف الدال المهملة (بن عبد الله بن عمار) بفتح المهملة وتشديد الميم ابن معاوية العامري الكلابي يكنى أبا عبد الله، صحابي قليل الحديث، يقال أسلم قديمًا وسكن مكة ولم يهاجر، ولقي النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأقام بركية في البدو من بلاد نجد وسكنها، روى عنه أيمن بن نابل وحميد بن كلاب (لا ضرب ولا طرد) بالفتح والرفع منونًا فيهما أي لا دفع (ولا إليك إليك) أي تنح تنح، وهو اسم فعل بمعنى تنح عن الطريق، قال الطبري: قوله ((إليك إليك)) نحو قول القائل: الطريق الطريق: وقال الطيبي: أي ما كانوا يضربون الناس ولا يطردونهم ولا يقولون تنحوا عن الطريق كما هو عادة الملوك والجبابرة، والمقصود التعريض بالذين كانوا يعملون ذلك – انتهى. (رواه) أي البغوي (في شرح السنة) بإسناده وأخرجه البيهقي (ج 5: ص 101) من طريق عبيد الله ابن موسى وجعفر بن عون عن أيمن بن نابل عن قدامة بن عبد الله بن عمار، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى بين الصفا والمروة على بعير، إلخ. ثم قال البيهقي: كذا قالا (أي عبيد الله وجعفر) ورواه جماعة (منهم روح بن عبادة وأبو نعيم وأبو عاصم) وموسى بن طارق ووكيع وأبو أحمد الزبيري وقران بن تمام الأسدي ومعتمر ومروان بن معاوية والمؤمل وسعيد بن سالم القداح، عن أيمن فقالوا: في الحديث يرمي الجمرة يوم النحر (أي بدل يسعى بين الصفا والمروة) ويحتمل أن يكون صحيحين – انتهى. قلت: حديث قدامة بلفظ ((يرمي الجمرة يوم النحر على ناقة ليس ضرب ولا طرد)) إلخ. أخرجه أحمد (ج 6: ص 412) والشافعي والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي وابن حبان والبيهقي (ج 5: ص 130) وسيأتي في باب رمي الجمار، وقال ابن عبد البر في ترجمة قدامة في الاستيعاب: روى عنه أيمن بن نابل وحميد بن كلاب، فأما حديث أيمن عنه فإنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة يوم النحر على ناقة صهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك. وأما حديث حميد بن كلاب فإنه قال عنه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة وعليه حلة حبرة. لا أحفظ له غير هذين الحديثين – انتهى.

2608 – قوله (وعن يعلى) كيرضى (بن أمية) بمضمومة ثم ميم مخففة مفتوحة وتحتية مشددة، ابن أبي عبيدة صحابي مشهور، تقدم ترجمته (طاف بالبيت مضطبعًا) بكسر الباء (ببرد) أي يماني، ففي رواية لأحمد ((ببرد له حضرمي)) (أخضر) أي فيه خطوط خضر، والاضطباع هو إعراء منكبه الأيمن وجمع الرداء على الأيسر، سمي بذلك لما فيه من إبداء الضبع وهو العضد، ويسمى التأبط لأنه يجعل وسط الرداء تحت الإبط وبيدي ضبعه الأيمن. قال النووي: هو

ص: 122

رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجة، والدارمي.

2609 – (25) وعن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت ثلاثًا وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى. رواه أبو داود.

ــ

افتعال من الضبع بإسكان الباء الموحدة وهو العضد، وهو أن يدخل إزاره تحت إبطه الأيمن ويرد طرفه على منكبه الأيسر ويكون منكبه الأيمن مكشوفًا، وقال الطيبي: الضبع بسكون الباء وسط العضد ويطلق على الإبط أيضًا أي لمجاورته له، والاضبطاع أن يأخذ الإزار أو البرد فيجعل وسطه تحت الإبط الأيمن ويلقي طرفيه على كتفه الأيسر من جهتيّ صدره وظهره، سمي بذلك لإبداء الضبعين: قيل: إنما ذلك إظهارًا للتشجع كالرمل في الطواف – انتهى. وهذه الهيأة هي المذكورة في حديث ابن عباس الآتي، وأول ما اضطبعوا في عمرة القضاء ليستعينوا بذلك على الرمل ليرى المشركون قوتهم ثم صار سنة، ويضبطع في الأشواط السبع، فإذا قضى طوافه سوى ثيابه، ولم يضطبع في ركعتي الطواف، قال الشوكاني: والحكمة في فعله أنه يعين على إسراع المشي، وقد ذهب إلى استحبابه الجمهور سوى مالك، قاله ابن المنذر. قال أصحاب الشافعي: وإنما يستحب الاضطباع في طواف يسن فيه الرمل – انتهى. وقال القاري: الاضطباع والرمل سنتان في كل طواف بعده سعي، والاضطباع سنة في جميع الأشواط بخلاف الرمل، ولا يستحب الاضطباع في غير الطواف وما يفعله العوام من الاضطباع من ابتداء الإحرام حجًا أو عمرة لا أصل له بل يكره حال الصلاة – انتهى. (رواه الترمذي) وقال: هو حديث حسن صحيح (وأبو داود) واللفظ له، وقد سكت عنه، ونقل المنذري كلام الترمذي وأقره (وابن ماجة والدارمي) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 4: ص 222، 223) ورواه الشافعي بلفظ ((أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطعبًا بالبيت وبين الصفا والمروة)) .

2609 – قوله (اعتمروا من الجعرانة) تقدم ضبطه (فرملوا بالبيت ثلاثًا) أي ثلاث مرات من الأشواط السبعة (وجعلوا) أي حين أرادوا الشروع في الطواف (أرديتهم) جمع رداء (تحت آباطهم) بالألف ممدودة جمع إبط. قال ابن رسلان: المراد أن يجعلوها تحت عواتقهم اليمنى (ثم قذفوها) أي ألقوها وطرحوا طرفيها (على عواتقهم اليسرى) جمع العاتق وهو المنكب أي استمروا عليه إلى أن فرغوا من الطواف. والحديث يدل على مشروعية الرمل والاضطباع في الطواف (رواه أبو داود) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 306، 371) والبيهقي (ج 5: ص 79) وأخرجه الطبراني نحوه، والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص، وقال الشوكاني: رجاله رجال الصحيح.

ص: 123