المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(13) باب الإحصار، وفوت الحج - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٩

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

فهرس الكتاب

- ‌(2) باب قصة حجة الوداع

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(3) باب دخول مكة والطواف

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(4) باب الوقوف بعرفة

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(5) باب الدفع من عرفة والمزدلفة

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(6) باب رمي الجمار

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(7) باب الهدي

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(8) باب الحلق

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(9) باب

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(10) باب خطبة يوم النحر، ورمي أيام التشريق، والتوديع

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(11) باب ما يجتنبه المحرم

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(12) باب المحرم يجتنب الصيد

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(13) باب الإحصار، وفوت الحج

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(14) باب حرم مكة حرسها الله تعالى

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(15) باب حرم المدينة حرسها الله تعالى

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

الفصل: ‌(13) باب الإحصار، وفوت الحج

(13) باب الإحصار، وفوت الحج

ــ

(باب الإحصار) هو في اللغة المنع والحبس مطلقًا، وفي الشرع المنع عن الوقوف والطواف، فإن قدر على أحدهما فليس بمحصر (وفوت الحج) بأن يكون محرمًا ولم يدرك مكان الوقوف وهو عرفة في زمانه، وهو من بعد الزوال إلى طلوع فجر يوم النحر ولو ساعة، قاله القاري. وقال العيني: الإحصار المنع والحبس عن الوجه الذي يقصده، يقال أحصره المرض أو السلطان إذا منعه عن مقصده فهو محصر، والحصر الحبس، يقال حصره إذا حبسه فهو محصور. وقال القاضي إسماعيل: الظاهر أن الإحصار بالمرض والحصر بالعدو ومنه ((فلما حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم)) وقال تعالى: {فإن أحصرتم} وقال الكسائي: يقال من العدو حصر فهو محصور، ومن المرض أحصر فهو محصر، وحكى عن الفراء أنه أجاز كل واحد منهما مكان الآخر، وأنكره المبرد والزجاج وقالا: هما مختلفان في المعنى، ولا يقال في المرض ((حصره)) ولا في العدو ((أحصره)) – انتهى. وقال صاحب فيض الباري: اعلم أن الإحصار عندنا (الحنفية) وعند جماعة من السلف وأهل اللغة عام للمريض والعدو كما نقل عن الفراء أيضًا، وعند الشافعية يختص بالعدو، وادعى بعض من الحنفية أن المحصر لا يقال إلا في المرض، أما في العدو فيقال له محصور لا محصر، قلت: وليس بجيد فإن الآية حينئذ تقتصر على المرض مع أنها نزلت في العدو بالاتفاق، فإنها نزلت في قصة الحديبية ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فيها مريضًا، وها هنا دقيقة وهي أن اللفظ قد يشتهر في نوع من الجنس ثم يرد استعماله في نوع آخر من ذلك الجنس أو في الجنس بعينه فيجعله الناس مقابلاً كالإحصار فإنه عام للمرض والعدو إلا أنه اشتهر الإحصار في المرض والحصر في العدو حتى ذهبت أوهام العامة أنهما متقابلان فجعلوا الإحصار مختصًا بالمرض والحصر بالعدو وليس كذلك، وإنما أخذ القرآن في النظم اللفظ العام لئلا يختص الحكم بالعدو ويعم المرض والعدو كليهما – انتهى، وقال الآلوسي في تفسيره (ج 2: ص 80) : الإحصار والحصر كلاهما في أصل اللغة بمعنى مطلقًا، وليس الحصر مختصًا بما يكون من العدو والإحصار بما يكون من المرض ونحوه كما توهم الزجاج من كثرة استعمالها كذلك فإنه قد يشيع استعمال اللفظ الموضوع للمعنى العام في بعض أفراده، والدليل على ذلك أنه يقال حصره العدو وأحصره كصده وأصده، فلو كانت النسبة إلى العدو معتبرة في مفهوم الحصر لكان التصريح بالإسناد إليه تكرارًا، ولو كانت النسبة إلى المرض ونحوه معتبرة في مفهوم الإحصار لكان إسناده إلى العدو مجازًا وكلاهما خلاف الأصل، والمراد من الإحصار هنا حصر العدو عند مالك والشافعي لقوله تعالى:{فإذا أمنتم} فإن الأمن لغة في مقابلة الخوف ولنزوله عام الحديبية، ولقول ابن عباس: لا حصر إلا حصر العدو. فقيد إطلاق الآية وهو أعلم بموقع التنزيل، وذهب أبو حنيفة إلى أن المراد به ما يعم كل منع من عدو ومرض وغيرهما لحديث الحجاج بن عمرو (الآتي في الفصل الثاني) ولما روى الطحاوي من حديث عبد الرحمن

ص: 427

..............................................................................................

ــ

ابن زيد قال: أهل رجل بعمرة يقال له عمر بن سعيد فلسع فبينا هو صريع إذ طلع عليه ركب فيهم ابن مسعود فسألوه فقال: ابعثوا بالهدي واجعلوا بينكم وبينه يوم أمارة فإذا كان ذلك فليحل، وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال: لا إحصار إلا من مرض أو عدو أو أمر حابس، وروى البخاري مثله عنه. وقال عروة: كل شيء حبس المحرم فهو إحصار، وما استدل به الخصم (الشافعي ومن وافقه) مجاب عنه، وأما الأول: فإنه يقال للمريض إذا زال مرضه وبرئ: أمن كما روى ذلك عن ابن مسعود وابن عباس من طريق إبراهيم قال الآلوسي: فيضعف استدلال الشافعي ومالك بالآية على ما ذهبا إليه، وأما الثاني: فإنه لا عبرة بخصوص السبب والحمل على أنه للتأييد يأبى عنه ذكره باللام استقلالاً والقول بأن ((أحصرتم)) ليس عامًا إذا الفعل المثبت لا عموم له فلا يراد إلا ما ورد فيه وهو حبس العدو بالاتفاق ليس بشيء لأنه وإن لم يكن عامًا لكنه مطلق فيجري على إطلاقه، وأما الثالث: فلأنه بعد تسليم حجية قول ابن عباس في أمثال ذلك معارض بما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عنه في تفسير الآية أنه قال: يقول من أحرم بحج أو عمرة ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عدو يحبسه فعليه ذبح ما استيسر من الهدي فكما خصص في الرواية الأولى عمم في هذه، وهو أعلم بمواقع التنزيل، والقول ((بأن حديث الحجاج ضعيف)) ضعيف إذ له طرق مختلفة في السنن، وحمله على ما إذا اشترط المحرم الإحلال عند عروض المانع من المرض له وقت النية لقوله صلى الله عليه وسلم لضباعه: حجي واشترطي وقولي: اللهم محلي حيث حبستني. لا يتمشى على ما تقرر في أصول الحنفية من أن المطلق يجري على إطلاقه إلا إذا اتحد الحادثة والحكم وكان الإطلاق والتقييد في الحكم إذ ما نحن فيه ليس كذلك كما لا يخفى، انتهى كلام الآلوسي. وإن شئت مزيد البسط فيما أجاب به الحنفية عن الآية وقرروا به مذهبهم فارجع إلى شرح البخاري للقسطلاني والعيني والجوهر النقي للمارديني وأحكام القرآن لأبي بكر الرازي الجصاص وفتح القدير لابن الهمام، وقال الشنقيطي: اختلف العلماء في المراد بالإحصار في قوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} (سورة البقرة: الآية 192) فقال قوم: هو صد العدو المحرم ومنعه إياه من الطواف بالبيت، وقال قوم: المراد به حبس المحرم بسبب مرض نحوه، وقال قوم: المراد به ما يشتمل الجميع من عدو ومرض ونحو ذلك، لكن قوله تعالى بعد هذا:{فإذا أمنتم} يشير إلى أن المراد بالإحصار هنا صد العدو للمحرم، لأن الأمن إذا أطلق في لغة العرب انصرف إلى الأمن من الخوف لا إلى الشفاء من المرض ونحو ذلك، ويؤيده أنه لم يذكر الشيء الذي منه الأمن، فدل على أن المراد به ما تقدم من الإحصار فثبت أنه الخوف من العدو، فما أجاب به بعض العلماء من أن الأمن يطلق على الأمن من المرض كما في حديث ((من سبق العاطس

ص: 428

.............................................................................................

ــ

بالحمد أمن من الشوص واللوث والعلوص)) أخرجه (1) ابن ماجة في سننه فهو ظاهر السقوط، لأن الأمن فيه مقيد بكونه من المرض فلو أطلق لانصرف إلى الأمن من الخوف، وقد يجاب أيضًا بأنه يخاف وقوع المذكور من الشوص الذي هو وجع السن، واللوث الذي هو وجع الأذن، والعلوص الذي هو وجع البطن، لأنه قبل وقوعها به يطلق عليه أنه خائف من وقوعها، فإذا أمن من وقعها به فقد أمن من خوف. أما لو كانت وقعت به بالفعل فلا يحسن أن يقال أمن منها لأن الخوف في لغة العرب هو الغم من أمر مستقبل لا واقع بالفعل فدل هذا على أن زعم إمكان إطلاق الأمن على الشفاء من المرض خلاف الظاهر، وحاصل تحرير هذه المسألة في مبحثين: الأول في معنى الإحصار في اللغة العربية، الثاني في تحقيق المراد به في الآية الكريمة وأقوال العلماء، وأدلتها في ذلك، فاعلم أن أكثر علماء العربية يقولون: إن الإحصار هو ما كان عن مرض أو نحوه، قالوا: تقول العرب: أحصره المرض يحصره بضم الياء وكسر الصاد إحصارًا، وأما ما كان من العدو فهو الحصر، تقول العرب: حصره العدو يحصره بفتح الياء وضم الصاد حصرًا بفتح فسكون، ومن إطلاق الحصر في القرآن على ما كان من العدو قوله تعالى:{وخذوهم واحصروهم} (سورة التوبة: الآية 5) ومن إطلاق الإحصار على غير العدو كما ذكرنا عن علماء العربية قوله تعالى {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} (سورة البقرة: الآية 275) وقول ابن ميادة:

وما هجر ليلي أن تكون تباعدت

عليك ولا أن أحصرتك شغول

وعكس بعض علماء العربية فقال: الإحصار من العدو، والحصر من المرض، قاله ابن فارس في المجمل نقله عنه القرطبي ونقل البغوي نحوه عن ثعلب، وقال جماعة من علماء العربية: إن الإحصار يستعمل في الجميع وكذلك الحصر، ومن قال باستعمال الإحصار في الجميع الفراء، وممن قال بأن الحصر والإحصار يستعملان في الجميع أبو نصر القشيري، قال الشنقيطي: لا شك في جواز إطلاق الإحصار على ما كان من العدو كما سترى تحقيقه، هذا حاصل كلام أهل العربية في معنى الإحصار، وأما المراد به في الآية الكريمة فقد اختلف فيه العلماء على ثلاثة أقوال، الأول: أن المراد به حصر العدو خاصة دون المرض ونحوه، وهذا قول ابن عباس وابن عمر وأنس وابن الزبير وهو

(1) كذا ذكر الشنقيطي وهو وهم منه أو ممن نقل ذلك عنه، فإن الحديث المذكور ليس في سنن ابن ماجة ولم أقف على من خرجه، نعم ذكره ابن الأثير الجزري في النهاية (ج 1: ص 261) قال الفتني في تذكرة الموضوعات (ص 165) : هو حديث ضعيف، وقال العجلوني في كشف الخفاء (ج 2: ص 252) : ذكره (ابن الأثير) في النهاية وهو ضعيف- انتهى. وروي في معناه عن غير واحد من الصحابة بأسانيد ضعيفة من شاء الوقوف على ذلك رجع إلى الفوائد المجموعة (ص 222) للشوكاني، وكشف الخفاء (ج 2: ص 252) للعجلوني، وتنزيه الشريعة (ج 2: ص 292) لابن العراق واللآلئ المصنوعة (ج 2: ص 153) للسيوطي.

ص: 429

.............................................................................................

ــ

قول سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، وبه قال مروان وإسحاق وهو الرواية المشهورة الصحيحة عن أحمد بن حنبل، وهو مذهب مالك والشافعي، وعلى هذا القول أن المراد بالإحصار ما كان من العدو خاصة فمن أحصر بمرض ونحوه لا يجوز له التحلل (إلا أن يشترط عند الإحرام عند الشافعي وأحمد كما سيأتي) حتى يبرأ من مرضه ويطوف بالبيت ويسعى فيكون متحللاً بعمرة، وحجة هذا القول متركبة من أمرين، الأول: أن الآية الكريمة التي هو قوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} نزلت في صد المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم محرمون بعمرة عام الحديبية عام ست بإطباق العلماء، وقد تقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول فلا يمكن إخراجها بمخصص فشمول الآية الكريمة لإحصار العدو الذي هو سبب نزولها قطعي فلا يمكن إخراجه من الآية بوجه، وروي عن مالك أن صورة سبب النزول ظنية الدخول لا قطعيته وهو خلاف قول الجمهور، وبهذا تعلم أن إطلاق الإحصار بصيغة الرباعي على ما كان من عدو صحيح في اللغة العربية بلا شك كما ترى وأنه نزل به القرآن العظيم الذي هو في أعلى درجات الفصاحة والإعجاز، الأمر الثاني: ما ورد في الآثار في أن المحصر بمرض ونحوه لا يتحلل إلا بالطواف والسعي، فمن ذلك ما رواه الشافعي في مسنده والبيهقي (ج 5: ص 219) عن ابن عباس أنه قال: لا حصر إلا حصر العدو، قال النووي في شرح المهذب: إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم وصححه أيضًا (الحافظ) ابن حجر، ومن ذلك ما رواه البخاري والنسائي عن ابن عمر أنه كان يقول: أليس حسبكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت وبالصفا والمروة ثم يحل من كل شيء حتى يحج عامًا قابلاً فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديًا، ومن ذلك ما رواه مالك في الموطأ والبيهقي (ج 5: ص 219) عن ابن عمر أنه قال: المحصر بمرض لا يحل حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة فإذا اضطر إلى لبس شيء من الثياب التي لا بد له منها أو الدواء صنع ذلك وافتدى، ومن ذلك ما رواه مالك في الموطأ والبيهقي أيضًا (ج 5: ص 219) عن أيوب السختياني عن رجل من أهل البصرة كان قديمًا أنه قال: خرجت إلى مكة حتى إذا كنت ببعض الطريق كسرت فخذي، فأرسلت إلى مكة وبها عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر والناس فلم يرخص لي أحد أن أحل فأقمت على ذلك الماء سبعة أشهر حتى أحللت بعمرة، والرجل البصري المذكور الذي أبهمه مالك، قال ابن عبد البر: هو أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي شيخ أيوب كما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة، ورواه ابن جرير من طريق، وسمى الرجل يزيد بن عبد الله بن الشخير، ومن ذلك ما رواه مالك في الموطأ والبيهقي أيضًا (ج 5: ص 220) عن سليمان بن يسار أن سعيد بن حزابة المخزومي صرع ببعض طريق مكة وهو محرم فسأل - على الماء الذي كان عليه - عن العلماء فوجد عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم فذكرهم الذي عرض لهم فكلهم أمره أن يتداوى بما لا بد منه، ويفتدي،

ص: 430

.............................................................................................

ــ

فإذا صح اعتمر فحل من إحرامه ثم عليه حج قابل ويهدي ما استيسر من الهدي. قال مالك: وعلى هذا الأمر عندنا فيمن أحصر بغير عدو، وقد أمر عمر بن الخطاب أبا أيوب الأنصاري وهبار بن الأسود حين فاتهما الحج وأتيا يوم النحر أن يحلا بعمرة ثم يرجعا حلالا، ثم يحجان عامًا قابلاً ويهديان، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. هذا هو حاصل أدلة القول بأن المراد بالإحصار في الآية هو ما كان من خصوص العدو دون ما كان من مرض ونحوه، القول الثاني في المراد بالإحصار أنه يشمل ما كان من عدو ونحوه وما كان من مرض ونحوه من جميع العوائق المانعة من الوصول إلى الحرم، وممن قال بهذا القول ابن مسعود ومجاهد وعطاء وقتادة وعروة بن الزبير وإبراهيم النخعي وعلقمة والثوري والحسن وأبو ثور وداود وهو مذهب أبي حنيفة، وحجة هذا القول من جهة شموله لإحصار العدو قد تقدمت في حجة الذي قبله، وأما من جهة شموله للإحصار بمرض فهي ما رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن خزيمة والحاكم والبيهقي عن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى، فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا: صدق، وفي رواية لأبي داود وابن ماجة: من عرج أو كسر أو مرض، فذكر معناه، وفي رواية ذكرها أحمد في رواية المروزي ((من حبس بكسر أو مرض)) وبهذا تعلم قوة حجة أهل هذا القول، ورد المخالفون الاحتجاج بحديث عكرمة هذا من وجهين، الأول: ما ذكره البيهقي في السنن الكبرى (ج 5: ص 220) قال: وقد حمله بعض أهل العلم إن صح أنه يحل بعد فواته بما يحل به من يفوته الحج بغير مرض فقد روينا عن ابن عباس ثابتًا عنه قال: لا حصر إلا حصر عدو، والله أعلم - انتهى، الوجه الثاني: هو حمل حله المذكور في الحديث على ما إذا اشترط في إحرامه أنه يحل حيث حبسه الله بالعذر، والتحقيق جواز الاشتراط في الحج بأن يحرم ويشترط أن محله حيث حبسه الله، ولا عبرة بقول منع الاشتراط لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم (كما سيأتي) القول الثالث في المراد بالإحصار: أنه ما كان من المرض ونحوه خاصة دون ما كان من العدو وقد قدمنا أنه المنقول عن أكثر أهل اللغة، وإنما جاز التحلل من إحصار العدو عند من قال بهذا القول، لأنه من إلغاء الفارق وأخذ حكم المسكوت عنه من المنطوق به فإحصار العدو عندهم ملحق بإحصار المرض بنفي الفارق، ولا يخفى سقوط هذا القول لما قدمنا من أن الآية الكريمة نزلت في إحصار العدو عام الحديبية، وأن صورة سبب النزول قطيعة الدخول كما عليه الجمهور وهو الحق قال الشنقيطي: الذي يظهر لنا رجحانه بالدليل من الأقوال المذكورة هو ما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه أن المراد بالإحصار في الآية إحصار العدو وأن من أصابه مرض أو نحوه لا يحل إلا بعمرة، لأن هذا هو الذي نزلت فيه الآية ودل عليه قوله تعالى:{فإذا أمنتم} الآية، ولا سيما على قول من قال من العلماء: إن الرخصة لا تتعدى محلها، وهو

ص: 431

...........................................................................................

ــ

قول جماعة من أهل العلم. وأما حديث عكرمة الذي رواه عن الحجاج بن عمرو وابن عباس وأبي هريرة فلا تنتهض به حجة لتعين حمله على ما إذا اشترط ذلك عند الإحرام لحديث عائشة عند الشيخين، وحديث ابن عباس عند مسلم وأصحاب السنن وغيرهم من أنه صلى الله عليه وسلم قال لضباعه بنت الزبير بن عبد المطلب: حجي واشترطي، ولو كان التحلل جائزًا دون شرط كما يفهم من حديث الحجاج بن عمرو، لما كان للاشتراط فائدة، وحديث عائشة وابن عباس بالاشتراط أصح من حديث عكرمة عن الحجاج بن عمرو والجمع بين الأدلة واجب إذا أمكن، وهو ممكن في الحديثين بحمل حديث الحجاج بن عمرو على ما إذا اشترط ذلك في الإحرام فيتفق مع الحديثين الثابتين في الصحيح، فإن قيل: يمكن الجمع بين الأحاديث بغير هذا، وهو حمل أحاديث الاشتراط على أنه يحل من غير أن تلزمه حجة أخرى، وحمل حديث عكرمة عن الحجاج بن عمرو وغيره على أنه يحل وعليه حجة أخرى، ويدل لهذا الجمع أن أحاديث الاشتراط ليس فيها ذكر حجة أخرى، وحديث الحجاج بن عمرو قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: فقد حل وعليه حجة أخرى. فالجواب أن وجوب البدل بحجة أخرى أو عمرة أخرى لو كان يلزم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يقضوا عمرتهم التي صدهم عنها المشركون، قال البخاري في صحيحه في باب ((من قال: ليس على المحصر بدل)) ما نصه ((وقال مالك وغيره: ينحر هديه ويحلق في أي موضع كان، ولا قضاء عليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية نحروا وحلقوا وحلوا من كل شيء قبل الطواف، وقبل أن يصل الهدي إلى البيت ثم لم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحدًا أن يقضوا شيئًا ولا يعودوا له والحديبية خارج من الحرم)) - انتهى. وقد قال مالك: إنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية، فنحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت وقبل أن يصل إليه الهدي، ثم لم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدًا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئًا ولا يعودوا لشيء - انتهى. ولا يعارض ما ذكرنا بما رواه الواقدي في المغازي من طريق الزهري ومن طريق أبي معشر وغيرهما، قالوا: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يعتمروا فلم يتخلف منهم إلا من قتل بخيبر أو مات، وخرج معه جماعة معتمرين ممن لم يشهدوا الحديبية وكانت عدتهم ألفين، لأن الشافعي قال: والذي أعقله في أخبار أهل المغازي شبيه بما ذكرت، لأنا علمنا من متواطئ أحاديثهم أنه كان معه عام الحديبية رجال معرفون، ثم اعتمر عمرة القضية فتخلف بعضهم بالمدينة من غير ضرورة في نفس ولا مال، فهذا الشافعي جزم بأنهم تخلف منهم رجال معروفون من غير ضرورة في نفس ولا مال، وقد تقرر في الأصول أن المثبت مقدم على النافي. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: ويمكن الجمع بين هذا إن صح وبين الذي قبله بأن الأمر كان على طريق الاستحباب، لأن الشافعي جازم بأن جماعة تخلفوا بغير عذر، وقال الشافعي في عمرة القضاء، إنما سميت عمرة القضاء والقضية للمقاضاة التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، لا على

ص: 432