الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الفصل الأول)
2732 – (1) عن ابن عباس، قال: قد أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه، وجامع نساءه، ونحر هديه،
ــ
أنهم وجب عليهم قضاء تلك العمرة، وقد روى الواقدي أيضًا من حديث ابن عمر قال: لم تكن هذه العمرة قضاء ولكن كان شرطًا على قريش أن يعتمر المسلمون من قابل في الشهر الذي صدهم المشركون فيه. وقال البخاري في صحيحه في الباب المذكور: وقال روح عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: إنما البدل على من نقض حجه بالتلذذ، فأما من حبسه عذر أو غير ذلك فإنه يحل ولا يرجع – انتهى. وقد ورد عن ابن عباس نحو هذا بإسناد آخر أخرجه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وفيه: فإن كانت حجة الإسلام فعليه قضاؤها، وإن كانت غير الفريضة فلا قضاء عليه، فإذا علمت هذا وعلمت أن ابن عباس ممن روى عنه عكرمة الحديث الذي روى عن الحجاج بن عمرو وأن راوي الحديث من أعلم الناس به ولا سيما إن كان ابن عباس الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه التأويل، وهو مصرح بأن معنى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الحجاج بن عمرو ((وعليه حجة أخرى)) محله فيما إذا كانت عليه حجة الإسلام، تعلم أن الجمع الأول الذي ذكرنا هو المتعين، واختاره النووي وغيره من علماء الشافعية، وأن الجمع الأخير لا يصح لتعين حمل الحجة المذكورة على حجة الإسلام، وأما على قول من قال إنه لا إحصار إلا بالعدو خاصة وأن المحصر بمرض لا يحل حتى يبرأ ويطوف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم يحل من كل شيء حتى يحج عامًا قابلاً فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديًا كما ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عمر كما تقدم، فهو من حيث أن المريض عندهم غير محصر، فهو كمن أحرم وفاته وقوف عرفة، يطوف ويسعى ويحج من قابل ويهدي أو يصوم إن لم يجد هديًا – انتهى كلام الشنقيطي، وسيأتي بسط الكلام في مسألة الاشتراط في شرح حديث عائشة آخر أحاديث هذا الفصل وتعيين القول الراجح في مسألة الإحصار بالمرض في شرح حديث الحجاج بن عمرو في الفصل الثاني.
2732 – قوله (قد أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي منع عن عمرته التي أحرم بها في عام الحديبية (فحلق رأسه) أي بنية التحلل (وجامع نسائه) أي بعد تحلله الكامل كما يشير إليه قوله (ونحر هديه) إذ الواو لمطلق الجمع، وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم تحلل هو وأصحابه بالحديبية لما صده المشركون وكان محرمًا بالعمرة فنحر ثم حلق ثم قال لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا. وفي حديث المسور بن مخرمة عند البخاري في الشروط ((فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا. واختلف العلماء هل نحر هديه يوم الحديبية في الحل أو في
حتى اعتمر عامًا قابلاً.
ــ
الحرم؟ وظاهر قوله تعالى: {والهدي معكوفًا أن يبلغ محله} (سورة الفتح: الآية 25) أنهم نحروه في الحل، وفي محل نحر الهدي للمحصر أقوال، الأول للجمهور أنه يذبح هديه حيث يحيث يحل في حل أو حرم الثاني للحنفية أنه لا ينحره إلا في الحرم الثالث لابن عباس وجماعة: أنه إن كان يستطيع البعث إلى الحرم وجب عليه ولا يحل حتى ينحر في محله وإن كان لا يستطيع البعث به إلى الحرم نحره في محل إحصاره، وقيل: إنه نحره في طرف الحديبية وهو من الحرم، والأول أظهر كذا في السبل (حتى اعتمر) غاية للمجموع أي تحلل حتى اعتمر. قال القسطلاني: ولأبي ذر عن المستملى ((ثم اعتمر)) (عامًا قابلاً) أي آتيا يعني السنة السابعة من الهجرة التي اعتمر فيها حسب المقاضاة التي وقعت بينه صلى الله عليه وسلم وبين قريش، وقيل قضاء لعمرة حل عنها، وفيه نظر، وهذا الحديث فيه حذف يدل عليه ما رواه ابن السكن في كتاب الصحابة كما نبه عليه الحافظ وقال: إنه لم ينبه عليه من شراح هذا الكتاب غيره ولا بينه الإسماعيلي ولا أبو نعيم، ولفظه عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة قال: قال عبد الله بن رافع مولى أم سلمة أنها سألت الحجاج بن عمرو الأنصاري عمن حبس وهو محرم فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من عرج أو كسر أو حبس فليجزي مثلها وهو في حل. قال: فحدثت به أبا هريرة فقال: صدق. وحدثته ابن عباس فقال: قد أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق ونحر هديه وجامع نسائه حتى اعتمر عامًا قابلاً، والسبب في حذف البخاري ما ذكر أن الزائد ليس على شرطه لأنه قد اختلف في حديث الحجاج بن عمرو على يحيى بن أبي كثير عن عكرمة كما بينه الحافظ مع كون عبد الله بن رافع ليس من شرط البخاري فاقتصر على ما هو من شرط كتابه، واستدل بالحديث على وجوب القضاء على المحصر، قال المحب الطبري: هكذا يستدل به من قال بوجوب القضاء، ولا دلالة فيه على وجوب القضاء لأنه تضمن حكاية ما وقع، وقد تخلف بعض من كان معه في عمرة الحديبية عن عمرة القضية بالمدينة من غير ضرورة في نفس ولا مال، ولو وجب عليهم القضاء لأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يتخلفوا عنه، وإنما سميت عمرة القصاص وعمرة القضية لأن الله تعالى اقتص لنبيه صلى الله عليه وسلم فدخل عليهم كما منعوه لا على أن ذلك وجب عليه. قال البيهقي: وروى الواقدي بسنده عن ابن عمر قال: لم تكن العمرة قضاء ولكن كان شرطًا على المسلمين أن يعتمروا من قابل في الشهر الذي صدهم المشركون فيه - انتهى. وقال الأمير اليماني: قوله ((حتى اعتمر عامًا قابلاً)) قيل إنه يدل على إيجاب القضاء على من أحصر، والمراد من أحصر عن النفل، وأما من أحصر عن واجبه من حج أو عمرة فلا كلام أنه يجب عليه الإتيان بالواجب إن منع من أدائه، والحق أنه لا دلالة في كلام ابن عباس على إيجاب القضاء، فإن ظاهر ما فيه أنه أخبر أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر عامًا قابلاً، ولا كلام أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر في عام القضاء ولكنها عمرة أخرى ليست قضاء عن عمرة الحديبية، إلى آخر ما ذكر من الدلائل على ذلك، والحديث فيه دليل على أن المعتمر إذا أحصر يحل، وأن
رواه البخاري.
2733 – (2) وعن عبد الله بن عمر، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحال كفار قريش دون البيت، فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هداياه، وحلق، وقصر أصحابه.
ــ
التحلل بالإحصار لا يختص بالحاج وقد أورد البخاري هذا الحديث في باب إذا أحصر المعتمر، قال الحافظ، قيل: غرض المصنف بهذه الترجمة الرد على من قال: التحلل بالإحصار خاص بالحاج، بخلاف المعتمر فلا يتحلل بذلك بل يستمر على إحرامه حتى يطوف بالبيت، لأن السنة كلها وقت للعمرة فلا يخشى فواتها بخلاف الحج، وهو محكي عن مالك، واحتج له إسماعيل القاضي بما أخرجه بإسناد صحيح عن أبي قلابة قال: خرجت معتمرًا فوقعت على راحلتي فانكسرت فأرسلت إلى ابن عباس وابن عمر فقالا: ليس لها وقت كالحج يكون على إحرامه حتى يصل إلى البيت - انتهى. وقال العيني: روي ذلك القول عن مالك، وهو محكي عن محمد بن سيرين وبعض الظاهرية، وقضية الحديبية حجة تقضي عليهم - انتهى. قلت: هكذا ذكر خلاف مالك للجمهور في مسألة الإحصار في العمرة عامة نقلة المذاهب كابن قدامة وغيره، لكن الظاهر أن هذه الحكاية ليست بصحيحة، فإن عامة فروع المالكية كالشرح الكبير والدسوقي والمدونة وغيرها مصرحة بصحة الحصر عن العمرة وجواز التحلل عنها عند الحصر فلا خلاف في هذه المسألة بين الأئمة الأربعة (رواه البخاري) من طريق يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرجه أيضًا الإسماعيلي وأبو نعيم وابن السكن.
2733 -
قوله (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي معتمرين كما في رواية، وكان خروجهم يوم الاثنين مستهل ذي القعدة سنة ست من الهجرة (فحال كفار قريش دون البيت) أي منعونا من دخول مكة والوصول إلى البيت (فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هداياه) أي بالحديبية، وفي رواية ((بدنه)) بضم الموحدة وسكون الدال جمع بدنة (وحلق) أي رأسه كما في رواية، يعني ثم حلق فتحلل كما بينته الروايات الصحيحة الصريحة (وقصر أصحابه) أي بعضهم وحلق آخرون، وذلك أنهم توقفوا في الإحلال لما دخل عليهم من الحزن لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت فأشارت أم سلمة إلى أن يحل هو صلى الله عليه وسلم قبلهم ففعل فتبعوه فحلق بعضهم وقصر بعض وكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر ممن اقتصر على التقصير، واعلم أنهم اختلفوا في المحصر هل يجب عليه الحلق أو التقصير إذا نحر هديه أم لا؟ فذهب الشافعية إلى الوجوب بناء على المشهور عندهم أنه نسك، وقال به أبو يوسف في إحدى الروايتين، وهو رواية عن أحمد، والمشهور عنه أنه لا يجب، وبه قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن، وإليه ذهب المالكية كما في الدردير والدسوقي، قال ابن قدامة (ج 3: ص 316) : هل يلزمه الحلق أو التقصير مع ذبح الهدي أو الصيام؟ ظاهر كلام الخرقي أنه لا يلزمه، لأنه
رواه البخاري.
2734 – (3) وعن المسور بن مخرمة،
ــ
لم يذكره، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، لأن الله تعالى ذكر الهدي وحده ولم يشترط سواه، والثانية عليه الحلق أو التقصير، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق يوم الحديبية وفعله في النسك دال على الوجوب، ولعل هذا ينبني على أن الحلاق نسك أو إطلاق من محظور، ولا يتحلل إلا بالنية مع ما ذكرنا، فيحصل الحل بشيئين النحر أو الصوم والنية إن قلنا: الحلاق ليس بالنسك، وإن قلنا: هو نسك حصل بثلاثة أشياء: الحلاق مع ما ذكرنا - انتهى، وقال النووي في مناسكه: اعلم أن التحلل يحصل بثلاثة أشياء ذبح ونية التحلل بذبحها والحلق إذا قلنا بالأصح أنه نسك - انتهى. وفي غنية الناسك وبذبحه يحل بلا حلق وتقصير إلا أنه لو حلق أو قصر فحسن كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية ليعرف استحكام عزيمته على الانصراف ويأمن المشركون منهم فلا يشتغلون بمكيدة أخرى هذا عندهما، وعليه المتون وهو ظاهر الرواية عن أبي يوسف - انتهى، وقال في البحر العميق بعد ما حكى خلاف أبي يوسف: وقال الجصاص: إنما لا يجب الحلق عندهما إذا أحصر في الحل لأن الحلق يختص بالحرم وأما إذا أحصر في الحرم يجب الحلق عندهما وعليه حمل حلقه صلى الله عليه وسلم بالحديبية، وأجيب أيضًا بأنه محمول على الاستحباب لأنهم كانوا يمتنعون عن التحلل طمعًا في دخول مكة ويرون التحلل بالحلق فقطع بالأمر به أطماعهم تسليمًا لأمر الله تعالى. قلت: ومال الطحاوي إلى وجوب الحلق كما ذكره القاري في المرقاة وفي شرح اللباب وقال القاري أيضًا: وإذا لم يجب عليه الحلق وأراد أن يتحلل فإنه يفعل أدنى ما يخطره الإحرام كذا في البحر الزاخر، والأظهر وجوب الحلق لقوله تعالى:{ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} ولفعله عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام - انتهى (رواه البخاري) في الحج وفي غزوة الحديبية وعمرة القضاء من كتاب المغازي مختصرًا ومطولاً، واللفظ المذكور له في غزوة الحديبية وهو طرف من حديث طويل، وأخرجه أيضًا أحمد مرارًا والبيهقي ولم يخرجه مسلم ولا أصحاب السنن.
2734 -
قوله (وعن المسور) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الواو فراء (بن مخرمة) بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء، ابن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة القرشي الزهري أبو عبد الرحمن، له ولأبيه صحبة، مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان سنين وسمع منه وحفظ عنه، ولد بمكة بعد الهجرة بسنتين وقدم به أبوه المدينة في ذي الحجة بعد الفتح سنة ثمان وهو أصغر من ابن الزبير بأربعة أشهر، وكان فقيهًا من أهل الفضل والدين، لم يزل مع خاله عبد الرحمن بن عوف مقبلاً ومدبرًا في أمر الشورى، وبقى بالمدينة إلى أن قتل عثمان، ثم انتقل إلى مكة ولم يزل بها إلى أن حاصرها عسكر يزيد فقتله حجر من حجارة المنجنيق وهو يصلي في الحجر وذلك مستهل ربيع الأول سنة
قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك. رواه البخاري.
2735 – (4) وعن ابن عمر، أنه قال: أليس حسبكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ــ
أربع وستين وصلى عليه ابن الزبير بالحجون، توفي وهو ابن اثنتين وستين سنة وقيل إن وفاته كانت يوم جاء نعي يزيد إلى ابن الزبير وحصين بن نمير محاصر لابن الزبير (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك) أي بالنحر قبل الحلق، وفيه دلالة على تقديم النحر قبل الحلق، وقد تقدم أن المشروع تقديم الحلق قبل الذبح فقيل حديث المسور هذا إنما هو إخبار عن فعله صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية حيث أحصر فتحلل صلى الله عليه وسلم بالذبح، وقد بوب عليه البخاري ((باب النحر قبل الحلق في الحصر)) وأشار البخاري إلى أن هذا الترتيب يختص بالمحصر على جهة الوجوب فإنه أخرجه بمعناه، هذا وقد أخرجه بطوله في كتاب الشروط، وفيه أنه قال لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا، قال الشوكاني: فيه دليل على أن المحصر يقدم النحر على الحلق ولا يعارض هذا ما وقع في حديث ابن عباس المتقدم أنه حلق رأسه وجامع نسائه ونحر هديه، لأن العطف بالواو إنما هو لمطلق الجمع ولا يدل على الترتيب، فإن قدم الحلق على النحر فروى ابن أبي شيبة عن علقمة أن عليه دمًا، وعن ابن عباس مثله، والظاهر عدم وجوب الدم لعدم الدليل - انتهى. قال الحافظ: وهذا الحديث طرف من حديث طويل أخرجه البخاري في الشروط ولفظه في أواخر الحديث ((فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا - الحديث. وفيه قول أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم: اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، فخرج فنحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، وعرف بهذا أن البخاري أورد القدر المذكور هنا بالمعنى وأشار بقوله في الترجمة ((في الحصر)) إلى أن هذا الترتيب يختص بحال من أحصر. قال ابن التيمي: ذهب مالك إلى أنه لا هدي على المحصر، والحجة عليه هذا الحديث لأنه نقل فيه حكم وسبب فالسبب الحصر والحكم النحر، فاقتضى الظاهر تعلق الحكم بذلك السبب، والله أعلم، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في شرح حديث ابن عمر الذي يليه (رواه البخاري) في الحج مختصرًا باللفظ المذكور، وفي الشروط مطولاً كما تقدم، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 4: ص 327) والبيهقي (ج 5: ص 220) مطولاً.
2735 -
قوله (وعن ابن عمر أنه قال: أليس حسبكم سنة رسول الله) كذا عند البخاري ولأحمد والترمذي والنسائي: أنه كان ينكر الاشتراط في الحج ويقول: أليس حسبكم سنة نبيكم؟ قال العيني: قوله ((أليس حسبكم سنة رسول الله)) يريد به عدم الاشتراط كما هو مبين عند النسائي أنه كان ينكر الاشتراط في الحج ويقول: ((أما حسبكم سنة نبيكم؟ إنه لم يشترط)) وهكذا رواه الدارقطني، ومعنى قوله ((أليس حسبكم سنة رسول الله)) أي أليس يكفيكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لأن معنى الحسب الكفاية، ومنه حسبنا الله أي كافينا، وحسبكم مرفوع لأنه اسم
إن حبس أحدكم عن الحج، طاف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حل من كل شيء حتى يحج عامًا قابلاً، فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديًا.
ــ
ليس، و ((سنة رسول الله)) منصوب على أنه خبر ليس، والجملة الشرطية وهي قوله ((إن حبس، إلخ)) تفسير للسنة فمحلها النصب أو الرفع خبر مبتدأ محذوف أي هي. وقال عياض: ضبطنا سنة بالنصب على الاختصاص أو على إضمار فعل أي تمسكوا ونحوه، وقال السهيلي: من نصب سنة فهو بإضمار الأمر كأنه قال: الزموا سنة نبيكم، ويمكن أن يقال أن يكون خبر ليس ((طاف بالبيت)) على قول عياض والسهيلي. قال العيني: خبر ليس على وجه نصب سنة على قول عياض والسهيلي قوله ((طاف بالبيت)) وهو أيضًا سد مسد جواب الشرط. قال الطبري: قوله ((حسبكم سنة نبيكم)) فيه إشعار بالتسوية بين حصر العدو والمرض، فإن معنى قوله حسبكم سنة نبيكم أي في جواز التحلل بهذا العذر دون اشتراط وأشار ابن عمر بإنكار الاشتراط إلى ما كان يفتي به ابن عباس من جواز الاشتراط، قال البيهقي: لو بلغ ابن عمر حديث ضباعه في الاشتراط لقال به، وسيأتي الكلام في مسألة الاشتراط مفصلاً إن شاء الله (إن حبس) بصيغة المجهول أي منع (أحدكم عن الحج) أي عن ركنه الأعظم وهو الوقوف بعرفة (طاف بالبيت) أي إذا أمكنه ذلك، فقد وقع في رواية عبد الرزاق ((إن حبس أحدًا منكم حابس عن البيت فإذا وصل إليه طاف به)) الحديث (وبالصفا والمروة) أي طاف بهما، أي سعى بينهما (ثم حل) أي بالحلق والذبح (من كل شيء) حرم عليه بالإحرام (حتى يحج عامًا قابلاً) عامًا ظرف وقابلاً صفة (فيهدي) أي يذبح شاة، إذ التحلل لا يحصل إلا بنية التحلل والذبح والحلق، قاله الكرماني (أو يصوم إن لم يجد هديًا) حيث شاء، واستدل بقوله ((حتى يحج عامًا قابلاً)) على وجوب الحج من القابل على من أحصر، وقد اختلف العلماء في أنه هل يجب على المحصر القضاء أم لا فأوجب الحنفية القضاء ولم يوجب الشافعية والمالكية، وعن أحمد روايتان، قالوا: فإن كان حج فرض بقى وجوبه على حاله؛ قال ابن قدامة في الشرح الكبير: في وجوب القضاء على المحصور روايتان، إحداهما لا قضاء عليه إلا أن يكون واجبًا، فيفعله بالوجوب السابق، هذا هو الصحيح من المذهب وبه قال مالك والشافعي، والثانية عليه القضاء روي ذلك عن عكرمة ومجاهد والشعبي، وبه قال أبو حنيفة، لأنه صلى الله عليه وسلم لما تحلل زمن الحديبية قضى من قابل وسميت عمرة القضية، ولأنه حل من إحرامه قبل إتمامه فلزمه القضاء كما لو فاته، ووجه الرواية الأولى أنه تطوع جاز التحلل منه، وأما الخبر فإن الذين صدوا كانوا ألفًا وأربعمائة، والذين اعتمروا مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسيرًا، ولم ينقل إلينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحدًا بالقضاء وأما تسميتها عمرة القضية فإنما يعني بها القضية التي اصطلحوا عليها، ولو أرادوا غير ذلك لقالوا: عمرة القضاء - انتهى. ويشير بذلك إلى أن تسميتها بعمرة القضاء إنما كان من بعض الصحابة ومن أصحاب المغازي والسير لا من عامة الصحابة، وأما ما ذكره
.............................................................................................
ــ
بعض أصحاب المغازي أنه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه حين رأوا هلال ذي القعدة أن يعتمروا قضاء لعمرتهم التي صد عنها المشركون بالحديبية وأن لا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية فلم يتخلف أحد منهم إلا من استشهد منهم بخيبر ومن مات وادعى تواتر الأخبار بذلك، فهو مجرد دعوى فلا يلتفت إليها. قلت: واستدل لوجوب القضاء أيضًا لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} فإنه يقتضي وجوب الإتمام من غير فرق بين حج الفرض والنفل ولا يخفى ما فيه، وبحديث حجاج بن عمرو الأنصاري الآتي بدون التفريق بينهما، وبحديث عائشة إذ أمرها صلى الله عليه وسلم برفض العمرة ثم اعمرها من التنعيم وقال: هذه مكان عمرتك. وقد تقدم الجواب عن حديث الحجاج بن عمرو في كلام الشنقيطي المذكور في أول الباب، وسيأتي أيضًا عند شرحه، وأما حديث عائشة فقد سبق الكلام فيه مفصلاً في باب قصة حجة الوداع فراجعه، واستدل أيضًا بقوله ((فيهدي)) على وجوب الهدي على المحصر في الحج. قال الشوكاني: ولكن الإحصار الذي وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إنما وقع في العمرة فقاس العلماء الحج على ذلك، وهو من الإلحاق بنفي الفارق، وإلى وجوب الهدي ذهب الجمهور، وهو ظاهر الأحاديث الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك في الحديبية، ويدل عليه قوله تعالى:{فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} وذكر الشافعي أنه لا خلاف في ذلك في تفسير الآية، وخالف في ذلك مالك فقال: أنه لا يجب الهدي على المحصر، وعول على قياس الإحصار على الخروج من الصوم للعذر والتمسك بمثل هذا القياس في مقابل ما يخالفه من القرآن والسنة من الغرائب التي يتعجب من وقوع مثلها من أكابر العلماء - انتهى كلام الشوكاني. وقال ابن قدامة (ج 3: ص 356) وعلى من تحلل بالإحصار (في الحج أو العمرة) الهدي في قول أكثر أهل العلم، وحكي عن مالك: ليس عليه هدي لأنه تحلل أبيح له من غير تفريط أشبه من أتم حجه، وليس بصحيح لأن الله تعالى قال:{فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} قال الشافعي: لا خلاف بين أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في حصر الحديبية ولأنه أبيح له التحلل قبل إتمام نسكه فكان عليه الهدي كالذي فاته الحج، وبهذا فارق من أتم حجه. قال: وإذا قدر المحصر على الهدي فليس له الحل قبل ذبحه، فإن كان معه هدي قد ساقه أجزأه، وإن لم يكن معه لزمه شراءه إن أمكنه - انتهى. وقال النووي في مناسكه: يلزم المتحلل بالإحصار ذبح شاة يفرقها حيث أحصر - انتهى. وفي شرح المنهاج: من أراد التحلل بالإحصار ذبح وجوبًا شاة أو سبع بدنة أو بقرة حيث أحصر ولو في الحل - انتهى. وقال في الهداية: إذا أحصر المحرم فمنعه من المضى جاز له التحلل، ويقال له: ابعث شاة تذبح في الحرم وواعد من تبعثه بيوم بعينه يذبح فيه ثم تحلل. وفي شرح اللباب: إذا أحصر المحرم بحجة أو عمرة وأراد التحلل أي الخروج من إحرامه يجب عليه أن يبعث الهدي - إلى آخر ما بسطه. وقال الباجي: أما تحلله للحصر فلا يوجب هديًا عند مالك. وبه قال ابن القاسم. وقال أشهب عليه الهدي، وبه
رواه البخاري.
2736 – (5) وعن عائشة، قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير،
ــ
قال أبو حنيفة والشافعي. ودليلنا أنه تحلل مأذون عار عن التفريط وإدخال النقص فلم يجب عليه الهدي، ودليل ثان يختص بالشافعي أن هذه عبادة لها تحرم وتحلل، فإذا سقط قضاؤها بالفوات يجب أن يسقط جبرانها. واحتج أشهب ومن تابعه بقوله تعالى:{فإن أحصرتم} الآية، وقال: هذا ممن احصر بعدو وقد خالف سائر أصحابنا أشهب في هذا وقالوا: الإحصار إنما هو إحصار المرض، وأما العدو فإنما يقال فيه حصر حصرًا فهو محصور - على آخر ما بسط الكلام في ذلك. وقال الدسوقي في شرح قول الدردير ((إن منعه عدو أو فتنة بحج أو عمرة فله التحلل ولا دم عليه)) : أي خلافًا لأشهب حيث قال بوجوبه واستدل بالآية، وأجيب بأن الهدي في الآية لم يكن لأجل الحصر، وإنما ساقه بعضهم تطوعًا فأمروا بذبحه فلا دليل فيها للوجوب - انتهى. وقد ظهر بهذا كله أنه يلزم الهدي في الإحصار عند الحنابلة والشافعية والحنفية خلافًا لمالك وأصحابه غير أشهب، لكن لا يخفى أن وجوب الهدي عند الحنابلة مقيد بعدم اشتراط التحلل عند الإحرام، فأما إذا اشترط التحلل فلا يلزمه الهدي سواء كان الإحصار بالعدو أو المرض كما يدل عليه كلام ابن قدامة في المغنى (ج 3: ص 282، 364) ويجب الهدي عند الشافعية في الإحصار بالعدو مطلقًا، أي سواء اشترط أو لم يشترط، وأما في الإحصار بالمرض فلا يجب إلا إذا اشترط التحلل بالهدي، وأما إذا لم يشترط ذلك بأن سكت في اشتراطه عن الهدي أو نفاه فلا يلزم كما في شرح الإقناع، والقول الراجح عندنا هو ما ذهب إليه الحنابلة، والله أعلم (رواه البخاري) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 33) والترمذي والنسائي وعبد الرزاق والدراقطني والبيهقي بعضهم مختصرًا وبعضهم مطولاً.
2736 -
قوله (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة) بضم الضاد المعجمة بعدها باء موحدة مخففة وبعد الألف عين مهملة (بنت الزبير) ابن عبد المطلب الهاشمية بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم، تزوجها المقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة، يعرف بالمقداد بن الأسود لتبنيه له، فولدت له عبد الله وكريمة، فقتل عبد الله يوم الجمل مع عائشة، روت ضباعة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن زوجها المقداد، وعنها ابنتها كريمة بنت المقداد وابن عباس وعائشة وابن المسيب وعروة ابن الزبير وغيرهم، قال ابن عبد البر: لضباعة عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث منها الاشتراط في الحج، قال الزبير بن بكار: لم يكن للزبير بن عبد المطلب عقب إلا من ضباعة وأختها أم الحكم، ودخوله صلى الله عليه وسلم على ضباعة عيادة أو زيارة وصلة فإنها قريبته كما تقدم، وفيه بيان تواضعه وصلته وتفقده صلى الله عليه وسلم، وهو محمول على أن الخلوة هناك كانت منتفية، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يخلو بالأجنبيات، وإن كان لو فعل ذلك لم يلزمه منه مفسدة لعصمته، لكنهم لم يعدوا
فقال لها: " لعلك أردت الحج؟ " قالت: والله ما أجدني إلا وجعة. فقال لها: " حجي واشترطي وقولي: اللهم محلي حيث حبستني ".
ــ
ذلك من خصائصه، فهو في ذلك كغيره في التحريم (فقال لها) أي وهي في المدينة (لعلك أردت الحج) أي معنا، وهذا لفظ البخاري، وفي رواية لمسلم ((أردت الحج)) أي بدون لفظ ((لعلك)) وفي أخرى له أيضًا ((قالت: إني أريد الحج)) وقد يقتضي ظاهر هذه الرواية أنها قالت له ذلك ابتداء، ولا منافاة، فقد تكون إنما قالت: إني أريد الحج، في جواب استفهامه لها، وليس اللفظ صريحًا في أنها قالت ذلك ابتداء، وكذا قوله في رواية ابن ماجة من حديث ضباعة أنه عليه الصلاة والسلام قال لها: أما تريدين الحج العام؟ ومن رواية أسماء أو سعدى عند ابن ماجة أيضًا ((ما يمنعك من الحج؟)) كل ذلك يقتضي أن كلامها كان جوابًا لسؤاله لكن في حديث ابن عباس عند مسلم وأصحاب السنن الأربعة أن ضباعة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت، وهذا قد ينافي قوله في حديث عائشة: دخل على ضباعة. وقد يجمع بينهما بأنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن إذ ذاك في منزله، ثم جاء فدخل عليها وهي في منزله، وفي حديث ابن عباس عند أبي داود والترمذي أنها قالت له: إني أريد الحج فأشترط؟ فقال لها: نعم. وهذا يقتضي أن أمره بالاشتراط ما كان إلا بعد استئذانها (قالت: والله ما أجدني) أي ما أجد نفسي، واتحاد الفاعل والمفعول مع كونهما ضميرين لشيء واحد من خصائص أفعال القلوب. وفي الحديث جواز اليمين في درج الكلام بغير قصد (إلا وجعة) بفتح الواو وكسر الجيم، وهو من الصفات المشبهة، أي إني ذات وجع أي مرض، وفي رواية لمسلم ((وأنا شاكية)) بالشين المعجمة أي مريضة، والشكوى والشكو والشكاية المرض، وفي حديث ابن عباس عند مسلم ((إني امرأة ثقيلة)) أي أثقلها المرض (فقال لها: حجي) أي أحرمي بالحج (واشترطي وقولي) عطف تفسيري (اللهم محلي) بفتح الميم وكسر الحاء أي محل خروجي من الحج وموضع تحللي من الإحرام أو وقت تحللي من الإحرام، والمحل يقع على المكان والزمان (حيث حبستني) أي منعتني من السير بسبب ثقل المرض. قال العيني: أي إنك حيث عجزت عن الإتيان بالمناسك وانحبست عنها بسبب قوة المرض تحللت، وقولي: اللهم مكان تحللي عن الإحرام مكان حبستني فيه عن النسك لعلة المرض. وقال القاري: قال بعض علمائنا قوله ((قولي: اللهم محلي)) إلخ، تفسير الاشتراط يعني اشترطي أن أخرج من الإحرام حيث مرضت وعجزت عن إتمام الحج، فمن لم ير الإحصار بالمرض يستدل بهذا الحديث بأن يقول لو كان المرض ينتج التحلل لم يأمرها بالاشتراط لعدم الإفادة، وإليه ذهب الشافعي ومن وافقه، ومن يرى الإحصار بالمرض، وهو مذهب أبي حنيفة يستدل بحديث الحجاج بن عمرو الأنصاري الآتي - انتهى. قلت: حديث عائشة يدل على جواز الاشتراط في الحج خوفًا من حدوث طارئ يطرأ عليه أثناء الحج من مرض أو نحوه، وأن من اشترط الاشتراط المذكور في إحرامه
..............................................................................................
ــ
ثم عرض له ما يحبسه من المرض ونحوه عن الحج جاز له أن يتحلل، وأن من لم يشترط في إحرامه فليس له التحلل قال الولي العراقي: في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمر ضباعة أن تشترط في إحرامها التحلل عند المرض، وقد اختلف العلماء في هذا الأمر هل هو على سبيل الإباحة أو الاستحباب أو الإيجاب، وهذه الأقوال متفقة على الاشتراط في الجملة، ومنهم من أنكره لعدم صحة الحديث عنده أو لتأويله كما سيأتي، وحاصل هذا الخلاف أقوال أحدها جوازه، وهو المشهور من مذهب الشافعي فإنه نص عليه في القديم، وعلق القول به في الجديد على صحته، وقد صح كما سيأتي، ولذلك قطع الشيخ أبو حامد بصحته، وأجرى غيره فيه قولين في الجديد، أظهرهما الصحة، وروى ابن أبي شيبة فعله عن علي وعلقمة والأسود وشريح وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، والأمر به عن عائشة وعبد الله بن مسعود، وعن عثمان أنه رأى رجلاً واقفًا بعرفة فقال له: أشارطت؟ فقال: نعم. وعن الحسن وعطاء في المحرم قالا: له شرطه. وروى البيهقي الأمر به عن أم سلمة وقال ابن المنذر: ممن روينا عنه أنه رأى الاشتراط عند الإحرام عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر، وهو مذهب عبيدة السلماني والأسود بن يزيد وشريح وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وعكرمة وعطاء بن يسار وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وبه قال الشافعي إذ هو بالعراق، ثم وقف عنه بمصر، وبالأول أقول (وهو المصحح عند الشافعية) وحكاه ابن حزم عن جمهور الصحابة، وحكاه والدي يعني الزين العراقي في شرح الترمذي عن جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم، والثاني استحبابه وهو مذهب أحمد فإن ابن قدامة جزم به في المغني (ج 3: ص 282) وهو المفهوم من قول الخرقي والمجد بن تيمية في مختصريهما عند ذكر الإحرام ((ويشترط)) أي المحرم إن لم يفهم منه الوجوب، الثالث إيجابه، ذهب إليه ابن حزم الظاهري تمسكًا بالأمر، الرابع إنكاره، وهذا مذهب الحنفية والمالكية (ومعنى إنكار الاشتراط وعدم صحته وبطلانه أنه لا ينفعه الاشتراط ولا يفيده وإنه لا تأثير له في جواز التحلل ولا حاجة إليه ولا حكم له: فإن الإحصار عند الحنيفة يتحقق بالمرض أيضًا ولو لم يشترط فيصير المريض عندهم محصرًا له حكم المحصر) وروى ابن أبي شيبة عن هشام بن عروة قال: كان أبي لا يرى الاشتراط في الحج شيئًا، وعن إبراهيم النخعي: كانوا لا يشترطون ولا يرون الشرط شيئًا، وعن طاوس والحكم وحماد: الاشتراط في الحج ليس بشيء، وعن سعيد بن جبير: المستثنى وغير المستثنى سواء، وعن إبراهيم التيمي: كان علقمة لا يرى الاشتراط شيئًا، وروى الترمذي وصححه والنسائي عن ابن عمر أنه كان ينكر الاشتراط في الحج ويقول: أليس حسبكم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم؟ زاد النسائي في روايته ((أنه لم يشترط)) أي النبي صلى الله عليه وسلم وهو في صحيح البخاري بدون أوله. وحكى ابن المنذر إنكاره عن الزهري أيضًا، وحكاه ابن عبد البر عن سفيان الثوري، وعن أبي حنيفة أن الاشتراط يفيد سقوط الدم، فأما التحلل فهو ثابت عنده بكل إحصار،
............................................................................................
ــ
ثم قال الولي العراقي: فمن قال بالجواز تمسك بهذا الحديث ورأى أن الأمر به ترخيص وتوسعة وتخفيف ورفق وأنه يتعلق بمصلحة دنيوية، وهي ما يحصل لها من المشقة بمصابرة الإحرام مع المرض، ومن قال بالاستحباب رأى المصلحة فيه دينية، وهو الاحتياط للعبادة، فإنها بتقدير عدمه قد يعرض لها من مرض يشعث العبادة ويوقع فيها الخلل، وهذا بعيد، ومن قال بالوجوب حمل الأمر على حقيقته، وهو أبعد من الذي قبله، ولو كان واجبًا لما أخل النبي صلى الله عليه وسلم بفعله ولا الصحابة، ولو فعلوا ذلك في حجة النبي صلى الله عليه وسلم لنقل، وقد صرح ابن عمر بأنه لم يشترط كما تقدم ذكره، ولما لم يأمر به إلا هذا المرأة الواحدة بعد شكايتها له علمنا أن ذلك ترخيص حرك ذكره هذا السبب وهو شكواها، ومن قال بالإنكار منهم من ضعف الحديث كما سيأتي ذكره ورده، ومنهم من أوله وفي تأويله أوجه: أحدها أنه خاص بضباعة، حكاه الخطابي عن بعضهم. قال: وقال يشبه أن يكون بها مرض أو حال كان غالب ظنها أنها تعوقها عن إتمام الحج فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم في الاشتراط كما أذن لأصحابه في رفض الحج، وليس ذلك لغيرهم، وقال النووي في شرح مسلم بعد ذكره هذا المذهب: وحملوا الحديث على أنها قضية عين وأنه مخصوص بضباعة، وحكاه في شرح المهذب عن الرؤياني من أصحابنا الشافعية، ثم قال: وهذا تأويل باطل ومخالف لنص الشافعي، فإنه إنما قال: لو صح الحديث لم أعده ولم يتأوله ولم يخصه. الثاني أن معناه: حيث حبستني بالموت أي إذا أدركتني الوفاة انقطع إحرامي، حكاه النووي في شرح المهذب عن إمام الحرمين، ثم قال: وهذا تأويل ظاهر الفساد، وعجبت من جلالة الإمام كيف قاله، الثالث أن المراد التحلل بعمرة لا مطلقًا حكاه المحب الطبري عن بعضهم، ويرده حديث ضباعة عند ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي في سننه من رواية يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عنها قالت، قلت: يا رسول الله إني أريد الحج فكيف أهل بالحج، قال، قولي: اللهم إني أهل بالحج إن أذنت له به وأعنتني عليه ويسرته لي، وإن حبستني فعمرة، وإن حبستني عنهما جميعًا فمحلي حيث حبستني، فإن فيه التصريح بالتحلل المطلق عن الحج والعمرة معًا. وحكى ابن حزم عن بعضهم: أن هذا الحديث مخالف لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} ولقوله تعالى {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} وعن بعضهم أن هذا الخبر رواه عروة وعطاء وسعيد بن جبير وطاوس، وروى عنهم خلافه يعني فهذا مما يوهن الاشتراط، ثم قال ابن حزم: سمعناكم تعتلون بهذا في الصاحب فعديتموه إلى التابع وإن درجتموه بلغ إلينا وإلى من بعدنا فصار كل من بلغه حديث فتركه حجة في رده، ولئن خالف هؤلاء ما رووا فقد رواه غيرهم ولم يخالفه، وأطنب ابن حزم في رد هذه المقالات، وهي حقيقة بذلك، والظن بمن يعتمد عليه ممن خالف هذا الحديث أنه لم يبلغه. قال البيهقي: عندي أن ابن عمر لو بلغه حديث ضباعة في الاشتراط لم ينكره كما لم ينكره أبوه - انتهى. واستدل بالحديث على أن المشترط لذلك يحل بمجرد المرض والعجز ولا يحتاج
..............................................................................................
ــ
إلا إحلال، وقد قال الشافعية إن اشتراط التحلل بذلك فلا يحل إلا بالتحلل، وإن قال: إذا مرضت فأنا حلال فهل يحتاج في هذه الصورة إلى تحلل أو يصير حلالاً بنفس المرض، فيه للشافعية وجهان، الذي نص عليه الشافعي أنه يصير حلالاً بنفس المرض، ودلالة الحديث محتملة، فإن قوله ((فإن محلي)) يحتمل أن يكون موضع حلي، ويحتمل أن يكون معناه، موضع إحلالي، قال الولي العراقي: والحديث ورد في الحج، والعمرة في معناه، فلو أحرم بعمر فشرط التحلل منها عند المرض كان كذلك. ولا خلاف في هذا بين المجوزين للاشتراط فيما أعلم، ولعل العمرة داخلة في قوله في رواية النسائي من حديث ابن عباس ((فإن لك على ربك ما استثنيت)) قال: والمراد بالتحلل أن يصير نفسه حلالاً فلو شرط أن يقلب حجه عمرة عند المرض فذكر أصحابنا أنه أولى بالصحة من شرط التحلل ونص عليه الشافعي، وإذا جاز إبطال العبادة للعجز فنقلها إلى عبادة أخرى أولى بالجواز – انتهى. واعلم أن سبب الحديث إنما هو في التحلل بالمرض لكن قوله ((حبستني)) يصدق بالحبس بالمرض وبغيره من الأعذار كذهاب النفقة وفراغها وضلال الطريق والخطأ في العدد وقد صرح الشافعية والحنابلة بأن هذه الأعذار كالمرض في جواز شرط التحلل بها، وظاهر الحديث أنه لا يجب عليه عند التحلل بالشرط دم، إذ لو وجب لذكره، فإنه وقت الاحتياج إليه، وبهذا صرح الحنابلة والظاهرية، وهو الأصح عند الشافعية، ومحل الخلاف عندهم في حالة الإطلاق، فلو شرط التحلل بالهدي لزمه قطعًا، وإن شرطه بلا هدي لم يلزمه قطعًا، قال ابن قدامة (ج 3: ص 282) : يستحب لمن أحرم بنسك أن يشترط عند إحرامه فيقول: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، ويفيد هذا الشرط شيئين أحدهما أنه إذا عاقه من عدو أو مرض أو ذهاب نفقة ونحوه أن له التحلل، والثاني أنه متى حل بذلك فلا دم عليه ولا صوم – انتهى. وفي شرح الإقناع: لا يسقط عنه الدم إذا شرط عند الإحرام أنه يتحلل إذا أحصر، بخلاف ما إذا شرط في المرض أنه يتحلل بلا هدي فإنه لا يلزمه، لأن حصر العدو لا يفتقر إلى شرط، أي التحلل بالإحصار جائز بلا شرط، فالشرط فيه لاغ ولو أطلق في التحلل من المرض بأن لم يشترط هديًا لم يلزمه شيء بخلاف ما إذا شرط التحلل بالهدي فإنه يلزمه قال البجيرمي: حاصله أن المرض ونحوه لا يبيح التحلل بدون شرط، أما إذا شرطه جاز التحلل به وأما الدم فإن شرط التحلل به فلا بد منه أيضًا، فإن سكت عنه أو نفاه فلا يجب – انتهى. قال الولي العراقي: واستدل بالحديث الجمهور على أنه لا يجوز التحلل بالإحصار بالمرض من غير شرط، إذ لو جاز التحلل به لم يكن لاشتراطه معنى قال: وظاهر الحديث أنه لا قضاء عند التحلل بالمرض بالشرط وبه صرح أصحابنا وغيرهم، ويعود فيه قول من قال بوجوب القضاء عند الإطلاق على ما تقدم بيانه، والمفهوم من لفظ الشرط أنه لا بد من مقارنته للإحرام فإنه متى سبقه أو تأخر عنه لم يكن شرطًا، وقد صرح بذلك في قوله في حديث ابن عباس: اشترطي عند إحرامك، وهو بهذا اللفظ في مصنف ابن أبي شيبة، وقد صرح بها المارودي وغيره
متفق عليه.
ــ
كما نقله النووي في شرح المهذب، وكذا قال ابن قدامة في المغني: يستحب أن يشترط عند إحرامه – انتهى. وهو واضح، قال: وظاهر الحديث أنه لا بد من التلفظ بهذا الاشتراط كغيره من الشروط وهو ظاهر كلام أصحابنا الشافعة، وذكر فيه ابن قدامة احتمالين: أحدهما هذا، قال: ويدل عليه ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس ((قولي: محلي من الأرض حيث تحبسني)) قلت: وكذا في حديث عائشة في الصحيحين ((وقولي: اللهم محلي حيث حبستني)) والثاني أنه تكفي فيه النية. ووجهه بأنه تابع لعقد الإحرام، والإحرام ينعقد بالنية فكذلك تابعه، قال: وقد يفهم منه أنه يتعين في الاشتراط اللفظ المذكور في الحديث، وليس كذلك، بل كل ما يؤدي معناه يقوم مقامه في ذلك. قال ابن قدامة: وغير هذا اللفظ مما يؤدي معناه يقوم مقامه، لأن المقصود المعنى والعبارة إنما تعتبر لتأدية المعنى. قال: وفي قوله ((محلي حيث حبستني)) أن المحصر يحل حيث يحبس، وهناك ينحر هديه ولو كان في الحل، وبه قال الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا ينحره إلا في الحرم، فائدة: قد يتشوف لحال ضباعة هل حبسها المرض أم لا؟ وقد جاء في رواية لمسلم في حديث ابن عباس ((فأدركت)) ومعناه أنها أدركت الحج ولم تتحلل حتى فرغت منه (متفق عليه) أخرجه مسلم في الحج والبخاري في كتاب النكاح في باب الأكفاء في الدين لقوله في رواية الصحيحين في آخر الحديث: ((وكانت تحت المقداد بن الأسود)) يشير إلى تزوجها بالمقداد، وليس كفؤًا لها من حيث النسب فإنه كندي وليس كندة أكفاء لقريش فضلاً عن بني هاشم، وإنما هو كفؤٌ لها في الدين فقط. قال الحافظ: قوله ((وكانت تحت المقداد بن الأسود)) هذا القدر هو المقصود من هذا الحديث في هذا الباب فإن المقداد هو ابن عمرو الكندي، نسب الأسود بن عبد يغوث لكونه تبناه فكان من حلفاء قريش، وتزوج ضباعة وهي هاشمية، فلولا أن الكفاءة لا تعتبر بالنسب لما جاز له أن يتزوجها، لأنها فوقه في النسب، والذي يعتبر الكفاءة في النسب أن يجيب بأنها رضيت هي وأولياءها، فسقط حقهم من الكفاءة، وهو جواب صحيح إن ثبت أصل اعتبار الكفاءة في النسب، وقال في موضع آخر: لم يثبت في اعتبار الكفاءة بالنسب حديث، وأما ما أخرجه البزار من حديث معاذ رفعه: العرب بعضهم أكفاء بعض، والموالي بعضهم أكفاء بعض، فإسناده ضعيف، واحتج البيهقي بحديث واثلة مرفوعًا ((إن الله اصطفى بني كنانة من بني إسماعيل – الحديث. وهو صحيح أخرجه مسلم لكن في الاحتجاج به لذلك نظر، لكن ضم بعضهم إليه حديث ((قدموا قريشًا ولا تقدموها)) ) - انتهى. والحديث أخرجه أيضًا أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي والبيهقي وابن حبان والدارقطني وابن الجارود وغيرهم، وفي الباب عن ابن عباس أخرجه أحمد ومسلم والأربعة والبيهقي وابن الجارود والدارمي وغيرهم، وعن أنس عند البيهقي وعن جابر عند الطبراني والبيهقي، وعن ابن مسعود وأم سليم عند البيهقي
..............................................................................................
ــ
أيضًا، وعن أم سلمة عند أحمد والطبراني في الكبير، وسنده جيد، وعن ابن عمر عند الطبراني في الكبير، وفيه علي بن عاصم وهو ضعيف، وعن ضباعة أخرجه أحمد وابن ماجة وابن خزيمة والبيهقي، وعن أسماء بنت أبي بكر أو سعدى بنت عوف، أخرجه ابن ماجة على الشك هكذا. قال العقيلي: روى عن ابن عباس قصة ضباعة بأسانيد ثابتة جياد، وقال ابن حزم في المحلى بعد ذكر هذه الأحاديث سوى حديث أسماء أو سعدى: فهذه آثار متظاهرة متواترة لا يسع أحدًا الخروج عنها. وقال الشوكاني: وقد غلط الأصيلي غلطًا فاحشًا فقال: إنه لا يثبت في الاشتراط حديث، وكأنه ذهل عما في الصحيحين – انتهى. وقال الولي العراقي: قال النسائي: لا أعلم أحدًا أسنده عن الزهري غير معمر، وقال في موضع آخر: لم يسنده عن معمر غير عبد الرازق فيما أعلم، وأشار القاضي عياض إلى تضعيف الحديث فإنه قال في الأصيلي: لا يثبت في الاشتراط إسناد صحيح. قال النووي في شرح مسلم: وهذا الذي عرض به القاضي وقاله الأصيلي من تضعيف الحديث غلط فاحش جدًا نبهت عليه لئلا يغتر به لأن هذا الحديث مشهور في صحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وسائر كتب الحديث المعتمدة من طرق متعددة بأسانيد كثيرة عن جماعة من الصحابة، وفيما ذكره مسلم من تنويع طرقه أبلغ كفاية. وقال والدي في شرح الترمذي: والنسائي لم يقل بانفراد معمر به مطلقًا بل بانفراده به عن الزهري. ولا يلزم من الانفراد المقيد الانفراد المطلق فقد أسنده معمر وأبو أسامة وسفيان بن عيينة عن هشام عن أبيه عن عائشة، وأسنده القاسم عنها، ولو انفرد به معمر مطلقًا لم يضره، وكم في الصحيحين من الانفراد ولا يضر إرسال الشافعي له، فالحكم لمن وصل، هذا معنى كلامه – انتهى كلام الولي العراقي. تنبيه قال الشيخ محمد أنور الكشميري: وافقنا البخاري في مسألة الاشتراط حيث لم يخرج حديث ضباعة في كتاب الحج مع كونه صريحًا في الاشتراط، وإنما أخرجه في كتاب النكاح، ومن آدابه وعاداته في التراجم والأبواب أنه لا يعقد ترجمة على الحديث إذا لم يذهب إليه، وأن الحديث إذا ورد في مسألة ولم يخرجه في بابه مع كونه صريحًا فيه بل حوله من مظنته، فكأن هذا تنبيه منه على أنه لا يأخذه ولا يذهب إليه، ونظير ذلك أنه روى حديث الركعتين بعد الوتر جالسًا ولم يبوب عليه الترجمة ولم يخرجه في أبواب الوتر بل أخرجه في السنة أي الركعتين قبل الفجر. قال: وما نبه أحد على هذه العادة، هذا معنى كلامه. وفيه ما قال صاحب فتح الملهم أنه قد تنبه لها ابن المرابط وأشار إليها كما حكاه العيني عنه فقال: زعم ابن المرابط أن عدم ذكر البخاري حديث ضباعة في الحج دلالة على أن الاشتراط عنده لا يصح، ثم قال العيني: فيه نظر لا يخفى، ولم يبين وجه النظر، وما ادعاه الشيخ الأنور من عادة البخاري ليس بمطرد، فقد روى البخاري حديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوات ولم يخرجه في أبواب الصلاة أصلاً مع أنه لا شبهة في كونه أليق بها فيما بين باب التشهد وباب الدعاء قبل السلام كما هو الظاهر