المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(الفصل الأول) 2740 – (1) عن ابن عباس، قال: قال رسول - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٩

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

فهرس الكتاب

- ‌(2) باب قصة حجة الوداع

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(3) باب دخول مكة والطواف

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(4) باب الوقوف بعرفة

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(5) باب الدفع من عرفة والمزدلفة

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(6) باب رمي الجمار

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(7) باب الهدي

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(8) باب الحلق

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(9) باب

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(10) باب خطبة يوم النحر، ورمي أيام التشريق، والتوديع

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(11) باب ما يجتنبه المحرم

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(12) باب المحرم يجتنب الصيد

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(13) باب الإحصار، وفوت الحج

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(14) باب حرم مكة حرسها الله تعالى

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(15) باب حرم المدينة حرسها الله تعالى

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

الفصل: ‌ ‌(الفصل الأول) 2740 – (1) عن ابن عباس، قال: قال رسول

(الفصل الأول)

2740 – (1) عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: " لا هجرة، ولكن جهاد ونية،

ــ

طريق جدة هما العلمان القديمان من زمن نبينا إبراهيم صلى الله عليه وسلم بإشارة جبريل عليه السلام بوضعهما في تلك البقعة كسائر حدود الحرم من الجهات الأخرى، أما العلمان الجنوبيان المسامتان لعلمي الحرم المذكورين فقد أحدثا في جمادى الثانية سنة ست وسبعين وثلثمائة وألف من أجل طريق السيارات المؤدي بينهما، ثم صار عدول السيارات من هذا الطريق الجنوبي الذي يمر بين العلمين المحدثين إلى الطريق الشمالي الذي يمر بين علمي الحرم القديمين، ولإزالة اللبس لزم التنبيه على ذلك، وحيث الحال ما تقدم من أن حدود الحرم مختلفة في القرب والبعد، وأن وضع حدود الحرم هو بإيقاف جبريل عليه الصلاة والسلام لأبينا إبراهيم صلى الله عليه وسلم على حدود الحرم وظهور أن حد الحرم من طريق المدينة ثلاثة أميال ومن طريق جدة عشرة أميال مع أن الحدين متجاوران فبذلك تبين أنه ليس للاجتهاد في تحديد الحرم مساغ وأنه لا يجوز لأحد أن يحدث حدًا للحرم ويضع عليه أنصابًا من تلقاء نفسه لأنه قد لا يكون ذلك حدًا للحرم في نفس الأمر، أما إذا أتى على محل ليس به أعلام فإنه ينظر إلى محاذاة أقرب الأعلام إليه، وليس في الإمكان سوى ذلك مع عدم الجزم بأن هذا حد للحرم، والله أعلم، كذا في مفيد الأنام.

2740 – قوله (يوم فتح مكة) منصوب لأنه ظرف لقال (لا هجرة) أي بعد الفتح، وأفصح بذلك في بعض الروايات أي لا هجرة من مكة إلى المدينة مفروضة بعد الفتح كما كانت قبله، وقد عقد البخاري في أواخر الجهاد ((باب لا هجرة بعد الفتح)) قال الحافظ: أي بعد فتح مكة، أوالمراد ما هو أعم من ذلك. إشارة إلى أن حكم غير مكة في ذلك حكمها، فلا تجب الهجرة من بلد قد فتحه المسلمون، أما قبل فتح البلد فمن به من المسلمين أحدد ثلاثة، الأول: قادر على الهجرة منها، لا يمكنه إظهار دينه بها ولا أداء واجباته فالهجرة منه واجبة، الثاني: قادر لكنه يمكنه إظهار دينه وأداء واجباته، فمستحبة لتكثير المسلمين ومعونتهم وجهاد الكفار والأمن من غدرهم والراحة من رؤية المنكر بينهم، الثالث: عاجز بعذر من أسر أو مرض أو غيره فتجوز له الإقامة فإن حمل على نفسه وتكلف الخروج منها أجر (ولكن جهاد ونية) أي لكن لكم طريق إلى تحصيل الفضائل التي في معنى الهجرة، وذلك بالجهاد ونية الخير في كل شيء، وارتفاع ((جهاد)) على الابتداء، وخبره محذوف مقدمًا تقديره ((لكم جهاد)) قال الحافظ: المعنى أن وجوب الهجرة من مكة انقطع بفتحها إذا صارت دار إسلام ولكن بقى وجوب الجهاد على حاله عند الاحتياج إليه، وفسره بقوله ((فإذا استنفرتم فانفروا)) أي إذا دعيتم إلى الغزو فأجيبوا، قال الخطابي وغيره: كانت الهجرة فرضًا في أول الإسلام على من أسلم لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع، فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجًا، فسقط فرض

ص: 461

وإذا استنفرتم فانفروا ".

ــ

الهجرة إلى المدينة، وبقى فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدو – انتهى. قال الحافظ: وكانت الحكمة أيضًا في وجوب الهجرة على من أسلم ليسلم من أذى ذويه من الكفار، فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه، وفيهم نزلت:{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مسضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} (سورة النساء: الآية 99) وهذه الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار كفر وقدر على الخروج منها، وقد روى النسائي من طريق بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده مرفوعًا:" لا يقبل الله من مشرك عملاً بعد ما أسلم أو يفارق المشركين ". ولأبي داود من حديث سمرة مرفوعًا: " أنا بريء من كل مشرك يقيم بين أظهر المشركين ". وهذا محمول على من لم يأمن على دينه، قال: وقوله ((جهادًا ونية)) قال الطيبي وغيره: وهذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده لما قبله، والمعنى أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة انقطعت، إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية، وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر والخروج في طلب العلم والفرار بالدين من الفتن والنية في جميع ذلك (وإذا استنفرتم) بصيغة المجهول أي إذا طلبتم للنفر وهو الخروج إلى الجهاد (فانفروا) بكسر الفاء أي اخرجوا، والمعنى إذا دعاكم السلطان إلى غزو فاذهبوا. قال النووي: يريد أن الخير الذي انقطع بانقطاع الهجرة يمكن تحصيله بالجهاد والنية الصالحة، وإذا أمركم الإمام بالخروج إلى الجهاد ونحوه من الأعمال الصالحة فاخرجوا إليه، وفي الحديث بشارة بأن مكة تبقى دار إسلام أبدًا لا يتصور منها الهجرة، وفيه وجوب تعيين الخروج في الغزو على من عينه الإمام، وأن الأعمال تعتبر بالنيات، وقال الخطابي: في الحديث إيجاب النفير والخروج إلى العدو إذا وقعت الدعوة، وهذا إذا كان فيمن بإزاء العدو كفاية فإن لم يكن فيهم كفاية فهو فرض على المطيقين للجهاد، والاختيار للمطيق له مع وقوع الكفاية بغيره أن لا يقعد عن الجهاد، قال الله تعالى:{لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى} (سورة النساء: الآية 98) وقد ترجم البخاري لهذا الحديث ((باب وجوب النفير وما يجب من الجهاد والنية، وقوله: {انفروا خفافًا وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} (سورة التوبة: الآية 42) قال الحافظ: قوله ((وما يجب من الجهاد والنية أي وبيان القدر الواجب من الجهاد ومشروعية النية في ذلك، وللناس في الجهاد حالان، إحداهما في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والأخرى بعده، فأما الأولى: فأول ما شرع الجهاد بعد الهجرة النبوية إلى المدينة اتفاقًا، ثم بعد أن شرع هل كان فرض عين أو كفاية قولان مشهوران للعلماء، وهما في مذهب الشافعي، وقال الماوردي: كان عينًا على المهاجرين دون غيرهم، ويؤيده وجوب الهجرة قبل الفتح في حق كل من أسلم إلى المدينة لنصر

ص: 462

وقال يوم فتح مكة: " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض،

ــ

الإسلام، وقال السهيلي: كان عينًا على الأنصار دون غيرهم، ويؤده مبياعتهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة على أن يؤووا رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصروه، فيخرج من قولهما أنه كان عينًا على الطائفتين، كفاية في حق غيرهم، ومع ذلك فليس في حق الطائفين على التعميم، بل في حق الأنصار إذا طرق المدينة طارق، وفي حق المهاجرين إذا أريد قتال أحد من الكفار ابتداء، ويؤيد هذا ما وقع في قصة بدر فيما ذكره ابن إسحاق فإنه كالصريح في ذلك، وقيل كان عينًا في الغزوة التي يخرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرها، والتحقيق أنه كان عينًا على من عينه النبي صلى الله عليه وسلم في حقه ولو لم يخرج. الحال الثاني بعده صلى الله عليه وسلم فهو فرض كفاية على المشهور إلا أن تدعو الحاجة إليه كأن يدهم العدو، ويتعين على من عينه الإمام، ويتأدى فرض الكفاية بفعله في السنة مرة عند الجمهور، ومن حجتهم: أن الجزية تجب بدلاً عنه، لا تجب في السنة أكثر من مرة اتفاقًا، فليكن بدلها كذلك، وقيل: يجب كلما أمكن، وهو قوي، والذي يظهر أنه استمر على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تكاملت فتوح معظم البلاد وانتشر الإسلام في أقطار الأرض ثم صار إلى ما تقدم ذكره، والتحقيق أيضًا أن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم إما بيده وإما بلسانه وإما بماله وإما بقلبه – انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في شرح هذا الحديث في آخر الفصل الأول من كتاب الجهاد، ويأتي هناك بسط أحكام الجهاد إن شاء الله تعالى (وقال يوم فتح مكة) قال القاري: أعاده تأكيدًا أو إشارة إلى وقوع هذا القول وقتًا آخر من ذلك اليوم والله تعالى أعلم – انتهى. قلت: اللفظ المذكور لمسلم رواه في الحج عن إسحاق بن إبراهيم عن جرير وروى البخاري هذا الحديث في باب لا يحل القتال بمكة من كتاب الحج من طريق عثمان بن أبي شيبة عن جرير بلفظ ((فإذا استنفرتم فانفروا فإن هذا بلد)) إلخ. أي ليس فيه قوله ((وقال يوم فتح مكة)) قال الحافظ: الفاء أي في قوله ((فإن هذا)) جواب شرط محذوف تقديره إذا علمتم ذلك فاعلموا أن هذا بلد حرام، وكأن وجه المناسبة أنه لما كان نصب القتال عليه حرامًا كان التنفير يقع منه لا إليه، ولما روى مسلم هذا الحديث عن إسحاق عن جرير فصل الكلام الأول من الثاني بقوله ((وقال يوم الفتح: إن الله حرم)) إلى آخره. فجعله حديثًا آخر مستقلاً، وهو مقتضى صنيع من اقتصر على الكلام الأول كعلي بن لمديني عن جرير كما سيأتي في الجهاد – انتهى. (إن هذا البلد) أي مكة يعني حرمها. قال القاري: أو المراد بالبلد أرض الحرم جميعها (حرمه الله) أي حكم بتحريمها وقضاه، وظاهره أن حكم الله تعالى في مكة أن لا يقاتل أهلها ويؤمن من استجار بها ولا يتعرض له، وهو أحد أقوال المفسرين في قوله تعالى:{ومن دخله كان آمنًا} (سورة آل عمران: الآية 91) وقوله: {أو لم يروا أنّا جعلنا حرمًا آمنًا} (سورة العنكبوت: الآية 67)(يوم خلق السموات والأرض) يعني أن تحريمه أمر قديم وشريعة سالفة مستمرة وحكمه تعالى قديم لا يتقيد بزمان

ص: 463

فهو حرام بحرمة الله

ــ

فهو تمثيل في تحريمه بأقرب متصور لعموم البشر، إذ ليس كلهم يفهم معنى تحريمه في الأزل وليس تحريمه مما أحدثه الناس أو اختص بشرعه، وهذا لا ينافي قوله في حديث جابر عند مسلم وحديث أنس عند البخاري " إن إبراهيم حرم مكة "، لأن إسناد التحريم إليه من حيث أنه مبلغه فإن الحاكم بالشرائع والأحكام كلها هو الله تعالى، والأنبياء يبلغونها، فكما تضاف إلى الله تعالى من حيث أنه الحاكم بها تضاف إلى الرسل لأنها تسمع منهم وتبين على ألسنتهم، والحاصل أنه أظهر تحريمها مبلغًا عن الله بعد أن كان مهجورًا إلا أنه ابتدأه، وقيل إن حرمها بإذن الله يعني أنه تعالى كتب في اللوح المحفوظ يوم خلق السماوات والأرض أن إبراهيم سيحرم مكة بأمر الله تعالى، كذا في إرشاد الساري. وقال العيني: معنى قوله ((إن إبراهيم حرم مكة)) أعلن بتحريمها وعرف الناس بأنها حرام بتحريم الله إياها فلما لم يعرف تحريمها إلا أن في زمانه على لسانه أضيف إليه، وذلك كما في قوله تعالى:{الله يتوفى الأنفس} (سورة الزمر: الآية 43) فإنه أضاف إليه التوفي، وفي آية أخرى:{قل يتوفاكم ملك الموت} (سورة السجدة: الآية 11) فأضاف إلى الملك التوفي، وقال في آية أخرى:{الذين تتوفاهم الملائكة} سورة النحل: الآية 30، 34) فأضاف إليهم التوفي، وفي الحقيقة المتوفي هو الله عز وجل، وأضاف إلى غيره لأنه ظهر على أيديهم – انتهى. وقال الحافظ: لا معارضة بين الحديثين لأن معنى قوله ((إن إبراهيم حرم مكة)) أي بأمر الله تعالى لا باجتهاده، أو أن الله قضى يوم خلق السماوات والأرض أن إبراهيم سيحرم مكة أو المعنى أن إبراهيم أول من أظهر تحريمًا بين الناس، وكانت قبل ذلك عند الله حرامًا، أو أول من أظهره بعد الطوفان، وقال القرطبي: معناه: إن الله حرم مكة ابتداء من غير سبب ينسب لأحد ولا لأحد فيه مدخل، قال: ولأجل هذا أكد المعنى بقوله (في حديث أبي شريح الآتي) : ولم يحرمها الناس. والمراد بقوله ((ولم يحرمها الناس)) أن تحريمها ثابت بالشرع لا مدخل للعقل فيه، أو المراد أنها من محرمات الله فيجب امتثال ذلك وليس من محرمات الناس يعني في الجاهلية كما حرموا أشياء من عند أنفسهم فلا يسوغ الاجتهاد في تركه، وقيل معناه: إن حرمتها مستمرة من أول الخلق، وليس مما اختصت به شريعة النبي صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ: واستدل بالحديث على اشتراط الإحرام على من دخل الحرم. قال القرطبي: معنى قوله ((حرمه الله)) أي يحرم على غير المحرم دخوله حتى يحرم، ويجري هذا مجرى قوله تعالى:{حرمت عليكم أمهاتكم} (سورة النساء: الآية 27) أي وطؤهن {حرمت عليكم الميتة} (سورة المائدة: الآية 4) أي أكلها. فعرف الاستعمال يدل على تعيين المحذوف. قال: وقد دل على صحة هذا المعنى اعتذاره عن دخول مكة غير محرم مقاتلاً بقوله ((لم تحل لي إلا ساعة من نهار)) الحديث - انتهى. وقد تقدم بسط القول في هذه المسألة في شرح حديث ابن عباس في بيان المواقيت (ج 6: ص 243 إلى 246) وتقدم الجواب هناك عن الاستدلال بهذا الحديث على منع دخول الحرم بغير إحرام فتذكر (فهو) أي البلد (حرام) أي محرم محترم (بحرمة الله)

ص: 464

إلى يوم القيامة،

ــ

أي بسبب حرمة الله، فالباء للسببية، ويجوز أن تكون للملابسة فيكون متعلق الباء محذوفًا، أي متلبسًا بحرمة الله، وهو تأكيد للتحريم (إلى يوم القيامة) إيماء إلى عدم نسخه، وقال الحافظ: قوله ((بحرمة الله)) أي بتحريمه، وقيل: الحرمة الحق، أي حرام بالحق المانع من تحليله، قال: واستدل به على التحريم القتل والقتال بالحرم، فأما القتل فنقل بعضهم الاتفاق على جواز إقامة حد القتل فيها على من أوقعه فيها، وخص الخلاف بمن قتل في الحل ثم لجأ إلى الحرم، وممن نقل الإجماع على ذلك ابن الجوزي، واحتج بعضهم بقتل ابن خطل بها، ولا حجة فيه، لأن ذلك كان في الوقت الذي أحلت فيه للنبي صلى الله عليه وسلم، وزعم ابن حزم أن مقتضى قول ابن عمر وابن عباس وغيرهما أنه لا يجوز القتل فيها مطلقًا. ونقل التفصيل عن مجاهد وعطاء. وقال أبو حنيفة: لا يقتل في الحرم حتى يخرج إلى الحل باختياره لكن لا يجالس ولا يكلم ويوعظ ويذكر حتى يخرج، وقال أبو يوسف: يخرج مضطرًا إلى الحل وفعله ابن الزبير، وروى ابن أبي شيبة من طريق طاوس عن ابن عباس: من أصاب حدًا ثم دخل الحرم لم يجالس ولم يبايع، وعن مالك والشافعي: يجوز إقامة الحد مطلقًا فيها، لأن العاصي هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعل الله له من الأمن، وأما القتال فقال الماوردي: من خصائص مكة أن لا يحارب أهلها فلو بغوا على أهل العدل فإن أمكن ردهم بغير قتال لم يجز، وإن لم يكن إلا القتال، فقال الجمهور: يقاتلون لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى، فلا يجوز إضاعتها، وقال الآخرون: لا يجوز قتالهم، بل يضيق عليهم إلى أن يرجعوا إلى الطاعة، قال النووي: والأول نص عليه الشافعي وأجاب أصحابه عن الحديث بحمله على تحريم نصب القتال بما يعم أذاه كالمنجنيق، بخلاف ما لو تحصن الكفار في بلد، فإنه يجوز قتالهم على كل وجه، وعن الشافعي قول آخر بالتحريم اختاره القفال، وجزم به في شرح التلخيص. وقال به جماعة من علماء الشافعية والمالكية، قال الطبري: من أتى حدًا في الحل واستجار بالحرم فللإمام إلجاؤه إلى الخروج منه، وليس للإمام أن ينصب عليه الحرب بل يحاصره ويضيق عليه حتى يذعن للطاعة لقوله صلى الله عليه وسلم: وإنما أحلت لي ساعة من نهار. وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس. فعلم أنها لا تحل لأحد بعده بالمعنى الذي حلت له به، وهو محاربة أهلها والقتل فيها، ومال ابن العربي إلى هذا، وقال ابن المنير: قد أكد النبي صلى الله عليه وسلم التحريم بقوله ((حرمه الله)) ثم قال ((فهو حرام بحرمة الله)) ثم قال ((ولم تحل لي إلا ساعة من نهار)) وكان إذا أراد التأكيد ذكر الشيء ثلاثًا، قال: فهذا نص لا يحتمل التأويل. وقال القرطبي: ظاهر الحديث يقتضي تخصيصه صلى الله عليه وسلم بالقتال لاعتذاره عما أبيح له من ذلك مع أن أهل مكة كانوا إذ ذاك مستحقين للقتال والقتل لصدهم عن المسجد الحرام وإخراجهم أهله منه وكفرهم، وهذا الذي فهمه أبو شريح كما سيأتي وقال به غير واحد من أهل العلم. وقال ابن دقيق العيد: يتأكد القول بالتحريم بأن الحديث دال على أن المأذون للنبي صلى الله عليه وسلم فيه لم يؤذن لغيره فيه، والذي وقع له إنما هو مطلق القتال لا القتال الخاص بما يعم كالمنجنيق فكيف

ص: 465

...................................................................................

ــ

يسوغ التأويل المذكور، وأيضًا فسياق الحديث يدل على أن التحريم لإظهار حرمة البقعة بتحريم سفك الدماء فيها، وذلك لا يختص بما يستأصل – انتهى كلام الحافظ. قلت: ومذهب الحنفية في مسألتي القتل والقتال في الحرم على ما ذكره في غنية الناسك (ص 163) هو أن من جنى في غير الحرم بأن قتل أو ارتد أو زنى أو شرب الخمر أو فعل غير ذلك مما يوجب الحد ثم لاذ إليه لا يتعرض له ما دام في الحرم ولكن المرتد يعرض عليه الإسلام فإن أسلم سلم وإلا قتل لأن إباءه عن الإسلام جناية في الحرم، وغير المرتد لا يبايع ولا يؤاكل ولا يجالس ولا يؤوى إلى أن يخرج منه فيقتص منه، وأما إن فعل ما يوجب القصاص ثم لاذ إليه فإن كان القصاص في النفس لا يتعرض له ويضيق عليه حتى يخرج كما في الحد وإن كان فيما دون النفس يقتص منه في الحرم، لأن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال، ومن جنى على المال إذا لجأ إلى الحرم يؤخذ منه لأنه حق العبد أي فكذا يقتص منه في الأطراف بخلاف الحد لأنه حق الرب تبارك وتعالى، وبخلاف القصاص في النفس لأنه ليس بمنزلة المال، وإن فعل شيئًا من ذلك في الحرم يقام عليه الحد ويقتص منه فيه، وإن قتل في الحرم قتل فيه، وإن قتل في البيت لا يقتل فيه. قال في رد المحتار: وكذا الحكم في سائر المساجد – انتهى. ومن دخل الحرم مقاتلاً قتل فيه إلى آخر ما ذكر، قلت: واستدل لما ذهب إليه مالك والشافعي ومن تبعهم من أن حكم الحرم كغيره فيقام فيه الحد ويسوفى فيه القصاص سواء كانت الجناية في الحرم أو في الحل ثم لجأ إلى الحرم بأن العاصي هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعل الله له من الأمن، واستدلوا لذلك أيضًا بعمومات النصوص الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل زمان ومكان، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، وبالقياس على من أتى في الحرم ما يوجب القتل، وأما ما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه من الفقهاء والإمام أحمد وبعض محدثيه مع أنه إن كانت الجناية في الحرم استوفيت العقوبة فيه، وإن كانت في الحل ثم لجأ إلى الحرم لم تستوف منه فيه ويلجأ إلى الخروج منه، فإذا خرج اقتص منه، فاستدل لهم بمثل قوله تعالى {ومن دخله كان آمنًا} ، {أو لم نمكن لهم حرمًا آمنًا} (سورة القصص: الآية 57) ونحوهما من الآيات، ولو لم يكن للتخصيص فائدة ما ذكر، وأجاب هؤلاء عن أدلة المعارضين بأن العمومات لا تتناوله لأن لفظها لا يدل عليه لا بالوضع ولا بالتضمن فهو مطلق بالنسبة إليها، ولو فرض تناولها له لكانت مخصصة بالأدلة الواردة في منع إقامة الحد فيه لئلا يبطل موجبها. وأما قتل ابن خطل فليس فيه دليل لأنه قتل في الساعة التي أحل فيها الحرم للنبي صلى الله عليه وسلم، وأما قياسه على من أتى في الحرم بما يوجب القتل فلا يستقيم، لأن الجاني فيه هتك حرمته وحرمة الله تعالى فهما مفسدتان ولو لم يقم الحد على الجناة فيه لعم الفساد وعظم الشر في حرم الله بخلاف الذي أتى ما يوجب القتل خارجه فذنبه أخف كثيرًا وهو بلجوءه إلى الحرم كالتائب من الذنب النادم على فعله. قلت: ونصر ابن حزم في المحلى (ج 7: ص 262) أن القصاص

ص: 466

وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار،

ــ

وأنواع الحدود لا تقام في الحرم مطلقًا، وقال من أتى فيه بما يوجب القتل والحد فليخرج ثم يقام عليه، ونقل عمومات عن بعض الصحابة ظاهرها معه. قلت: والقول الراجح عندنا هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وأحمد لقوة دليل هذا القول والله أعلم (وإنه) أي الشأن، فالهاء فيه ضمير الشان (لم يحل القتال فيه لأحد قبلي) زاد في بعض طرق البخاري ((ولا يحل لأحد بعدي)) قال المحب الطبري (ص 591) : هذا القول يحتمل وجوهًا ثم ذكرها، وقال: الوجه الرابع وهو أقواها وأسلمها عن الاعتراض: أن يريد تحريم القتل بها وكان مستحقًا، حتى لو دخل كافر بغير أمان أو زان محصن أو من قتل إنسانًا عمدًا عدوانًا لم يقتل بها بل يضيق عليه حتى يخرج، وهذا مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد وقول بعض أصحاب مالك، وكذلك القتال أيضًا لا يكون بقتل، بل بالحصر والتضييق والمدافعة حتى يخرجوا منها، ولا كذلك سائر البلاد، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم ((فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم)) أي وقتله ابن خطل وغيره وقد عاذوا بالحرم، فيقال لهم: إن الله عز وجل أذن لرسوله ولم يأذن لكم، فمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يقتدوا به في هذه الرخصة، وأن يعد سببها تحقيقًا لاختصاصه صلى الله عليه وسلم بهذه الرخصة – انتهى. قال ابن بطال: المراد بقوله ((ولا تحل لأحد بعدي)) الإخبار عن الحكم في ذلك لا الإخبار بما سيقع لوقوع خلاف ذلك في الشاهد كما وقع من الحجاج وغيره – انتهى. ومحصله أنه خبر بمعنى النهي بخلاف قوله ((لم يحل القتال فيه لأحد قبلي)) فإنه خبر محض، أو معنى قوله ((ولا تحل لأحد بعدي)) أي لا يحله الله بعدي، لأن النسخ ينقطع بعده لكونه خاتم النبيين، (ولم يحل) أي القتال (لي إلا ساعة من نهار) أي مقدارًا من الزمان، وهو ما بين طلوع الشمس وصلاة العصر، وقد ورد عند أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ((لما فتحت مكة قال: كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر، فأذن لهم حتى صلى العصر، ثم قال: كفوا السلاح فلقى رجل من خزاعة رجلاً من بني بكر من غد بالمزدلفة فقتله فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام خطيبًا فقال: ورأيته مسندًا ظهره إلى الكعبة)) فذكر الحديث. ويستفاد منه أن قتل من أذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتلهم كابن خطل وقع في الوقت الذي أبيح للنبي صلى الله عليه وسلم فيه القتال خلافًا لمن حمل قوله ((ساعة من نهار)) على ظاهره فاحتاج إلى الجواب عن قصة ابن خطل كذا في الفتح قال القاري: قوله صلى الله عليه وسلم: " ولم يحل لي إلا ساعة من نهار ". أي أحل لي ساعة إراقة الدم دون الصيد وقطع الشجر، وقال الخطابي، قيل: إنما أحلت له في تلك الساعة إراقة الدم دون الصيد وقطع الشجر وسائر ما حرم على الناس منه – انتهى. قال الطبري: ويحتمل العموم، فإن انتشار العسكر لا يخلو من تنفير صيد ودوس خلا وقطعه وغير ذلك، والعمد والخطأ فيه سواء، وقال أيضًا: يحتمل أن يكون المراد جميع ما حرم فيه من تنفير الصيد واختلاء الخلا وعضد الشجر، لأن ذلك من لوازم انتشار العسكر غالبًا فالصيد ينفر

ص: 467

فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد

ــ

بذلك والدواب يختلى لها ويخبط فحصوله وإن كان تبعًا وضمنًا لكنه لما كان معلومًا بالضرورة كان كالمباشر – انتهى. ثم قال القاري: قوله ((لم يحل لي إلا ساعة من نهار)) دل على أن فتح مكة كان عنوة وقهرًا كما هو عندنا، وقال الشيخ الدهلوي: يدل ظاهره على وقع القتال فيه، وقد وقع من خالد بن الوليد، وكان ذلك بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم أو بإذن منه صلى الله عليه وسلم ولهذا ذهب الأكثرون، ومنهم أبو حنيفة إلى أن مكة فتحت عنوة، وعن الشافعي وهو رواية عن أحمد أنها فتحت صلحًا، لأنهم لم يتهيؤا للحرب، وإنما وقعت اتفاقًا بعد دخول خالد وتعرض بعض المشركين، واعتذاره صلى الله عليه وسلم بحل القتال له صريح في وقوع القتال والفتح عنوة، وثمرة الخلاف أن من قال: فتحت عنوة لا يجوز بيع دورها وإجارتها لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من الكفار وجعلها وقفًا بين المسلمين، ومن قال بالفتح صلحًا جوز ذلك لأنها مملوكة لأصحابها مبقاة على أملاكهم – انتهى. قلت: ذهب الأكثرون منهم أبو حنيفة وأحمد في المشهور عنه إلى أن مكة فتحت عنوة، وذهب الشافعي إلى أنها فتحت صلحًا، واستدل له على ذلك بأنها لو فتحت عنوة لقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين الغانمين كخيبر ولملك الغانمون دورها وكانوا أحق بها من أهلها، ولو كانت عنوة لم يؤمن أهلها. واستدل الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم ((لم يحل لي إلا ساعة من نهار)) وبقوله في حديث أبي شريح ((فإن ترخص أحد بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لك)) واستدلوا أيضًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها في حالة حرب وتعبئة فقد جعل للجيش ميمنة وميسرة ومقدمة ومؤخرة وقلبًا، ودخلها وعلى رأسه المغفر غير المحرم. وحصل القتال بين خالد بن الوليد وبينهم حتى قتل منهم جماعة. وقال صلى الله عليه وسلم للأنصار:" أترون أوباش قريش وأتباعهم احصدوهم حصدًا ". حتى قال أبو سفيان: يا رسول الله أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم، وقال:" من أغلق بابه فهو آمن ". وغير ذلك من الأدلة الواضحة الصحيحة، وأجابوا عن أدلة المعارضين فقالوا: أما كونه لم يقسم أرضها بين الغانمين فلأن الأرض غير داخلة في الغنائم التي تقسم، وهذا عمل الخلفاء الراشدين في أرض العنوة التي يأخذونها لا يقسمونها، وإنما يجعلونها فيئًا على المسلمين أولهم وآخرهم على أن النبي صلى الله عليه وسلم مَنّ على أهل مكة فأمنهم، ومن تأمينهم ترك ما بأيديهم مع أن هناك خلافًا بين العلماء هل يملك رباع مكة ودورها؟ وقد رجح كثير من العلماء عدم تملكها وقالوا: إنه يستوي فيها المسلمون كالمساجد، وأما تأمينه أهلها فبعد القتال منّ عليهم بذلك لكونهم جيران بيت الله تعالى، وبعد أن رأوا أن لا طاقة لهم في القتال طلبوا الأمان فأجابهم لطفًا بهم ورحمة، كذا في تيسير العلام. وارجع لمزيد التفصيل إلى الفتح في شرح حديث هشام بن عروة عن أبيه من باب ((أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح؟)) (فهو) أي البلد (حرام) أي على كل أحد بعد تلك الساعة (بحرمة الله) أي المؤبدة (لا يُعضَد) بضم أوله وفتح الضاد المعجمة أي لا يقطع،

ص: 468

شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته

ــ

والعضد القتل، يقال: عضدت الشجر أعضده بالكسر قطعته، قال ابن الجوزي: أصحاب الحديث يقولون يعضد بضم الضاد. وقال لنا ابن الخشاب: هو بكسرها، والمعضد بكسر أوله الآلة التي يقطع بها. قال الخليل: المعضد الممتهن من السيوف في قطع الشجر. وقال الطبري: أصله من عضد الرجل إذا أصابه بسوء في عضده (شوكه) قال القاري: أي ولو يحصل التأذي به. وأما قول بعض الشافعية أنه يجوز قطع الشوك المؤذي فمخالف لإطلاق النص، ولذا جرى جمع من متأخريهم على حرمة قطعه مطلقًا، وصححه النووي في شرح مسلم واختاره في عدة كتبه – انتهى. قلت: قال الخطابي في المعالم: أما الشوك فلا بأس بقطعه لما فيه من الضرر وعدم النفع ولا بأس بأن ينتفع بحطام الشجر وما يلي منه – انتهى. وقال الحافظ: وأجازوا (أي الشافعية) قطع الشوك لكونه يؤذي بطبعه فأشبه الفواسق ومنعه الجمهور لحديث ابن عباس، وصححه المتولي من الشافعية، وأجابوا بأن القياس المذكور في مقابلة النص فلا يعتبر به حتى ولو لم يرد النص على تحريم الشوك لكان في تحريم قطع الشجر (كما في حديث أبي هريرة الآتي) دليل على تحريم قطع الشوك لأن غالب شجر الحرم كذلك، ولقيام الفارق أيضًا فإن الفواسق المذكورة تقصد بالأذى بخلاف الشجر. قال ابن قدامة: ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان وانقطع من الشجر بغير صنع آدمي ولا بما يسقط من الورق نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافًا – انتهى. (ولا يُنفَّر) بضم أوله وتشديد الفاء المفتوحة (صيده) أي لا يصاح عليه فينفر وقال سفيان بن عيينة: معناه أن يكون الصيد في ظل الشجرة. فلا ينفر ليجلس مكانه ويستظل. قال الطبري: لا خلاف أنه لو نفره وسلم فلا جزاء عليه لكنه يأثم بارتكابه النهي، فلو أتلفه أو تلف بتنفيره وجب جزاءه، وقال النووي: يحرم التنفير وهو الازعاج عن موضعه فإن نفره عصى سواء تلف أو لا، فإن تلف في نفاره قبل سكونه ضمن وإلا فلا. قال العلماء: يستفاد من النهي عن التنفير تحريم الإتلاف بالأولى. وقال الحافظ: قيل: تنفير الصيد كناية عن الاصطياد، وقيل: هو على ظاهره، وقد روى البخاري عن عكرمة أنه قال: هو أن تنحيه من الظل تنزل مكانه، قال الحافظ: قيل نبه عكرمة بذلك على المنع من الإتلاف كسائر أنواع تنبيهًا بالأدنى على الأعلى، وقد خالف عكرمة عطاء ومجاهد فقالا: لا بأس بطرده ما لم يفض إلى قتله، أخرجه ابن أبي شيبة، وروى ابن أبي شيبة أيضًا من طريق الحكم عن شيخ من أهل مكة أن حمامًا كان على البيت فذرق على يد عمر فأشار عمر بيده فطار فوقع على بعض بيوت مكة فجاءت حية فأكلته فحكم عمر على نفسه بشاة، وروى من طريق أخرى عن عثمان نحوه (ولا يلتقط) بصيغة المعلوم (لقطته) بالنصب على أنه مفعول. قال القسطلاني: لقطته بفتح القاف في اليونينية وبسكونها في غيرها قال الأزهري: والمحدثون لا يعرفون غير الفتح، ونقل الطيبي عن صاحب شرح السنة أنه قال: اللقطة بفتح القاف والعامة تسكنها.

ص: 469

إلا من عرفها،

ــ

وقال الخليل: هو بالسكون، وأما بالفتح فهو الكثير الالتقاط، قال الأزهري: وهو القياس، وقال ابن بري في حواش الصحاح: وهذا هو الصواب لأن العلة للفاعل كالضحكة للكثير الضحك، وفي القاموس: واللقط محركة أي بغير هاء وكحزمة وهمزة وثمامة ما التقط – انتهى. وقال النووي: اللغة المشهورة فتحها. قال القسطلاني: وهي هنا نصب مفعول مقدم والفاعل قوله (إلا من عرفها) أي أشهرها ثم يحفظها لمالكها ولا يتملكها، أي عرفها ليعرف مالكها فيردها إليه، وهذا بخلاف غير الحرم، فإنه يجوز تملكها بشرطه. وقال الحنفية والمالكية حكمها واحد في سائر البلاد لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة من غير فصل، لنا أن قوله ((ولا يلتقط لقطته)) ورد مورد بيان الفضائل المختصة بمكة كتحريم صيدها وقطع شجرها، وإذا سوى بين لقطة الحرم وبين لقطة غيره من البلاد بقي ذكر اللقطة في هذا الحديث خاليًا عن الفائدة – انتهى. وقال التوربشتي: قوله ((لا يلتقط لقطته إلا من عرفها)) أي لا يلتقطها إلا من يريد تعريفها فحسب، يدل عليه قوله في حديث أبي هريرة ((ولا يلتقط ساقطتها إلا منشد)) أي ليس للملتقط أن يتصدق بها أو يستنفقها كسائر اللقطات وذلك لتعظيم أمر الحرم، ولم يفرق أكثر العلماء بين لقطة الحرم ولقطة غيره من الأماكن، ويعضد هذا الحديث وما ورد بمعناه قول من فرق بينهما لأن الكلام ورد مورد بيان الفضائل المختصة بها كتحريم صيدها وقطع شجرها وحصد خلاها، ثم إن الخبر الخاص إنما يساق لعلم خاص وإذا سوى بين لقطة الحرم ولقطة غيره من البلاد وجدنا ذكر حكم اللقطة في هذا الحديث خاليًا عن الفائدة – انتهى. قلت: ذهب الشافعية ومتأخروا المالكية فيما ذكره صاحب تحصيل المرام من المالكية إلى أن لقطة مكة بخلاف غيرها من البلاد وأنها لا تحل إلا لمن يعرفها أبدًا ولا يتملكها كما يتملكها في غيرها من البلاد، والصحيح من مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد أنه لا خصوصية للقطة مكة وأن حكم اللقطة في سائر البلاد واحد، والحديث عندهم محمول على المبالغة في التعريف، فإن الحاج يرجع إلى بلاده فلا يعود إلا بعد أعوام فتدعو الضرورة إلى إطالة التعريف أو على قطع وهم من يظن أنه لا يحتاج إلى التعريف، فإن الغالب أن الحجيج إذا تفرقوا مشرقين ومغربين وقد مدت المطايا أعناقها لا يعرجون على شيء فلا فائدة في التعريف. وقال القاري: المقصود من ذكرها أن لا يتوهم تخصيص تعريفها بأيام الموسم، وقال ابن الهمام: تخصيص مكة لدفع وهم سقوط التعريف بها بسبب أن الظاهر أن ما وجد بها من لقطة فالظاهر أنه للغرباء، وقد تفرقوا فلا يفيد التعريف فيسقط – انتهى، قال الحافظ: استدل بحديثي ابن عباس وأبي هريرة على أن لقطة مكة لا تلتقط للتملك بل للتعريف خاصة وهو قول الجمهور، وإنما اختصت بذلك عندهم لإمكان إيصالها إلى ربها لأنها إن كانت للمكي فظاهر، وإن كانت للآفاقي فلا يخلو أفق غالبًا من وارد إليها. فإذا عرفها واجدها في كل

ص: 470

ولا يختلى خلاها ". فقال العباس: يا رسول الله! إلا الإذخر

ــ

عام سهل التوصل إلى معرفة صاحبها، قاله ابن بطال. وقال أكثر المالكية وبعض الشافعية: هي كغيرها من البلاد وإنما تختص مكة بالمبالغة في التعريف لأن الحاج يرجع إلى بلده وقد لا يعود، فاحتاج الملتقط بها إلى المبالغة في التعريف. واحتج ابن المنير لمذهبه بظاهر الاستثناء لأنه نفي الحل واستثنى المنشد (في قوله لا تحل ساقطتها إلا لمنشد) فدل على أن الحل ثابت للمنشد لأن الاستثناء من النفي إثبات. قال: ويلزم على هذا أن مكة وغيرها سواء، والقياس يقتضي تخصيصها، والجواب أن التخصيص إذا وافق الغالب لم يكن له مفهوم، والغالب أن لقطة مكة ييأس ملتقطها من صاحبها وصاحبها من وجدانها لتفرق الخلق إلى الآفاق البعيدة فربما داخل الملتقط الطمع في تملكها من أول وهلة فلا يعرفها فنهى الشارع عن ذلك وأمر أن لا يأخذها إلا من عرفها، وفارقت في ذلك لقطة العسكر ببلاد الحرب بعد تفرقهم فإنها لا تعرف في غيرهم باتفاق بخلاف لقطة مكة فيشرع تعريفها لإمكان عود أهل أفق صاحب اللقطة إلى مكة فيحصل التوصل إلى معرفة صاحبها – انتهى. (ولا يُخْتَلَى) بضم الياء وسكون الخاء المعجمة وفتح الفوقية واللام أي لا يجز ولا يقطع (خلاها) بفتح المعجمة مقصور الرطب من الكلأ، فإذا يبس فهو حشيش وهشيم قال الحافظ: الخلا هو الرطب من النبات واختلاؤه قطعه واحتشاشه، واستدل به على تحريم رعيه لكونه أشد من الاحتشاش، وبه قال مالك والكوفيون واختاره الطبري. وقال الشافعي: لا بأس بالرعي لمصلحة البهائم وهو عمل الناس بخلاف الاحتشاش فإنه المنهي عنه فلا يتعدى ذلك إلى غيره – انتهى. قلت: الظاهر أن الإمام مالكًا وافق الشافعي في جواز الرعي لما في المدونة. قال مالك: لا بأس بالرعي في حرم مكة وحرم المدينة في الحشيش والشجر، وفي آخر جامع الحج من الموطأ: سئل مالك هل يحتش الرجل لدابته من الحرم؟ فقال: لا. قال الباجي: وهذا كما قال: أن لا يحتش أحد في الحرم لدابته ولا لغير ذلك إلا الإذخر الذي أباحه النبي صلى الله عليه وسلم ومن احتش في الحرم فلا جزاء عليه ولا بأس أن يرعى الإبل في الحرم. والفرق بينه وبين الاحتشاش أن الاحتشاش تناول قطع الحشيش وإرسال البهائم للرعي ليس بتناول لذلك، وهذا لا يمكن الاحتراز منه، ولو منع منه لامتنع السفر في الحرم والمقام فيه لتعذر الامتناع منه والتحرز – انتهى. قال الحافظ: وفي تخصيص التحريم بالرطب إشارة إلى جواز رعي اليابس واختلاءه وهو أصح الوجهين للشافعية، لأن النبت اليابس كالصيد الميت. قال ابن قدامة: لكن في استثناء الإذخر إشارة إلى تحريم اليابس من الحشيش، ويدل عليه أن في بعض طرق حديث أبي هريرة ((ولا يحتش حشيشها)) قال: وأجمعوا على إباحة أخذ ما استنته الناس في الحرم من بقل وزع ومشموم فلا بأس برعيه واختلاءه – انتهى. وسيأتي بسط الكلام في ذلك في شرح قوله الآتي ((لا يعضد شجرها)) (فقال العباس) أي ابن عبد المطلب (إلا الإذخر) يجوز فيه الرفع بدلاً مما قبله

ص: 471

فإنه لقينهم ولبيوتهم. فقال: إلا الإذخر. متفق عليه.

2741 – (2) وفي رواية أبي هريرة:

ــ

ونصبه لكونه مستثنى بعد النفي، واختار ابن مالك النصب لكون الاستثناء وقع متراخيًا عن المستثنى منه والإِذْخر بكسر الهمزة والخاء المعجمة بينهما ذال معجمة ساكنة نبت معروف عند أهل مكة طيب الريح له أصل مندفن أي ماض في الأرض، وقضبان دوّاق ينبت في السهل والحزن، وبالمغرب صنف منه فيما قاله ابن البيطار. قال: والذي بمكة أجوده، وأهل مكة يسقفون به البيوت بين الخشب يعني يجعلونه تحت الطين وفوق الخشب ليسد الخلل فلا يسقط الطين، وكذا يجعلونه في القبور يعني يسدون به الخلل بين اللبنات في القبور، وكانوا يستعملونه بدلاً من الحلفاء في الوقود ولهذا قال العباس: فإنه لقينهم. ووقع عند عمر بن شبة ((فقال العباس: يا رسول الله إن أهل مكة لا صبر لهم عن الإذخر لقينهم وبيوتهم)) وهذا يدل على أن الاستثناء في حديث الباب لم يرد به أن يستثنى هو، وإنما أراد به أن يلقن النبي صلى الله عليه وسلم الاستثناء (فإنه لقينهم) بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها نون أي الحداد وحاجته له ليوقد به النار وقال الطبري: القين عند العرب كل ذي صناعة يعالجها بنفسه، وفي رواية للبخاري ((فإنه لصاغتنا وقبورنا) ووقع في مرسل مجاهد عند عمر بن شبه الجمع بين الثلاثة (ولبيوتهم) أي لسقفها (فقال: إلا الإذخر) هو استثناء بعض من كل لدخول الإذخر في عموم ما يختلى، قال الحافظ: اختلفوا هل كان قوله صلى الله عليه وسلم ((إلا الإذخر)) باجتهاد أو وحي؟ وقيل: كان الله فوض له الحكم في هذه المسألة مطلقًا. وقيل: أوحي إليه قبل ذلك أنه إن طلب أحد استثناء شيء من ذلك فأجب سؤاله. وقال ابن المنير: الحق أن سؤال العباس كان على معنى الضراعة وترخيص النبي صلى الله عليه وسلم كان تبليغًا عن الله إما بطريق الإلهام أو بطريق الوحي، ومن ادعى أن نزول الوحي يحتاج إلى أمد متسع فقد وهم، قال الحافظ: وفي الحديث بيان خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكر في الحديث وجواز مراجعة العالم في المصالح الشرعية والمبادرة إلى ذلك في المجامع والمشاهد وعظيم منزلة العباس عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنايته بأمر مكة لكونه كان بها أصله ومنشأه (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز وفي الحج وفي البيوع وفي اللقطة وفي الجهاد وفي الجزية وفي المغازي مختصرًا ومطولاً، ومسلم في الحج والجهاد وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 226، 253، 259، 266، 315، 316، 355) مختصرًا ومطولاً، والترمذي في السير وأبو داود في الحج والجهاد، والنسائي في الحج وفي البيعة، والدارمي مختصرًا وابن الجارود والبيهقي، وسعيد بن منصور وعبد الرزاق مطولاً.

2741 – قوله (وفي رواية أبي هريرة) أي عند الشيخين فقد أخرجها البخاري في العلم وفي الديات وفي اللقطة ومسلم في الحج وأخرجها أيضًا أحمد (ج 2: ص 238) والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي وابن الجارود ولفظها عند الشيخين من طريق شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن خزاعة قتلوا رجلاً من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم فقتلوه فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فركب راحلته فخطب، فقال: إن الله

ص: 472

" لا يعضد شجرها

ــ

حبس عن مكة الفيل وسلط عليهم رسول الله والمؤمنين، ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ألا وإنها حلت لي ساعة من نهار، ألا وإنها ساعتي هذه حرام، لا يختلى شوكها ولا يعضد شجرها ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد (وفي رواية ((لا يلتقط ساقطتها إلا منشد)) فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما إن يعقل وإما أن يقاد أهل القتيل فجاء رجل من أهل اليمن فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال: اكتبوا لأبي فلان، فقال رجل من قريش. إلا الإذخر يا رسول الله، فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر (لا يعضد) بصيغة المجهول أي لا يقطع ووقع في رواية لعمر بن شبة بلفظ ((لا يخضد)) بالخاء المعجمة بدل العين المهملة، وهو راجع إلى معني العضد، فإن أصل الخضد الكسر ويستعمل في القطع (شجرها) قال القرطبي: خص الفقهاء الشجر المنهي عن قطعه بما ينبته الله تعالى من غير صنع الآدمي، فأما ما ينبت بمعاجلة آدمي فاختلف فيه، والجمهور على الجواز. وقال الشافعي في الجميع الجزاء، ورجحه ابن قدامة، واختلفوا في جزاء ما قطع من النوع الأول فقال مالك: لا جزاء فيه بل يأثم، وقال عطاء: يستغفر، وقال أبو حنيفة: يؤخذ بقيمته هدي، وقال الشافعي: في العظيمة بقرة وفي ما دونها شاة. واحتج الطبري بالقياس على جزاء الصيد، وتعقبه ابن القصار بأنه كان يلزمه أن يجعل الجزاء على المحرم إذا قطع شيئًا من شجر الحل ولا قائل به. وقال ابن العربي: اتفقوا على تحريم قطع شجر الحرم إلا أن الشافعي أجاز قطع السواك من فروع الشجرة كذا نقله أبو ثور عنه. وأجاز أيضًا أخذ الورق والثمر إذا كان لا يضرها ولا يهلكها، بهذا قال عطاء ومجاهد وغيرهما، كذا في الفتح، وقال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على تحريم قطع شجر الحرم وإباحة أخذ الإذخر وما أنبته الآدمي من البقول والزروع والرياحين، حكى ذلك ابن المنذر، والأصل فيه ما روينا من حديث ابن عباس، وروى أبو شريح وأبو هريرة نحوًا من حديث ابن عباس وكلها متفق عليها، فأما ما أنبته الآدمي من الشجر فقال أبو الخطاب وابن عقيل: له قلعه من غير ضمان كالزرع، وقال القاضي: ما نبت في الحل ثم غرس في الحرم فلا جزاء فيه، وما نبت أصله في الحرم ففيه الجزاء بكل حال، وقال الشافعي في شجر الحرم: الجزاء بكل حال أنبته الآدميون أو نبت بنفسه لعموم قوله عليه السلام ((لا يعضد شجرها)) وقال أبو حنيفة: لا جزاء فيما ينبت الآدميون جنسه كالجوز واللوز والنخل ونحوه ولا يجب فيما ينبته الآدمي من غيره كالدوح والسلم والعضاه لأن الحرم يختص تحريمه ما كان وحشيًا من الصيد كذلك الشجر، قال ابن قدامة: ويحرم قطع الشوك والعوسج، وقال القاضي وأبو الخطاب: لا يحرم. وروى ذلك عن عطاء ومجاهد وعمرو بن دينار والشافعي. لأنه يؤذي بطبعه، فأشبه السباع من الحيوان، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا يعضد شجرها)) وفي حديث أبي هريرة ((لا يختلى شوكها)) وهذا صريح، ولأن الغالب في شجر

ص: 473

..............................................................................................

ــ

الحرم الشوك، فلما حرم النبي صلى الله عليه وسلم قطع شجرها والشوك غالبه كان ظاهرًا في تحريمه قال: ولا بأس بقطع اليابس من الشجر والحشيش لأنه بمنزلة الميت، ولا يقطع ما انكسر ولم يبن، لأنه قد تلف فهو بمنزلة الظفر المنكسر، ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان وانقلع من الشجر بغير فعل آدمي ولا ما سقط من الورق، نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافًا، لأن الخبر إنما ورد في القطع وهذا لم يقطع، قال: وليس له أخذ ورق الشجر، وقال الشافعي: له أخذه لأنه لا يضر به، وكان عطاء يرخص في أخذ ورق السنا يستمشي به ولا ينزع من أصله، ورخص فيه عمرو بن دينار، ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يخبط شوكها ولا يعضد شجرها، رواه مسلم. ولأن ما حرم أخذه حرم كل شيء منه كريش الطائر، وقولهم ((لا يضر به)) لا يصح فإنه يضعفها وربما آل إلى تلفها. قال: ويحرم قطع حشيش الحرم إلا ما استثناه الشرع من الإذخر وما أنبته الآدميون واليابس لقوله عليه السلام: لا يختلى خلاها، وفي لفظ ((لا يحتش حشيشها)) وفي استثناء النبي صلى الله عليه وسلم الإذخر دليل على تحريم ما عداه. وفي جواز رعيه وجهان: أحدهما لا يجوز، وهو مذهب أبي حنيفة، لأن ما حرم إتلافه لم يجز أن يرسل عليه ما يتلفه كالصيد. والثاني يجوز، وهو مذهب عطاء والشافعي، لأن الهدي كانت تدخل الحرم فتكثر فيه ولم ينقل أنه كانت تسد أفواهها، ولأن بهم حاجة إلى ذلك أشبه قطع الإذخر. قال: ويباح أخذ الكمأة من الحرم وكذلك الفقع لأنه لا أصل له فأشبه الثمرة، وروى حنبل قال: يؤكل من شجر الحرم الضغابيس والعشرق وما سقط من الشجر وما أنبت الناس – انتهى. وقال في الروض المربع: يحرم قطع شجر الحرم وحشيشه الأخضرين الذين لم يزرعهما آدمي ويجوز قطع اليابس والثمرة وما زرعه الآدمي والكمأة والفقع والإذخر ويباح الانتفاع بما زال أو انكسر بغير فعل آدمي ولو لم يبن، ويضمن حشيش وورق بقيمته وغصن بما نقص – انتهى. وفي نيل المآرب: يحرم قطع شجره حتى ما فيه مضرة كعوسج وشوك وسواك ونحوه إلا اليابس – انتهى. قال ابن قدامة: ويجب في إتلاف الشجر والحشيش الضمان. وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن ابن عباس وعطاء وقال مالك وأبو ثور وداود وابن المنذر: لا يضمن لأن المحرم لا يضمنه في الحل فلا يضمن في الحرم كالزرع. وقال ابن المنذر: لا أجد دليلاً أوجب به في شجر الحرم فرضًا من كتاب ولا سنة ولا إجماع، وأقول كما قال مالك. نستغفر الله تعالى، ولنا ما روى أبو هشيمة قال: رأيت عمر بن الخطاب أمر بشجر كان في المسجد يضر بأهل الطواف فقطع وفدى. قال: وذكر البقرة. رواه حنبل في المناسك، وعن ابن عباس أنه قال في الدوحة: بقرة، وفي الجزلة شاة، والدوحة الشجرة العظيمة والجزلة الصغيرة، وعن عطاء نحوه. ولأنه ممنوع من إتلافه لحرمة الحرم فكان مضمونًا كالصيد، ويخالف المحرم فإنه لا يمنع من قطع شجر الحل ولا زرع الحرم، إذا ثبت هذا فإنه يضمن الشجرة الكبيرة ببقرة والصغيرة بشاة والحشيش بقيمته والغصن بما نقص، وبهذا قال الشافعي، وقال أصحاب الرأي يضمن الكل بقيمته

ص: 474

...................................................................................

ــ

لأنه لا مقدر فيه فأشبه الحشيش. ولنا قول ابن عباس وعطاء، ولأنه أحد نوعي ما يحرم إتلافه فكان فيه ما يضمن بمقدر كالصيد – انتهى بقدر الضرورة، وقال مالك في الموطأ: ليس على المحرم فيما قطع من الشجر في الحرم شيء ولم يبلغنا أن أحدًا حكم فيه بشيء وبئس ما صنع. قال الباجي: ذكر في مسألتين: إحداهما: ليس على المحرم فيما قطع من الشجر في الحرم بشيء، والثانية قوله: بئس ما صنع فنص على المنع من ذلك، وتتعلق بذلك مسألة ثالثة وهي تبيين الشجر الممنوع قطعه وتمييزه من غيره، فأما المسألة الأولى في أنه لا يجب به شيء فهو مذهب مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي: يجب عليه الجزاء – انتهى. وقال الدردير: لا جزاء على قاطع ما حرم قطعه لأنه قدر زائد على التحريم يحتاج لدليل – انتهى. واستدل لذلك الزرقاني بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة فتح مكة: " لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا ولا يعضد بها شجرة. في روايات أخر: ليس في شيء منها ذكر جزاء ولا غيره والكفارات لا يقاس عليها، قال الباجي: وأما المسألة الثانية في المنع من قطع شجر الحرم فهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة، والأصل في ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها، وأما المسألة الثالثة أي تبيين ما يسباح قطعه من شجر الحرم وتمييزه مما هو ممنوع فإن الممنوع منه ما هو من شجرة البادية مما لا يملك غالبًا، وجرت العادة بأن ينبت من غير عمل آدمي كالطلح والسعدان وما جري مجري ذلك، وكذلك سائر أنواع الحشيش، والأصل في ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ". فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله فإنه لصاغتنا وقبورنا. فقال صلى الله عليه وسلم: " إلا الإذخر ". قال الباجي: والسنا عندي مثله وهذا فيما ينبت بنفسه، وأما ما غرس منه واتخذ بالعمل وملكه العامل فعندي يجوز أخذه وهو قول أبي حنيفة وقال الشافعي: لا يجوز. وأما ما جرت العادة بأنه يملك ويغرس ويعمل كالنخل والرمان والجوز وما أشبهها فإنه غير ممنوع قطعه، وكذا ما كان يتخذ من البقول سواء نبت بنفسه أو بصنع آدمي لأنه على أصله، ويجري ذلك مجرى الحيوان ما كان أصله التأنيس، فإنه لا يمنع من اصطياده في الحرم وإن توحش – انتهى. وفي المدونة: لا يقطع في الحرم من الشجر شيء يبس أو لم ييبس، وقال مالك: كل شيء أنبته الناس في الحرم من الشجر مثل النخل والرمان وما أشبههما فلا بأس بقطع ذلك كله، وكذلك البقل كله مثل الكراث والخس والسلق وما أشبه ذلك، ولا بأس بالسنا والإذخر أن يقلع في الحرم - انتهى. وقال الدردير:(حرم بالحرم قطع ما ينبت بنفسه) من غير علاج كالبقل البري وشجر الطرفاء، ولو استنبت نظرًا لجنسه، وكما يأتي في عكسه (إلا الإذخر والسنا) ومثلهما العصا والسواك وقطع الشجر للبناء والسكنى بموضعه أو قطعه لإصلاح الحوائط (كما يستنبت) من خسٍ وسلق وكراث وبطيخ وخوخ وإن لم يعالج نظرًا لأصله – انتهى. قال الدسوقي: قوله: ما ينبت بنفسه أي ولو كان قطعه لإطعام الدواب على المعتمد، ولا فرق بين الأخضر واليابس، وقوله كما يستنبت أي كما يجوز

ص: 475

...................................................................................

ــ

قطع ما يستنبته كالحنطة والقثاء والعناب والنخل والرمان – انتهى. وقال النووي في مناسكه: يضمن المحرم والحلال شجر حرم مكة، فمن قلع شجرة كبيرة ضمنها ببقرة، وإن كانت صغيرة ضمنها بشاة ثم يتخير بين البقرة والشاة والطعام والصيام كما سبق في جزاء الصيد، وإن كانت صغيرة جدًا وجبت القيمة، ثم يتخير بين الطعام والصيام وكذا حكم الأغصان، وأما الأوراق فيجوز أخذها لكن لا يخبطها مخافة أن يصيب قشورها، ويحرم قطع حشيش الحرم، فإن قلعه لزمه القيمة، وإن كان يابسًا فلا شيء في قطعه، فلو قطعه لزمه الضمان لأنه لو لم يقلعه لنبت، ويجوز تسريح البهائم في حشيش الحرم لترعى فلو أخذ الحشيش لعلف البهائم جاز على الأصح بخلاف من يأخذ للبيع أو غيره، ويستثنى من البيع الإذخر، ولو احتيج إلى شيء من نبات الحرم للدواء جاز قطعه على الأصح. قال ابن حجر المكي: قوله: ((يضمن شجر الحرم)) أي بالقلع والقطع سواء الذي في ملكه والمثمر والمستنبت وغيره، وقوله ((فمن قلع شجرة)) أي رطبة غير مؤذية كالشوك، وقوله ((يحرم قطع حشيش الحرم)) أي ليس من شأنه أن يستنبت سواء نبت بنفسه أو استنبت. أما إذا كان من شأنه ذلك وإن نبت بنفسه كالحنطة والشعير والبقول والخضروات فيجوز أخذه، وقوله ((لأنه لو لم يقلعه لنبت)) محله ما إذا لم يفسد منبته وإلا جاز قلعه أيضًا، وقوله: يستثنى الإذخر، ألحق به ما يتغذى به كالرجلة والنبات المسمى بالبقلة ونحوهما لأنه في معنى الزرع، وكالإذخر غيره إذا احتاج إليه للتسقيف – انتهى. واختلف الشافعية في جواز أخذ المساويك وعدمه كما بسط ذلك ابن حجر، وقال ابن عابدين: اعلم أن النابت في الحرم إما جاف أو منكسر أو إذخر أو غيرها، والثلاثة الأول مستثناة من الضمان كما يأتي، وغيرها إما يكون أنبته الناس أو لا، والأول لا شيء فيه سواء كان من جنس ما ينبته الناس كالزرع أو لا، كأم غيلان، والثاني إن كان من جنس ما ينبتونه فكذلك، وإلا ففيه الجزاء، فما فيه الجزاء هو النابت بنفسه، وليس مما يستنبت ولا منكسرًا ولا جافًا ولا إذخرًا كما قرره في البحر – انتهى. وفي شرح اللباب: أشجار الحرم ونباته أربعة أنواع، الأول: كل شجر أنبته الناس حقيقة وهو من جنس ما ينبته الناس عادة كالزرع. الثاني: ما أنبته الناس وهو ليس مما ينبتونه عادة كالأراك وهو شجر المسواك، الثالث: ما نبت بنفسه وهو من جنس ما ينبته الناس عادة فهذه الأنواع الثلاثة يحل قطعها وقلعها والانتفاع بها ولا جزاء فيها. وأما النوع الرابع: فكل شجر نبت بنفسه وهو من جنس ما لا ينبته الناس عادة كأم غيلان، فهذا محظور القطع سواء كان مملوكًا بأن يكون في أرض رجل أو لا إلا اليابس لعدم إطلاق الشجر والنبات عليه حينئذ فإنه صار حطبًا، وإلا الإذخر فيجوز قطعه رطبًا ويابسًا، ويجوز أخذ الكمأة وما اجتنى من الزهر والثمر وما انكسر من الشجر بغير فعل آدمي، ويحرم قطع الشوك والعوسج، ولا ضمان فيه، ولا يجوز اتخاذ المساويك من أراك الحرم، وسائر أشجاره إذا كان أخضر ويجوز أخذ الورق ولا ضمان فيه إذا كان لا يضر

ص: 476

...................................................................................

ــ

بالشجر ولا يجوز رعي الحشيش في قول أبي حنيفة ومحمد وأحمد، وقال أبو يوسف ومالك والشافعي: لا بأس به ولو ارتعت دابته حالة المشي لا شيء عليه لوقوع رعيها من غير اختياره، وهذا مما اتفق عليه – انتهى. وزاد في الغنية: يحل قطع الشجر المثمر (أي وإن لم يكن من جنس ما ينبته الناس) لأن إثماره أقيم مقام إنبات الناس – انتهى. وفي رد المحتار: ولا يرعى حشيشه أي عندهما، وجوزه أبو يوسف للضرورة، فإن منع الدواب عنه متعذر، وتمامه في الهداية ونقل بعض المحشين عن البرهان تأييد قوله بما حاصله أن الاحتياج للرعي فوق الاحتياج للإذخر، وأقرب حد الحرم فوق أربعة أميال ففي خروج الرعاة إليه ثم عودهم قد لا يبقي من النهار وقت تشبع فيه الدواب، وفي قوله صلى الله عليه وسلم ((لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها)) وسكوته عن نفي الرعي إشارة لجوازه وإلا لبينه ولا مساواة بينهما ليلحق به دلالة، إذ القطع فعل العاقل، والرعي فعل العجماء وهو جبار وعليه عمل الناس وليس في النص دلالة على نفي الرعي ليلزم من اعتبار الضرورة معارضته بخلاف الاحتشاش – انتهى. قال ابن عابدين: لكن في قوله ((والرعي فعل العجماء)) نظر لأنها لو ارتعت بنفسها لا شيء عليه اتفاقًا، وإنما الخلاف في إرسالها للرعي وهو مضاف إليه – انتهى. وفي الهداية: إن قطع حشيش الحرم أو شجرة ليست بمملوكة وهو مما لا ينبته الناس (كشجر أم غيلان والأثل) فعليه قيمته إلا فيما جف منه لأن حرمتهما تثبت بسبب الحرم. قال عليه السلام: لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها، ولا يكون للصوم في هذه القيمة مدخل (فلا يكفي في الجزاء الصوم) لأن حرمة تناولها بسبب الحرم لا بسبب الإحرام فكان من ضمان المحال على ما بينا من أن الصوم يصلح جزاء للأفعال لا ضمان المحال ويتصدق بقيمته على الفقراء – انتهى. هذا وقد ظهر بما ذكرنا من عبارات كتب الفروع أن ها هنا عدة مسائل اتفق الفقهاء على بعضها واختلفوا في البعض الآخر، فمنها أنهم اختلفوا في مصداق المنهي عنه من الشجر وتمييزه من غيره، فقال مالك كما ذكر الدردير: يحرم قطع ما ينبت جنسه بنفسه ولو استنبته أحد نظرًا لجنسه. وقالت الحنفية: يحرم ما ينبت بنفسه وهو من جنس ما لا ينبته الناس عادة. وقال أحمد: يحرم قطع ما لم يزرعه آدمي من الشجر والحشيش، ويباح ما زرعه الآدمي وأنبته، وقالت الشافعية: يحرم قطع شجر الحرم وحشيشه أي الذي ليس من شأنه أن يستنبت مطلقًا أي سواء أنبته الآدميون أو نبت بنفسه إلا الذي من شأنه أن يستنبت، وإن نبت بنفسه كالبقول والخضراوات والحنطة والشعير ومنها أنهم أجمعوا على أن ما زرعه الآدمي وأنبته من البقول والزروع والرياحين يجوز قطعه ولا اختلاف في ذلك كما ذكره ابن قدامة وغيره، ومنها أنه لا فرق بين الأخضر واليابس عند مالك كما في المدونة والدسوقي خلافًا للأئمة الثلاثة، إذا أباحوا قطع اليابس كما صرح به ابن قدامة والنووي وابن عابدين وغيرهم، ومنها أن الشوك وغيره سواء في الحرمة عند مالك وأحمد كما في المغني ويجوز قطعه عند الشافعي والقاضي وأبي الخطاب من الحنابلة، ويحرم قطعه بلا ضمان عند

ص: 477

ولا يلتقط ساقطتها إلا منشد ".

2742 – (3) وعن جابر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح ".

ــ

الحنفية كما في شرح اللباب، ومنها أنهم أجمعوا على إباحة قطع الإذخر رطبًا ويابسًا ومنها أنه لا يجوز قطع ما ينبت بنفسه لإطعام الدواب عند المالكية على المعتمد كما صرح به الدسوقي، وبه قال أحمد كما في المغني والحنفية، ويجوز على الأصح عند الشافعية كما صرح به النووي في مناسكه، ومنها أنه يجوز رعى الدواب عند مالك والشافعي وأبي يوسف ولا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد وعند أحمد فيه وجهان كما ذكر ابن قدامة، ولو ارتعت بنفسها يجوز إجماعًا، ومنها أنهم أجمعوا على جواز الانتفاع بالأوراق الساقطة، ومنها أنه يجوز أخذ السواك من شجر الحرم عند المالكية كما صرح به الدردير وابن الحاج وكذا عند الشافعي على ما حكى عنه أبو ثور، ولا يجوز عند أحمد كما في نيل المأرب، وكذا عند الحنفية كما في شرح اللباب. واختلفت فيه الشافعية، ومنها أنه لا يجوز قطع الورق عند الحنابلة كما في المغني والروض المربع، ويجوز عند الشافعية والحنفية كما في مناسك النووي وفي شرح اللباب (ولا يلتقط) بصيغة المعلوم أي لا يأخذ (ساقطتها) بالنصب (إلا منشد) من الإنشاد أي معرف (وهو الذي يعرف اللقطة ويحتفظ بها إلى أن يحضر صاحبها فيردها إليه) وأما الطالب فيقال له الناشد تقول: نشدت الضالة إذا طلبتها وأنشدتها إذا عرفتها، وأصل الإنشاد والنشيد رفع الصوت، كذا في الفتح. فائدة: قال القاري: يحرم على الأصح عند الشافعية وأكثرهم على الكراهة نقل تراب الحرام وحجره إلى غيره ولو إلى حرم المدينة، كما يمنع نقل تراب حرم المدينة وحجره إلى غيره ولو إلى حرم مكة – انتهى. وقال ابن جاسر في مفيد الأنام: قال الإمام أحمد: لا يخرج من تراب المدينة، كذلك قال ابن عمر وابن عباس، ولا يخرج من حجارة مكة إلى الحل. قال في المنتهى: وكره إخراج تراب الحرم وحجارته إلى الحل – انتهى. وقال المحب الطبري في القرى: روي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم أنهما كرها أن يخرج من تراب الحرم وحجارته إلى الحل شيء، أخرجه الشافعي، وقال: قال غير واحد من أهل العلم: لا ينبغي أن يخرج شيء من الحرم إلى غيره. وقال أبو حنيفة لا بأس، وعن عطاء أنه كان يكره أن يخرج تراب الحرم إلى الحل، أو يدخل تراب الحل إلى الحرم أخرجه سعيد بن منصور – انتهى. وارجع لمزيد البسط إلى شفاء الغرام (ج 1: ص 71) .

2742-

قوله (لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح) أي بلا ضرورة عند الجمهور ومطلقًا عند الحسن وحجة الجمهور ما رواه البراء قال: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة فأبي أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم لا يدخل مكة

ص: 478

رواه مسلم.

2743 – (4) وعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح،

ــ

سلاحًا إلا في القراب. وما رواه ابن عمر ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمرًا فحال كفار قريش بينه وبين البيت)) الحديث. وفيه ((قاضاهم على أن يعتمر العام المقبل ولا يحمل سلاحًا عليهم إلا سيوفًا)) إلخ. أخرجهما أحمد والبخاري. قال الشوكاني: في الحديثين دليل على جواز حمل السلاح بمكة للعذر والضرورة فيخصص بهذين الحديثين عموم حديث جابر عند مسلم يعني به حديث الباب. قال فيكون هذا النهى فيما عدا من حمله للحاجة والضرورة، وإلى هذا ذهب الجماهير من أهل العلم أي أن النهى محمول على حمل السلاح بغير ضرورة ولا حاجة، فإن كانت حاجة جاز، قال: وهكذا يخصص بحديثي البراء وابن عمر عموم قول ابن عمر للحجاج ((وأدخلت السلاح الحرم ولم يكن السلاح يدخل الحرم)) فيكون مراده لم يكن السلاح، يدخل الحرم لغير حاجة، فإنه قد دخل به صلى الله عليه وسلم غير مرة كما في دخوله يوم الفتح هو وأصحابه، ودخوله صلى الله عليه وسلم للعمرة كما في حديث البراء وابن عمر – انتهى. وقال النووي في شرح حديث جابر. هذا النهى إذا لم تكن حاجة فإن كانت حاجة جاز، هذا مذهبنا ومذهب جماهير العلماء. قال القاضي عياض: هذا محمول عند أهل العلم على حمل السلاح لغير ضرورة ولا حاجة، فإن كانت حاجة جاز، قال القاضي: وهذا مذهب مالك والشافعي وعطاء قال: وكرهه الحسن البصري أي مطلقًا تمسكًا بظاهر هذا الحديث يعني النهى، وحجة الجمهور دخول النبي صلى الله عليه وسلم عام عمرة القضاء بما شرطه من السلاح في القراب ودخوله صلى الله عليه وسلم عام الفتح متأهبًا للقتال – انتهى. وقال ابن قدامة بعد ذكر حديث البراء: هذا ظاهر في إباحة حمله عند الحاجة لأنهم لم يكونوا يأمنون أهل مكة أن ينقضوا العهد ويخفروا الذمة واشترطوا حمل السلاح في قرابه، فأما من غير خوف فإن أحمد قال: لا إلا من ضرورة. وإنما منع منه لأن ابن عمر قال: لا يحمل المحرم السلاح في الحرم. وقال القاري بعد ذكر كلام القاضي عياض: وفيه بحث ظاهر، إذا المراد بحمل السلاح ظاهرًا بحيث يكون سبب لرعب مسلم أو أذى أحد كما هو مشاهد اليوم ويؤيده أنه كان ابن عمر يمنع ذلك في أيام الحجاج، وأما عام الفتح فهو مستثنى من هذا الحكم فإنه كان أبيح له ما لم يبح لغيره من نحو حمل السلاح – انتهى. قلت: والحق ما ذهب إليه الجمهور من حمل حديث جابر على حمل السلاح لغير ضرورة وحاجة لأن فيه الجمع بين الأحاديث، وأما تخصيصه بحمل السلاح ظاهر بحيث يكون سببًا لرعب مسلم أو أذى أحد فلا يخفى ما فيه (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا البيهقي (ج 5: ص 156) والحديث من أفراد مسلم ووهم المحب الطبري حيث عزاه إلى الشيخين.

2743-

قوله (دخل مكة) لثلاث عشرة خلت من رمضان سنة ثمان من الهجرة (يوم الفتح) أي فتح مكة وكان خرج من المدينة إليها لليلتين خلتا من رمضان، وقال الواقدي: خرج لعاشر رمضان قال الحافظ: هذا ليس بقوى

ص: 479

وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل،

ــ

لمخالفة ما هو أصح منه (وعلى رأسه المغفر) بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء آخره راء ويقال له مغفرة بزيادة هاء التأنيث آخره، وهو زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة، حكاه في الصحاح عن الأصمعي، وصدر به صاحب المحكم كلامه، ثم قال: وقيل: هو رفرف البيضة، وقيل: وهو حلق يتقنع به المتسلح وقال في المشارق: هو ما يجعل من فضل درع الحديد على الرأس مثل القلنسوة والخمار، وقال في التمهيد: هو ما غطى الرأس من السلاح كالبيضة وشبهها من حديد كان أو غيره، قال الحافظ في الحج: وفي رواية زيد بن الحباب عن مالك (عن ابن شهاب عن أنس) : وعليه مغفر من حديد. أخرجه الدارقطني في الغرائب والحاكم في الإكليل، وكذا هو في رواية أبي أويس (عن ابن شهاب عند ابن سعد وابن عدي) وقال في المغازي: في رواية أبي عبيد القاسم بن سلام عن يحيى بن بكير عن مالك ((مغفر من حديد)) قال الدارقطني: تفرد به أبو عبيد، وهو في الموطأ ليحيى بن بكير مثل الجماعة. ورواه عن مالك جماعة من أصحابه خارج الموطأ بلفظ ((مغفر من حديد) ثم ساقه من رواية عشرة عن مالك كذلك، وكذلك هو عند ابن عدي من رواية أبي أويس عن ابن شهاب، وعند الدارقطني من رواية شبابة بن سوار عن مالك – انتهى. واعلم أنه لا معارضة بين حديث أنس هذا وبين حديث جابر الآتي أنه دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء، لإمكان أن المغفر فوق العمامة وهي تحته وقاية لرأسه من صدء الحديد، أو كانت العمامة السوداء ملفوفة فوق المغفر، ويحتمل أن يكون أول دخوله كان على رأسه المغفر ثم بعد ذلك كان على رأسه العمامة بعد إزالة المغفر بدليل قوله في حديث عمرو بن حريث عند مسلم: خطب الناس وعليه عمامة سوداء، لأن الخطبة إنما كانت عند باب الكعبة بعد تمام فتح مكة. قال الزرقاني بعد ذكر هذه الوجوه: فزعم الحاكم في الإكليل تعارض الحديثين متعقب بأنه إنما يتحقق التعارض إذا لم يمكن الجمع وقد أمكن ها هنا بوجوه حسان. وقال الحافظ زعم الحاكم في الإكليل أن بين حديث أنس وبين حديث جابر معارضة وتعقبوه باحتمال أن يكون أول دخوله كان على رأسه المغفر ثم أزاله ولبس العمامة بعد ذلك فحكى كل منها ما رآه، ويؤيده أن في حديث عمرو بن حريث أنه خطب الناس وعليه عمامة سوداء وكانت الخطبة عند باب الكعبة، وذلك بعد تمام الدخول، وهذا الجمع لعياض، وقال غيره: يجمع بأن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر أو كانت تحت المغفر وقاية لرأسه من صدء الحديد، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متهيأ للحرب وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم (فلما نزعه) أي المغفر من رأسه (جاء رجل) قال الحافظ: لم أقف على اسمه إلا أنه يحتمل أن يكون هو الذي باشر قتله وقد جزم الفاكهي في شرح العمدة بأن الذي جاء بذلك هو أبو برزة الأسلمي، وكأنه لما رجح عنده أنه هو الذي قتله رأي أنه هو الذي جاء مخبرًا بقصته ويوشحه قوله في رواية يحيى بن قزعة في المغازي فقال اقتله بصيغة

ص: 480

وقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة. فقال: " اقتله ".

ــ

الإفراد على أنه اختلف في اسم قاتله. وقال العيني: قوله ((جاءه رجل)) هو أبو برزة الأسلمي واسمه نضلة بن عبيد وجزم به الكرماني والفاكهي في شرح العمدة. قال الزرقاني: وكذا ذكره ابن طاهر وغيره. وقيل اسمه سعيد بن حريث (إن ابن خطل) بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة وآخره لام كان اسمه عبد العزي، فلما أسلم سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، ومن قال: اسمه هلال التبس عليه بأخ له اسمه هلال، بين ذلك الكلبي في النسب، وقيل: هو عبد الله بن هلال بن خطل. وقيل: غالب بن عبد الله بن خطل، واسم خطل عبد مناف من بني تيم بن فهر بن غالب، كذا في الفتح، وهو أحد من أهدر دمه يوم الفتح، وقال: لا أؤمنهم في حل ولا حرم، وقد جمع الواقدي عن شيوخه أسماء من لم يؤمن يوم الفتح وأمر بقتله عشرة أنفس ستة رجال وأربع نسوة، قاله الحافظ والعيني، والسبب في قتل ابن خطل وعدم دخوله في قوله: من دخل المسجد فهو آمن، ما رواه ابن إسحاق في المغازي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة قال: لا يقتل أحد إلا من قاتل إلا نفرًا سماهم فقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة، منهم عبد الله بن خطل وعبد الله بن سعد، وإنما أمر بقتل ابن خطل لأنه كان مسلمًا فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقًا وبعث معه رجلاً من الأنصار وكان معه مولى يخدمه وكان مسلمًا فنزل منزلاً فأمر المولى أن يذبح تيسًا ويصنع له طعامًا فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئًا فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركًَا ولحق بمكة وكانت له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ: وروى الفاكهي من طريق ابن جريج قال: قال مولى ابن عباس: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار ورجلاً من مزينة وابن خطل وقال: أطيعا الأنصاري حتى ترجعا، فقتل ابن خطل الأنصاري وهرب المزني. وقال النووي: قال العلماء: إنما قتله لأنه كان قد ارتد عن الإسلام وقتل مسلمًا كان يخدمه وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويسبه، وكانت له قينتان تغنيان بهجاء المسلمين – انتهى. قال ابن عبد البر: فهذا القتل قود من دم مسلم. وكذا قال الخطابي: لم ينفذ له رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمان وقتله بحق ما جناه في الإسلام (متعلق بأستار الكعبة) جمع ستر وكان تعلقه بها استجارة بها، وذلك كما ذكر الواقدي أنه خرج إلى الجندمة ليقاتل على فرس وبيده قناة، فلما رأى خيل الله والقتل دخله رعب حتى ما يستمسك من الرعدة فرجع حتى انتهى إلى الكعبة فنزل عن فرسه وطرح سلاحه ودخل تحت أستارها فأخذ رجل من الركب سلاحه وفرسه فاستوى عليه وأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك (فقال: اقتله) زاد الوليد بن مسلم عن مالك: فقتل، أخرجه ابن عائذ وصححه ابن حبان وأخرج عمر بن شبة في كتاب مكة عن السائب بن يزيد، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استخرج من تحت أستار الكعبة ابن خطل فضربت عنقه صبرًا بين زمزم ومقام إبراهيم وقال: " لا يقتل قرشي بعد هذا صبرًا ". رجاله ثقات إلا أن في أبي معشر مقالاً، قاله الحافظ. واختلف في قاتله هل هو سعيد بن حريث أو عمار بن ياسر أو سعد بن أبي وقاص أو سعيد بن زيد أو أبو برزة - بفتح الموحدة وإسكان الراء المهملة ثم زاي معجمة مفتوحة –

ص: 481

...................................................................................

ــ

الأسلمي، وهو أصح ما جاء في تعيين قاتله ورجحه الواقدي، وجزم به البلاذري وغيره، وتحمل بقية الروايات المخالفة له على أنهم ابتدروا قتله فكان المباشر منهم أبو برزة، وجزم ابن هشام في تهذيب السيرة بأن سعيد بن حريث وأبا برزة اشتركا في قتله، قاله الزرقاني. وقال الحافظ في الحج بعد ذكر ما ورد من الروايات المختلفة في ذلك ما لفظه: وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي عثمان النهدي أن أبا برزة الأسلمي قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، وإسناده صحيح مع إرساله، وله شاهد عند ابن المبارك في البر والصلة من حديث أبي برزة نفسه، ورواه أحمد من وجه آخر وهو أصح ما ورد في تعيين قاتله، وبه جزم البلاذري وغيره من أهل العلم بالأخبار، وتحمل بقية الروايات على أنهم ابتدروا قتله فكان المباشر له منهم أبو برزة، ويحتمل أن يكون غيره شاركه فيه، فقد جزم ابن هشام في السيرة بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله، ومنهم من سمى قاتله سعيد بن ذويب، وحكى المحب الطبري أن الزبير بن العوام هو الذي قتل ابن خطل – انتهى. وقال في المغازي: اختلف في قاتله، وقد جزم ابن إسحاق بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله، وحكى الواقدي فيه أقوالاً، منها أن قاتله شريك بن عبدة العجلاني، ورجح أنه أبو برزة - انتهى. واستدل بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة على أن الكعبة لا تعيذ من وجب عليه القتل، وأنه يجوز قتل من وجب عليه القتل في الحرم. قال الحافظ: استدل بقصة ابن خطل على جواز إقامة الحدود والقصاص في حرم مكة، قال ابن عبد البر: كان قتل ابن خطل قودًا من قتله المسلم، وقال السهيلي: فيه أن الكعبة لا تعيذ عاصيًا ولا تمنع من إقامة حد واجب. وقال النووي: تأويل من قال لا يقتل فيها على أنه صلى الله عليه وسلم قتله في الساعة التي أبيحت له، وأجاب عنه أصحابنا بأنها إنما أبيحت له ساعة الدخول حتى استولى عليها وأذعن أهلها، وإنما قتل ابن خطل بعد ذلك – انتهى. وتعقب بأن المراد بالساعة التي أحلت له ما بين أول النهار ودخول وقت العصر، وقتل ابن خطل كان قبل ذلك قطعًا لأنه قيد في الحديث بأنه كان عند نزعه المغفر، وذلك عند استقراه بمكة. وقد قال ابن خزيمة: المراد بقوله في حديث ابن عباس ما أحل الله لأحد فيه القتل غيري أي قتل النفر الذين قتلوا يومئذ ابن خطل ومن ذكر معه، قال: وكان الله قد أباح له القتال والقتل معًا في تلك الساعة، وقتل ابن خطل وغيره بعد تقضي القتال – انتهى. وقال في المغازي: في الاستدلال بقتل ابن خطل على ذلك نظر، لأن المخالفين تمسكوا بأن ذلك إنما وقع في الساعة التي أحل للنبي صلى الله عليه وسلم فيها القتال بمكة، وقد صرح بأن حرمتها عادت كما كانت، والساعة المذكورة وقع عند أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنها استمرت من صبيحة يوم الفتح إلى العصر – انتهى. قال الطيبي: دل الحديث على جواز الدخول بغير إحرام لمن لا يريد النسك، وهذا أصح قولي الشافعي، وقال الحافظ: هذا الحديث ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة يوم الفتح لم يكن محرمًا، وقد صرح بذلك مالك راوي الحديث كما ذكره البخاري في

ص: 482

متفق عليه.

2744 – (5) وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء

ــ

المغازي عن يحيى بن قزعة عن مالك عقب هذا الحديث. قال مالك: ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نرى والله أعلم يومئذ محرمًا. وقول مالك هذا رواه عبد الرحمن بن مهدي عن مالك جازمًا به، أخرجه الدارقطني في الغرائب، ووقع في الموطأ من رواية أبي مصعب وغيره قال مالك: قال ابن شهاب: ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ محرمًا، وهذا مرسل، ويشهد له ما رواه مسلم من حديث جابر بلفظ: دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام – انتهى. وأجيب عن ذلك بأنه لا دلالة في قصة ابن خطل على جواز دخول مكة بغير إحرام لاحتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم كان محرمًا ولكنه غطى رأسه لعذر، وفيه أن هذا مخالف لتصريح جابر بأنه لم يكن يومئذ محرمًا. قال الحافظ: لكن فيه إشكال من وجه آخر لأنه صلى الله عليه وسلم كان متأهبًا للقتال، ومن كان كذلك جاز له الدخول بغير إحرام عند الشافعية وإن كان عياض نقل الاتفاق على مقابله، وأما من قال من الشافعية كابن القاص: دخول مكة بغير إحرام من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، ففيه نظر لأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل – انتهى. وقال الشمني كما في المرقاة: دخوله صلى الله عليه وسلم عام الفتح بغير إحرام حكم مخصوص بذلك الوقت، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم:" إنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حرامًا " – انتهى. وقد تقدم بسط الكلام على هذه المسألة مع بيان المذاهب ودلائلها في شرح حديث ابن عباس في المواقيت فارجع إليه. قال الحافظ: وفي الحديث مشروعية لبس المغفر وغيره من آلات السلاح حال الخوف من العدو وأنه لا ينافي التوكل، وقد تقدم في باب متى يحل المعتمر من أبواب العمرة من حديث عبد الله بن أبي أوفي: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دخل مكة طاف وطفنا معه وكنا نستره من أهل مكة أن يرميه أحد – الحديث. وإنما احتاج إلى ذلك لأنه كان حينئذ محرمًا فخشي الصحابة أن يرميه بعض سفهاء المشركين بشيء يؤذيه فكانوا حوله يسترون رأسه ويحفظونه من ذلك (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي الجهاد وفي المغازي وفي اللباس ومسلم في الحج، وأخرجه أيضًا أحمد ومالك في الحج وأبو داود والترمذي في الجهاد والنسائي في الحج وفي السير وابن ماجة في الحج والدرامي والبيهقي (ج 5: ص 177) .

2744 – قوله (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة) بكسر العين (سوداء) قال النووي: فيه جواز لباس الثياب السود، وفي الرواية الأخرى ((خطب الناس وعليه عمامة سوداء)) فيه جواز لباس الأسود في الخطبة وإن كان الأبيض أفضل منه كما ثبت في الحديث الصحيح ((خير ثيابكم البياض)) وأما لباس الخطباء السواد في حال الخطبة فجائز ولكن الأفضل البياض كما ذكرنا، وإنما لبس العمامة السوداء في هذا الحديث بيانًا للجواز – انتهى.

ص: 483

بغير إحرام. رواه مسلم.

2745 – (6) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم ". قلت: يا رسول الله! وكيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم

ــ

(بغير إحرام) هذا يرد ما أبدى الشيخ ابن دقيق العيد في شرح العمدة في ستر الرأس بالمغفر في حديث أنس احتمالاً فقال: يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم كان محرمًا لكن غطى رأسه لعذر، وقد تقدم في كلام الحافظ ما في أصل الاستدلال من الإشكال، وقد بسطه الولي العراقي في طرح التثريب (ج 5: ص 85) فارجع إليه (رواه مسلم) في الحج وأخرجه أيضًا أحمد (ج 3: ص 387) والنسائي وابن ماجة والدرامي والبيهقي (ج 5: ص 177) .

2745 – قوله (وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يغزو) بالغين والزاي المعجمتين أي يقصد (جيش) أي عسكر عظيم في آخر الزمان (الكعبة) أي ليخربها. وقال العيني: قوله ((يغزو جيش الكعبة)) أي يقصد عسكر من العساكر تخريب الكعبة، وهذا لفظ البخاري. وفي رواية مسلم ((عبث النبي صلى الله عليه وسلم في منامه فقلنا له: صنعت شيئًا لم تكن تفعله؟ قال النووي: قوله ((عبث)) هو بكسر الباء، قيل معناه اضطراب بجسمه، وقيل حرك أطرافه كمن يأخذ شيئًا أو يدفعه (فإذا كانوا ببيداء من الأرض) في رواية لمسلم ((بالبيداء)) وفي حديث صفية عند الترمذي وابن ماجة ((بالبيداء أو ببيداء من الأرض)) أي على الشك. وفي راوية لمسلم عن أبي جعفر الباقر قال: هي بيداء المدينة. وهي بفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف ممدودة، وهي في الأصل المفازة التي لا شيء فيها. قال العيني: وهي في هذا الحديث اسم موضع مخصوص بين مكة والمدينة. وقال النووي: قال العلماء: البيداء كل أرض ملساء لا شيء بها، وبيداء المدينة الشرف الذي قدام ذي الحليفة أي إلى جهة مكة (يخسف) على بناء المفعول (بأولهم وآخرهم) أي يخسف بكلهم الأرض. قال الحافظ: زاد الترمذي في حديث صفية ((ولم ينج أوسطهم)) وزاد مسلم في حديث حفصة ((فلا يبقى إلا الشريد الذي يخبر عنهم)) واستغنى بهذا عن تكلف الجواب عن حكم الأوسط، أو أن العرف يقضي بدخول الأوسط في من هلك أو لكونه آخرًا بالنسبة للأول وأولاً بالنسبة للآخر فيدخل، وقال العيني: قوله ((يخسف بأولهم وآخرهم)) يعني كلهم، هذا الذي يفهم منه بحسب العرف. قال الكرماني: لم يعلم منه العموم، إذ حكم الوسط غير مذكور، والجواب ما قلنا، أو نقول: إن الوسط آخر بالنسبة إلى الأول وأول بالنسبة إلى الآخر، على أن في رواية صفية ((ولم ينج أوسطهم)) وهذا يغني عن تكلف الجواب (وفيهم أسواقهم) جملة حالية، وهو جمع سوق والتقدير أهل أسواقهم الذين يبيعون ويشترون كما في المدن، وعليه ترجم البخاري بلفظ ((باب ما ذكر في الأسواق)) وقال الطيبي: إن كان جمع سوق فالتقدير أهل أسواقهم، وإن

ص: 484

ومن ليس منهم؟ قال: " يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم ". متفق عليه.

ــ

كان جمع سوقة وهي الرعايا فلا حاجة إلى التقدير. وفي مستخرج أبي نعيم ((وفيهم أشرافهم)) بالشين المعجمة والراء والفاء، وفي رواية محمد بن بكار عند الإسماعيلي ((وفيهم سواهم)) قال الإسماعيلي: ووقع في رواية البخاري أسواقهم أي بالمهملة والقاف، وأظنه تصحيفًا، فإن الكلام في الخسف بالناس لا بالأسواق. قال الحافظ: بل لفظ ((سواهم)) تصحيف فإنه بمعنى قوله الآتي ((ومن ليس منهم)) فيلزم منه التكرار، بخلاف رواية البخاري، نعم أقرب الروايات إلى الصواب رواية أبي نعيم، وليس في لفظ أسواقهم ما يمنع أن يكون الخسف بالناس، فالمراد بالأسواق أهلها أن يخسف بالمقاتلة منهم ومن ليس من أهل القتال كالباعة. وفي رواية مسلم ((فقلنا: إن الطريق قد يجمع الناس، قال: نعم فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل)) والمستبصر هو المستبين لذلك القاصد للمقاتلة عمدًا، والمجبور بالجيم والموحدة أي المكره. قال النووي: يقال أجبرته فهو مجبر، هذه اللغة المشهورة، ويقال أيضًا جبرته فهو مجبور، حكاها الفراء وغيره، وجاء هذا الحديث على هذه اللغة، وأما ابن السبيل فهو سالك الطريق معهم وليس منهم، والغرض أنها استشكلت وقوع العذاب على من لا إرادة له في القتال الذي هو سبب العقوبة فوقع الجواب بأن العذاب يقع عامًا لحضور آجالهم ويبعثون بعد ذلك على نياتهم (ومن ليس منهم) أي في الكفر والقصد بتخريب الكعبة عطف على أسواقهم. قال الطيبي: أي من لا يقصد تخريب الكعبة بل هم الضعفاء والأسارى (قال: يخسف بأولهم وآخرهم) فيدخل فيهم هؤلاء وإن لم يكن قصدهم لأنهم كثروا في سوادهم (ثم يبعثون على نياتهم) قال العيني: أي يخسف بالكل لشؤم الأشرار، ثم إنه تعالى يبعث كلا منهم في الحشر بحسب قصده ونيته إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، وفي رواية مسلم ((يهلكون مهلكًا واحدًا ويصدرون مصادر شتى)) قال النووي: أي يقع الهلاك على جميعهم ويبعثون مختلفين على قدر نياتهم فيجازون بحسبها انتهى. وفي حديث أم سلمة عند مسلم ((فقلت: يا رسول الله فكيف بمن كان كارهًا؟ قال: يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته)) قال الحافظ: أي يخسف بالجميع لشؤم الأشرار ثم يعامل كل أحد عند الحساب بحسب قصده. وفي هذا الحديث من الفقه التباعد من أهل الظلم والتحذير من مجالستهم لئلا يناله ما يعاقبون به قال تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} (سورة الأنفال: الآية 25) ، وفيه أن من كثر سواد قوم جرى عليهم حكمهم في ظاهر عقوبات الدنيا، قال الحافظ: في هذا الحديث أن الأعمال تعتبر بنية العامل والتحذير من مصاحبة أهل الظلم ومجالستهم وتكثير سوادهم إلا لمن اضطر لذلك، ويتردد النظر في مصاحبة التاجر لأهل الفتنة هل هي إعانة لهم على ظلمهم أو هي ضرورات البشرية، ثم يعتبر عمل كل أحد بنيته وعلى الثاني يدل ظاهر الحديث – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في البيوع ومسلم في الفتن واللفظ للبخاري، والحديث أخرجه أيضًا أحمد (ج 6: ص 105) وفي

ص: 485

2746 – (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ".

ــ

الباب عن أم سلمة عند أحمد (ج 6: ص 259، 290) ومسلم وابن ماجة والحاكم، وعن حفصة عند أحمد (ج 6: ص 286، 287) ومسلم والنسائي وابن ماجة والحاكم، وعن صفية أخرجه أحمد (ج 6: ص 336، 337) والترمذي وابن ماجة في الفتن.

2746 -

قوله (يُخْرِّب الكعبة) بضم الياء وفتح الخاء المعجمة وتشديد الراء المكسورة من التخريب، وبإسكان الخاء وتخفيف الراء المكسورة من الإخراب، والجملة فعل ومفعول والفاعل قوله (ذو السويقتين) بضم السين وفتح الواو تثنية سويقة مصغر الساق ألحق بها التاء للتصغير، لأن الساق مؤنثة والتصغير للتحقير والإشارة إلى الدقة لأن الغالب على سيقان الحبشة الدقة والحموشة فلذا صغرها (من الحبشة) من للتبعيض أي يخربها ضعيف من هذه الطائفة، وقال الطيبي: سر تصغير الإشارة إلى أن مثل هذه الكعبة المعظمة يهتك حرمتها مثل هذا الحقير الذميم الخلقة، ويحتمل أن يكون الرجل اسمه ذلك، أو أنه وصف له، أي رجل من الحبشة دقيق الساقين رقيقهما جدًا، والحبشة وإن كان شأنهم دقة السوق لكن هذا يتميز بمزيد من ذلك - انتهى. والحبش والحبشة نوع من السودان، قال في القاموس: الحبش والحبشة محركتين والأحبش بضم الباء جنس من السودان الجمع حبشان وأحابش - انتهى. قال الرشاطي: وهم من ولد كوش بن حام وهم أكثر السودان، وقد وقع هذا الحديث عند أحمد (ج 2: ص 351) من طريق سعيد بن سمعان عن أبي هريرة بأتم من هذا السياق ولفظه: يباع لرجل بين الركن والمقام ولم يستحل هذا البيت إلا أهله، فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب ثم تأتي الحبشة فيخربونه خرابًا لا يعمر بعده أبدًا، وهم الذين يستخرجون كنزه، وهذا التخريب يكون عند قرب الساعة حين لا يبقى في الأرض أحد يقول: الله الله. قال القرطبي: قيل إن خرابه يكون بعد رفع القرآن من الصدور والمصاحف، وذلك بعد موت عيسى عليه الصلاة والسلام وهو الصحيح – انتهى. قلت: وقع عند أحمد (ج 2: ص 310) من طريق ابن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " في آخر الزمان يظهر ذو السويقتين على الكعبة، قال: حسبت أنه قال: فيهدمها. قال الحافظ: قيل حديث أبي هريرة يخالف قوله تعالى: {أو لم يروا أنا جعلنا حرمًا آمنًا} ولأن الله حبس عن مكة الفيل ولم يمكن أصحابه من تخريب الكعبة ولم تكن إذ ذاك قبلة فكيف يسلط عليها الحبشة بعد أن صارت قبلة للمسلمين، وأجيب بأن ذلك محمول على أنه يقع في آخر الزمان قرب قيام الساعة حيث لا يبقى على الأرض أحد يقول الله الله كما ثبت في صحيح مسلم: " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله ". ولهذا وقع في رواية سعيد بن سمعان: لا يعمر بعده أبدًا، وقد وقع قبل ذلك فيه من القتال وغزو أهل الشام له في زمن يزيد بن معاوية ثم من بعده في وقائع كثيرة من أعظمها وقعة القرامطة بعد الثلاث مائة فقتلوا من

ص: 486

متفق عليه.

ــ

المسلمين في المطاف من لا يحصى كثرة وقلعوا الحجر الأسود فحولوه إلى بلادهم ثم أعادوه بعد مدة طويلة ثم غزى مرارًا بعد ذلك وكل ذلك لا يعارض قوله تعالى {أولم يروا أنا جعلنا حرمًا آمنًا} لأن ذلك إنما وقع بأيدي المسلمين فهو مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم: " ولن يستحل هذا البيت إلا أهله. فوقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وهو من علامات نبوته وليس في الآية ما يدل على استمرار الأمر المذكور فيها – انتهى كلام الحافظ. وقال العيني: لا يلزم من قوله ((حرمًا آمنًا)) أن يكون ذلك دائمًا في كل الأوقات، بل إذا حصلت له حرمة وأمن في وقت ما صدق عليه هذا اللفظ وصح المعنى، ولا يعارضه ارتفاع ذلك المعني في وقت آخر. وقال عياض ((حرما آمنا)) أي إلى قرب القيامة. وقال ابن الجوزي إن قيل ما السر في حراسة الكعبة من الفيل ولم تحرس في الإسلام مما صنع بها الحجاج والقرامطة وذو السويقتين؟ فالجواب: أن حبس الفيل كان من أعلام النبوة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلائل رسالته لتأكيد الحجة عليهم بالأدلة التي شوهدت بالبصر قبل الأدلة التي ترى بالبصائر، وكان حكم الحبس أيضًا دلالة على وجود الناصر – انتهى. هذا. وقد عقد البخاري باب قول الله تعالي:{جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد} (سورة المائدة: الآية 98) ثم أورد فيه حديث أبي هريرة هذا. قال العيني: أشار به إلى أن قوام أمور الناس وانتعاش أمر دينهم ودنياهم بالكعبة يدل عليه قوله {قيامًا للناس} فإذا زالت الكعبة على يد ذي السويقتين تختل أمورهم، فذلك أورد حديث أبي هريرة فيه – انتهى. وقال الحافظ: كأنه يشير إلى أن المراد بقوله {قيامًا} أي قوامًا وأنها ما دامت موجودة فالدين قائم فلهذه النكتة أورد في الباب قصة هدم الكعبة في آخر الزمان، ثم ترجم البخاري لحديث أبي هريرة هذا، وحديث ابن عباس الآتي ((باب هدم الكعبة)) وذكر فيه طرف حديث عائشة المتقدم بلفظ ((قال النبي صلى الله عليه وسلم يغزو جيش الكعبة فيخسف بهم، قال الحافظ: فيه إشارة إلى أن غزو الكعبة سيقع، فمرة يهلكم الله قبل الوصول إليها وأخرى يمكنهم، والظاهر أن غزو الذين يخربونه متأخر عن الأول، وقال العيني: غزو الكعبة المذكور في حديث عائشة مقدمة لهدمها لأن غزوها يقع مرتين ففي الأولى هلاكهم وفي الثانية هدمها (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج ومسلم في الفتن، وأخرجه أيضًا أحمد كما تقدم والحاكم والنسائي في الحج وفي التفسير، هذا وقد جاء في تخريب الكعبة أحاديث، منها حديث ابن عباس الآتي ومنها ما رواه أبو داود الطيالسي بسند صحيح، ومنها ما رواه أحمد (ج 2: ص 220) والطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا ((يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ويسلبها حليتها ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمسحاته ومعوله)) ومنها ما رواه ابن الجوزي من حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا طويلاً وفيه ((وخراب مكة من الحبشة على يد حبشي أفحج الساقين أزرق العينين أفطس

ص: 487

2747 – (8) وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " كأني به أسود أفحج

ــ

الأنف كبير البطن معه أصحابه ينقضونها حجرًا حجرًا ويتناولونها حتى يرموا بها يعني الكعبة إلى البحر)) . وفي كتاب الغريب لأبي عبيد عن علي، قال: استكثروا من الطوائف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه فكأني برجل من الحبشة أصلع وأصمع حمش الساقين قاعد عليها وهي تهدم، وخرجه الحاكم مرفوعًا، وفيه ((أصمع أقرع، بيده معول وهو يهدمها حجرًا حجرًا)) ذكره العيني.

2747– قوله (كأني به) قال الحافظ: كذا في جميع الروايات عن ابن عباس في هذا الحديث، والذي يظهر أن في الحديث شيئًا حذف ويحتمل أن يكون هو ما وقع في حديث عليّ عند أبي عبيد في غريب الحديث من طريق أبي العالية عن علي، قال: استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه فكأني برجل من الحبشة أصلع أو قال: أصمع حمش الساقين قاعد عليها وهي تهدم، ورواه الفاكهي من هذا الوجه، ولفظه ((أصعل)) بدل ((أصلع)) وقال ((قائمًا عليها يهدمها بمسحاته)) ورواه يحيى الحماني في مسنده من وجه آخر عن علي مرفوعًا – انتهى. وتعقبه العيني بأنه لا يحتاج إلى تقدير حذف لأنه إنما يقدر في موضع يحتاج إليه للضرورة ولا ضرورة ها هنا. قال: ودعواه الظهور غير ظاهرة لأنه لا وجه في تقدير محذوف لا حاجة إليه بما جاء في أثر عن صحابي ولا يقال الأحاديث يفسر بعضها بعضًا، لأنا نقول هذا إنما يكون عند الاحتياج إليه ولا احتياج ها هنا إلى ذلك. قال: والضمير في لفظ ((به)) يحتمل ثلاثة أوجه: الأول أن يعود إلى البيت والقرينة الحالية تدل عليه، أي كأني متلبس به، الثاني أن يعود إلى القالع (الآتي ذكره) بالقرينة الحالية أيضًا، الثالث ما قاله الطيبي وهو أنه ضمير مبهم يفسره ما بعده على أنه تمييز كقوله تعالى:{فقضاهن سبع سموات} (سورة حم السجدة: الآية 11) فإن ضمير ((هن)) هو المبهم المفسر بسبع سموات وهو تمييز، وهذه الأوجه صحيحة ماشية على قاعدة العربية فلا يحتاج إلى تقدير حذف (أسود) بالرفع على أنه مبتدأ خبره يقلعها والجملة حال بدون الواو والضمير في به للبيت أي كأني متلبس به وأنظر إليه أو يكون ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف والضمير في ((به)) للقالع، والتقدير كأني بالقالع هو أسود، ويروى أسود منصوبًا على الذم أو الاختصاص أو الحال. قال التوربشي والدماميني: يجوز أن يكون أسود أفحج حالين متداخلتين أو مترادفتين من الضمير في به، وقال المظهري: هما بدلان من الضمير المجرور وفتحا لأنهما غير منصرفين، ويجوز إبدال المظهر من المضمر الغائب نحو ضربته زيدًا، وتقدم ما قال الطيبي: أن الضمير في به مبهم يفسره ما بعده على أنه تمييز فهما منصوبان على التمييز (أفحج) بفتح الهمزة وسكون الفاء بعدها وفتح الحاء المهملة وبالجيم من الفحج بفاء ثم حاء مهملة ثم جيم وهو بالنصب أو الرفع كسابقه، والفحج تداني صدور القدمين وتباعد العقبين من باب علم وفتح، وقيل الفحج تباعد ما بين الساقين وقيل هو

ص: 488