الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(15) باب حرم المدينة حرسها الله تعالى
(الفصل الأول)
ــ
والحديث ذكره المحب الطبري في القرى (ص 589) وقال: أخرجه ابن الحاج في منسكه، وذكره الحافظ في الفتح في باب فضل مكة وبنيانها ثم قال: أخرجه أحمد وابن ماجة وعمر بن شبة في كتاب مكة وسنده حسن – انتهى.
(باب حرم المدينة) قال الزرقاني: المدينة في الأصل المصر الجامع ثم صارت علمًا بالغلبة على دار هجرته صلى الله عليه وسلم ووزنها فعيلة لأنها من مدن (بالمكان أي أقام به) وقيل: مفعلة بفتح الميم لأنها من دان (بمعنى أطاع، والدين الطاعة) والجمع مدن ومدائن بالهمز على القول بأصالة الميم ووزنها فعائل وبغير همز على القول بزيادة الميم ووزنها مفاعل انتهى. وقال الحافظ في الفتح: المدينة علم على البلدة المعروفة التي هاجر إليها النبي صلى الله عليه وسلم ودفن بها. قال الله تعالى: {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة} (سورة المنافقون: الآية 8) فإذا أطلقت تبادر إلى الفهم أنها المراد، وإذا أريد غيرها بلفظ المدينة فلا بد من قيد فهي كالنجم للثريا، وكان اسمها قبل ذلك ((يثرب)) قال الله تعالى:{وإذ قالت طائفة منهم: يا أهل يثرب} (سورة الأحزاب: الآية 13) ويثرب اسم لموضع منها سميت كلها به، قيل: سميت بيثرب بن قانية من ولد إرم بن سام بن نوح، لأنه أول من نزلها، حكاه أبو عبيد البكري، وقيل غير ذلك. ثم سماها النبي صلى الله عليه وسلم طابة وطيبة كما سيأتي. وكان سكانها العماليق ثم نزلها طائفة من بني إسرائيل قيل أرسلهم موسى عليه السلام كما أخرجه الزبير بن بكار في أخبار المدينة بسند ضعيف ثم نزلها الأوس والخزرج لما تفرق أهل سبأ بسبب سيل العرم – انتهى. قال النووي في مناسكه: لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أسماء: المدينة وطابة وطيبة والدار ويثرب، قال تعالى:{ما كان لأهل المدينة} (سورة التوبة: الآية 121) وفي مسلم عن جابر مرفوعًا: " إن الله سمي المدينة طابة ". قال النووي: سميت طابة وطيبة لخلوصها من الشرك وطهارتها منه، وقيل لطيب ساكنها، وأما تسميتها الدار فللاستقرار بها لأمنها، وأما المدينة فقال كثير من أهل اللغة: هي من دان أي أطاع، سميت بها لأنه يطاع لله تعالى فيها. قال ابن حجر في شرحه: اقتصر على هذه الأسماء مع أن أسمائها تقارب الألف كما بينها بعض المتأخرين لأنها أشهرها – انتهى. وقال السمهودي: إن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى ولم أجد أكثر من أسماء هذه البلدة الشريفة وقد استقصيتها بحسب القدرة حتى أني زدت على شيخ مشائخنا
المجد الشيرازي اللغوي وهو أعظم الناس في هذا الباب نحو ثلاثين اسمًا فرقمت على ذلك صورة ليتميزوها وأنا أوردها مرتبة على حروف المعجم، ثم ذكر السمهودي أربعة وتسعين اسمًا مع بيان معانيها وسرد أحمد بن عبد الحميد العباسي ثمانية وخمسين اسمًا ثم ترجم كل اسم حسب ترتيبه الأبجدي، من أحب الوقوف على ذلك رجع إلى وفاء الوفا (ص 8 إلى ص 27) وإلى عمدة الأخبار (ص 58 إلى ص 70) . واعلم أن للمدينة حرمة عند الحنفية لا حرمًا كما لمكة خلافًا للأئمة الثلاثة؛ فعندهم يحرم صيدها وقطع شجرها، وعند الحنفية لا يحرم ذلك وسيأتي بسط الكلام في ذلك.
2753 -
(1) عن علي رضي الله عنه، قال: ما كتبنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا القرآن، وما في هذه الصحيفة. قال:
ــ
2753-
قوله (ما كتبنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا القرآن وما في هذه الصحيفة) هذا لفظ البخاري في الجزية رواه من طريق سفيان عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي، وروى مسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن أبيه، قال:(أي يزيد بن شريك التيمي والد إبراهيم) : خطبنا علي بن أبي طالب فقال: من زعم أن عندنا شيئًا نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة - قال: وصحيفة معلقة في قراب سيفه - فقد كذب. وروى البخاري أيضًا في العلم من طريق مطرف عن الشعبي عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي رضي الله عنه: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة. قال الحافظ: قوله ((هل عندكم)) الخطاب لعلي والجمع إما لإرادته مع بقية أهل البيت أو للتعظيم. وقوله ((كتاب)) أي مكتوب أخذتموه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أوحي إليه، ويدل على ذلك رواية المصنف يعني البخاري في الجهاد: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ وله في الديات: ((هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟)) . وفي مسند إسحاق بن راهويه عن جرير عن مطرف ((هل علمت شيئًا من الوحي؟)) وإنما سأله أبو جحيفة عن ذلك لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن عند أهل البيت لا سيما عليًا أشياء من الوحي خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بها لم يطلع غيرهم عليها. وقد سأل عليًا عن هذه المسألة أيضًا قيس بن عُبَاد (بضم العين وتخفيف الباء) والأشتر النخعي وحديثهما في مسند النسائي (ومسند الإمام أحمد ج 1: ص 122) وقال النووي: قوله من زعم أن عندنا شيئًا نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة فقد كذب)) . هذا تصريح من علي رضي الله عنه بإبطال ما تزعمه الرافضة والشيعة ويخترعونه من قولهم أن عليًا رضي الله عنه أوصى إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأمور كثيرة من أسرار العلم وقواعد الدين وكنوز الشريعة، وأنه صلى الله عليه وسلم خص أهل البيت بما لم يطلع عليه غيرهم، وهذه دعاوى باطلة واختراعات فاسدة لا أصل لها ويكفي في إبطالها قول علي رضي الله عنه هذا، وفيه دليل على جواز كتابة العلم (قال) أي علي رضي الله عنه تفسيرًا لما في الصحيفة، وفي رواية أبي جحيفة عند البخاري في العلم قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، إلخ. قال الحافظ: ووقع للبخاري ومسلم من طريق يزيد التيمي عن علي قال: ما عندنا شيء نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة، فإذا فيها الجراحات وأسنان الإبل والمدينة حرم - الحديث. ولمسلم عن أبي الطفيل عن علي: ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعم به الناس كافة إلا ما في قراب سيفي هذا. وأخرج صحيفة مكتوب فيها: لعن الله من ذبح لغير الله - الحديث. وللنسائي من طريق الأشتر وغيره عن علي ((فإذا فيها: المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم)) .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المدينة حرام ما بين عير إلى ثور،
ــ
الحديث. ولأحمد من طريق طارق بن شهاب ((فيها فرائض الصدقة)) والجمع بين هذه الأحاديث أن الصحيفة كانت واحدة وكان جميع ذلك مكتوباً فيها فنقل كل واحد من الرواة عنه ما حفظه، والله أعلم. وقد بين ذلك قتادة في روايته لهذا الحديث عن أبي حسان عن علي (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المدينة حرام) كذا في رواية البخاري في باب إثم من عاهد ثم غدر من كتاب الجهاد، وهكذا وقع عند أحمد (ج 1: ص 126) وأبي داود ولفظ مسلم ((المدينة حرم)) بفتحتين بدون ألف، وهكذا عند البخاري في ((باب ذمة المسلمين وجوارهم واحدة)) وكذا وقع عند أحمد (ج 1: ص 81) والترمذي والنسائي. والحرام بمعنى الحرم لأن الروايات يفسر بعضها بعضًا. وقال القاري: حرام أي محترم ممنوع مما يقتضي إهانة الموضع المكرم، وعند الشافعية: الحرام بمعنى الحرم. قلت: وهو الظاهر (ما بين عَيْر) بفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف بلفظ العير مرادف الحمار، جبل مشهور في قبلة المدينة بقرب ذي الحليفة ميقات المدينة، وفي رواية للبخاري ((ما بين عائر)) بألف بعد العين المهملة على وزن فاعل (إلى ثور) بفتح الثاء المثلثة وسكون الواو بلفظ الثور فحل البقر جبل صغير خلف أحد، وهو غير جبل ثور الذي بمكة، وقوله ((إلى ثور)) انفرد به مسلم، ولفظ البخاري ((إلى كذا)) أي بإبهام النهاية. قال الحافظ: اتفقت روايات البخاري كلها على إبهام الثاني، ووقع عند مسلم ((إلى ثور)) فقيل: إن البخاري أبهمه عمداً لما وقع عنده أنه وهم. وقال صاحب المشارق والمطالع: أكثر رواة البخاري ذكروا عيرًا وأما ثور فمنهم من كنى عنه بكذا، ومنهم من ترك مكانه بياضًا، والأصل في هذا التوقف قول مصعب الزبيري ((ليس بالمدينة عير ولا ثور)) ، وأثبت غيره عيرًا فوافقه على إنكار ثور. قال أبو عبيد (القاسم بن سلام) : قوله: ((ما بين عير إلى ثور)) . هذه رواية أهل العراق، وأما أهل المدينة فلا يعرفون جبلاً عندهم يقال له ثور، وإنما ثور بمكة، ونرى أن أصل الحديث ما بين عير إلى أحد. قلت (قائله الحافظ) : وقد وقع ذلك في حديث عبد الله بن سلام عند أحمد والطبراني (في الكبير قال عبد الله بن سلام: ما بين كذا وأحد حرام حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنت لأقطع به شجرة ولا أقتل به طائرًا. هذا لفظ أحمد (ج 5: ص 450)، ولفظ الطبراني ((قال: ما بين عير وأحد حرام)) . قال الهيثمي: ورجاله ثقات) وقال عياض: لا معنى لإنكار عير بالمدينة فإنه معروف، وقد جاء ذكره في أشعارهم، وأنشد أبو عبيد البكري في ذلك عدة شواهد. وقال ابن السيد في المثلث: عير اسم جبل بقرب المدينة معروف. قال الحافظ: وقد سلك العلماء في إنكار مصعب الزبيري لعير وثور مسالك، منها ما تقدم، ومنها: قول ابن قدامة في المغنى (ج 3: ص 354) : يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد قدر ما بين ثور وعير لا أنهما بعينهما في المدينة، ويحتمل أنه أراد الجبلين الذين بطرفي المدينة وسماهما عيرًا وثورًا تجوزًا وارتجالاً – انتهى. وحكى ابن الأثير كلام أبي عبيد
...................................................................................
ــ
مختصراً ثم قال: وقيل إن عيرًا جبل بمكة، ويكون المراد أنه حرم من المدينة قدر ما بين عير وثور من مكة أو حرم المدينة تحريماً مثل تحريم ما بين عير وثور بمكة، على حذف المضاف ووصف المصدر المحذوف. وقال النووي: يحتمل أن ثوراً كان اسمًا لجبل هناك إما أحد وإما غيره فخفي اسمه، وقال صاحب البيان والانتصار: قد صحت الرواية بلفظ ثور فلا ينبغي الإقدام على توهيم الرواة بمجرد عدم العرفان فإن أسماء الأماكن قد تتغير أو تنسى ولا يعلمها كثير من الناس، وأيضًا فقد يكون للشيء اسمان فيعرف أحدهما دون الآخر. وقال المجد صاحب القاموس: لا أدري كيف وقعت المسارعة من هؤلاء الأعلام إلى إثبات وهم في الحديث المتفق على صحته بمجرد ادعاء أن أهل المدينة لا يعرفون جبلاً يسمى ثورًا وذكر احتمال طرق التغيير في الأسماء والنسيان لبعضها، قال: حتى إني سألت جماعة من فقهاء المدينة وأمرائها وغيرهم من الأشراف عن فدك ومكانها فكلهم أجابوا بعدم معرفة موضع يسمى بذلك في بلادهم مع أن هذه القرية لم تبرح في أيدي الأشراف والخلفاء يتداولونها إلى أواخر الدولة العباسة فكيف بجبل صغير لا يتعلق به كبير أمر مع أنه معروف بين أهل العلم بالمدينة ونقل بعض الحفاظ وصفه بذلك خلفًا عن سلف – انتهى. ونقل جماعة عن المحدث أبي محمد عفيف الدين عبد السلام بن مزروع البصري نزيل المدينة المشرفة أنه رآه غير مرة وأنه لما خرج رسولاً من صاحب المدينة إلى العراق كان منه دليل يذكر له الأماكن والأجبل، فلما وصلا إلى أحد إذا بقربه جبل صغير فسأله ما اسم هذا الجبل؟ فقال له: يسمى ثورًا. وقد حكى عنه نحو هذا القطب الحلبي في شرح البخاري ثم قال: فعلمت بذلك صحة الرواية. وقال المحب الطبري في الأحكام بعد حكاية كلام أبي عبيد ومن تبعه: قد أخبرني الثقة الصدوق الحافظ العالم أبو محمد عبد السلام البصري أن حذاء أحد عن يساره جانحًا إلى وراءه جبل صغير يقال له ثور. وأخبر أنه تكرر سؤاله عنه لطوائف من العرب العارفين بتلك الأرض وما فيها من الجبال فكل أخبر أن ذلك الجبل اسمه ثور وتواردوا على ذلك. قال الطبري: فعلمنا بذلك أن ذكر ثور في الحديث صحيح، وأن عدم علم أكابر العلماء به لعدم شهرته وعدم بحثهم عنه. قال: وهذه فائدة جليلة – انتهى. وقال الحافظ بعد حكاية كلام ابن مزروع البصري والمحب الطبري والقطب الحلبي: وذكر شيخنا أبو بكر بن حسين المراغي نزيل المدينة في مختصره لأخبار المدينة أن خَلَفَ أهل المدينة ينقلون عن سلفهم أن خَلْفَ أحد من جهة الشمال جبلاً صغيرًا يضرب لونه إلى الحمرة بتدوير يسمى ثوراً. قال: وقد تحققته بالمشاهد – انتهى كلام الحافظ. ونقل السمهودي عن الإقشهري أنه قال: قد استقصينا من أهل المدينة تحقيق خبر جبل يقال له ثور عندهم فوجدنا ذلك اسم جبل صغير خلف جبل أحد يعرفه القدماء دون المحدثين من أهل المدينة. والذي يعلم حجة على من لا يعلم – انتهى. واعلم أن ما ورد في حديث على هذا من
...................................................................................
ــ
تحديد حرم المدينة بما بين عير وثور لا ينافي الحديث الآتي: ((إني أحرم ما بين لابتي المدينة)) . لأن اللابتين حرتان يكتنفانها، كما في القاموس، وعير وثور مكتنفان المدينة، فحديث عير وثور يفسر اللابتين، وقيل حديث:((ما بين لابتيها)) يعني من جهة المشرق والمغرب، فإن من جهة المشرق حرة ومن جهة المغرب أخرى، وحديث:((ما بين عير إلى ثور)) يعني من جهة الجنوب والشمال، فثور من جهة الشمال، وعير من جهة الجنوب، والله أعلم. وفي حديث علي هذا وفيما يأتي من أحاديث سعد بن أبي وقاص، وحديث أبي سعيد وحديث أنس دليل على أن المدينة حرمًا كحرم مكة، وقد روي في هذا عن جماعة من الصحابة غير هؤلاء، ذكر أحاديثهم المجد في المنتقى، والعيني في العمدة (ج10: ص 231) والهيثمي في مجمع الزوائد (ج3: ص 303) والسمهودي في وفاء الوفا (ص 89، 105، 108) . قال الشوكاني: استدل بما في هذه الأحاديث من تحريم شجر المدينة وخبطه وعضده وتحريم صيدها وتنفيره الشافعي ومالك وأحمد وجمهور أهل العلم على أن للمدينة حرمًا كحرم مكة يحرم صيده وشجره. قال الشافعي ومالك: فإن قتل صيدًا أو قطع شجرًا فلا ضمان لأنه ليس بمحل للنسك فأشبه الحمى. وقال ابن أبي ذئب وابن أبي ليلى: يجب فيه الجزاء كحرم مكة، وبه قال بعض المالكية وهو ظاهر قوله ((كما حرم إبراهيم مكة)) ، وذهب أبو حنيفة وزيد بن علي والناصر إلى أن حرم المدينة ليس بحرم على الحقيقة ولا تثبت له الأحكام من تحريم قتل الصيد وقطع الشجر، والأحاديث ترد عليهم – انتهى. وقال العيني: احتج بأحاديث تحريم حرم المدينة محمد بن أبي ذئب والزهري والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق، وقالوا: المدينة لها حرم فلا يجوز قطع شجرها ولا أخذ صيدها، ولكنه لا يجب الجزاء فيه عندهم خلافًا لابن أبي ذئب فإنه قال: يجب الجزاء، وكذلك لا يحل سلب من يفعل ذلك عندهم إلا عند الشافعي، وقال في القديم: من اصطاد في المدينة صيدًا أخذ سلبه ويروى فيه أثرًا عن سعد، وقال في الجديد بخلافه. وقال الثوري وعبد الله بن المبارك وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: ليس للمدينة حرم كما كان لمكة، فلا يمنع أحد من أخذ صيدها وقطع شجرها – انتهى. والمراد من المنع منع استحباب لا تحريم، فلا يحرم عند الحنفية أخذ صيدها وقطع شجرها، بل يكره فقط كما في المرقاة. قال في الكافي: لأن حل الاصطياد عرف بالنصوص القاطعة فلا يحرم إلا بقاطع كذلك، ولم يوجد، وأما تحريم مكة فنصوص الكتاب فيه صريحة. قال التوربشتي: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم ((لا تخبط منها شجرة إلا لعلف)) وأشجار حرم مكة لا يجوز خبطها بحال، وأما صيد المدينة وإن رأى تحريمه نفر يسير من الصحابة فإن الجمهور منهم لم ينكروا اصطياد الطور بالمدينة ولم يبلغنا فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي من طريق يعتمد عليه – انتهى. وأيضًا قال
...................................................................................
ــ
أصحابنا: قوله عليه الصلاة والسلام ((أحرم)) من الحرمة لا من التحريم بمعنى أعظم المدينة جمعًا بين الدليلين بقدر الإمكان، وبه نقول فنعظمها ونوقرها أشد التوقير والتعظيم، لكن لا نقول بالتحريم لعدم القاطع احترازًا عن الجرأة على تحريم ما أحل الله تعالى. فإن قيل: إنه شبه التحريم بمكة فكيف يصح الحمل على التعظيم؟ أجيب: بأنه لا يخلو عن أمرين، إما أن يكون المراد التشبيه من كل الوجوه أو من وجه دون وجه، فإن كان الأول فلا يصح الحمل على ما حملتم عليه قوله ((كتحريم إبراهيم مكة)) فقلتم في الحرمة فقط لا في وجوب الجزاء في المشهور من المذهب، وإن قلتم بوجوب الجزاء فلا نسلم لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة رضي الله عنهم إلا عن سعد فقط. وعن عمر في قول، وهو سلب القاطع والصائد وقد أجمعنا أن ذلك لا يجب في حرم مكة فكيف يجب هناك؟ وإن كان الثاني فكما حملتم على شيء ساغ لنا أن نحمل على آخر، وهذا لأن تشبيه الشيء بالشيء يصح من وجه واحد وإن كان لا يشبهه من كل الوجوه كما في قوله تعالى {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم} (سورة آل عمران: الآية 52) . يعني من وجه واحد وهو تخليقه بغير أب فكذلك نقول إن تشبيهه بمكة في تحريم التعظيم فقط لا في التحريم الذي يتعلق به أحكام أخر، لأن ذلك يوجب التعارض بين الأحاديث، وبالحمل على ما قلنا يدفع ودفعه هو المطلوب مهما أمكن بالإجماع، فصار المصير إلى ما ذهبنا إليه أولى وأرجح بلا نزاع – انتهى. قال صاحب فتح الملهم بعد ذكر هذا كله: قلت: ولكن يرد هذا كله حديث جابر عند مسلم بلفظ: ((إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها)) . وأصرح منه حديث سعد بلفظ: ((إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها)) . وفي حديث ابن عباس عند أحمد (ج 1: ص 318) بإسناد حسن: ((لكل نبي حرم وحرمي المدينة، اللهم إني أحرمها بحرمك أن لا يؤوى بها محدث ولا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها ولا تؤخذ لقطتها إلا لمنشدها)) . فقد ثبت النهي عن الاصطياد بطريق يعتمد عليه، وظهر أن التحريم فيه ليس بمعنى التوقير والتعظيم فقط بل هو واقع على قطع العضاه وقتل الصيد كالحرم المكي والله أعلم – انتهى. قلت: والأصل في المنع والنهي التحريم حتى تقوم دلالة على التنزيه ولم يقم دليل على كون النهي لكراهة التنزيه، بل ورد ما يدل على كونه للتحريم فقد روى مسلم من طريق يزيد بن هارون عن عاصم الأحول قال: سألت أنسًا أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؟ قال: نعم هي حرام، لا يختلى خلاها، فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ففي هذه الرواية ترتب الوعيد الشديد على المختلي، قال صاحب فتح الملهم: هذا مخالف لما ذهب إليه الحنفية من حمل النهي عن الاختلاء ونحوه على الكراهة مع إثبات الإباحة. قال: ولم أجد في غير هذا الطريق ويختلج في قلبي أن الرواية وقع فيها اختصار، وحذف بعض الرواة ذكر الإحداث وإيواء المحدث وكان
...................................................................................
ــ
الوعيد مرتبًا على ذلك المحذوف كما هو المصرح في سائر الروايات عن أنس، وأيضًا ليس في هذه الرواية التصريح برفع هذه الجملة إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى على المتأمل – انتهى. قلت: ليس منشأ هذا الاختلاج إلا أن هذه الرواية مخالفة لمذهب الحنفية فاضطر إلى توهينها والتشكيك في رفعها، وإلا فليس ها هنا ما يدل على كونها مخالفة لسائر الروايات فتأمل. وأحاب الحنفية أيضًا عن الأحاديث المذكورة بأنه صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك لا لأنه لما ذكروه من تحريم صيد المدينة وشجرها، بل إنما أراد بذلك بقاء زينة المدينة ليستطيبوها ويألفوها وذلك كمنعه صلى الله عليه وسلم من هدم آطام المدينة وقال:" إنها زينة المدينة ". قال الحافظ: قال الطحاوي: يحتمل أن يكون سبب النهي عن صيد المدينة وقطع شجرها كون الهجرة كانت إليها فكان بقاء الصيد والشجر مما يزيد في زينتها ويدعو إلى ألفتها كما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هدم آطام المدينة فإنها من زينة المدينة فلما انقطعت الهجرة زال ذلك، وما قاله ليس بواضح لأن النسخ لا يثبت إلا بدليل، وقد ثبت على الفتوى بتحريمها سعد وزيد بن ثابت وأبو سعيد وغيرهم كما أخرجه مسلم. قال الحافظ: واحتج الطحاوي (لما ذهب إليه الحنفية) بحديث أنس في قصة أبي عمير ((ما فعل النغير)) قال: لو كان صيدها حرامًا ما جاز حبس الطير. وأجيب باحتمال أن يكون من صيد الحل. قال أحمد: من صاد من الحل ثم أدخله المدينة لم يلزمه إرساله لحديث أبي عمير، وهذا قول الجمهور، لكن لا يرد ذلك على الحنفية لأن صيد الحل عندهم إذا دخل الحرم كان له حكم الحرم، ويحتمل أن تكون قصة أبي عمير كانت قبل التحريم (لأنه في أول الهجرة، وتحريم المدينة كان بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من خيبر) واحتج بعضهم بحديث أنس في قصة قطع النخل لبناء المسجد، ولو كان قطع شجرها حرامًا ما فعله صلى الله عليه وسلم، وتعقب بأن ذلك كان في أول الهجرة كما سيأتي واضحًا في أول المغازي، وحديث تحريم المدينة كان بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من خيبر كما سيأتي في حديث عمرو بن أبي عمرو عن أنس في الجهاد، وفي غزوة أحد من المغازي واضحًا. قلت: واستدل الحنفية أيضًا بما رواه الطحاوي والطبراني وابن أبي شيبة عن سلمة أنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما إنك لو كنت تصيدت بالعقيق لشيعتك إذا ذهبت وتلقيتك إذا جئت فإني أحب العقيق ". قال الطحاوي: ففي هذا الحديث ما يدل على إباحة صيد المدينة ألا ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دل سلمة وهو بها على موضع الصيد وذلك لا يحل بمكة فثبت أن حكم صيد المدينة خلاف حكم صيد مكة. وقال في النخبة: هذا تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم على جواز صيد المدينة فإن الأئمة اتفقوا على أن العقيق من المدينة ولم يخالف فيه مخالف. وأجيب عن ذلك بما قال البيهقي أن حديث سلمة ضعيف ومن يدعي العلم بالآثار لا ينبغي له أن يعارض الأحاديث الثابتة في حرم المدينة بهذا
...................................................................................
ــ
الحديث الضعيف، وقد يجوز أن يكون الموضع الذي كان سلمة يصيد فيه خارجًا من حرم المدينة، والموضع الذي رأى فيه سعد بن أبي وقاص غلامًا يقطع شجرًا من حرم المدينة داخله حتى لا يتنافيان، ولو اختلفا كان الحكم لرواية سعد لصحة حديثه وثقة رجاله دون حديث سلمة - انتهى. ويحتمل أن حديث سلمة كان قبل تحريم المدينة. قال صاحب فتح الملهم: والذي تحصل من مجموع الروايات – والله سبحانه وتعالى أعلم – أن لمكة حرمًا وللمدينة حرمًا يختلف عن حرم مكة في نوع من الأحكام كالنهي عن دخولها بغير إحرام وغيره، ويشبهه في نوع منها كالنهي عن الاصطياد وقطع الشجر مع تفاوت الدرجات فيه من حيث ورود التشديد والتغليظ في شأن مكة وإيجاب العقوبات على من جنى فيها على غير شاكلة ما هو في شأن المدينة من وقوع التساهل والإغماض عمن ارتكب شيئًا مما نهى عنه، وهذا غير خاف على من تأمل في الأحاديث التي ذكرناها من الطحاوي وغيره، ويشهد لهذا التخفيف أيضًا ما رخص النبي صلى الله عليه وسلم في خبط شجرها لعلف الدواب، وقال في حديث جابر عند أبي داود وغيره لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن يهش هشًا رفيقًا أي ينثر نثرًا بلين ورفق، ولهذا لم يجر التعامل على ما في حديث سعد من التعزير بالسلب؛ بل قال ابن بطال: حديث سعد في السلب لم يصح عند مالك ولا رأى العمل عليه بالمدينة كما في عمدة القاري – انتهى. وقال الحافظ: قال ابن قدامة: يحرم صيد المدينة وقطع شجرها، وبه قال مالك والشافعي وأكثر أهل العلم، وقال أبو حنيفة: لا يحرم ثم من فعل مما حرم عليه فيه شيئًا أثم ولا جزاء عليه في رواية لأحمد وهو قول مالك والشافعي في الجديد وأكثر أهل العلم وفي رواية لأحمد وهو قول الشافعي في القديم وابن أبي ذئب واختاره ابن المنذر وابن نافع من أصحاب مالك وقال القاضي عبد الوهاب: إنه الأقيس واختاره جماعة بعدهم فيه الجزاء وهو كما في حرم مكة وقيل: الجزاء في حرم المدينة أخذ السلب لحديث صححه مسلم عن سعد بن أبي وقاص، وفي رواية لأبي داود ((من وجد أحدًا يصيد في حرم المدينة فليسلبه)) . قال القاضي عياض: لم يقل بهذا بعد الصحابة إلا الشافعي في القديم. قلت (قائله الحافظ) : واختاره جماعة معه وبعده لصحة الخبر فيه، ولمن قال به اختلاف في كيفيته ومصرفه، والذي دل عليه صنيع سعد عند مسلم وغيره أنه كسلب القتيل وأنه للسالب لكنه لا يخمس، وأغرب بعض الحنفية فادعى الإجماع على ترك الأخذ لحديث السلب ثم استدل بذلك على نسخ أحاديث تحريم المدينة، ودعوى الإجماع مردودة فبطل ما ترتب عليها. قال ابن عبد البر: لو صح حديث سعد لم يكن في نسخ أخذ السلب ما يسقط الأحاديث الصحيحة، ويجوز أخذ العلف لحديث أبي سعيد في مسلم:((ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف)) . ولأبي داود من طريق أبي حسان عن علي نحوه، وقال المهلب: في حديث أنس دلالة على أن المنهي عنه في الحديث الماضي مقصور على القطع الذي
...................................................................................
ــ
يحصل به الإفساد، فأما من يقصد الإصلاح كمن يغرس بستانًا مثلاً فلا يمتنع عليه قطع ما كان لتلك الأرض من شجر يضر بقاؤه. قال: وقيل: بل فيه دلالة على أن النهي إنما يتوجه إلى ما أنبته الله من الشجر مما لا صنع فيه للآدمي كما حمل عليه النهي عن قطع شجر مكة وعلى هذا يحمل قطعه صلى الله عليه وسلم النخل وجعله قبلة المسجد ولا يلزم منه النسخ المذكور – انتهى. ويأتي مزيد الكلام على حرم المدينة ومسألة السلب في شرح حديث سعد الآتي. فائدة: روى مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة. قال أبو هريرة: فلو وجدت الظباء ما بين لابتيها ما ذعرتها، وجعل اثني عشر ميلاً حول المدينة حمى. وروى أبو داود من حديث عدي بن زيد قال: حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ناحية من المدينة بريدًا بريدًا لا يخبط شجره ويعضد إلا ما يساق به الجمل. وقد سكت عليه أبو داود وكذا سكت عليه الحافظ في الفتح، وقال المنذري: في إسناده سليمان بن كنانة، سئل عنه أبو حاتم الرازي فقال: لا أعرفه، ولم يذكره البخاري في تاريخه، وفي إسناده أيضًا عبد الله بن أبي سفيان وهو في معنى المجهول – انتهى. وقال في التقريب في عبد الله بن أبي سفيان: إنه مقبول. قال السمهودي (ص 96) : اعلم أن قوله في حديث مسلم ((وجعل اثني عشر ميلاً حول المدينة حمى)) . ظاهر في التحريم لذلك القدر، إذ حول المدينة إنما هو حرمها وحمى النبي صلى الله عليه وسلم الذي ليس بحرم لم يكن حول المدينة على ما سيأتي بيانه، ولأن التقي السبكي قال: إن في سنن أبي داود تحديد حرم المدينة ببريد من كل ناحية. قال: وإسناده ليس بالقوي. والذي رأيته في أبي داود عن عدي بن زيد: حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ناحية من المدينة بريدًا بريدًا، إلخ. قال: ورواه البزار بنحوه، ورواه ابن زبالة بلفظ ((حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم شجر المدينة بريدًا في بريد منها، وأذن في المسد والمنجدة ومتاع الناضح أن يقطع منه)) . وروى المفضل الجندي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال في قصة العبد الذي وجده يعضد أو يخبط عضاها بالعقيق: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من وجد من يعضد أو يخبط شيئًا من عضاه المدينة بريدًا في بريد فله سلبه ". وروى البزار عن جابر قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بريدًا من نواحيها كلها. (قال الهيثمي بعد عزوه للبزار: وفيه الفضل بن مبشر وثقه ابن حبان وضعفه جماعة) قال السمهودي: وفي الأوسط للطبراني: وفيه ضعيف عن كعب بن مالك، قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الشجر بالمدينة بريدًا في بريد فأرسلني فأعلمت على الحرم على شرف ذات الجيش وعلى شريب، وعلى أشراف مخيض وعلى نبت (قال الهيثمي: في طرقه عبد العزيز بن عمران بن أبي ثابت، وهو ضعيف) قال السمهودي: ورواه ابن النجار وابن زبالة بلفظ ((حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بريدًا في بريد وأرسلني فأعلمت على الحرم)) إلخ. قال: وروى ابن زبالة أيضًا من طريق مالك بن أنس عن أبي بكر بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحمى: إلى مضرب القبة. قال مالك: وذلك نحو من بريد. قال السمهودي بعد بيان الألفاظ المتعلقة بالتحديد ما نصه:
فمن أحدث فيها حدثًا، أو آوى
ــ
والتحديد بهذه الأماكن مؤيد لكون مجموع الحرم بريدًا، ولذلك قال ابن زبالة عقب ما تقدم عنه: وذلك كله يشبه أن يكون بريدًا في بريد – انتهى. ويحمل عليه قول أبي هريرة في حديث مسلم ((وجعل اثني عشر ميلاً حول المدينة حمى)) لأن ذلك هو البريد أي ستة أميال من جهة قبلتها وستة أميال من جهة شاميها وكذلك في المشرق والمغرب ومثله حديث حمى كل ناحية من المدينة بريدًا أي من القبلة إلى الشمال بريدًا، ومن المشرق إلى المغرب بريدًا، وقد أخذ بذلك مالك رحمه الله لكن فرق بين حرم الشجر وحرم الصيد، وجعل البريد حرم الشجر وما بين اللابتين حرم الصيد. قال عياض في الإكمال: قال ابن حبيب: تحريم ما بين اللابتين مخصوص بالصيد، قال: وأما قطع الشجر فبريد في بريد في دور المدينة كلها، بذلك أخبرني مطرف عن مالك وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن وهب – انتهى. وحكى الباجي في المنتقى مثله عن ابن نافع ونقل ابن زبالة عن مالك أنه قال: الحرم حرمان: فحرم الطير والوحش من حرة واقم – أي وهي الحرة الشرقية، إلى حرة العقيق – أي وهي الغربية – وحرم الشجر بريد في بريد. وقال البرهان بن فرحون: حرم الصيد ما بين حرارها الأربع، وسماها أربعًا لوجود الحرتين المذكورتين في الجهات الأربع، لانعطاف بعض الشرقية والغربية من جهة الشمال والقبلة، ولم يعول أصحابنا في تحديد الحرم على البريد مع ما فيه من الزيادة؛ لأن أدلته ليست بالقوية فعولوا على ما اشتملت عليه الأحاديث الصحيحة من الجبلين واللابتين على أن إطلاق أحاديث التحريم مقترن بعدم الفرق بين حرم الشجر وحرم الصيد سواء كان الحرم بريدًا أو دونه غير أن في أحاديث البريد ما يشعر بأنه للشجر، مع أن ابن زبالة - ومحله من الضعف معلوم – روى عن ابن بشير المازني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرم ما بين لابتيها – يعني المدينة – من الصيد، وعن أبي هريرة وغيره نحوه. وفي رواية له:((من الطير أن يصاد بها)) ، وقد يقال: هو من باب إفراد فرد مما حرم بالذكر. فإن قيل: قوله في حديث مسلم ((حرم ما بين لابتيها وجعل اثني عشر ميلاً حول المدينة حمى، دال على الفرق المذكور، قلنا: ممنوع لأن غايته أن يراد بالحمى الحرم فكأنه قال: وجعل اثني عشر ميلاً حولها حرمًا؛ إذ ليس فيه أنه جعله حمى الشجر – انتهى كلام السمهودي. (فمن أحدث) أي أظهر (فيها) أي في المدينة (حدثًا) بفتحتين أي منكرًا أو بدع وهي ما خالف الكتاب والسنة، وقال العيني: هو الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعتاد ولا معروف في السنة (أو آوى) أي ضم وحمى ومكن وأجار. قال عياض: ويقال: أوى وآوى بالقصر والمد في الفعل اللازم والمتعدي جميعًا، لكن القصر في اللازم أشهر وأفصح، والمد في المتعدي أشهر وأفصح. قال النووي: وبالأفصح جاء القرآن العزيز في الموضعين، قال الله تعالى {أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة} (سورة الكهف الآية: 62) وقال في المتعدي {وآويناهما إلى ربوة} (سورة المؤمنون:
محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، ذمة المسلمين واحدة
ــ
الآية 52) (محدثًا) بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكسر: من نصر جانيًا وآواه وأجاره من خصمه وحال بينه وبين أن يقتص منه. ومعنى الفتح هو الأمر المبتدع نفسه. ويكون معنى الإيواء فيه الرضا به والصبر عليه، فإنه إذا رضي ببدعته وأقر فاعله عليها ولم ينكرها فقد آواه، قاله العيني. وقال القاري: بكسر الدال على الرواية الصحيحة أي مبتدعًا، وقيل: أي جانيًا بأن يحول بينه وبين خصمه أن يقتص منه، ويروى بفتح الدال أي أمرًا مبتدعًا، وإيواؤه الرضاء به والصبر عليه فعليه) أي فعلى كل منهما (لعنة الله) أي طرده وإبعاده (والملائكة) أي دعاؤهم عليه بالبعد عن رحمته (والناس أجمعين) قال الحافظ: قوله ((فعليه لعنة الله)) إلخ، فيه جواز لعن أهل المعاصي والفساد لكن لا دلالة فيه على لعن الفاسق المعين. وفيه أن المحدث والمؤوي للمحدث في الإثم سواء. قال عياض: واستدل بهذا على أن الحدث في المدينة من الكبائر لأن اللعنة لا تكون إلا في كبيرة، والمراد بلعنة الملائكة والناس المبالغ في الإبعاد عن رحمة الله، فإن اللعن في اللغة هو الطرد والإبعاد. قال: والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه في أول الأمر وليس هو كلعن الكافر الذي يبعد من رحمة الله كل الإبعاد. وقال ابن بطال: دل الحديث على أن من أحدث حدثًا أو آوى محدثًا في غير المدينة أنه غير متوعد بمثل ما توعد به من فعل ذلك بالمدينة وإن كان قد علم أن من آوى أهل المعاصي إنه يشاركهم في الإثم، فإن من رضي فعل قوم وعملهم التحق بهم ولكن خصت المدينة بالذكر لشرفها ولكونها مهبط الوحي وموطن الرسول عليه الصلاة والسلام. ومنها انتشر الدين في أقطار الأرض فكان لها بذلك مزيد فضل على غيرها. وقال غيره: السر في تخصيص المدينة بالذكر أنها كانت إذ ذاك موطن النبي صلى الله عليه وسلم ثم صارت موضع الخلفاء الراشدين ((لا يقبل منه صرف ولا عدل) بفتح أولهما، وفي رواية ((لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلاً)) ، واختلف في تفسيرهما فعند الجمهور الصرف الفريضة والعدل النافلة، ورواه ابن خزيمة بإسناد صحيح عن الثوري وعن الحسن البصري بالعكس، وعن الأصمعي الصرف التوبة والعدل الفدية، وقيل غير ذلك. قال عياض: معناه لا يقبل قبول رضى وإن قبل قبول جزاء، وقيل يكون القبول هنا بمعنى تكفير الذنب بهما، وقد يكون معنى الفدية هنا أنه لا يجد يوم القيامة فداء يفتدي به بخلاف غيره من المذنبين بأن يفديه من النار بيهودي أو نصراني كما رواه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري (ذمة المسلمين) أي عهدهم وأمانهم واحدة) أي إنها كالشيء الواحد لا يختلف باختلاف المراتب، ولا يجوز نقضها لتفرد العاقد بها، وكان الذي ينقض ذمة أخيه كالذي ينقض ذمة نفسه، وهي ما يذم الرجل على إضاعته من عهد وأمان كأنهم كالجسد الواحد الذي إذا اشتكى بعضه اشتكى كله، قاله القاري. وقال الحافظ: ذمة المسلمين واحدة أي أمانهم صحيح فإذا آمن الكافر واحد من المسلمين حرم على غيره التعرض له، وللأمان شروط معروفة، وقال البيضاوي: الذمة العهد سمي بها لأنه يذم متعاطيها
يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومن والى قومًا بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين،
ــ
على إضاعتها (يسعى بها) أي يتولاها ويلي أمرها (أدناهم) أي أدنى المسلمين مرتبة، والمعنى أن ذمة المسلمين واحدة سواء صدرت من واحد أو أكثر، شريف أو وضيع، فإذا آمن أحد من المسلمين كافرًا وأعطاه ذمة لم يكن لأحد نقضه فيستوي في ذلك الرجل والمرأة والحر والعبد لأن المسلمين كنفس واحدة. قال الحافظ: دخل في قوله ((أدناهم)) كل وضيع بالنص وكل شريف بالفحوى؛ فدخل في ((أدناهم)) المرأة والعبد والصبي والمجنون، فأما المرأة فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة إلا شيئًا ذكره عبد الملك يعني ابن الماجشون صاحب مالك لا أحفظ ذلك عن غيره، قال: إن أمر الأمان إلى الإمام وتأول ما ورد مما يخالف ذلك على قضايا خاصة، قال ابن المنذر: وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم ((يسعى بذمتهم أدناهم)) دلالة على إغفال هذا القائل – انتهى. وجاء عن سحنون مثل قول ابن الماجشون فقال: هو إلى الإمام إن أجازه جاز وإن رده رد، وأما العبد فأجاز الجمهور أمانه قاتل أو لم يقاتل. وقال أبو حنيفة: إن قاتل جاز أمانه وإلا فلا. وقال سحنون: إذا أذن له سيده في القتال صح أمانه وإلا فلا. وأما الصبي فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن أمان الصبي غير جائز. قلت (قائله الحافظ) : وكلام غيره يشعر بالتفرقة بين المراهق وغيره، وكذلك المميز الذي يعقل، والخلاف عن المالكية والحنابلة، وأما المجنون فلا يصح أمانه بلا خلاف كالكافر، لكن قال الأوزاعي: إن غزا الذمي مع المسلمين فآمن أحدًا فإن شاء الإمام أمضاه وإلا فليرده إلى مأمنه، وحكى ابن المنذر عن الثوري أنه استثنى من الرجال الأحرار الأسير في أرض الحرب فقال: لا ينفذ أمانه وكذلك الأجير (فمن أخفر مسلمًا) بالخاء المعجمة والفاء أي نقض عهد مسلم وأمانه فتعرض لكافر آمنه مسلم. قال أهل اللغة: يقال: أخفرت الرجل إذا نقضت عهده وخفرته بغير همز إذا آمنته، فالهمزة في أخفر للإزالة والسلب نحو اشكيته أي أزلت شكايته فمعنى ((أخفر مسلمًا)) أزال خفرته أي عهده وأمانه (ومن والى قومًا) أي اتخذهم أولياء، وهو يحتمل أن يراد به ولاء المولاة والحلف بأن يكون لرجل موالي فأبطل مولاتهم واتخذ قومًا آخرين موالي بغير إذن مواليه والاستشارة بهم فإن فيه نوعًا من نقض العهد والإيذاء، وقيل المراد من نسب نفسه إليهم كانتمائه إلى غير أبيه، ويحتمل أن يراد ولاء العتاقة وهذا أنسب لما جاء في الرواية الأخرى من أقرانه وذكره مع قوله:((من ادعى إلى غير أبيه)) يعني من انتسب إلى غير من هو معتق له كان كالدعي الذي ينتسب إلى غير أبيه، قال النووي: معناه أن ينتمي العتيق إلى ولاء غير معتقه وهذا حرام لتفويته حق المنعم عليه. ولأن الولاء كالنسب فيحرم تضييعه كما يحرم تضييع النسب وانتساب الإنسان إلى غير أبيه (بغير إذن مواليه) تنبيه على ما هو المانع وهو إبطال حقهم وأمانتهم وإيراد الكلام على ما هو
لا يقبل منه صرف ولا عدل ". متفق عليه. وفي رواية لهما: " من ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل ".
ــ
الغالب في الوقوع لا تقييد الحكم بعدم الإذن حتى يجوز الانتساب بإذنهم. قال النووي: احتج قوم بقوله ((بغير إذن مواليه)) على جواز التولي بإذن مواليه، والصحيح الذي عليه الجمهور أنه لا يجوز وإن أذنوا كما لا يجوز الانتساب إلى غير أبيه وإن أذن أبوه فيه، وحملوا التقييد في الحديث على الغالب لأن غالب ما يقع هذا بغير إذن الموالي فلا يكون له مفهوم يعمل به ونظيره قوله تعالى:{وربائبكم اللاتي في حجوركم} (سورة النساء: الآية 27)، وقوله تعالى {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} (سورة الأنعام: الآية 122) وغير ذلك من الآيات التي قيد فيها بالغالب وليس لها مفهوم يعمل به - انتهى. وقال الخطابي: ليس إذن الموالي شرطًا في ادعاء نسب وولاء ليس منه وإليه، وإنما ذكر تأكيدًا للتحريم لأنه إذا استأذنهم في ذلك منعوه وحالوا بينه وبين ما يفعل من ذلك – انتهى. قال الحافظ: وهذا لا يطرد لأنهم قد يتواطؤن معه على ذلك لغرض ما، والأولى ما قال غيره أن التعبير بالإذن ليس لتقييد الحكم بعدم الإذن وقصره عليه، وإنما ورد الكلام بذلك على أنه الغالب – انتهى. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون كنى بذلك عن بيعه فإذا وقع بيعه جاز له الانتماء إلى مولاه الثاني وهو غير مولاه الأول، أو المراد موالاة الحلف، فإذا أراد الانتقال عنه لا ينتقل إلا بإذن، وقال البيضاوي: الظاهر أنه أراد به ولاء العتق لعطفه (في الرواية الآتية) على قوله ((من ادعى إلى غير أبيه)) والجمع بينهما بالوعيد، فإن العتق من حيث أنه لحمة كلحمة النسب فإذا نسب إلى غير من هو له كالدعي الذي تبرأ عمن هو منه وألحق نفسه بغيره، فيستحق به الدعاء عليه بالطرد والإبعاد عن الرحمة ثم أجاب عن الإذن بنحو ما تقدم، وقال: ليس هو للتقييد، وإنما هو للتنبيه على ما هو المانع، وهو إبطال حق مواليه، فأورد الكلام على ما هو الغالب (متفق عليه) . أخرجه البخاري في الحج وفي الجهاد وفي الفرائض وفي الاعتصام، ومسلم في الحج وفي العتق، وأخرجه أيضًا أحمد وأبو داود في أواخر الحج والترمذي في الولاء والهبة، والنسائي والطحاوي والبيهقي وغيرهم (وفي رواية لهما) أي للشيخين وفيه أن قوله ((من ادعى إلى غير أبيه)) ليس في رواية البخاري (من ادعى) أي انتسب (إلى غير أبيه) أي المعروف) أو تولى غير مواليه) هذا العطف يؤيد من فسر الموالاة بولاء العتاقة كما تقدم (فعليه لعنة الله) إلخ. قال النووي: هذا صريح في غلظ تحريم انتماء الإنسان إلى غير أبيه أو انتماء العتيق إلى ولاء غير مواليه لما فيه من كفر النعمة وتضييع حقوق الإرث والولاء والعقل وغير ذلك مع ما فيه من قطيعة الرحم والعقوق.
2754 – (2) وعن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني أحرم ما بين لابتي المدينة: أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها ".
ــ
2754 – قوله (وعن سعد) أي ابن أبي وقاص أحد العشرة المبشرة (إني أحرم ما بين لابتي المدينة) بتخفيف الموحدة تثنية لابة، وهي الحرة وهي الأرض ذات الحجارة السود كأنها أحرقت بالنار وأراد بهما حرتين تكتفانها وجمع اللابة لوب ولابات ولاب. قال ابن حبيب: هما الحرتان الشرقية والغربية، وللمدينة حرتان حرة بالقبلة (من جهة الجنوب) وحرة بالجرف (من جهة الشمال) فهي حرار أربع لكن يرجع كلها إلى الحرتين الشرقية والغربية لاتصالهما بهما ولذلك جمعها صلى الله عليه وسلم في اللابتين. وقال السمهودي: ما بين لابتيها أي حرتيها الشرقية والغربية، والمدينة بينهما، ولها أيضًا حرة بالقبلة وحرة بالشام لكنهما يرجعان إلى الشرقية والغربية لاتصالهما بهما، ولهذا جمعها صلى الله عليه وسلم كلها في اللابتين كما نبه عليه الطبري – انتهى. قال الحافظ: قد تكرر ذكر اللابتين في الحديث ووقع في حديث جابر عند أحمد ((وأنا أحرم المدينة ما بين حرتيها)) فادعى بعض الحنفية أن الحديث مضطرب لأنه وقع في رواية ((ما بين جبليها)) وفي رواية ((ما بين لابتيها)) وفي رواية ((مازميها)) وتعقب بأن الجمع بينهما واضح وبمثل هذا لا ترد الأحاديث الصحيحة، فإن الجمع لو تعذر أمكن الترجيح، ولا شك أن رواية ما بين لابتيها أرجح لتوارد الرواة عليها، ورواية جبليها لا تنافيها فيكون عند كل لابة جبل أو لا بتيها من جهة الجنوب والشمال وجبليها من جهة الشرق والغرب، وتسمية الجبلين في رواية أخرى لا تضر، وأما رواية مازميها فهي في بعض طرق أبي سعيد، والمزم بكسر الزاي المضيق بين الجبلين، وقد يطلق على الجبل نفسه كذا قال الحافظ في شرح حديث أنس في باب حرم المدينة. وفيه نظر فإنه ليس عند كل جبل لابة ولا أن لابتيها من جهة الجنوب والشمال وجبليها من جهة المشرق والمغرب بل الحقيقة أن حديث ما بين لابتيها يعني من جهة المشرق والمغرب، فإن من جهة المشرق حرة ومن جهة المغرب أخرى، وحديث ما بين جبليها يعنى الحرتين الجنوبية والشمالية، قال النووي: للمدينة لابتان شرقية وغربية وهي بينهما. قال: والمراد باللابتين الحرتان، قال: وهذه الأحاديث كلها متفقة فما بين لابتيها بيان لحد حرمها من جهتي المشرق والمغرب وما بين جبليها لحده من جهة الجنوب والشمال. وقال الحافظ في باب لابتي المدينة في شرح حديث أبي هريرة (ما بين لابتيها حرام)) : أن المدينة بين لابتين شرقية وغربية ولها لابتان أيضًا من الجانبين الآخرين إلا أنهما يرجعان إلى الأوليين لاتصالهما بهما، والحاصل أن جميع دورها كلها داخل ذلك – انتهى. قال النووي: ومعنى قوله ((ما بين لابتيها، للابتان وما بينهما، والمراد تحريم المدينة ولابتيها يعني أن اللابتين داخلتان أيضًا. قال الأبي: ولعلها بدليل آخر وإلا فلفظ ((بين)) لا يشملهما – انتهى. (أن يقطع) بدل اشتمال من المفعول (عضاهها) بكسر العين المهملة،
وقال: " المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يدعها أحد رغبة عنها
ــ
وهي كل شجر عظيم له شوك كالطلح والعوسج واحدها عضاهة وعضهة وعضه وعضة بحذف الهاء الأصلية كما يحذف من الشفة (وقال: المدينة خير لهم) قال القاري: أي لأهلها من المؤمنين في الدنيا والأخرى، وذلك مطلق إن كان قبل الفتح ومقيد بغير مكة إن كان بعده، أو المراد بالخيرية من جهة بركة المعيشة فلا ينافي بركة الفضيلة الزائدة الثابتة لمكة بالأحاديث الصحيحة الصريحة – انتهى. قلت: احتج ابن رشد بالحديث على تفضيل المدينة على مكة، ولا دليل فيه لأن كونها خيرًا مطلق يصدق بصورة ككونها خيرًا من الشام لا من كل الأرض. وقال السندي في حاشية مسلم: قوله ((المدينة خير لهم)) قال ذلك في ناس يتركون المدينة إلى بعض بلاد الرخاء كالشام وغيره كما سيجيء، وهؤلاء الناس هم المراد بضمير ((لهم)) أي المدينة خير لأولئك التاركين لها من تلك البلاد التي يتركون المدينة لأجلها فلا دليل في الحديث على تفضيل المدينة على مكة كما لا يخفى (لو كانوا يعلمون) أي ما فيها من الخير لما فارقوها وما اختاروا غيرها عليها وما تحولوا للتوسعة في الدنيا، قال السندي: ليس المراد به أنها خير على تقدير العلم، إذ المدينة خير لهم علموا أو لا، بل المراد لو علموا بذلك لما فارقوها، وقد يجعل كلمة لو للتمني لكن قد يقال: كثير منهم يبلغهم الخبر ويفارقونها فأولئك قد علموا بذلك لبلوغهم الخبر ومع ذلك فارقوها فكيف يصح ((لو علموا بذلك لما فارقوها)) ؟ قلت: يمكن دفعه بأن المراد لو علموا بذلك عيانًا وليس الخبر كالمعاينة، أو يقال هو من تنزيل العالم الذي لا يعمل بعلمه بمنزلة الجاهل، كأنه ما علم هذا، وقد يقال: المعنى المدينة خير لهم لو كانوا من أهل العلم، إذ البلدة الشريفة لا ينتفع بها إلا الأهل الشريف الذين يعملون على مقتضى العلم، وأما من ليس من أهل العلم فلا ينتفع بالبلدة الشريفة بل ربما يتضرر، فخيرية البلدة ليست إلا لأهلها، ومن يليق للاقإمة فيها فافهم – انتهى. وقال الأبي:((لو)) هذه إن كانت امتناعية فجوابها محذوف أي لو كانوا من أهل العلم لعلموا ذلك ولم يفارقوا المدينة، وإن كانت متعدية فالتقدير لو كانوا يعلمون ذلك لما فارقوها، وإن كانت للتمني لم تفتقر إلى جواب، وعلى التقديرين هو تجهيل لمن فعل ذلك لتفويته عن نفسه أجرًا عظيمًا، ولذلك قال: إلا أبدل الله فيها خيراً منهم، كما قال تعالى:{وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم} (سورة محمد: الآية40) ، أي يخلق خلقًا سواكم على خلاف صفتكم من الرغبة في الإيمان (لا يدعها) استئناف مبين أي لا يتركها (أحد) ممن استوطنها (رغبة عنها) أي عن ثواب الساكن فيها، وأما من خرج لضرورة شدة زمان أو فتنة فليس ممن يخرج رغبة عنها. وقال القرطبي والمازري: رغبة عنها أي كراهة لها من رغبت عن الشيء إذا كرهته. وقال الباجي: الظاهر عندي أنه إنما أراد به الخروج عن استيطانها إلى استيطان غيرها، وأما من كان مستوطنًا غيرها يعني من كان وطنه غيرها فقدم عليها طالبًا للقربة بإتيانها ورجع إلى وطنه أو كان مستوطنًا بها فسافر عنها لحاجة أو لضرورة شدة زمان أو فتنة فليس ممن يخرج رغبة عنها –
إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا
ــ
انتهى. (إلا أبدل الله فيها) أي في المدينة (من هو خير منه) قال الباجي: بمولود يولد فيها أو بمنتقل ينتقل إليها من غيرها. قيل هذا خاص بزمن حياته صلى الله عليه وسلم، وقيل: دائمًا. ويدل عليه قوله في حديث ((يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه هلم إلى الرخاء، المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون)) . وقال ابن عبد البر: هذا في حياته صلى الله عليه وسلم وذلك مثل الأعرابي القائل ((أقلني بيعتي)) ومعلوم أن من رغب عن جواره أبدله الله خيرًا منه، وأما بعد وفاته فقد خرج منها جماعة من أصحابه ولم تعوض المدينة خيرًا منهم. قال الزرقاني: يعني كأبي موسى وابن مسعود ومعاذ وأبي عبيدة وعلي وطلحة والزبير وعمار وحذيفة وعبادة بن الصامت وبلال وأبي الدرداء وأبي ذر وغيرهم، وقطنوا غيرها وماتوا خارجًا عنها ولم تعوض المدينة مثلهم فضلاً عن خير منهم، فدل ذلك على التخصيص بزمنه صلى الله عليه وسلم. قال الأبي: الأظهر أن ذلك ليس خاصًا بالزمن النبوي ومن خرج من الصحابة لم يخرج رغبة عنها بل إنما خرج لمصلحة دينية من تعليم أو جهاد أو غير ذلك – انتهى. قال الزرقاني: لا يقال ليس النزاع في أن خروجهم لما ذكر إنما هو في تعويضها بخير منهم، وهذا لم يقع فالأظهر التخصيص لأنا نقول: الإبدال مقيد بالخروج رغبة عنها فلا يرد أن الخارج لمصلحة دينية لم تعوض مثلهم – انتهى. قلت: هذا هو الظاهر بل الصحيح فإن التعويض والإبدال لما كان مقيدًا بترك المدينة والخروج رغبة عنها فلا مانع من حمله على الإطلاق والعموم (ولا يثبت أحد) أي بالصبر (على لأوائها) بالمد بسكون الهمزة الأولى وتبدل ألفًا أي شدة جوعها (وجهدها) بفتح الجيم وقد تضم أي مشقتها مما يجد فيه من شدة الحر وكربة الغربة وأذية من فيها من أهل البدعة لأهل السنة. قال الجوهري: اللأواء الشدة، لكن المراد هنا ضيق المعيشة والقحط لما في أكثر الروايات على لأوائها وشدتها فلابد من الاختلاف في معناهما وإن كان يمكن أن يكون العطف تفسيريًا وتأكيديًا لأن التأسيس أولى، والأصل في العطف التغاير فيحمل اللأواء على ضيق المعيشة والجهد على ما يصيبهم من الحر وعلى ما يصيب المهاجر فيها من وحشة الغربة وغير ذلك، كذا في المرقاة، وشرح المصابيح للتوربشتي. قال الأبي: الحديث خرج مخرج الحث على سكناها فمن لزم سكناها دخل في ذلك ولو لم تلحقه لأواء لأن التعليل بالغالب والمظنة لا يضر فيه التخلف في بعض الصور كتعليل القصر بمشقة السفر (إلا كنت) بصيغة المتكلم (له شفيعًا أو شهيدًا) قال عياض: سئلت قديمًا عن معنى هذا الحديث يعنى أن ((أو)) هذه هل هي للشك أو غيره ولمَ خص ساكن المدينة بالشفاعة هنا مع عموم شفاعته صلى الله عليه وسلم وادخاره إياها لأمته؟ قال: وأجبت عنه بجواب شاف مقنع في أوراق اعترف بصوابه كل واقف عليه. قال: وأذكر الآن منه يعنى في شرح مسلم لمعاً تليق بهذا الموضع قال بعض شيوخنا: أو هنا
يوم القيامة ". رواه مسلم.
2755 – (3) وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلا
ــ
للشك والأظهر عندنا أنها ليست للشك لأن هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو سعيد وأبو هريرة وأسماء بنت عميس وصفية بنت أبي عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ، ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشك وتطابقهم فيه على صيغة واحدة بل الأظهر أنه صلى الله عليه وسلم قال هكذا، فإما أن يكون أعلم بهذه الجملة هكذا (أي من الله تعالى) وإما أن يكون أو للقسيم ويكون شهد لبعض أهل المدينة وشفيعًا لباقيهم إما شفيعًا للعاصين وشهيدًا للمطيعين وإما شهيدًا لمن مات في حياته وشفيعاً لمن مات بعده أو غير ذلك، وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة لمكانة المذنبين يوم القيامة، وعلى شهادته على جميع الأمة وقد قال صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد: أنا شهيد على هؤلاء فيكون لتخصيصهم بهذا كله مزية وزيادة منزلة وحظوة. قال: وقد تكون أو بمعنى الواو فيكون لأهل المدينة شفيعًا وشهيدًا معًا. قال: وقد روي: إلا كنت له شهيدًا وله شفيعًا – انتهى. قال الزرقاني: بالواو رواه البزار من حديث ابن عمر. قال عياض: وإذا جعلنا أو للشك كما قيل فإن كانت اللفظة الصحيحة ((شهيدًا)) اندفع الاعتراض لأنها زائدة على الشفاعة المدخرة المجردة لغيرهم، وإن كانت ((شفيعًا)) فاختصاص أهل المدينة بهذا مع ما جاء من عموهما وادخارها لجميع الأمة أن هذه شفاعة أخرى غير العامة التي هي لإخراج أمته من النار ومعافاة بعضهم منها بشفاعته صلى الله عليه وسلم في القيامة وتكون هذه الشفاعة بزيادة الدرجات ورفعها أو تخفيف السيئات أو بما شاء الله من ذلك أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة كإيوائهم إلى ظل العرش أو كونهم في روح أو على منابر أو الإسراع بهم إلى الجنة أو غير ذلك من خصوص الكرامات الواردة لبعضهم دون بعض- انتهى. كذا نقله عنه النووي في شرح مسلم وغيره وأقروه (يوم القيامة) في الحديث إشارة إلى بشارة حسن الخاتمة وتنبيه على أنه ينبغي للمؤمن أن يكون صابرًا بل شاكرًا على إقامته في المدينة ولا ينظر إلى ما في عداها من النعم الصورية لأن العبرة بالنعم الحقيقية الأخروية (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص 181، 185) والبيهقي (ج 5: ص 197) .
2755-
قوله (لا يصبر على لأواء المدينة) أي شدة جوعها (وشدتها) عطف تفسير على قول بعض الشراح، وقال أبو عمر: يعني المدينة والشدة والجوع واللأواء تعذر الكسب وسوء الحال. وقال المازري: اللأواء الجوع وشدة المكسب، وضمير شدتها يحتمل أن يعود على اللأواء
ويحتمل أن يعود إلى المدينة. وقال الباجي: اللأواء هو الجوع وتعذر التكسب والشدة يحتمل أن يريد بها اللأواء ويحتمل أن يريد بها كل ما يشتد به سكانها وتعظم مضرته (أحد من أمتي إلا
كنت له شفيعًا يوم القيامة ". رواه مسلم.
2756 – (4) وعنه قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمرة جاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه قال: " اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا،
ــ
كنت له شفيعًا يوم القيامة) كذا وقع في المشكاة والمصابيح، أي بذكر شفيعًا فقط، وفي صحيح مسلم كنت له شفيعًا يوم القيامة أو شهيدًا. وهكذا عند أحمد والبخاري في الكبير والترمذي، وكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج 10: ص 199) والظاهر أنه سقط لفظ ((أو شهيدًا)) في المشكاة والمصابيح. وقد تقدم أنهم اختلفوا في هذا فقيل هو مختص بمدة حياته صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون: هو عام أبدًا، وهذا أصح، حكاه النووي عن عياض وأقره (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 288،) ، والبخاري في التاريخ الكبير (ج2: ص284، 285) والترمذي في فضل المدينة من آخر المناقب.
2756-
قوله (كان الناس) أي الصحابة (إذا رأوا أول الثمرة) كذا في المشكاة والمصابيح وجامع الأصول، ولفظ مسلم ((أول الثمر)) أي بغير التاء، وهكذا في الموطأ وجامع الترمذي، والظاهر أن ما وقع في المشكاة والمصابيح وجامع الأصول خطأ، والثمر بفتح المثلثة والميم، وأول الثمر يسمى الباكورة، فالمعنى إذا رأوا باكورة الثمر وهي أول ما يدرك من الفاكهة (جاءوا به) أي بأول الثمر (إلى النبي صلى الله عليه وسلم) أي هدية له صلى الله عليه وسلم كما يدل عليه إعطاؤه لوليد. قال العلماء: كانوا يفعلون ذلك رغبة في دعائه صلى الله عليه وسلم في الثمر وللمدينة والصاع والمد، وإعلامًا له صلى الله عليه وسلم بابتداء صلاحها بما يتعلق بها من الزكاة وغيرها، وتوجيه الخارصين. وقال الأبي: وقيل: إنما كانوا يؤثرونه به على أنفسهم حبًا له، ويرونه أولى الناس بما يسبق إليهم من خير من ربهم. وقال الزرقاني: إما هدية وجلالة ومحبة وتعظيمًا، وإما تبركًا بدعائه لهم بالبركة وهو الذي يغلب على ظني، وسياق الحديث يدل عليه، والمعنيان محتملان، قاله ابن عبد البر. وكذا ذكر هذين الاحتمالين التوربشتي. وقال الباجي: يريد بالثمر ثمر النخل لأنه هو المقصود ثمارها، وأتوا به تبركًا بدعائه وإعلامًا له ببدو الصلاح، إما لما كان يتعلق به من إرسال الخراص ليستحلوا أكلها والتصرف فيها، وإما ليعلموه جواز بيع ثمارهم لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيعها قبل بدوها (فإذا أخذه) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الزرقاني: زاد في بعض طرق الحديث ((وضعه على وجهه)) أي إظهارًا للفرح والمسرة (اللهم بارك لنا في ثمرنا) بالنماء والزيادة والبقاء (وبارك لنا في مدينتنا أي في ذاتها من جهة سعتها ووسعة أهلها، وقد استجاب الله دعاءه عليه الصلاة والسلام بأن وسع نفس المسجد وما حوله من المدينة وكثر الخلق فيها حتى عد من الفرس المعد للقتال المهيأ بها في زمن عمر أربعون
وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا،
ــ
ألف فرس، والحاصل أن المراد بالبركة هنا ما يشمل الدنيوية والأخروية والحسبة، قاله القاري. وقيل بارك لنا في مدينتنا في أمور أخرى أيضًا سوى الثمار (وبارك لنا في صاعنا) أي فيما يكال به كمية وكيفية (وبارك لنا في مدنا) قال الزرقاني: أي بارك لنا في ما يكال في صاعنا وبارك لنا في ما يكال في مدنا، فحذف المقدر لفهم السامع وهو من باب ذكر المحل وإرادة الحال. قال ابن عبد البر: هذا من فصيح كلامه وبلاغته صلى الله عليه وسلم، وفيه استعارة، لأن الدعاء إنما هو للبركة في الطعام المكيل بالصاع والمد لا في الظروف، ويحتمل على ظاهر العموم أن تكون فيهما. وقال القاضي عياض: البركة هنا بمعنى النماء والزيادة وتكون بمعنى الثبات واللزوم، قال: فقيل يحتمل أن تكون هذه البركة دينية، وهي ما تتعلق بهذه المقادير من حقوق الله تعالى في ذكر الزكوات والكفارات فتكون بمعنى الدعاء للثبات والبقاء لها كبقاء الحكم بها ببقاء الشريعة وثباتها، ويحتمل أن تكون دنيوية من تكثير المال والقدر بهذه الأكيال حتى يكفي منه ما لا يكفي من غيره في غير المدينة، أو ترجع البركة إلى التصرف بها في التجارة وأرباحها أو إلى كثرة ما يكال بها من غلاتها وثمارها، أو تكون الزيادة فيما يكال بها لاتساع عيشهم وكثرته بعد ضيقه بما فتح الله عليهم ووسع من فضله لهم وتمليكهم من بلاد الخصب والريف بالشام والعراق ومصر وغيرها حتى كثر الحمل إلى المدينة واتسع عيشهم حتى صارت هذه البركة في الكيل نفسه فزاد مدهم وصار هشاميًا مثل مد النبي صلى الله عليه وسلم مرتين أو مرة ونصفًا. وفي هذا كله ظهور إجابة دعوته صلى الله عليه وسلم وقبولها – انتهى كلام القاضي. قال النووي: الظاهر من هذا كله أن المراد البركة في نفس الكيل في المدينة بحيث يكفي المد في المدينة لمن لا يكفيه في غيرها، وهذا أمر محسوس عند من سكنها. قال الطيبي: ولعل الظاهر هو قول عياض ((أو لاتساع عيش أهلها)) إلخ، لأنه صلى الله عليه وسلم قال: وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك إبراهيم لمكة، ودعاء إبراهيم هو قوله {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} (إبراهيم: الآية 37) يعني وارزقهم من الثمرات بأن تجلب إليهم من البلاد لعلهم يشكرون النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات في واد ليس فيه نجم ولا شجر ولا ماء لا جرم أن الله عز وجل أجاب دعوته فجعله حرمًا آمنًا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقًا من لدنه، ولعمري أن دعاء حبيب الله صلى الله عليه وسلم استجيب لها وضاعف خيرها على غيرها بأن جلب إليها في زمن الخلفاء الراشدين من مشارق الأرض ومغاربها من كنوز كسرى وقيصر وخاقان ما لا يحصى ولا يحصر، وفي آخر الأمر يأرز الدين إليها من أقاصي الأرض وشاسع البلاد وينصر هذا التأويل قوله في حديث أبي هريرة: أمرت بقرية تأكل القرى، ومكة أيضًا من مأكولها – انتهى. وقال الباجي: يحتمل أن يريد بالبركة بركة
اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه ".
ــ
دنيا وآخرة ففي الدنيا أن يكون الطعام الذي يكتال به تكثر بركته بأن يجزئ منه العدد ما لا يجزئ ما كيل بغيره، أو يبارك في التصرف به على وجه التجارة بمعنى الإرباح أو يريد به المكيل فيكون ذلك دعاؤه في كثرة ثمارهم وغلاتهم، وأما البركة الدنيوية فإنها بهذا الكيل يتعلق كثير من العبادات من أداء زكاة الحبوب والفطر والكفارات – انتهى. قلت: الأرجح عندنا هو ما قاله النووي فإنه هو الظاهر من ألفاظ هذا الحديث، وما ورد في معناه كما لا يخفى على المتأمل. قال القرطبي: إذا وجدت البركة فيها في وقت حصلت إجابة الدعوة ولا يستلزم دوامها في كل حين ولكل شخص، والله أعلم. تنبيه: قال الزرقاني: هل يختص الدعاء المذكور بالمد المخصوص بزمانه صلى الله عليه وسلم أو يعم كل مد تعارفه أهل المدينة في سائر الأعصار زاد أو نقص، وهو الظاهر لأنه صلى الله عليه وسلم أضافه إلى المدينة تارة وإلى أهلها أخرى، ولم يضفه إلى نفسه الزكية فدل على عموم الدعوة لا على خصوصه بمد النبي صلى الله عليه وسلم كما أفاده بعض العلماء – انتهى. قلت: وإلى الخصوص يظهر ميل البخاري حيث ترجم على حديث أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم بارك لهم في مكيالهم وبارك لهم في صاعهم ومدهم)) بلفظ ((باب بركة صاع النبي صلى الله عليه وسلم ومده)) (اللهم إن إبراهيم) عليه الصلاة والسلام (عبدك وخليلك) كما قلت: {واتخذ الله إبراهيم خليلاً} سورة النساء الآية 124) . (وإني) أيضًا (عبدك ونبيك) لم يقل ((خليلك)) مع أنه خليل كما صرح به في أحاديث عدة. قال الأبي: رعاية للأدب في ترك المساواة بينه وبين آبائه الكرام. وقال الطيبي: عدم التصريح بذلك مع رعاية الأدب أفخم. قال الزمخشري في قوله تعالى {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات} (سورة البقرة: الآية 254) . الظاهر أنه أراد محمدًا صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الإيهام من تفخيم كما لا يخفى. وسئل الحطيئة عن أشعر الناس فقال: زهير والنابغة ولو شئت لذكرت الثالث. أراد نفسه. ولو صرح به لم يفخم أمره (وإنه دعاك لمكة) أي بقوله {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} (وأنا) كذلك في جميع نسخ المشكاة، وهكذا عند الترمذي، وفي صحيح مسلم ((وإني)) وهكذا في الموطأ وجامع الأصول والمصابيح (أدعوك) أي أطلب منك (للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله) أي بمثل ذلك المثل (معه) والمعنى بضعف ما دعا إبراهيم عليه الصلاة السلام، ولفظ حديث أنس عند البخاري كما سيأتي في الفصل الثالث ((اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة)) قال القاضي أبو محمد في هذا دليل على فضل المدينة على مكة، لأن تضعيف الدعاء لها إنما هو لفضلها على ما قصر عنها. قال الباجي: والذي عندي أن وجه الدليل من ذلك أن إبراهيم دعا
ثم قال: يدعو أصغر وليد له
ــ
لأهل مكة بما يختص دنياهم فقال: وارزق أهله من الثمرات. وأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأهل المدينة بمثل ذلك ومثله معه. فيحتمل أن يريد به وبدعاء آخر معه وهو لأمر آخرتهم، فتكون الحسنات تضاعف للمدينة بمثل ما تضاعف بمكة فإنما معنى فضيلة إحدى البقعتين على الأخرى في تضعيف الحسنات. ويحتمل أن يريد أن إبراهيم أيضًا دعا لأهل مكة بأمر آخرتهم وعلم هو صلى الله عليه وسلم فدعا بمثل ذلك، وبمثله معه فيعود إلى مثل ما قدمنا ذكره. ويحتمل أن يريد أن إبراهيم دعا لأهل مكة في ثمراتهم ببركة قد أجاب الله دعاءه فيه وأنه صلى الله عليه وسلم دعا لأهل المدينة في ثمراتهم أيضًا بمثل ذلك ومثله معه فلا يكون هذا دليلاً على فضل المدينة على مكة في أمر الآخرة، وإنما يدل على أن البركة في ثمارهم مثل البركة في ثمار مكة، إما لقرب تناولها أو لكثرتها أو للبركة في الاقتيات بها أو ليوصل من يقتات بها في المدينة إلى مثلي ما يتوصل به من يقتات في مكة بثمارها – انتهى. وقال الحافظ في شرح حديث أنس المذكور: أي من بركة الدنيا بقرينة قوله في حديث آخر ((اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا)) ويحتمل أن يريد ما هو أعم من ذلك، لكن يستثنى منه ما خرج بدليل كتضعيف الصلاة بمكة على المدينة. واستدل به على تفضيل المدينة على مكة وهو ظاهر من هذه الجهة لكن لا يلزم من حصول أفضلية المفضول في شيء من الأشياء ثبوت الأفضلية له على الإطلاق، أما من ناقض ذلك بأنه يلزم أن يكون الشام واليمن أفضل من مكة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر ((اللهم بارك لنا في شامنا)) وأعادها ثلاثًا فقد تعقب بأن التأكيد لا يستلزم التكثير المصرح به في حديث الباب. وقال ابن حزم: لا حجة في حديث الباب لهم لأن تكثير البركة بها لا يستلزم الفضل في أمور الآخرة لأن البركة أعم من أن تكون في أمور الدين أو الدنيا لأنها بمعنى النماء والزيادة إلى آخر ما قدمنا من كلامه – انتهى. قال الأبي: ولا يعارض دعاءه بالبركة قوله في الحديث الآخر ((أصابهم بالمدينة جهد وشدة)) إذ لا منافاة بين ثبوت الشدة وثبوت البركة فيها وتخلفها عن البعض لا يضر بها كذا أجاب شيخنا، والأظهر أن البركة في تحصيل القوت وأن المد بها يشبع ثلاثة أمثاله بغيرها، فتكون الشدة في تحصيل المد والبركة في تضعيف القوت به. قال الزرقاني: ولعل الأظهر جواب شيخه وهو ابن عرفة – انتهى. وقد تقدم كلام القرطبي أنه إذا وجدت البركة فيها في وقت حصلت إجابة الدعوة ولا يستلزم دوامها في كل حين ولكل شخص (ثم قال) أي أبو هريرة (يدعو) أي النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الدعاء، وفي صحيح مسلم ((قال: ثم يدعو)) وهكذا في المصابيح وجامع الأصول والترمذي، ولفظ الموطأ ((ثم يدعو)) أي بدون لفظة ((قال)) (أصغر وليد) أي مولود، فعيل بمعنى مفعول (له) يعني أصغر طفل من أهل بيته، وفي رواية لمسلم ((ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان))
فيعطيه ذلك الثمر. رواه مسلم.
2757 – (5) وعن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حرامًا وإني حرمت المدينة حرامًا ما بين مأزميها، أن لا يهراق فيها دم
ــ
وللترمذي والموطأ ((أصغر وليدًا يراه)) قال القاري: التحقيق أن الروايتين يعني الرواية المطلقة والمقيدة محمولتان على الحالتين، والمعنى أنه إذا كان عنده أو قريبًا منه وليد له أعطاه أو وليد آخر من غير أهله أعطاه، إذ لا شك أنهما لو اجتمعا لشارك بينهما، نعم إذا لم يكن أحد حاضرًا عنده فلا شبهة أنه ينادي أحدًا من أولاد أهله لأنه أحق ببره من غيره (فيعطيه) أي الولد (ذلك الثمر) قال الباجي: يحتمل أن يريد بذلك عظم الأجر في إدخال المسرة على من لا ذنب له لصغره؛ فإن سروره به أعظم من سرور الكبير، وقال أبو عمر: فيه من الآداب وجميل الأخلاق إعطاء الصغير وإتحافه بالطرفة لأنه أولى من الكبير لقلة صبره ولفرحه بذلك. وقال عياض: تخصيصه أصغر وليد يحضره لأنه ليس فيه ما يقسم على الولدان، وأما من كبر منهم فإنه يتخلق بأخلاق الرجال في الصبر ويلوح لي أنه تفاؤل بنماء الثمار وزيادتها لدفعها لمن هو في سن النماء والزيادة كما قيل في قلب الرداء للاستسقاء، وقيل إنما خصهم بذلك للمناسبة الواقعة بين الولدان وبين الباكورة لقربهما من الإبداع أي حدثان عهدهما بالإبداع (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا مالك في كتابه الجامع من الموطأ والترمذي في الدعوات.
2757-
قوله (وعن أبي سعيد) الخدري (إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام (حرم مكة) أي أظهر تحريمها (فجعلها حرامًا) أي بين كونها حرمًا. وقال في اللمعات: نسبة التحريم إلى إبراهيم باعتبار دعائه وسؤاله ذلك، فلا ينافي ما سبق في حرم مكة من قوله ((إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس)) ، وقد تقدم الكلام في ذلك بالبسط والتفصيل في شرح حديث ابن عباس أول أحاديث باب حرم مكة. وقوله ((حرامًا كذا في المشكاة والمصابيح، وهكذا وقع في جامع الأصول والبيهقي، وفي نسخ مسلم الموجودة عندنا ((حرمًا)) (وإني حرمت المدينة حرامًا ما بين مازميها) حرامًا نصب على المصدر إما لحرمت على غير لفظه، أو على حذف الزوائد، أي لفعل مقدر والتقدير إني حرمت المدينة فحرمت حرامًا، ومثله قوله سبحانه وتعالى {والله أنبتكم من الأرض نباتًا} (سورة نوح: الآية 17) وما بين مازميها يكون بدلاً عنها، ويحتمل أن يكون ((حرامًا)) مفعولاً ثانيًا لفعل محذوف ((وما بين مازميها)) مفعولاً أول، والتقدير وجعلت ما بين ما زميها حرامًا، والمأزم بهمزة بعد الميم وبكسر الزاي وهو الجبل، وقيل المضيق بين الجبلين ونحوه والأول هو الصواب هنا ومعناه ما بين جبليها، قاله النووي (أن لا يهراق) بسكون الهاء وتفتح أي بأن لا يراق (فيها دم) لأن إراقة دم المسلم فيها أقبح من غيرها، قيل: إن قوله ((أن لا يهراق)) وقع موقع التفسير لما حرم كأنه
ولا يحمل فيها سلاح لقتال ولا تخبط فيها شجرة إلا لعلف ". رواه مسلم.
2758 – (6) وعن عامر بن سعد، أن سعدًا ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبدًا يقطع شجرًا أو يخبطه فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم. فقال: معاذ الله أن أرد شيئًا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى أن يرد عليهم.
ــ
قال: هو أن لا يهراق بها دم وليس من المفعولية في شيء إذ لو كان متعلقًا لقوله ((إني حرمت)) لكان من حقه أن يقول أن يهراق بها دم، وقيل: إنه مفعول ((حرمت)) على زيادة ((لا)) مثل لئلا يعلم أهل الكتاب. أي لكي يعلم، أو على المفعول له أي لئلا يهراق، قال القاري: والمراد من نهي إراقة الدم النهي عن القتال المفضي إلى إراقة الدم، لأن إراقة الدم الحرام منوع عنه على الإطلاق، والمباح منه لم نجد فيه اختلافًا يعتد به عند العلماء إلا في حرم مكة، وقيل لا يسفك دم حرام لأن سفك الدم الحرام في مكة والمدينة أشد تحريمًا، وقوله (ولا يحمل فيها سلاح) بكسر السين (لقتال) يؤيد القول الثاني، لأن التأسيس أولى من التأكيد (ولا تخبط) بالتأنيث والتذكير (فيها شجرة) أي لا تضرب ليسقط أوراقها (إلا لعلف) قال النووي: هو بإسكان اللام وهو مصدر علفت علفًا، وأما العلف بفتح اللام فاسم للحشيش والتبن والشعير ونحوها، وفيه جواز أخذ أوراق الشجر للعلف وهو المراد هنا بخلاف خبط الأغصان وقطعها فإنه حرام (رواه مسلم) مطولاً، وكذا البيهقي (ج 5: ص 201) .
2758-
قوله (وعن عامر بن سعد) أي ابن أبي وقاص أحد العشرة المبشرة (أن سعدًا) هو أبوه (ركب إلى قصره بالعقيق) اسم موضع قريب من المدينة، وقال ابن حجر: قريب من ذي الحليفة فكأنه من طرفها (يقطع شجرًا) أي شجر حرم المدينة (أو يخبطه) بكسر الباء أي يخبط ورق شجر بضرب أو رمي جحر (فسلبه) أي أخذ ثيابه والسلب بفتحتين المسلوب (فلما رجع سعد (أي إلى المدينة (أو عليهم) شك من الراوي (معاذ الله) بفتح الميم مصدر لفعل مقدر أي أعوذ بالله معاذاً (نفّلنيه) بتشديد الفاء أي جعله لي نفلاً بالتحريك أو أعطانيه نفلاً أي غنيمة بإذنه لكل من رأى صائداً أو قاطع شجر أن يأخذ سلبه (وأبى أن يرد عليهم) قال النووي: هذا الحديث صريح في الدلالة لمذهب مالك والشافعي وأحمد والجماهير في تحريم صيد المدينة وشجرها كما سبق، وخالف فيه أبو حنفية كما قدمناه عنه، وقد ذكر مسلم في صحيحه تحريمها مرفوعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله وأبي سعيد وأبي هريرة وعبد الله بن عبيد ورافع بن خديج وسهل بن حنيف وذكره غيره من رواية غيرهم أيضًا فلا يلتفت إلى من خالف هذه الأحاديث الصحيحة المستفيضة. وفي هذا الحديث دلالة لقول الشافعي القديم
رواه مسلم.
2759 – (22) وعن عائشة، قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة،
ــ
أن من صاد في حرم المدينة أو قطع من شجرها أخذ سلبه، وبهذا قال سعد بن أبي وقاص وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم. قال القاضي عياض: ولم يقل به أحد بعد الصحابة إلا الشافعي في قوله القديم وخالفه أئمة الأمصار. قلت (قائله النووي) : ولا تضر مخالفتهم إذا كانت السنة معه، وهذا القول القديم هو المختار لثبوت الحديث فيه وعمل الصحابة على وفقه، ولم يثبت له دافع، قال أصحابنا: فإذا قلنا بالقديم ففي كيفية الضمان وجهان أحدهما يضمن الصيد والشجر والكلأ كضمان حرم مكة، وأصحهما وبه قطع جمهور المفرعين على هذا القديم أنه يسلب الصائد وقاطع الشجر والكلأ، وعلى هذا في المراد بالسلب وجهان أحدهما أنه ثيابه فقط، وأصحهما وبه قطع الجمهور أنه كسلب القتيل من الكفار فيدخل فيه فرسه وسلاحه ونفقته وغير ذلك مما يدخل في سلب القتيل وفي مصرف السلب ثلاثة أوجه لأصحابنا أصحها أنه للسالب وهو الموافق لحديث سعد، والثاني أنه لمساكين المدينة، والثالث لبيت المال، وإذا سلب أخذ جميع ما عليه إلا ساتر العورة، وقيل يؤخذ ساتر العورة أيضًا، قال أصحابنا: ويسلب بمجرد الاصطياد سواء أتلف الصيد أم لا – انتهى. هذا وقد تقدم أن حديث تحريم المدينة وحديث السلب منسوخ أو مؤول عند الحنفية، وتقدم الجواب أيضًا عن ذلك (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 168، 170) والبيهقي (ج 5: ص 199) وأخرج أبو داود والحاكم (ج 1: ص 486) والبيهقي أيضًا (ج 5: ص 199) نحوه.
2759-
قوله (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة) في الهجرة يوم الاثنين لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول في أحد الأقوال قاله الزرقاني، وفي رواية البخاري في آخر الحج ((قالت: وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله)) بالهمز بوزن أفعل من الوباء والوباء مقصور بهمز وبغير همز وهو المرض العام. وقد أطلق بعضهم على الطاعون أنه وباء لأنه من أفراده لكن ليس كل وباء طاعونًا. قال الحافظ: الوباء أعم من الطاعون، وحقيقته مرض عام ينشأ عن فساد الهواء، وقد يسمى طاعونًا بطريق المجاز. وفي رواية مسلم ((قدمنا المدينة وهي وبيئة)) بهمزة ممدودة يعنى ذات وباء. قال الحافظ: وما كان وباء المدينة إلا حمى كما هو مبين في حديث عائشة. قال: وزاد محمد بن إسحاق في روايته عن هشام بن عروة قال هشام: وكان وباؤها معروفًا في الجاهلية، وكان الإنسان إذا دخلها وأراد أن يسلم من وبائها قيل له: إنهق فينهق كما ينهق الحمار وفي ذلك يقول الشاعر:
لعمري لئن غنبت من خيفة الردى _
…
نهيق حمار إنني لمروع
انتهى. قال عياض: قدومه صلى الله عليه وسلم على الوباء مع صحة نهيه عنه لأن النهي إنما هو في الموت الذريع والطاعون، والذي
وعك أبو بكر وبلال، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته،
ــ
بالمدينة إنما كان وخمًا يمرض بسببه كثير من الغرباء، يعني أن المنهي عنه إنما هو في القدوم على الوباء الذريع والطاعون وما كان بالمدينة ليس كذلك، وإنما كان مجرد حمى تشتد وتطول مدتها بالنسبة إلى الغرباء ولا يغلب الموت بسببها، قال عياض: أو أن قدومه المدينة كان قبل النهي، لأن النهي كان في المدينة بعد استيطانها – انتهى. وقال الحافظ: لا يعارض قدومه على المدينة وهي بهذه الصفة نهيه صلى الله عليه وسلم عن القدوم على الطاعون لأن ذلك قبل النهي، أو أن النهي يختص بالطاعون ونحوه من الموت الذريع لا المروض لو عم (وُعِك) بضم الواو وكسر العين على صيغة المجهول أي أصابه الوعك وهو الحمى، وقيل هو مغث الحمى وهو ممارستها المحموم حتى تصرعه (أبو بكر) الصديق (وبلال) وغيرهما كما سيأتي. قال الحافظ في حديث البراء عند البخاري في الهجرة أن عائشة أيضًا وعكت وكان وصولها إلى المدينة مع آل أبي بكر هاجر بهم أخوها عبد الله وخرج زيد بن حارثة وأبو رافع ببنتي النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وأم كلثوم وأسامة بن زيد وأمه أم أيمن وسودة بنت زمعة وكانت رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم سبقت مع زوجها عثمان وأخرت زينب وهي الكبرى عند زوجها أبي العاص بن الربيع. قال الزرقاني: وعند النسائي وابن إسحاق عن هشام عن أبيه عنها: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أوبأ أرض الله أصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرف الله ذلك عن نبيه وأصابت أبا بكر وبلالاً وعامر بن فهيرة، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فأذن لي فدخلت عليهم وهم في بيت واحد (فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته) أي بما صدر عن أبي بكر رضي الله عنه حين قلت له: يا أبت كيف تجدك وقد أخذته الحمى يقول:
كل امرئٍ مصبح في أهله _
…
والموت أدني من شراك نعله
وبما قال بلال إذ أقلع عنه الحمى يرفع صوته فيقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة _
…
بواد وعندي إذخر وجليل
وهل أردن يوماً مياه مجنة _
…
وهل تبدون لي شامة وطفيل
قال ابن عبد البر: إذخر وجليل نبتان من الكلأ طيب الرائحة يكونان بمكة وأوديتها لا يكادان يوجدان في غيرها وقيل: ((الجليل)) نبت ضعيف صفراء يحشى بها خصاص البيوت وغيرها، و ((مجنة)) بفتح الميم وكسر الجيم وتشديد النون موضع بأعلى مكة على أميال كان يقام للعرب بها سوق وبعضهم يكسر ميمها والفتح أكثر، وهي زائدة، و ((شامة وطفيل)) جبلان على نحو ثلاثين ميلاً من مكة في وجهة اليمن، وقيل جبلان مشرفان على مجنة على بريدين من مكة، وقيل عينان عندها، قال الزرقاني: وجمع باحتمال أن العينين بقرب الجبلين أو فيهما، وحاصل ما قال بلال: أنه كان
فقال: " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة ".
ــ
يذكر مكة وصحة هوائها وعذوبة مائها ولطافة جبالها ونباتها ونفحة رياح نباتها الذي بمنزلة بناتها وأبنائها. وعند ابن إسحاق: فذكرت ذلك فقلت: يا رسول الله إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى ((اللهم حبب) بصيغة الأمر من التحبيب (المدينة) بالنصب على المفعولية (كحبنا مكة أو أشد) من حب مكة أيضًا. قال الزرقاني: فاستجاب الله دعاءه فكانت أحب إليه من مكة كما جزم به بعضهم وكان يحرك دابته إذا رأى المدينة من حبها – انتهى. وقال القاري: أو أشد أي بل أكثر وأعظم، ويؤيده أنه في رواية ((وأشد)) قال: ولا ينافي هذا ما سبق أنه عليه الصلاة والسلام قال لمكة: " إنك أحب البلاد إليَّ وإنك أحب أرض الله إلى الله. وفي رواية: لقد عرفت أنك أحب البلاد إلى الله وأكرمها على الله. فإن المراد به المبالغة أو لأنه لما أوجب الله على المهاجرين مجاورة المدينة وترك التوطن والسكون بمكة طلب من الله أن يزيد محبة المدينة في قلوب أصحابه لئلا يميلوا بأدنى الميل غرضًا به؟ إذ المراد بالمحبة الزائدة الملاءمة لملاذ النفس ونفي مشاقها لا المحبة المرتبة على كثرة المثوبة فالحيثية مختلفة، ويؤيد ما قررناه قوله (وصححها) أي المدينة من الوباء. قال القاري: أي اجعل هواءها وماءها صحيحًا (وبارك لنا في صاعها ومدها) تقدم الكلام على هذا. قال الزرقاني: فاستجاب الله تعالى دعاءه فطيب هواءها وترابها ومساكنها والعيش بها. قال ابن بطال وغيره: من أقام بها يجد من تربها وحيطانها رائحة طيبة لا تكاد توجد في غيرها. قال بعضهم: وقد تكرر دعاءه بتحبيبها والبركة في ثمارها، والظاهر أن الإجابة حصلت بالأول والتكرير لطلب المزيد (وانقل) أي حول (حماها) أي وبائها وشدتها وكثرتها (فاجعلها بالجحفة) بضم الجيم وسكون الحاء أحد المواقيت المشهورة وقد تقدم ذكرها في حديث المواقيت. قال الخطابي وغيره: كان ساكنوا الجحفة في ذلك الوقت يهودًا وهم أعداء الإسلام والمسلمين، ولذا توجه دعاءه صلى الله عليه وسلم عليهم ففيه جواز الدعاء على الكفار بالأمراض والهلاك وللمسلمين بالصحة وطيب بلادهم والبركة فيها وكشف الضر والشدائد عنهم، وفيه إظهار معجزة عجيبة فإنها من يومئذ وبيئة لا يشرب أحد من مائها إلا حم ولا يمر بها طائر إلا حم وسقط. وقال عياض: فيه معجزة له صلى الله عليه وسلم فإن الجحفة من يومئذ وبيئة وخمة لا يشرب أحد من مائها إلا حم أي من الغرباء الداخلين عليها. قال السمهودي: والموجود الآن من الحمى بالمدينة ليس حمى الوباء بل رحمة ربنا ودعوة نبينا للتكفير. قال: وفي الحديث ((أصح المدينة ما بين حرة بني قريظة والعريض)) وهو يؤذن ببقاء شيء منها بها، وأن الذي نقل عنها أصلاً ورأسًا سلطانها وشدتها ووباءها وكثرتها بحيث لا يعد الباقي بالنسبة إليه شيئًا. قال: ويحتمل أنها رفعت بالكلية ثم أعيدت خفيفة لئلا يفوت ثوابها كما أشار إليه الحافظ ابن حجر، ويدل له ما روى أحمد برجال الصحيح وأبو يعلى
متفق عليه.
2760 – (8) وعن عبد الله بن عمر في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة: " رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس، خرجت من المدينة حتى نزلت مهيعة، فتأولتها: أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة
ــ
وابن حبان في صحيحه والطبراني عن جابر: استأذنت الحمى على رسول الله فقال من هذه؟ فقالت: أم ملدم. فأمر بها إلى أهل قباء فبلغوا ما لا يعلمه إلا الله فشكوا ذلك إليه، فقال: ما شئتم دعوت الله ليكشفها عنكم وإن شئتم تكون لكم طهورًا، قالوا: أو تفعل؟ قال: نعم، قالوا: فدعها – انتهى. قال الحافظ: وقد استشكل بعض الناس الدعاء برفع الوباء لأنه يتضمن الدعاء برفع الموت، والموت حتم مقضي فيكون ذلك عبثًا، وأجيب بأن ذلك لا ينافي التعبد بالدعاء لأنه قد يكون من جملة الأسباب في طول العمر أو رفع المرض، وقد تواترت الأحاديث بالاستعاذة من الجنون والجذام وسيء الأسقام ومنكرات الأخلاق والأهواء والأدواء، فمن ينكر التداوي بالدعاء يلزمه أن ينكر التداوي بالعقاقير ولم يقل بذلك إلا شذوذ والأحاديث الصحيحة ترد عليهم، وفي الالتجاء إلى الدعاء مزيد فائدة ليست في التداوي بغيره لما فيه من الخضوع والتذلل للرب سبحانه بل منع الدعاء من جنس ترك الأعمال الصالحة اتكالاً على ما قدر فيلزم ترك العمل جملة، ورد البلاء بالدعاء كرد السهم بالترس وليس من شرط الإيمان بالقدر أن لا يتترس من رمي السهم والله أعلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في آخر الحج وفي الهجرة وفي المرضى، ومسلم في الحج وأخرجه أيضًا مالك في كتاب الجامع والنسائي في الطب.
2760 – قوله (وعن عبد الله بن عمر في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة رأيت امرأة سوداء) قال الطيبي: أي قال في حديث رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في شأن المدينة رأيت، فيكون رأيت، حكاية ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. وقال الحافظ: قوله ((رأيت)) حذف منه ((قال)) خطأ والتقدير ((قال رأيت)) وثبت في رواية الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن المقدمي شيخ البخاري فيه، ولفظه عن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ. (ثائرة الرأس أي منتشرة شعر الرأس من ثار الشيء إذا انتشر، وفي رواية عند أحمد وأبي نعيم ((ثائرة الشعر)) والمراد شعر الرأس، وزاد ((تفلة)) بفتح المثتاة وكسر الفاء بعدها لام أي كريهة الرائحة (خرجت من المدينة) بدعائه صلى الله عليه وسلم (حتى نزلت مَهْيَعة) بفتح الميم وسكون الهاء بعدها ياء آخر الحروف مفتوحة ثم عين مهملة، وقيل بوزن عظيمة يقال: أرض مهيعة أي مبسوطة واسعة، وقوله مهيعة كذا في المشكاة والمصابيح، ولفظ البخاري ((بمهيعة)) أي بزيادة حرف الجار في أولها، قال القسطلاني ولابن عساكر مهيعة بإسقاط الموحدة (فتأولتها) ولأبي ذر عن الكشميهني ((فأولتها)) بإسقاط الفوقية بعد الفاء، والتأويل تفسير الشيء بما يؤل إليه (أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة) قال القاري: يقال:
وهي الجحفة ". رواه البخاري.
2761 – (9) وعن سفيان بن أبي زهير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يفتح اليمن
ــ
أرض مهيعة أي مبسوطة، وبها كانت تعرف فلما ذهب السيل بأهلها سميت جحفة، فقوله:(وهي الجحفة) تفسير من بعض الرواة. وقال الحافظ: وأظن قوله ((وهي الجحفة)) مدرجًا من قول موسى بن عقبة أي راوي الحديث عن سالم بن عبد الله عن أبيه فإن أكثر الروايات خلا عن هذه الزيادة، وثبتت في رواية سليمان وابن جريج عن موسى ابن عقبة – انتهى. وهذه الرؤيا كما قاله المهلب من قسم الرؤيا المعبرة وهي مما ضرب به المثل، ووجه التمثيل أنه شق من اسم السوداء السوء والداء فتأول خروجها بما جمع اسمها وتأول ثوران شعر رأسها أن الذي يسوء ويثير الشر يخرج من المدينة، وقيل لما كانت الحمى مثيرة للبدن بالاقشعرار وارتفاع الشعر عبر عن حالها في النوم بارتفاع شعر رأسها، فكأنه قيل الذي يسوء ويثير الشر يخرج من المدينة. قال الزرقاني بعد ذكر هذا الحديث: ولا مانع من تجسم الأعراض خرقًا للعادة ليحصل لهم الطمأنينة لإخراجها وفي رواية ((قدم إنسان من طريق مكة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل لقيت أحدًا؟ قال: لا إلا امرأة سوداء عريانة فقال صلى الله عليه وسلم: " تلك الحمى ولن تعود بعد اليوم)) قال السمهودي: والموجود الآن بالحمى بالمدينة ليس حمى الوباء بل رحمة ربنا، إلى آخر ما تقدم من كلامه (رواه البخاري) في الرؤيا، وأخرجه أيضًا أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة في الرؤيا.
2761 – قوله (وعن سفيان بن أبي زهير) بضم الزاي المعجمة وفتح الهاء مصغرًا الأزدي الشنوي من أزد شنؤة بفتح المعجمة وضم النون وبعد الواو همزة مفتوحة، وفي النسب كذلك وقيل بفتح النون بعدها همزة مكسورة بلا واو، ويقال فيه النمري لأنه من ولد النمر بن عثمان، صحابي نزل المدينة، له خمسة أحاديث، اتفقا على حديثين أحدهما في اقتناء الكلب رواه عنه السائب بن يزيد والآخر في فضل المدينة رواه عنه عبد الله بن الزبير وهو الذي نحن في شرحه، ورواية ابن الزبير والسائب بن يزيد عنه تدل على جلالته وقدم مرتبته، قيل اسم أبيه أبي زهير القرد بفتح القاف وكسر الراء بعدها مهملة، ولذا يقال له ابن القرد، وقيل اسم أبيه نمير (يفتح) بالتذكير والتأنيث مبنيًا للمفعول (اليمن) نائب الفاعل، وسمي اليمن لأنه عن يمين القبلة أو عن يمين الشمس أو بيمن بن قحطان، وقوله ((يفتح اليمن)) إلخ، كذا وقع في رواية للشيخين البداءة بذكر اليمن ثم ذكر الشام ثم العراق، لكن عند مسلم بلفظة ((ثم)) وعند البخاري بالواو، ووقع في رواية وكيع عن هشام عن أبيه عن ابن الزبير عند مسلم البداءة بذكر الشام ثم ذكر اليمن ثم العراق مرتبًا بلفظة ثم، والأرجح ما وقع في البخاري. قال الزرقاني: هذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بفتح هذه الأقاليم وأن الناس يتحملون بأهليهم ويفارقون المدينة فكان ما قاله على ترتيب ما قال لكن في رواية لمسلم وغيره تفتح الشام ثم اليمن ثم
فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم
ــ
العراق، والظاهر أن اليمن قبل الشام للاتفاق على أنه لم يفتح شيء من الشام في الزمن النبوي فرواية تقديم الشام على اليمن معناها أن استيفاء فتح اليمن إنما كان بعد الشام – انتهى. وقال ابن عبد البر: افتتحت اليمن في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وفي أيام أبي بكر وافتتحت الشام بعدها والعراق بعدها، وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة فقد وقع على وفق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ترتيبه، ووقع تفرق الناس في البلاد بما فيها من السعة والرخاء ولو صبروا على الإقامة بالمدينة لكان خيرًا لهم، وفي هذا الحديث فضل المدينة على البلاد المذكورة وهو أمر مجمع عليه، وفيه دليل على أن بعض البقاع أفضل من بعض ولم يختلف العلماء في أن للمدينة فضلاً على غيرها، وإنما اختلفوا في الأفضلية بينها وبين مكة، كذا في الفتح (فيأتي قوم) من أهل المدينة. قال القاري: أي فيذهبون إلى اليمن فيعجب بعضًا بلادهم وهينة عيشهم فيحملهم على المهاجرة إليها بأنفسهم وأهاليهم فيأتون (يبسون) بفتح التحتية وكسر الموحدة وتشديد المهملة وعن ابن القاسم بضم الموحدة فهو من باب ضرب ونصر ثلاثيًا ويقال أيضًا بضم التحتية وكسر الموحدة من الثلاثي المزيد فحصل في ضبطه ثلاثة أوجه يقال: أبسست الدابة وبسستها أي سقتها يعني يسوقون دوابهم إلى المدينة (فيتحملون) أي يرتحلون من المدينة إلى اليمن المفتتحة. قال الحافظ: ((يبسون)) بفتح أوله وضم الموحدة وبكسرها من بس يبس. قال أبو عبيد: معناه يسوقون دوابهم، والبس سوق الإبل، يقال: بس بس عند السوق وإرادة السرعة، وقال الداودي: معناه يزجرون دوابهم فيبسون ما يطؤنه من الأرض من شدة السير فيصير غبارًا قال تعالى {وبست الجبال بسًا} (سورة الواقعة: الآية 5) أي سالت سيلاً، وقيل: معناه سارت سيرًا، وقال ابن القاسم: البس المبالغة في الفت ومنه قيل للدقيق المصنوع بالدهن بسيس، وانكر ذلك النووي وقال: إنه ضعيف أو باطل، قال ابن عبد البر: وقيل: معنى يبسون يسألون عن البلاد ويستقرءون أخبارها ليسيروا إليها. قال: وهذا لا يكاد يعرفه أهل اللغة. وقيل: معناه يزينون لأهلهم البلاد التي تفتح ويدعونهم إلى سكانها فيتحملون بسبب ذلك من المدينة راحلين إليها. ويشهد لهذا المعنى حديث أبي هريرة عند مسلم: يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعملون. وعلى هذا فالذين يتحملون غير الذين يبسون كأن الذي حضر الفتح أعجبه حسن البلد ورخاؤها فدعا قريبه إلى المجيء إليها لذلك فيتحمل المدعو بأهله وأتباعه، قال ابن عبد البر: وروى يبسون بضم أوله من أبس إبساسًا، ومعناه يزينون لأهلهم البلدة التي يقصدونها وإلى هذا ذهب ابن وهب، وقال النووي: الصواب أن معناه الإخبار عمن خرج من المدينة متحملاً بأهله باسًا في سيره مسرعًا إلى الرخاء في الأمصار التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفتحها. قال الحافظ:
ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ويفتح الشام فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون، ويفتح العراق فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون ". متفق عليه.
ــ
ويؤيده رواية ابن خزيمة من طريق أبي معاوية عن هشام في هذا الحديث بلفظ ((تفتح الشام فيخرج الناس من المدينة إليها يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون)) . ويوضح ذلك ما رواه أحمد من حديث جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ليأتين على أهل المدينة زمان ينطلق الناس منها إلى الأرياف يلتمسون الرخاء فيجدون رخاء ثم يأتون فيتحملون بأهليهم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ". وفي إسناده ابن لهيعة ولا بأس به في المتابعات وهو يوضح ما قلناه – انتهى. (ومن أطاعهم) عطف على أهليهم أي انقاد لهم من الأجانب في السفر معهم إلى اليمن (والمدينة) أي والحال أن المدينة (خير لهم) أي من اليمن لأنها حرم الرسول صلى الله عليه وسلم ومهبط الوحي ومنزل البركات الدنيوية والأخروية، وقيل لأنها لا يدخلها الدجال ولا الطاعون، وقيل لأن الفتن فيها دونها في غيرها، وقيل لفضل مسجدها والصلاة فيه ومجاورة القبر الشريف (لو كانوا يعلمون) أي بما فيها من الفضائل والخيرات والفوائد الدينية والدنيوية لما فارقوها ولما اختاروا عليها غيرها من البلاد، قال الشيخ سلام الله الدهولي في المحلى: أو المعنى لو كانوا علماء يعلمون أن إقامتهم بالمدينة أولى فعلى الأول مفعول العلم محذوف وعلى الثاني هو منزل منزلة اللازم. قال الحافظ: ويحتمل أن تكون لو بمعنى ليت فلا يحتاج إلى تقدير وعلى الوجهين ففيه تجهيل لمن فارقها وآثر غيرها (ويفتح) بالوجهين وفي رواية ابن جريج عن هشام عند مسلم ثم يفتح (الشام) سمي بذلك لأنه عن شمال الكعبة، وأنكر ياقوت الحموي تسميتها بأنها شامة القبلة، قال: هذا فاسد لأن القبلة لا يمين لها ولا شامة ثم بسط الأقوال في وجه تسميتها. (ويفتح) بالوجهين، وقال القاري بالتذكير فقط، وفي رواية ابن جريج ((ثم يفتح)) (العراق)) قال ابن الأعرابي: سمي بذلك لأنه سفل عن نجد ودنا من البحر أخذ من عراق القربة وهو الخرز الذي في أسفلها. وقال الخليل: العراق شاطئ البحر سمي بذلك لأنه على شاطئ دجلة والفرات مدًا حتى يتصل بالبحر على طوله، قال: وهو مشبه بعراق القربة كذا في معجم البلدان (فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس راحالين إلى العراق مسرعين (والمدينة خير لهم) من العراق (لو كانوا يعلمون) ذلك، والواو في قوله ((والمدينة)) في الثلاثة للحال (متفق عليه) أخرجاه في أواخر الحج وأخرجه أيضًا أحمد (ج 5: ص 219، 220) ومالك في الجامع والنسائي في الحج، وروى أحمد قصة في أوله من طريق بسر بن سعيد أنه سمع في مجلس الليثيين يذكرون أن سفيان بن أبي زهير أخبرهم أن فرسه أعيت بالعقيق وهو في
2762 – (10) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت بقرية تأكل القرى
ــ
بعث بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إليه يستحمله فخرج معه يبتغي له بعيرًا فلم يجد إلا عند أبي جهم بن حذيفة العدوي فسامه له فقال له أبو جهم: لا أبيعكه يا رسول الله ولكن خذه فاحمل عليه من شئت، فزعم أنه أخذه منه ثم خرج حتى إذا بلغ بئر إهاب قال:" يوشك البنيان أن يأتي هذا المكان ويوشك الشام أن يفتح فيأتي رجال من أهل هذا البلد فيعجبهم ريعه ورخاؤه والمدينة خير لهم.. " – الحديث.
2762-
قوله (أمرت) بضم الهمزة على بناء المجهول أي أمرني ربي (بقرية) أي بالهجرة إلى قرية والنزول فيها أو بالمقام في قرية واستيطانها. قال الحافظ: أي أمرني ربي بالهجرة إليها أو سكناها، فالأول محمول على أنه قاله بمكة والثاني على أنه قاله بالمدينة – انتهى. وفيه أنه لا مانع من حمله على الشق الأول أيضًا على أنه قال ذلك بالمدينة حكاية للأمر السابق الذي وقع بمكة (تأكل القرى) بضم القاف جمع قرية أي تغلبها وتظهر عليها، والمعنى أن أهلها تغلب على أهل سائر البلاد فتفتح منها فكنى بالأكل عن الغلبة لأن الآكل غالب على المأكول، وقال التوربشتي: الأصل في الأكل للشيء الإفناء له ثم استعير لافتتاح البلاد وسلب الأموال فكأنه قال: يأكل أهلها القرى وأضاف الأكل إليها لأن أموال تلك البلاد تجمع إليها فيفنى فيها. ووقع في موطأ ابن وهب ((قلت لمالك: ما تأكل القرى؟ قال: تفتح القرى لأن من المدينة افتتحت القرى كلها بالإسلام)) وبسطه ابن بطال فقال: معناه يفتح أهلها القرى فيأكلون أموالهم ويسبون ذراريهم. قال: وهذا من فصيح الكلام، تقول العرب: أكلنا بلد كذا إذا ظهروا عليها. وسبقه الخطابي إلى معنى ذلك أيضًا، وقال النووي: ذكروا في معناه وجهين أحدهما هذا، والآخر أن أكلها وميرتها تكون من القرى المفتتحة وإليها تساق غنائمها، وقال ابن المنير في الحاشية: يحتمل أن يكون المراد بأكلها القرى غلبة فضلها على فضل غيرها، ومعناه أن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى تكون عدمًا، قال الحافظ: والذي ذكره احتمالاً ذكره القاضي عبد الوهاب فقال: لا معنى لقوله ((تأكل القرى)) إلا رجوح فضلها عليها وزيادتها على غيرها كذا قال، ودعوى الحصر مردودة لما مضى، ثم قال ابن المنير: وقد سميت مكة أم القرى لكن المذكور للمدينة أبلغ من الأمومة لأن الأمومة لا تمحى إذا وجدت ما هي له أم لكن يكون حق الأم أظهر، قال الزرقاني: وفي الحديث تفضيل المدينة على مكة، وقال الحافظ: استدل بالحديث على أن المدينة أفضل البلاد، قال المهلب: لأن المدينة هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الإسلام فصار الجميع في صحائف أهلها وأجيب بأن أهل المدينة الذين افتتحوا مكة معظمهم من أهل مكة فالفضل ثابت للفريقين، ولا يلزم من ذلك تفضل إحدى البقعتين. قال ابن حزم: لو فتحت بلد من بلد فثبت بذلك الفضل للأولى للزم أن تكون البصرة أفضل من خراسان وسجستان وغيرهما مما فتح من
يقولون: يثرب وهي المدينة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد ".
ــ
جهة البصرة وليس كذلك (يقولون) أي يسمونها (يثرب) بفتح المثناة التحتية وسكون المثلثة وكسر الراء المهملة أي إن بعض الناس من المنافقين وغيرهم يسميها يثرب، ذكر أبو إسحاق الزجاج في مختصره وأبو عبيد البكري في معجم ما استعجم أنها سميت يثرب باسم يثرب بن قانية من ولد إرم بن سام بن نوح لأنه أول من سكنها بعد العرب، وقيل: هو اسم كان لموضع منها سميت به كلها، وقيل سميت باسم واحد من العمالقة نزلها، قاله الزرقاني (وهي المدينة) يعني والحال أن اسمها الذي يليق بها المدينة وفهم بعض العلماء من هذا كراهة تسمية المدينة يثرب وقالوا: ما وقع في القرآن إنما هو حكاية عن قول غير المؤمنين، وروى أحمد (ج 4: ص 285) من حديث البراء بن عازب رفعه ((من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله، هي طابة هي طابة)) وروى عمر بن شبة من حديث أبي أيوب ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقال للمدينة يثرب)) ولهذا قال عيسى بن دينار من المالكية: من سمى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئة. قال: وسبب هذه الكراهة أن يثرب إما من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة أو من الثرب وهو الفساد وكلاهما مستقبح وكان صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن ويكره الاسم القبيح، كذا في الفتح. قال النووي: وأما تسميتها في القرآن يثرب فإنما هو حكاية عن قول المنافقين والذين في قلوبهم مرض – انتهى. وحكى الباجي عن عيسى بن دينار أنه قال: إنما القرآن على ما يعرف الناس انتهى. قال الزرقاني: وأجيب عن حديث الصحيحين ((فإذا هي يثرب)) وفي رواية ((لا أراها إلا يثرب)) بأنه كان قبل النهي – انتهى. ويمكن أن يقال أنه صلى الله عليه وسلم ذكرها بالاسم المعروف فيما بين الناس ليعرفوه، وقال البخاري في باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة: وقال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب. قال الحافظ: كان ذلك قبل أن يسميها صلى الله عليه وسلم طيبة – انتهى. أي لأن الرؤيا المذكورة كانت قبل الهجرة أو في ابتدائها ووقع تغيير الأسماء بعد ذلك بكثير (تنفي) بفتح الفوقية وسكون النون وكسر الفاء (الناس) أي الخبيث الردئ منهم يدل عليه التشبيه بقوله (كما ينفي الكير) بكسر الكاف وإسكان التحتية وفيه لغة أخرى ((كور)) بضم الكاف والمشهور بين الناس أنه الزق الذي ينفخ فيه لكن أكثر أهل اللغة على أن المراد بالكير حانوت الحداد والصائغ (أي ما يبنيه من الطين) قال ابن التين: وقيل الكير هو الزق، والحانوت هو الكور، كذا في الفتح. وقال أبو عمر: الكير هو موضع نار الحداد والصائغ وليس الجلد الذي تسميه العامة كيرًا، هكذا قال علماء اللغة (خبث الحديد) بفتح الخاء المعجمة والموحدة بعدها مثلثة والنصب على المفعولية أي وسخه الذي تخرجه النار، والمراد أنها لا تترك فيها من في قلبه دغل بل تميزه عن القلوب الصادقة وتخرجه كما يميز الحداد رديء الحديد من جيده، ونسب التمييز للكير لكونه السبب الأكبر في اشتعال النار التي يقع التمييز بها، قال التوربشتي:
متفق عليه.
ــ
وهذا القول صدر منه صلى الله عليه وسلم على وجه التمثيل فجعل مثل المدينة وما يصيب ساكنيه من الجهد والبلاء كمثل الكير وما يوقد عليه في النار فيميز به الخبيث من الطيب فيذهب الخبيث ويبقى الطيب فيه أزكى ما كان وأخلص وكذلك المدينة تنفي شرارها بالحمى والوصب والجوع وتطهر خيارهم وتزكيهم، قال عياض: هذا مختص بزمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه بها إلا من ثبت إيمانه وأما المنافقون وجهلة الأعراب فلا يصبرون على شدة المدينة ولا يحتسبون الأجر في ذلك، وقال النووي: ليس هذا بظاهر لأن عند مسلم ((لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد)) وهذا والله أعلم في زمن الدجال كما جاء في الحديث الصحيح الذي ذكره مسلم في أواخر الكتاب في أحاديث الدجال أنه يقصد المدينة فترجف ثلاث رجفات يخرج الله منها كل كافر ومنافق، قال: فيحتمل أنه مختص بزمن الدجال ويحتمل أنه في أزمان متفرقة – انتهى. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون المراد كلاً من الزمنين أي زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن الدجال وكان الأمر في حياته صلى الله عليه وسلم كذلك للسبب المذكور ويؤيده قصة الأعرابي الآتية فإنه صلى الله عليه وسلم ذكره معللاً به خروج الأعرابي وسؤاله الإقالة عن البيعة ثم يكون ذلك أيضًا في آخر الزمان عند ما ينزل بها الدجال فترجف بأهلها فلا يبقى منافق ولا كافر إلا خرج إليه، وأما ما بين ذلك فلا – انتهى. واستدل بالحديث على أن المدينة أفضل البلاد لأنها تنفي الخبث، قال الحافظ: وأجيب عن ذلك بأن هذا إنما هو في خاص من الناس ومن الزمان بدليل قوله تعالى: {ومن أهل المدينة مردوا على النفاق} (سورة التوبة: الآية 102) والمنافق خبيث بلا شك، وقد خرج من المدينة بعد النبي صلى الله عليه وسلم معاذ وأبو عبيدة وابن مسعود وطائفة ثم علي وطلحة والزبير وعمار وآخرون وهم من أطيب الخلق فدل على أن المراد بالحديث تخصيص ناس دون الناس ووقت دون وقت، وقال في موضع آخر: قال ابن بطال: فيه تفضيل المدينة على غيرها بما خصها الله تعالى من أنها تنفي الخبث ورتب على ذلك القول بحجية إجماع أهل المدينة، وتعقب بقول ابن عبد البر أن الحديث دال على فضل المدينة لكن ليس الوصف المذكور لها عامًا في جميع الأزمنة بل هو خاص بزمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن يخرج منها رغبة عن الإقامة معه إلا من لا خير فيه، وقال عياض ونحوه، وأيده بحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم: لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الفضة. قال: والنار إنما تخرج الخبث والرديء وقد خرج من المدينة بعد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من خيار الصحابة وقطنوا غيرها وماتوا خارجها فذكر المذكورين وزاد فيهم أبا موسى وأبا ذر وحذيفة وعبادة بن الصامت وأبا الدرداء وغيرهم، قال: فدل على أن ذلك خاص بزمنه صلى الله عليه وسلم بالقيد المذكور ثم يقع تمام إخراج الرديء منها في زمن الدجال، وورد فيه " فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه " فذلك يوم الخلاص – انتهى. (متفق عليه) أخرجاه في
2763 – (11) وعن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله سمى المدينة طابة ". رواه مسلم.
2764 – (12) وعن جابر بن عبد الله، أن أعرابيًا بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم
ــ
أواخر الحج، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 237، 247) ومالك في الجامع والنسائي.
2763 – قوله (إن الله سمى المدينة طابة) أي إن الله سماها في اللوح المحفوظ أو في التوراة أو أمر نبيه أن يسميها بها ردًا على المنافقين في تسميتها بيثرب، وطابة بتخفيف الموحدة كشامة تأنيث طاب وأصلها طيبة، قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، قال النووي: فيه استحباب تسميتها طابة وليس فيها أنها لا تسمى بغيرها، فقد سماها الله تعالى المدينة في مواضع من القرآن وسماها النبي صلى الله عليه وسلم طيبة في حديث زيد بن ثابت عند مسلم – انتهى. وروى البخاري من حديث أبي حميد الساعدي قال: أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك حتى أشرفنا على المدينة فقال هذه طابة. قال الحافظ: وفي بعض طرقه طيبة، وللمدينة أسماء غير ما ذكر. منها المطيبة، كما روى عمر بن شبة في أخبار المدينة من رواية زيد بن أسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: للمدينة عشرة أسماء، هي المدينة وطابة وطيبة والمطيبة، إلخ. وهذه الثلاثة أي طابة وطيبة بتشديد المثناة التحتية وطيبة بسكونها كهيبة وشيبة مع المطيبة أخوات لفظًا ومعنى مختلفات صيغة ومبنى. قال السمهودي: تسميتها بهذه الأسماء إما من الطيب بتشديد المثناة وهو الطاهر لطهارتها من أدناس الشرك أو لموافقتها من قوله تعالى {بريح طيبة} (سورة يونس: الآية 23) أو لحلول الطيب بها صلى الله عليه وسلم أو لكونها كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها، وإما من الطيب بكسر الطاء وسكون المثناة لطيب أمورها كلها وطيب رائحتها ووجود ريح الطيب بها. قال ابن بطال: من سكنها يجد من تربتها وحيطانها رائحة حسنة. وقال الأشبيلي: لتربة المدينة نفحة ليس طيبها كما عهد من الطيب بل عجب من الأعاجيب. وقال الحافظ: الطاب والطيب لغتان بمعنى، واشتقاقهما من الشيء الطيب، وقيل لطهارة تربتها، وقيل لطيبها لساكنها، وقيل من طيب العيش بها، وقال بعض أهل العلم: وفي طيب ترابها وهوائها دليل شاهد على صحة هذه التسمية لأن من أقام بها يجد من تربها وحيطانها رائحة طيبة لا تكاد توجد في غيرها (رواه مسلم) في أواخر الحج، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 5: ص 94، 96، 97، 102، 108) والنسائي.
2764 – قوله (أن أعرابيًا) قال الحافظ: لم أقف على اسمه إلا أن الزمخشري ذكر في ربيع الأبرار أنه قيس بن أبي حازم وهو مشكل لأنه تابعي كبير مشهور صرحوا بأنه هاجر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قد مات فإن كان محفوظًا فلعله آخر وافق اسمه واسم أبيه، وفي الذيل لأبي موسى في الصحابة قيس بن أبي حازم المنقري فيحتمل أن يكون هو هذا قال الزرقاني: أي يزيد في اسم أبيه أداة الكنية سهوًا أو غلطًا (بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم) من المبايعة وهي عبارة عن المعاقدة
فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! أقلني بيعتي، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي فأبى، ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي فأبى، فخرج الأعرابي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما المدينة كالكير تنفي خبثها
ــ
على الإسلام والمعاهدة كائن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خلاصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره، وزاد في رواية البخاري ((على الإسلام)) (فأصاب الأعرابي وعك) بفتح الواو وسكون المهملة وقد تفتح بعدها كاف الحمى، وقيل المها، وقيل إرعادها. وقال الأصمعي: أصله شدة الحر، فأطلق على الحمى وشدتها، كذا في الفتح. وفي رواية للبخاري فجاء من الغد محمومًا (أقلني بيعتي) استعارة من إقالة البيع وهو إبطاله، قال القسطلاني:(أقلني بيعتي)) أي على الإسلام. وقال السمهودي: أقلني بيعتي أي انقض العهد حتى أرجع إلى وطني، وكأنه قد بايع على هجرة الإقامة، وقال الحافظ في الحج: قوله ((فبايعه على الإسلام)) إلخ. ظاهره لأنه سأل الإقالة من الإسلام، وبه جزم عياض، وقال غيره إنما استقاله من الهجرة وإلا لكان قتله على الردة، يعني أنه لم يرد الأعرابي الارتداد عن الإسلام، قال ابن بطال بدليل أنه لم يرد حل ما عقده إلا بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولو أراد الردة ووقع فيها لقتله إذ ذاك ولكنه خرج عاصيًا، وقال الحافظ في الأحكام: قوله ((على الإسلام)) ظاهر في أن طلبه الإقالة كان فيما يتعلق بنفس الإسلام ويحتمل أن يكون في شيء من عوارضه كالهجرة وكانت في ذلك الوقت واجبة ووقع الوعيد على من رجع أعرابيًا بعد هجرته (فأبى) أي امتنع (رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يقيله، قال النووي: قال العلماء: إنما لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم بيعته لأنه لا يجوز لمن أسلم أن يترك الإسلام ولا لمن هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم للمقام عنده أن يترك الهجرة ويذهب إلى وطنه أو غيره، قالوا: وهذا الأعرابي كان ممن هاجر وبايع النبي صلى الله عليه وسلم على المقام معه، قال القاضي: ويحتمل أن بيعة هذا الأعرابي كانت بعد فتح مكة وسقوط الهجرة إليه صلى الله عليه وسلم، وإنما بايع على الإسلام وطلب الإقالة منه فلم يقله، والصحيح الأول – انتهى كلام النووي. وقال ابن التين: إنما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من إقالته لأنه لا يعين على معصية، لأن البيعة في أول الأمر كانت على أن لا يخرج من المدينة إلا بإذن، فخروجه عصيان، قال: وكانت الهجرة فرضًا قبل فتح مكة على كل من أسلم ومن لم يهاجر لم يكن بينه وبين المؤمنين مولاة لقوله تعالى {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا} (سورة الأنفال: الآية 73) فلما فتحت مكة قال صلى الله عليه وسلم: لا هجرة بعد الفتح)) ففي ها إشعار بأن مبايعة الأعرابي المذكورة كانت قبل الفتح – انتهى. (فخرج الأعرابي) أي من المدينة راجعًا إلى البدو (إنما المدينة كالكير تنفي) بفتح أوله (خبثها) بمعجمة وموحدة مفتوحتين. قال السمهودي: قوله ((تنفي خبثها)) يحتمل أن يكون بمعنى الطرد والإبعاد
وتنصع طيبها ". متفق عليه.
ــ
لأهل الخبث وقصة الأعرابي المذكور ظاهرة فيه، وخصه ابن عبد البر بزمنه صلى الله عليه وسلم، والظاهر كما قال النووي عدم التخصيص وقد طهرها الله تعالى ممن كان بها من أرباب الأديان المخالفين لدين الإسلام وأهلك من كان بها من المنافقين وهؤلاء هم أهل الخبث الكامل ومن عداهم من أهل الخبث والذنوب قد يكون طرده وإبعاده إن استمر على ذلك بآخرة الأمر بنقل الملائكة له إلى غيرها من الأرض، ويحتمل أن يكون بمعنى طرد أهل الخبث الكامل وهم أهل الشقاء والكفر لا أهل السعادة والإسلام لأن القسم الأول ليس قابلاً للشفاعة ولا للمغفرة، وقد وعد صلى الله عليه وسلم من يموت بها بالشفاعة لهذا وجب انتفاء القسم الأول منها، ويحتمل أن يكون بمعنى تخليص النفوس من شرها وميلها إلى اللذات لما فيها من اللأواء والشدة ويؤيده رواية أنها طيبة تنفي الذنوب ويكون نفيها للذنوب على ظاهره، ويحتمل أن يكون بمعنى أنها لا يخفى حال من انطوى فيها على خبث بل تظهر طويته كما هو مشاهد بها، ويؤيده ما في غزوة أحد في الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أحد رجع ناس من أصحابه أي وهم المنافقون؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " المدينة كالكير
…
" – الحديث. ولهذا سميت بالفاضحة، قال السمهودي: والذي ظهر لي من مجموع الأحاديث واستقراء أحوال هذه البلدة الشريفة أنها تنفي خبثها بالمعاني الأربعة (وتنصع) بضم التاء على بناء الفاعل من باب التفعيل والإفعال أي تخلص (طيبها) بالنصب على المفعولية وهو بفتح الطاء وتشديد التحتية، وروي ينصع بفتح التحتية وسكون النون وفتح الصاد المهملة من النصوع وهو الخلوص أي يصفو ويخلص ويتميز، والناصع الصافي الخالص، وعلى هذا طيبها مرفوع على أنه فاعل ينصع، ومعنى الحديث أنه يخرج من المدينة من لم يخلص إيمانه، ويبقى فيها من خلص إيمانه، وقال الحافظ: والمعنى أنها إذا نفت الخبث تميز الطيب واستقر فيها. قال الأبي: فإن قيل قد استقر بها المنافقون، أجيب بأنهم انتفوا بالموت، والموت أشد النفي، وقال العيني: فإن قلت: إن المنافقين قد سكنوا المدينة وماتوا فيها ولم تنفهم، قلت: كانت المدينة دارهم أصلاً ولم يسكنوا بها بالإسلام ولا حبًا له، وإنما سكنوها لما فيها من أصل معاشهم، ولم يرد صلى الله عليه وسلم بضرب المثل إلا من عقد الإسلام راغبًا فيه ثم خبث قلبه – انتهى. قال ابن المنير: ظاهر الحديث ذم من خرج من المدينة، وهو مشكل فقد خرج منها جمع كثير من الصحابة وسكنوا غيرها من البلاد، وكذا من بعدهم من الفضلاء، والجواب أن المذموم من خرج عنها كراهة فيها ورغبة عنها كما فعل الأعرابي المذكور، وأما المشار إليهم فإنما خرجوا لمقاصد صحيحة كنشر العلم وفتح بلاد الشرك والمرابطة في الثغور وجهاد الأعداء وهم مع ذلك على اعتقاد فضل المدينة وفضل سكانها (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي الأحكام، ومسلم في الحج، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 3: ص 306، 307، 365) ومالك في الجامع والنسائي والترمذي في أواخر المناقب.
2765 – (13) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد ". رواه مسلم.
2766 – (14) وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون
ــ
2765-
قوله (لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة) أي تخرج (شرارها كما ينفي الكير) أي يذهب (خبث الحديد) أي وسخه، وقال الطيبي: يحتمل أن يكون ذلك في زمنه عليه الصلاة والسلام، لأن بعثته من أشراط الساعة وأن يكون حين خروج الدجال وقصده المدينة – انتهى. وقد تقدم الكلام عليه مفصلاً (رواه مسلم) في الحج، والحديث من أفراد مسلم لم يخرجه البخاري ولا أصحاب السنن.
2766-
قوله (على أنقاب المدينة) طيبة، بفتح الهمزة وسكون النون جمع قلة لنَقَب، بفتح النون والقاف بعدها موحدة، ووقع في حديث أنس وأبي سعيد عند البخاري على ((نقابها)) بكسر النون جمع نقب بالسكون، وهما بمعنى. قال ابن وهب: المراد بها مداخلها وهي أبوابها وفوهات طرقها التي يدخل منها كما جاء في الحديث الآخر ((على كل باب منها ملك، وقيل طرقها، وأصل النقب الطريق بين الجبلين، وقيل الأنقاب الطرق التي يسكنها الناس (ملائكة) يحرسونها (لا يدخلها) قال الطيبي: جملة مستأنفة بيان لموجب استقرار الملائكة على الأنقاب (الطاعون) قال الحافظ في ((باب ما يذكر في الطاعون)) من كتاب الطب: بوزن فاعول، عدلوا به عن أصله ووضعوه دالاً على الموت العام كالوباء، ويقال طعن فهو مطعون وطعين إذا أصابه الطاعون، وإذا أصابه الطعن بالرمح فهو مطعون، هذا كلام الجوهري. وقال صاحب النهاية: الطاعون المرض العام الذي يفسد له الهواء وتفسد به الأمزجة والأبدان. وقال ابن العربي: الطاعون الوجع الغالب الذي يطفئ الروح كالذبحة، وسمي بذلك لعموم مصابه وسرعة قتله. وقال الداودي: الطاعون حبة تخرج من الأرقاع، وفي كل طي من الجسد، والصحيح أنه الوباء. وقال ابن عبد البر: الطاعون غدة تخرج في المراق والآباط، وقد تخرج في الأيدي والأصابع وحيث شاء الله، وقال النووي في الروضة: قبل الطاعون انصباب الدم إلى عضو، وقال آخرون: وهو هيجان الدم وانتفاخه. وقال النووي أيضًا في تهذيبه: هو بثر وورم مؤلم جدًا يخرج مع لهب ويسود ما حواليه أو يخضر أو يحمر حمرة شديدة بنفسجية كدرة ويحصل معه خفقان وقيء ويخرج غالبًا في المراق والآباط وقد يخرج في الأيدي والأصابع وسائر الجسد. وقال جماعة من الأطباء منهم أبو علي بن سيناء: الطاعون مادة سمية تحدث ورمًا قتالاً يحدث في المواضع الرخوة والمغابن من البدن، وأغلب ما تكون تحت الإبط أو خلف الأذن أو عند الأرنبة. قال: وسببه دم رديء مائل إلى العفونة والفساد يستحيل إلى جوهر سمي يفسد العضو ويغير ما يليه، ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة فيحدث القيء والغثيان والغشي والخفقان وهو لرداءته لا يقبل من
...................................................................................
ــ
الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع وأودؤه ما يقع في الأعضاء الرئيسية، والأسود منه قل من يسلم منه، وأسلمه الأحمر ثم الأصفر والطواعين تكثر عند الوباء في البلاد الوبئة، ومن ثم أطلق على الطاعون وباء، وذكر الحافظ أقوالاً أخرى، ثم قال: هذا ما بلغنا من كلام أهل اللغة وأهل الفقه والأطباء في تعريفه، والحاصل أن حقيقته ورم ينشأ عن هيجان الدم أو انصباب الدم إلى عضو فيفسده، وأن غير ذلك من الأمراض العامة الناشئة عن فساد الهواء يسمى طاعونًا بطريق المجاز لاشتراكهما في عموم المرض أو كثرة الموت، والدليل على أن الطاعون غير الوباء حديث ((أن الطاعون لا يدخل المدينة)) . وقد ورد في حديث عائشة: قدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله. وفيه قول بلال ((أخرجونا إلى أرض الوباء)) ، وغير ذلك من الأحاديث الدالة على أن الوباء كان موجودًا بالمدينة، وقد صرح في الحديث بأن الطاعون لا يدخلها، فدل على أن الوباء غير الطاعون وأن من أطلق على كل وباء طاعونًا فبطريق المجاز، قال: والذي يفترق به الطاعون من الوباء أصل الطاعون الذي لم يتعرض له الأطباء ولا أكثر من تكلم في تعريف الطاعون وهو كونه من طعن الجن، ولا يخالف ذلك ما قال الأطباء من كون الطاعون ينشأ عن هيجان الدم أو انصبابه لأنه يجوز أن يكون ذلك يحدث عن الطعنة الباطنة فتحدث منها المادة السمية ويهيج الدم بسببها أو ينصب، وإنما لم يتعرض الأطباء لكونه من طعن الجن لأنه أمر لا يدرك العقل، وإنما يعرف من الشارع فتكلموا في ذلك على أن ما اقتضته قواعدهم. وقال الكلاباذي في معاني الأخباء: يحتمل أن يكون الطاعون على قسمين: قسم يحصل من غلبة بعض الأخلاط من دم أو صفراء محترقة أو غير ذلك، وقسم يكون من وخز الجن كما تقع الجراحات من القروح التي تخرج في البدن من غلبة بعض الأخلاط – انتهى. ومما يؤيد أن الطاعون يكون من طعن الجن وقوعه غالبًا في أعدل الفصول، وفي أصح البلاد هواء وأطيبها ماء، ولأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدم في الأرض، لأن الهواء يفسد تارة ويصح أخرى، وهذا يذهب أحيانًا ويجيء أحيانًا على غير قياس ولا تجربة فربما جاء سنة على سنة، وربما أبطأ سنين، وبأنه لو كان كذلك لعم الناس والحيوان والموجود بالمشاهدة أنه يصيب الكثير ولا يصيب من هم بجانبهم مما هو في مثل مزاجهم، ولو كان كذلك لعم جميع البدن، وهذا يختص بموضع من الجسد ولا يتجاوزه، ولأن فساد الهواء يقتضي تغير الأخلاط وكثرة الأسقام، وهذا في الغالب يقتل بلا مرض، فدل على أنه من طعن الجن كما ثبت في الأحاديث الواردة منها حديث أبي موسى رفعه:" فناء أمتي بالطعن والطاعون "، قيل: يا رسول الله هذا الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟ قال: " وخز أعداءكم من الجن وفي كل شهادة ". أخرجه أحمد من رواية زياد بن علا ة عن رجل عن أبي موسى. وفي رواية له عن زياد حدثه رجل من قومي قال: كنا على باب عثمان ننتظر الأذان فسمعت أبا موسى قال زياد: فلم أرض بقوله فسألت سيد الحي فقال: صدق. وأخرجه البزار والطبراني من وجهين آخرين عن زياد فسميا المبهم يزيد بن الحارث، وسماه أحمد في رواية
...................................................................................
ــ
أخرى أسامة بن شريك، ولا معارضة بينه وبين من سماه يزيد بن الحارث لأنه يحمل على أن أسامة هو سيد الحي الذي أشار إليه في الرواية الأخرى واستثبته فيما حدثه به الأول وهو يزيد بن الحارث ورجاله رجال الصحيحين إلا المبهم وأسامة بن شريك صحابي مشهور، والذي سماه وهو أبو بكر النهشلي من رجال مسلم؛ فالحديث صحيح بهذا الاعتبار، وقد صححه ابن خزيمة والحاكم وأخرجاه، وأحمد والطبراني من وجه آخر عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري، قال: سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " هو وخز أعداءكم من الجن وهو لكم شهادة ". ثم ذكر الحافظ للحديث طريقين أخريين وشاهدين من حديث عائشة وحديث ابن عمر وضعفهما ثم قال: والعمدة في هذا الباب على حديث أبي موسى فإنه يحكم له بالصحة لتعدد طرقه إليه. ثم قال: قال العلماء: أراد صلى الله عليه وسلم أن يحصل لأمته أرفع أنواع الشهادة وهو القتل في سبيل الله بأيدي أعدائهم إما من الإنس وإما من الجن. وقوله ((وخز)) بفتح أوله وسكون المعجمة بعدها زاي، قال أهل اللغة: هو الطعن إذا كان غير نافذ، ووصف طعن الجن بأنه وخز لأنه يقع من الباطن إلى الظاهر فيؤثر في الباطن أولاً ثم يؤثر في الظاهر وقد لا ينفذ، وهذا بخلاف طعن الإنس فإنه يقع من الظاهر إلى الباطن فيؤثر في الظاهر أولاً ثم يؤثر في الباطن وقد لا ينفذ. تنبيه: يقع في الألسنة وهو في النهاية لابن الأثير بلفظ ((وخز إخوانكم من الجن)) ولم أره بلفظ إخوانكم بعد التتبع الطويل البالغ في شيء من طريق الحديث المسندة لا في الكتب المشهور ولا الأجزاء المنثورة وقد عزاه بعضهم لمسند أحمد والطبراني وكتاب الطواعين لابن أبي الدنيا ولا وجود لذلك في واحد منها، كذا في الفتح، قال الزرقاني: فإن قيل: إذا كان الطعن من الجن فكيف يقع في رمضان والشياطين تصفد فيه وتسلسل؟ أجيب باحتمال أنهم يطعنون قبل دخول رمضان ولا يظهر التأثير إلا بعد دخوله، وقيل غير ذلك، ويمكن أن يقال أن المصفد بعض الشياطين كما وقع في بعض الروايات وهم المردة لا كلهم فإن تصفيد الشياطين لا يستلزم تصفيد الجان كلهم، وقد استشكل عدم دخول الطاعون المدينة مع كون الطاعون شهادة، وكيف قرن بالدجال ومدحت المدينة بعدم دخولهما؟ قال الحافظ: والجواب أن كون الطاعون شهادة ليس المراد بوصفه بذلك ذاته وإنما المراد أن ذلك يترتب عليه وينشأ عنه لكونه سببه فإذا استحضر ما تقدم من أنه طعن الجن حسن مدح المدينة بعدم دخوله إياها، فإن فيه إشارة إلى أن كفار الجن وشياطينهم ممنوعون من دخول المدينة، ومن اتفق دخوله إليها لا يتمكن من طعن أحد منهم. فإن قيل طعن الجن لا يختص بكفارهم بل قد يقع من مؤمنيهم، قلنا: دخول كفار الإنس المدينة ممنوع، فإذا لم يسكن المدينة إلا من يظهر الإسلام جرت عليه أحكام المسلمين ولو لم يكن خالص الإسلام فحصل الأمن من وصول الجن إلى طعنهم بذلك، فلذلك لم يدخلها الطاعون أصلاً. وقد أجاب القرطبي في المفهم
...................................................................................
ــ
عن ذلك فقال: المعنى لا يدخلها من الطاعون مثل الذي وقع في غيرها كطاعون عمواس والجارف. وهذا الذي قاله يقتضى تسليم أنه دخلها في الجملة، وليس كذلك فقد جزم ابن قتيبة في المعارف وتبعه جمع جم من آخرهم الشيخ محيي الدين النووي في الأذكار بأن الطاعون لم يدخل المدينة أصلاً ولا مكة أيضًا لكن نقل جماعة أنه دخل مكة في الطاعون العام الذي كان في سنة تسع وأربعين وسبعمائة بخلاف المدينة فلم يذكر أحد قط أنه وقع بها الطاعون أصلاً. ولعل القرطبي بنى على أن الطاعون أعم من الوباء أو أنه هو، وإنه الذي ينشأ عن الفساد الهواء فيقع به الموت الكثير، وقد مضى في الجنائز من صحيح البخاري قول أبي الأسود: قدمت المدينة وهم يموتون بها موتاً ذريعاً، فهذا وقع بالمدينة وهو وباءً بلا شك، ولكن الشأن في تسميته طاعونًا، والحق أن المراد بالطاعون في هذا الحديث المنفي دخوله المدينة الذي ينشأ عن طعن الجن فيهيج بذلك الطعن الدم في البدن فيقتل، فهذا لم يدخل المدينة قط، فلم يتضح جواب القرطبي، وأجاب غيره بأن سبب الترجمة لم ينحصر في الطاعون وقد قال صلى الله عليه وسلم: ولكن عافيتك أوسع لي. فكان منع دخول الطاعون المدينة من خصائص المدينة ولوازم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها بالصحة وقال آخر: هذا من المعجزات المحمدية لأن الأطباء من أولهم إلى آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون عن بلد بل عن قرية، وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه الدهور الطويلة. قلت (قائله الحافظ) : هو كلام صحيح ولكن ليس هو جواباً عن الإشكال. ومن الأجوبة أنه صلى الله عليه وسلم عوضهم عن الطاعون بالحمى لأن الطاعون يأتي مرة بعد مرة والحمى تتكرر في كل حين فيتعادلان في الأجر ويتم المراد من عدم دخول الطاعون لبعض ما تقدم من الأسباب، ويظهر لي جواب آخر بعد استحضار الحديث الذي أخرجه أحمد من رواية أبي عسيب – بمهملتين آخره موحدة وزن عظيم – رفعه: أتاني جبريل بالحمى والطاعون فأمسكت الحمى بالمدينة وأرسلت الطاعون إلى الشام. وهو أن الحكمة في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة كان في قلة من أصحابه عددًا ومددًا وكانت المدينة وبئة كما سبق من حديث عائشة ثم خير النبي صلى الله عليه وسلم في أمرين يحصل بكل منهم الأجر الجزيل فاختار الحمى حينئذ لقلة الموت بها غالبًا بخلاف الطاعون، ثم لما احتاج إلى جهاد الكفار وأذن له في القتال كانت قضية استمرار الحمى بالمدينة أن تضعف أجساد الذين يحتاجون إلى التقوية لأجل الجهاد فدعا بنقل الحمى من المدينة إلى الجحفة فعادت المدينة أصح بلاد الله بعد أن كانت بخلاف ذلك، ثم كانوا من حينئذ من فاتته الشهادة بالطاعون ربما حصلت له بالقتل في سبيل الله، ومن فاته ذلك حصلت له الحمى التي هي حظ المؤمن من النار، ثم استمر ذلك بالمدينة تمييزًا لها عن غيرها لتحقيق إجابة دعوته وظهور هذه المعجزة العظيمة بتصديق خبره هذه المده المتطاولة، والله أعلم – انتهى. وارجع إلى وفاء الوفاء للسمهودي (ص 64 – 67) فإنه قد بسط الكلام على ذلك وأحسن. وقال الزرقاني: قد أمتنع الطاعون
ولا الدجال ". متفق عليه.
2767 – (15) وعن أنس، قال: قال رسول الله: ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال
ــ
عن المدينة بدعائه وخبره هذه المدد المتطاولة فهو خاص بها. وجزم ابن قتيبة في المعارف والنووي في الأذكار بأن الطاعون لم يدخل مكة أيضًا معارضًا بما نقله غير واحد بأنه دخلها في سنة سبع وأربعين وسبعمائة؛ لكن في تاريخ مكة لعمر بن شبة برجال الصحيح عن أبي هريرة مرفوعًا: " المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة على كل نقيب منها ملك فلا يدخلهما الدجال ولا الطاعون ". وحينئذ فالذي نقل أنه دخل مكة في التاريخ المذكور ليس كما ظن أو يقال أنه لا يدخلهما من الطاعون مثل الذي يقع في غيرهما كالجارف وعمواس، وفي حديث أنس عند البخاري في الفتن ((فيجد الملائكة يحرسونها يعني المدينة فلا يقربها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله)) . وقد اختلف في هذا الاستثناء فقيل هو للتبرك فيشملهما، وقيل هو للتعليق وأنه يختص بالطاعون ومقتضاه جواز دخول الطاعون المدينة. قال الحافظ في الفتن: وكونه للتبرك هو أولى. وقال السمهودي بعد ذكر هذه الرواية: هذا يقتضي جواز دخول الطاعون المدينة ويرده الجزم في سائر الأحاديث والصواب حفظها منه كما هو المشاهد، وقيل المراد بالطاعون في هذا الحديث المنفي دخوله المدينة طاعون العذاب فتأمل (ولا الدجال) هو فعال بفتح أوله وتشديد الجيم من الدجل وهو التغطية، والمراد المسيح الأعور وسمي الكذاب دجالاً لأنه يغطي الحق بباطله، ويقال دجل البعير بالقطران إذا غطاه والإناء بالذهب إذا طلاها، وقال ابن دريد: سمي دجالاً لأنه يغطي الحق بالكذب، وقيل لضربه نواحي الأرض. وقيل: بل قيل ذلك لأنه يغطي الأرض فرجع إلى الأول. وقال القرطبي في التذكرة اختلف في تسميته دجالاً على عشر أقوال. وقال صاحب القاموس: إنه اجتمع له من الأقوال في سبب تسميته الدجال المسيح خمسون قولاً، كذا في الفتح. ويأتي مزيد الكلام على عدم دخول الدجال المدينة في شرح حديث أنس الذي يليه (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي الطب وفي الفتن، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 237) ومالك في الجامع والنسائي.
2767 – قوله (ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال) أي يدوسه ويدخلها ويفسده. قال الحافظ: هو على ظاهره وعمومه عند الجمهور، وشذ ابن حزم فقال: المراد لا يدخله بعثه وجنوده، وكأنه استبعد إمكان دخول الدجال جميع البلاد لقصر مدته وغفل عما في صحيح مسلم أن بعض أيامه يكون قدر السنة. قلت: لا إشكال في طي الدجال جميع البلاد غي المدة التي ذكرت في الأحاديث ولا مجال لاستبعاده حيث اخترعت في عصرنا هذا سيارات سريعة وقطارات بخارية وكهربائية في البر وبواخر سريعة الجري في البحر وطيارات ونفاثات وصواريخ ذرية تقطع في أقصر وقت من الأبعاد والمسافات ما كان لا يتصوره الإنسان قبل ذلك، وروى الحاكم من حديث أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد رفعه
إلا مكة والمدينة، ليس نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها، فينزل السبخة فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فيخرج إليه كل كافر ومنافق ".
ــ
((أنه يخرج يعني الدجال في نقص من الدنيا وخفة من الدين وسوء ذات بين فيرد كل منهل وتطوى له الأرض طي فروة الكبش حتى يأتي المدينة فيغلب على خارجها ويمنع داخلها ثم يأتي ايلياء فيحاصر عصابة من المسلمين)) فهذا فيه نوع آخر لطي الأرض (إلا مكة والمدينة) بالنصب على الاستثناء. قال الزرقاني: وعند الطبري عن ابن عمرو مرفوعًا ((إلا الكعبة وبيت المقدس)) وزاد الطحاوي ((ومسجد الطور)) وفي بعض الروايات: فلا يبقى موضع إلا ويأخذه الدجال غير مكة والمدينة وبيت المقدس وجبل الطور، فإن الملائكة تطرده عن هذه الموضع – انتهى. ونسب الحافظ حديث عبد الله بن عمرو إلى الطبراني والرواية الثانية إلى أحمد، قال: ورجاله ثقات (ليس نقب من أنقابها) أي أنقاب المدينة أو أنقاب كل واحدة منهما (إلا عليه الملائكة) أي على ذلك النقب (يحرسونها) أي يحفظون أهلها (فينزل) أي الدجال بعد أن منعته الملائكة (السبخة) بكسر الباء صفة وهي الأرض التي تعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر، وبفتحها اسم، وهو موضع قريب من المدينة (فترجف المدينة) بضم الجيم أي تضطرب (بأهلها) أي ملتبسة بهم وقيل: الباء للتعدية أي تحركهم وتزلزلهم (ثلاث رجفات) بفتح الجيم (فيخرج إليه) أي إلى الدجال، وفي رواية ((فيخرج الله)) (كل كافر ومنافق) قال الطيبي: الباء يحتمل أن تكون للسببية أي تتزلزل وتضطرب بسبب أهلها لينفض إلى الدجال الكافر والمنافق، وأن يكون حالاً أي ترجف ملتبسة، ثم نقل عن المظهر ((ترتجف المدينة بأهلها)) أي تحركهم وتلقى ميل الدجال في قلب من ليس بمؤمن خالص، قال: فعلى هذا الباء صلة الفعل، وقال الحافظ في الحج: قوله ((ثم ترتجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات)) إلخ. أي يحصل لها زلزلة بعد أخرى ثم ثالثة حتى يخرج منها من ليس مخلصًا في إيمانه ويبقى بها المؤمن الخالص فلا يسلط عليه الدجال ولا يعارض هذا ما في حديث أبي بكرة عند البخاري أنه لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لأن المراد بالرعب ما يحدث من الفزع من ذكره والخوف من عتوه لا الرجفة التي تقع بالزلزلة لإخراج من ليس بمخلص، وحمل بعض العلماء الحديث الذي فيه أنها تنفي الخبث على هذه الحالة دون غيرها، وقد تقدم أن الصحيح في معناه أنه خاص بناس وبزمان فلا مانع أن يكون هذا الزمان هو المراد، ولا يلزم من كونه مرادًا نفي غيره، وقال في باب ذكر الدجال من كتاب الفتن: الجمع بين قوله ترجف ثلاث رجفات وبين قوله لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال أن الرعب المنفي هو الخوف والفزع حتى لا يحصل لأحد فيها بسبب نزوله قربها شيء منه، أو هو عبارة عن غايته وهو غلبته عليها، والمراد بالرجفة الإرفاق وهو إشاعة مجيئه وأنه لا طاقة لأحد به، ويسارع حينئذ إليه من كان يتصف بالنفاق أو الفسق فيظهر حينئذ تمام أنها تنفي خبثها – انتهى. وقال
متفق عليه.
2768 – (16) وعن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يكيد أهل المدينة أحد إلا إنماع كما ينماع الملح في الماء ".
ــ
السمهودي بعد ذكر حديث أنس وأبي بكرة وغير ذلك مما ورد في الباب ما لفظه: ويستفاد منه أن المراد من قوله في الأحاديث المتقدمة ((فترجف المدينة)) يعني بسبب الزلزلة فلا يشكل بما تقدم من أنه لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال فيستغنى عما جمع به بعضهم من أن الرعب المنفي هو ألا يحصل لمن بها بسبب قربه منها خوف، أو هو عبارة عن غايته وهو غلبته عليها، والمراد بالرجفة إشاعة مجيئه وأن لا طاقة لأحد به فيتسارع حينئذ عليه من كان يتصف بالنفاق أو الفسق، قاله الحافظ ابن حجر. وما قدمناه أولى – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي الفتن ومسلم في آخر الكتاب في أحاديث الدجال، وأخرجه أيضًا النسائي، وأخرج أحمد نحوه.
2768 – قوله (لا يكيد أهل المدينة أحد) أي لا يريد بأهلها سوءًا، والكيد المكر والحيلة في المساءة. وقال القسطلاني: أي لا يفعل بهم كيدًا من مكر وحرب وغير ذلك من وجوه الضرر بغير حق (إلا انماع) بسكون النون بعد همزة الوصل آخره مهملة، أي ذاب. قال في النهاية: ماع الشيء ويميع وانماع إذا ذاب وسال (كما ينماع الملح في الماء) وفي رواية مسلم من طريق أبي عبد الله القراظ عن أبي هريرة وسعد جميعًا فذكر حديثًا فيه ((من أراد أهلها بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء)) ، وفي رواية مسلم من طريق عامر بن سعد عن أبيه في أثناء حديث:" ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء ". قال عياض: هذه الزيادة أي قوله في النار تدفع إشكال الأحاديث التي لم تذكر فيها، وتبين أن هذا حكمه في الآخرة. قال: ويحتمل أن يكون المراد به أن من أرادها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كفى المسلمون أمره واضمحل أمره كما يضمحل الرصاص في النار فيكون في اللفظ تقديم وتأخير ويؤيده قوله أو ذوب الملح في الماء. قال: ويحتمل أن يكون المراد من كادها اغتيالاً وطلبًا لغرتها فلا يتم له أمر بخلاف من أتى ذلك جهارًا، قال: ويحتمل أن يكون ذلك لمن أرادها في الدنيا بسوء فلا يمهله الله ولا يمكن له سلطانًا بل يذهبه عن قرب كما انقضى شأن من حاربها أيام بني أمية مثل مسلم بن عقبة فإنه عوجل عن قرب فأهلك في منصرفه من المدينة ثم هلك يزيد بن معاوية مرسله على أثر ذلك وغيرهما ممن صنع صنيعهما – انتهى. قال السمهودي: وهذا الاحتمال الأخير هو الأرجح، وليس في الحديث ما يقتضى أنه لا يتم له ما أراد منهم بل الوعد بإهلاكه ولم يزل شأن المدينة على هذا حتى في زماننا ها لما تظاهرت طائفة العياشي لإرادة السوء بالمدينة الشريفة لأمر اقتضى خروجهم منها
متفق عليه.
2769 – (17) وعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر فنظر إلى جدرات المدينة، أوضع راحلته وإن كان على دابة حركها من حبها. رواه البخاري.
ــ
حتى أهلك الله عتاتهم مع كثرتهم في مدة يسيرة، وقد يقال المراد من الأحاديث الجمع بين إذابته بالإهلاك في الدنيا وبين إذابته بالنار في الأخرى، والمذكور في هذا الحديث هو الثاني، وفي غيره الأول ففي رواية لأحمد برجال الصحيح من جملة حديث من أرادها بسوء يعني المدينة أذابه الله كما يذوب الملح في الماء، وكذا في مسلم أيضًا وفي رواية له ((من أراد أهل هذه البلدة بدهم أو بسوء)) بالشك، والدهم بفتح الدال المهملة وإسكان الهاء أي بغائلة وأمر عظيم، ولذا قيل المراد غازيًا مغيرًا عليها، وروى النسائي من حديث السائب بن خلاد رفعه:" من أخاف أهل المدينة ظالمًا لهم أخافه الله، وكانت عليه لعنة الله.. " – الحديث. ولابن حبان نحوه من حديث جابر، والحديث فيه دليل على فضل المدينة، واستدل به بعضهم على أن المدينة أفضل من مكة ولا يخفى ما فيه قال ابن حزم: إنما فيه الوعيد على من كاد أهلها ولا يحل كيد مسلم، فليس فيه أنها أفضل من مكة، وقد قال تعالى عن مكة {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} (سورة الحج: الآية 26) فصح الوعيد على من ظلم بمكة كالوعيد على من كاد أهل المدينة (متفق عليه) أخرجاه في الحج وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 180) والنسائي.
2769 – قوله (فنظر إلى جدرات المدينة) بضم الجيم والدال جمع جدر بضمتين جمع سلامة والجدر جمع جدار (أوضع) بفتح الهمزة: وسكون الواو وبالضاد المعجمة أي أسرع، يقال وضع البعير أي أسرع في مشيه وأوضعه راكبه أي حمله على السير السريع (راحلته) وفي رواية ناقته أي حملها على السير السريع قال القاري: الإيضاع مخصوص بالبعير، والراحلة النجيب والنجيبة من الإبل، في الحديث: الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة (وإن كان على دابة) سوى الناقة كالبغل والفرس والدابة أعم من الناقة (حركها) جواب إن (من حبها) أي حرك الدابة لسرعة السير من أجل حبه صلى الله عليه وسلم المدينة أو أهلها؛ فمن سببية متعلقة بقوله حركها. قال القسطلاني: وقد استجاب الله تعالى دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم حيث دعا اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد حتى كان يحرك دابته إذا رآها من حبه (رواه البخاري) في الحج في باب من أسرع ناقته إذا بلغ المدينة، وفي فضائل المدينة قبل باب كراهية النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة، وأخرجه أيضًا الترمذي في الدعوات بعد ((باب ما يقول إذا رجع من سفره)) .
2770 – (18) وعنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم طلع له أحد فقال: " هذا جبل يحبنا ونحبه
ــ
2770 – قوله (طلع) أي ظهر (له أحد) قال السهيلي:سمي أحدًا لتوحده وانقطاعه عن جبال أخرى هناك أو لما وقع من أهله من نصر التوحيد (فقال: هذا) إشارة إلى جبل أحد (جبل يحبنا ونحبه) قال الحافظ: ظهر من هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك لما رآه في حال رجوعه من الحج – انتهى. قلت: ويظهر من رواية عمرو عن أنس عند البخاري في باب من غزا بصبي للخدمة من كتاب الجهاد أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك لما رآه في حال رجوعه من خيبر، ووقع في رواية أبي حميد عند البخاري أيضًا في باب خرص التمر من كتاب الزكاة أنه قال لهم ذلك لما رجع من تبوك وأشرف على المدينة قال:" هذه طابة ". فلما رأي أحدًا قال: " هذا جبل يحبنا ونحبه ". قال الحافظ: فكأنه صلى الله عليه وسلم تكرر منه ذلك القول، وللعلماء في معنى ذلك أقوال أحدها أنه على حذف مضاف، والتقدير أهل أحد والمراد بهم الأنصار لأنهم جيرانه، ثانيها أنه قال ذلك للمسرة بلسان الحال إذا قدم من سفر لقربه من أهله ولقياهم، وذلك فعل من يحب بمن يحب، ثالثها أن الحب من الجانبين على حقيقته وظاهره لكون أحد من جبال الجنة كما ثبت في حديث أبي عبس بن جبر مرفوعًا ((جبل أحد يحبنا ونحبه وهو من جبال الجنة)) أخرجه أحمد. ولا مانع في جانب البلد من إمكان المحبة منه كما جاز التسبيح منها أي الجبال وقد خاطبه صلى الله عليه وسلم مخاطبة من يعقل فقال لما اضطرب:" اسكن أحد ". – الحديث. وقال السهيلي: كان صلى الله عليه وسلم يحب الفال الحسن والاسم الحسن ولا اسم أحسن من اسم مشتق من الأحدية. قال: ومع كونه مشتقاً من الأحدية فحركات حروفه الرفع وذلك يشعر بارتفاع دين الأحد وعلوه فتعلق الحب من النبي صلى الله عليه وسلم به لفظًا ومعنىً فخص من بين الجبال بذلك، والله أعلم. وقال الحافظ أيضًا في باب من غزا بصبي للخدمة: قيل: هو على الحقيقة ولا مانع من وقوع مثل ذلك بأن يخلق الله المحبة في بعض الجمادات، وقيل: هو على المجاز والمراد أهل أحد على حد قوله تعالى: {واسأل القرية} وقال الشاعر:
وما حب الديار شغفن قلبي _
…
ولكن حب من سكن الديارا
– انتهى. وقال السمهودي: قيل: المراد يحبنا أهله ونحبهم، فحذف أهله لدلالة اللفظ عليه كما في قوله تعالى:{وأشربوا في قلوبهم العجل} (سورة البقرة: الآية 87) أي حبه {واسأل القرية} سورة يوسف: الآية 82) وقيل: هو ضرب من المجاز أي نحن نحبه ونستبشر برؤيته، ولو كان ممن يعقل لأحبنا على سبيل مطابقة الكلام، وقيل: يحتمل أن يكون ذلك حقيقة وأن الله تعالى جعل فيه أو في بعضه إدراكًا ومحبة كما جعل في تسبيح الحصى وحنين الجذع ويكون من خوارق العادات، ويحتمل أن يكون يحبنا هنا عبارة عن نفعه لنا في الحماية والنصرة كمن يحبنا – انتهى. وقال النووي: الصحيح المختار أن معناه أن أحدًا يحبنا حقيقة، جعل الله تعالى فيه تمييزًا يحب به كما قال سبحانه
اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها ". متفق عليه.
ــ
وتعالى: ((وإن منها لما يهبط من خشية الله} (سورة البقرة: الآية 69) وكما حن الجذع اليابس وكما سبح الحصى وكما فر الحجر بثوب موسى صلى الله عليه وسلم. قال: وهذا وما أشبهه شواهد لما اخترناه واختاره المحققون في معنى الحديث، وأن أحدًا يحبنا حقيقة، وقيل المراد يحبنا أهله فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه – انتهى. وقال الزرقاني: قوله ((يحبنا)) حقيقة كما رجحه جماعة وقد خاطبه صلى الله عليه وسلم مخاطبة من يعقل فقال لما اضطرب ((اسكن)) فوضع الله الحب فيه كما وضع التسبيح في الجبال مع داود، والخشية في الحجارة التي قال فيها {وإن منها لما يهبط من خشية الله} وكما حن الجذع لفراقه حتى سمع الناس حنينه فلا ينكر وصف الجماد بحب الأنبياء، وقد سلم عليه الحجر والشجر وسبحت الحصيات في يده وكلمته الذراع وأمنت حوائط البيت وأسكفه الباب على دعائه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى مزيد حب الله إياه حتى أسكن حبه في الجماد وغرس محبته في الحجر مع فضل يبسه وقوة صلابته، وقوله ((نحبه)) حقيقة أيضًا. لأن جزاء من يحب أن يحب. ولأنه من جبال الجنة كما رواه أحمد عن أبي عبس بن جبر (كما تقدم) وللبزار والطبراني ((أحد هذا جبل يحبنا ونحبه على باب من أبواب الجنة)) أي من داخلها. فلا ينافي رواية الطبراني أيضًا:" أحد ركن من أركان الجنة ". لأنه ركن داخل الباب، بدليل رواية ابن سلام في تفسيره أنه ركن باب الجنة، وقيل هو على حذف المضاف أي يحبنا أهله وهم الأنصار لأنهم جيرانه، وكانوا يحبونه صلى الله عليه وسلم ويحبهم. وقيل لأنه كان يبشره بلسان الحال إذا قدم من سفر بقربه من أهله ولقائهم، وذلك فعل المحب بمن يحب فكان يفرح إذا طلع له استبشارًا بالأوبة من السفر والقرب من الأهل، وضعف بما في رواية الطبراني عن أنس ((فإذا جئتموه فكلوا من شجره ولو من عضاهه)) بكسر المهملة وضاد معجمة كل شجرة عظيمة ذات شوك، فحث على عدم إهمال الأكل حتى لو فرض أنه لا يوجد إلا ما لا يؤكل كالعضاه يمضغ منه تبركاً ولو بلا ابتلاع قال: وأخذ من هذا الحديث أنه أفضل الجبال. وقيل عرفة، وقيل: أبو قبيس: وقيل: الذي كلم الله عليه موسى، وقيل: قاف. قيل: وفيه قبر هارون أخي موسى عليهما السلام ولا يصح- انتهى. (اللهم إن إبراهيم حرم مكة) تقدم شرحه (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب خرص التمر من كتاب الزكاة، وفي باب من غزا بصبي للخدمة من الجهاد، وفي باب قوله:{اتخذ الله إبراهيم خليلاً} (سورة النساء: الآية 124) من كتاب الأنبياء، وفي باب غزوة أحد من المغازي، وفي باب الحيس من الأطعمة، وفي باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم، إلخ. من كتاب الاعتصام، وأخرجه مسلم في الحج في فضل المدينة، وأخرجه أيضًا مالك في الجامع والترمذي في أواخر المناقب.