المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

اقترض عرض مسلم وهو ظالم، فذلك الذي حرج وهلك ". - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٩

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

فهرس الكتاب

- ‌(2) باب قصة حجة الوداع

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(3) باب دخول مكة والطواف

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(4) باب الوقوف بعرفة

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(5) باب الدفع من عرفة والمزدلفة

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(6) باب رمي الجمار

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(7) باب الهدي

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(8) باب الحلق

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(9) باب

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(10) باب خطبة يوم النحر، ورمي أيام التشريق، والتوديع

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(11) باب ما يجتنبه المحرم

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(12) باب المحرم يجتنب الصيد

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(13) باب الإحصار، وفوت الحج

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(14) باب حرم مكة حرسها الله تعالى

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(15) باب حرم المدينة حرسها الله تعالى

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

الفصل: اقترض عرض مسلم وهو ظالم، فذلك الذي حرج وهلك ".

اقترض عرض مسلم وهو ظالم، فذلك الذي حرج وهلك ". رواه أبو داود.

(10) باب خطبة يوم النحر، ورمي أيام التشريق، والتوديع

(الفصل الأول)

2683 -

(1) عن أبي بكرة، قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر،

ــ

وعلى مسألة تقديم السعي على الطواف (اقترض) بالقاف والضاد المعجمة، أي اقتطع افتعال من القرض، وهو القطع، وسمي المقراض لأنه يقطع، وقرض الفار قطع (عرض مسلم) كذا في جميع النسخ، والذي في سنن أبي داود ((عرض رجل مسلم)) والعرض بكسر العين المهملة وسكون الراء يعني نال منه وعابه وقطعه بالغيبة ونحوها (وهو) أي والحال أن ذلك الرجل (ظالم) فيخرج جرح الرواة والشهود فإنه مباح (فذلك الذي) أي الرجل الموصوف (حرِج) بكسر الراء أي وقع منه حرج (وهلك) أي بالإثم، والعطف تفسيري (رواه أبو داود) وسكت عنه هو والمنذري وأخرجه أيضًا الطحاوي (ج 1: ص 223، 224) والدارقطني (ص 268) والبيهقي (ج 5: ص 146) .

(باب خطبة يوم النحر) بضم الخاء المعجمة، مصدر خطب يخطب خطابة وخطبة، أي وعظ، ويطلق على الكلام الذي يخطب به، كذا في القاموس. وفي عرف الشرع عبارة عن كلام يشتمل على الذكر والتشهد والصلاة والوعظ (ورمى أيام التشريق) عطف على خطبة، وأيام التشريق هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، أولها اليوم الحادي عشر من ذي الحجة، وسميت هذه الأيام أيام التشريق لكثرة تشريق اللحم في الشمس فيها بعد تقطيعه وتقديده، وقيل: لأن الهدايا والضحايا تقع فيها وابتداؤها من يوم النحر بعد شروق الشمس، فانسحب عليها اسم التشريق، وهذا القول اختاره أبو عبيد القاسم بن سلام. واليوم الأول من هذه الأيام الثلاثة يقال له: يوم القر، لأن الناس يستقرون فيه بمنى، وسمي يوم الرؤوس أيضًا لأن الناس يأكلون فيه رؤوس ذبائحهم يوم النحر. واليوم الثاني سمي يوم النفر الأول ويقال له: يوم الأكارع، واليوم الثالث يقال له: يوم النفر الآخر، ذكره الطبري. وقال الجزري: وإنما سميت بذلك لأنهم كانوا يشرقون فيها لحوم الأضاحي أي يقطعونها ويقددونها، وتشريق اللحم تقديده، وقيل سميت بذلك لقولهم: أشرق ثبير كيما نغير. وقيل سميت بذلك لأن الهدي لا يذبح ولا ينحر حتى تشرق الشمس - انتهى. وفي اللسان: لأن لحم الأضاحي يشرق فيها للشمس (والتوديع) عطف على رمى أو خطبة، قال في القاموس: ودّعه كوضعه وودعه (بتشديد الدال) بمعنى، والاسم الوداع، يقال: ودع المسافر القوم وودعهم أي خلفهم خافضين، وقال في العناية: الوداع - بفتح الواو - اسم للتوديع كسلام وكلام.

2683 -

قوله (عن أبي بكرة) الثقفي الصحابي اسمه نفيع بن الحارث (خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر) فيه دليل

ص: 288

.............................................................................................

ــ

على مشروعية الخطبة يوم النحر. ويدل عليه أيضًا حديث ابن عمر عند البخاري قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بين الجمرات في حجة الوداع فقال: أي يوم هذا - الحديث، وحديث ابن عباس عند البخاري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال: يا أيها الناس أي يوم هذا؟ وحديث جابر عند أحمد، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال أي يوم أعظم حرمة؟ وحديث الهرماس بن زياد الباهلي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على ناقته العضباء يوم الأضحى بمنى. أخرجه أحمد (ج 3: ص 485، وج 5: ص 7) وأبو داود. وحديث أبي أمامة عند أبي داود قال: سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى يوم النحر، وحديث رافع بن عمرو المزني الآتي في الفصل الثاني من هذا الباب قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يوم النحر يخطب على بغلة شهباء، وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم النحر فقام إليه رجل - الحديث. أخرجه الشيخان وغيرهما. وهذه الأحاديث نص في مشروعية الخطبة في يوم النحر وهي ترد على من زعم أن يوم النحر لا خطبة فيه للحاج، وأن المذكور في أحاديث الباب إنما هو من قبيل الوصايا العامة لا أنه خطبة من شعار الحج. ووجه الرد أن الرواة سموها خطبة كما سموا التي وقعت بعرفات خطبة، وقد اتفق على مشروعية الخطبة بعرفات، ولا دليل على ذلك إلا ما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه خطب بعرفات، والقائلون بعدم مشروعية الخطبة يوم النحر هم المالكية والحنفية، وقالوا خطب الحج ثلاث: سابع ذي الحجة ويوم عرفة، وثاني يوم النحر، ووافقهم الشافعية إلا أنهم قالوا بدل ثاني النحر ثالثه، وزادوا خطبة رابعة وهي يوم النحر. قال الإمام الشافعي: وبالناس إليها حاجة ليتعلموا أعمال ذلك اليوم من الرمي والذبح والحلق والطواف. وتعقبه الطحاوي بأن الخطبة المذكورة ليست من متعلقات الحج لأنه لم يذكر فيها شيئًا من أعمال الحج وإنما ذكر فيها وصايا عامة، قال: ولم ينقل أحد أنه علمهم فيها شيئًا مما يتعلق بالحج يوم النحر فعرفنا أنها لم تقصد لأجل الحج. وقال ابن القصار: إنما فعل ذلك من أجل تبليغ ما ذكره لكثرة الجمع الذي اجتمع من أقاصي الدنيا فظن الذي رآه أنه خطب، قال: وأما ما ذكره الشافعي أن بالناس حاجة إلى تعليمهم أسباب التحلل المذكورة فليس بمتعين، لأن الإمام يمكنه أن يعلمهم إياها يوم عرفة – انتهى. وأجيب بأنه نبه صلى الله عليه وسلم في الخطبة المذكورة على تعظيم يوم النحر وعلى تعظيم شهر ذي الحجة وعلى تعظيم البلد الحرم، وقد جزم الصحابة المذكورون بتسميتها خطبة كما تقدم، فلا يلتفت إلى تأويل غيرهم، وما ذكره من إمكان تعليم ما ذكر يوم عرفة يعكر عليه كونه يرى مشروعية الخطبة ثاني يوم النحر، وكان يمكن أن يعلموا يوم التروية جميع ما يأتي بعده من أعمال الحج، لكن لما كان في كل يوم أعمال ليست في غيره شرع تجديد التعليم بحسب تجدد الأسباب. وقد بين الزهري وهو عالم أهل زمانه أن الخطبة ثاني يوم النحر نقلت من خطبة يوم النحر، وأن ذلك من عمل الأمراء يعني من بني أمية كما أخرج ذلك ابن أبي شيبة عنه، وهذا وإن كان مرسلاً لكنه معتضد بما سبق وبان به أن السنة

ص: 289

قال: " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض،

ــ

الخطبة يوم النحر لا ثانيه. وأما قول الطحاوي أنه لم يعلمهم شيئًا من أسباب التحلل فلا ينفي وقوع ذلك أو شيء منه في نفس الأمر، بل قد ثبت في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص كما تقدم أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم النحر، وذكر فيه السؤال عن تقديم بعض المناسك على بعض فكيف ساغ للطحاوي هذا النفي المطلق مع روايته هو لحديث عبد الله بن عمرو، وثبت أيضًا في بعض أحاديث الباب أنه صلى الله عليه وسلم قال للناس حينئذ: خذوا عني مناسككم. فكأنه وعظهم بما وعظهم به وأحال في تعليمهم على تلقي ذلك من أفعاله، أفاده الحافظ. قلت: حديث رافع بن عمرو المزني الآتي بلفظ ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء)) يدل على أن الخطبة المذكورة كانت وقت الضحى يعني قبل طواف الإفاضة وهو مشكل على مذهب الشافعية حيث قالوا: أنه يسن أن يخطب الإمام أو نائبه الناس بعد صلاة الظهر يوم النحر بمنى بعد طواف الإفاضة، وقد تقدم التنبيه على ذلك في شرح حديث عبد الله بن عمرو في الباب الذي قبل هذا (إن الزمان) هو اسم لقليل الوقت وكثيره، والمراد هنا السنة (قد استدار) أي دار (كهيئته) قال الطيبي: الهيئة صورة الشيء وشكله وحالته، والكاف صفة مصدر محذوف أي استدار استدارة مثل حالته (يوم خلق الله السموات) أي وما فيها من النيرين الذين بهما تعرف الأيام والليالي والسنة والأشهر (والأرض) قال القاري: أي عاد ورجع إلى الموضع الذي ابتدأ منه يعني الزمان في انقسامه إلى الأعوام والأعوام إلى الأشهر عاد إلى أصل الحساب والوضع الذي اختاره الله تعالى ووضعه يوم خلق السموات والأرض. وقال بعض المحققين من علمائنا (الحنفية) أي دار على الترتيب الذي اختاره الله تعالى ووضعه يوم خلق السموات والأرض وهو أن يكون كل عام اثني عشر شهرًا وكل شهر ما بين تسعة وعشرين إلى ثلاثين يومًا، وكانت العرب في جاهليتهم غيروا ذلك فجعلوا عامًا اثني عشر شهرًا وعامًا ثلاثة عشر فإنهم كانوا ينسؤن الحج في كل عامين من شهر إلى شهر آخر بعده ويجعلون الشهر الذي أنسؤه ملغي، فتصير تلك السنة ثلاثة عشر، وتتبدل أشهرها فيحلون الأشهر الحرم ويحرمون غيرها كما قال تعالى في سورة التوبة {إنما النسيء زيادة في الكفر} (الآية 37) فأبطل الله ذلك وقرره على مداره الأصلي فالسنة التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع هي السنة التي وصل ذو الحجة إلى موضعه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الزمان قد استدار كهيئته، يعني أمر الله أن يكون ذو الحجة في هذا الوقت، فاحفظوه واجعلوا الحج في هذا الوقت ولا تبدلوا شهرًا بشهر كعادة أهل الجاهلية – انتهى. وقال النووي، قال العلماء: معناه أنهم في الجاهلية يتمسكون بملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم في تحريم الأشهر الحرم وكان يشق عليهم تأخير القتال ثلاثة أشهر متواليات وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، فكانوا إذا احتاجوا إلى قتال أخروا تحريم المحرم إلى الشهر الذي بعده وهو صفر، ثم يؤخرونه في السنة الأخرى إلى شهر آخر، وهكذا يفعلون في سنة بعد سنة

ص: 290

السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ".

ــ

حتى اختلط عليهم الأمر وصادفت حجة النبي صلى الله عليه وسلم تحريمهم، وقد تطابق الشرع، وكانوا في هذه السنة قد حرموا ذا الحجة لموافقة الحساب الذي ذكرنا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الاستدارة صادفت ما حكم الله تعالى به يوم خلق السموات والأرض، وقال أبو عبيد: كانوا ينسؤن أي يؤخرون، وهو الذي قال الله تعالى فيه {إنما النسيء زيادة في الكفر} فربما احتاجوا إلى الحرب في المحرم فيؤخرون تحريمه إلى صفر، ثم يؤخرون صفرًا في سنة أخري فصادف تلك السنة رجوع المحرم إلى موضعه – انتهى. وقال البيضاوي: كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرًا آخر حتى رفضوا خصوص الأشهر واعتبروا مجرد العدد – انتهى. فكأن العرب كانوا مختلفين في النسيء، والله تعالى أعلم (السنة) إلخ، أي السنة العربية الهلالية. قال الطيبي: جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى (منها أربعة حرم) قال تعالى {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} (سورة التوبة، الآية 36) قال البيضاوي: أي بهتك حرمتها وارتكاب حرامها، وقال الحافظ:{فلا تظلموا فيهن أنفسكم} أي في الأربعة باستحلال القتال. وقيل: بارتكاب المعاصي (ثلاث) هو تفسير الأربعة الحرم (متواليات) أي متتابعات. قال الطيبي: اعتبر ابتداء الشهور من الليالي فحذف التاء، وقال ابن التين: الصواب ثلاثة متوالية يعني لأن المميز الشهر قال: ولعله أعاده على المعنى، أي ثلاث مدد متواليات – انتهى. قال الحافظ: أو باعتبار العدة مع أن الذي لا يذكر التمييز معه يجوز فيه التذكير والتأنيث (ذو القعدة) بفتح القاف وقد يكسر، شهر كانوا يقعدون فيه عن الأسفار (وذو الحجة) بكسر الحاء وقد تفتح (والمحرم) عطف على ذو القعدة. قال الحافظ ذكرها من سنتين لمصلحة التوالي بين الثلاثة، وإلا فلو بدأ بالمحرم لفات مقصود التوالي، وفيه إشارة إلى إبطال ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من تأخير بعض الأشهر الحرم فقيل كانوا يجعلون المحرم صفرًا ويجعلون صفر المحرم لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا يتعاطون فيها القتال فلذلك قال متواليات. وكانوا في الجاهلية على أنحاء منهم من يسمى المحرم صفرًا فيحل فيه القتال ويحرم القتال في صفر ويسميه المحرم، ومنهم من كان يجعل ذلك سنة هكذا وسنة هكذا، ومنهم من يجعله سنتين هكذا وسنتين هكذا، ومنهم من يؤخر صفرًا إلى ربيع الأول وربيعًا إلى ما يليه، وهكذا إلى أن يصير شوال ذا القعدة، وذو القعدة ذا الحجة، ثم يعود فيعيد العدد على الأصل – انتهى. (ورجب مضر) عطف على ثلاث، ومضر على وزن عمر غير منصرف قبيلة عظيمة، وأضاف الشهر إليها لأنها كانت تشدد في تحريم رجب وتحافظ على ذلك أشد من محافظة سائر القبائل من العرب ولا توافق غيرها من العرب في استحلاله (الذي بين جمادى) بضم الجيم وفتح الدال وبعده ألف ورسمه بالياء (وشعبان) وصفه بكونه بين جمادى وشعبان لزيادة البيان وتوكيده كما قال في أسنان الصدقة: فإن لم تكن ابنة مخاض

ص: 291

وقال: " أي شهر هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: " أليس

ــ

فابن لبون ذكر. ومعلوم أن ابن اللبون لا يكون إلا ذكرًا، ويحتمل أن يكون إنما قال ذلك من أجل أنهم قد كانوا نسؤا رجبًا و

هـ عن موضعه وسموه به بعض الشهور الأخر فنحلوه اسمه فبين لهم أن رجبًا هو الشهر الذي بين جمادى وشعبان لا ما كانوا يسمونه على حساب النسيء. قال النووي: قد أجمع المسلمون على أن الأشهر الحرم الأربعة هي هذه المذكورة في الحديث، ولكن اختلفوا في الأدب المستحب في كيفية عدها، فقالت طائفة من أهل الكوفة وأصل الأدب، يقال المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة ليكون الأربعة من سنة واحدة، وقال علماء المدينة والبصرة وجماهير العلماء: هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ثلاثة سرد وواحد فرد، وهذا هو الصحيح الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة منها هذا الحديث الذي نحن في فيه، وعلى هذا الاستعمال أطبق الناس من الطوائف كلها – انتهى. قيل الحكمة في جعل المحرم أول السنة أن يحصل الابتداء بشهر حرام ويختم بشهر حرام وتتوسط السنة بشهر حرام وهو رجب، وإنما توالى شهران في الآخر لإرادة تفضيل الختام، والأعمال بالخواتيم، قال الحافظ: أبدى بعضهم لما استقر عليه الحال من ترتيب هذه الأشهر الحرم مناسبة لطيفة، حاصلها أن للأشهر الحرم مزية على ما عداها، فناسب أن يبدأ بها العام وأن تتوسطه وأن تختم به، وإنما كان الختم بشهرين لوقوع الحج ختام الأركان الأربع لأنها تشتمل على عمل مال محض وهو الزكاة وعمل بدن محض وذلك تارة يكون بالجوارح وهو الصلاة وتارة بالقلب وهو الصوم، لأنه كف عن المفطرات، وتارة عمل مركب من مال وبدن وهو الحج، فلما جمعهما ناسب أن يكون له ضعف ما لواحد منهما فكان له من الأربعة الحرم شهران، والله أعلم (وقال: أي شهر هذا؟) أراد بهذا الاستفهام أن يقرر في نفوسهم حرمة الشهر والبلدة واليوم ليبني عليه ما أراده. قال القرطبي: سؤاله صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهومهم، وليقبلوا عليه بكليتهم وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه. ولذلك قال بعد هذا فإن دماءكم، إلى آخره. مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء – انتهى. وقال النووي: هذا السؤال والسكوت والتفسير أراد به التفخيم والتقرير والتنبيه على عظم مرتبة هذا الشهر والبلد واليوم (قلنا: الله ورسوله أعلم) قال التوربشتي: إحالتهم الجواب عليه فيما استبان أمره وتحقق، نوع من الأدب بين يدي من حق عليهم التأدب بين يديه، ثم إنهم لم ييأسوا من أن يكون في الأمر المسؤل عنه علم لم يبلغ إليهم فأحالوا العلم على علام الغيوب، ثم إلى المستأثر من البشر بنوع من ذلك العلم، وينبئك عن هذا المعني قولهم: حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه – انتهى. وقال الحافظ: قولهم ((الله ورسوله أعلم)) هذا من حسن أدبهم لأنهم علموا أنه لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب وأنه ليس مراده مطلق الإخبار بما يعرفونه، ولهذا قال: حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، ففيه إشارة إلى تفويض الأمور بالكلية إلى الشارع (فقال: أليس) أي هذا الشهر أو اسمه

ص: 292

ذا الحجة؟ " قلنا: بلى. قال: " أي بلد هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: " أليس البلدة "؟ قلنا: بلى. قال " فأي يوم هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: " أليس يوم النحر؟ " قلنا: بلى. قال:

ــ

(ذا الحجة؟ قلنا بلى. قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال:) بلا فاء (أليس) أي البلد (البلدة) قال الخطابي: يقال: إن البلدة اسم خاص بمكة وهي المرادة بقوله تعالى {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة} (سورة النمل الآية 91) وقال الطيبي: المطلق محمول على الكامل وهي الجامعة للخير المستجمعة للكمال كما أن الكعبة تسمى البيت ويطلق عليها ذلك، كذا في الفتح. وقال التوربشتي: قيل إن البلدة اسم خاص لمكة عظم الله حرمتها، ويؤيد ذلك هذا الحديث، ووجه تسميتها بالبلدة وهي تقع على سائر البلدان أنها البلدة الجامعة للخير المستحقة أن تسمى بهذا الاسم لتفوقها سائر مسميات أجناسها حتى كأنها هي المحل المستحقة للإقامة بها من قولهم بلد بالمكان أي أقام (قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم) إلخ. وفي البخاري من حديث ابن عباس أنهم قالوا: يوم حرام. وقالوا عند سؤاله عن الشهر: شهر حرام، وعند سؤاله عن البلد: بلد حرام، وعند البخاري أيضًا من حديث ابن عباس: وظاهرهما أي ظاهر حديثي أبي بكرة وابن عباس التعارض، والجمع بينهما أن الطائفة الذين كان فيهم ابن عباس أجابوا، والطائفة الذين كان فيهم أبو بكرة لم يجيبوا بل قالوا: الله ورسوله أعلم. أو تكون رواية ابن عباس بالمعنى، لأن في حديث أبي بكرة عند البخاري في الحج وفي الفتن أنه لما قال: أليس يوم النحر؟ قالوا: بلى. فقولهم ((بلى)) بمعنى قولهم يوم حرام بالاستلزام، وغايته أن أبا بكرة نقل السياق بتمامه، واختصر ابن عباس، وكأن ذلك كان بسبب قرب أبي بكرة منه لكونه كان آخذًا بخطام الناقة، وقال بعضهم: يحتمل تعدد الخطبة، فإن أراد أنه كررها في يوم النحر فيحتاج لدليل، فإن في حديث ابن عمر عند البخاري في الحج أن ذلك كان يوم النحر بين الجمرات في حجته، وقال الحافظ في كتاب الحج: قيل في الجمع بين الحديثين: لعلهما واقعتان، قال الحافظ: وليس بشيء لأن الخطبة يوم النحر إنما تشرع مرة واحدة، وقد قال في كل منهما أن ذلك كان يوم النحر، وقيل في الجمع بينهما أن بعضهم بادر بالجواب وبعضهم سكت، وقيل في الجمع أنهم فوضوا أولاً كلهم بقولهم: الله ورسوله أعلم، فلما سكت أجاب بعضهم دون بعض، وقيل وقع السؤال في الوقت الواحد مرتين بلفظين فلما كان في حديث أبي بكرة فخامة ليست في الأول لقوله فيه ((أتدرون؟)) سكتوا عن الجواب بخلاف حديث ابن عباس لخلوه عن ذلك، أشار إلى ذلك الكرماني، وقيل في حديث ابن عباس اختصار بينته رواية أبي بكرة فكأنه أطلق قولهم ((قالوا: يوم حرام)) باعتبار أنهم قرروا ذلك

ص: 293

" فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض،

ــ

حيث قالوا: بلى. قال الحافظ: وهذا جمع حسن (فإن دماءكم وأموالكم) إلخ. تقدم شرح هذه الجملة في شرح حديث جابر الطويل المذكور في باب صفة الحج والمراد بهذا كله بيان توكيد غلظ تحريم الأموال والدماء والأعراض والتحذير من ذلك (وستلقون ربكم) أي يوم القيامة (فيسألكم عن أعمالكم) أي القليلة والكثيرة (ألا) للتنبيه (فلا ترجعوا بعدي) أي لا تصيروا بعد فراقي من موقفي هذا، أو بعد موتي ووفاتي، وهو الأظهر، وفيه استعمال رجع كصار معني وعملاً. قال ابن الملك: وهو مما خفي على أكثر النحويين. أي لا تصيروا بعدي (ضلالاً) بضم الضاد وتشديد اللام جمع ضال وفي رواية أخرى ((كفارًا)) أي كالكفار أو لا يكفر بعضكم بعضًا فتستحلوا القتال، أو لا تكن أفعالكم شبيهة بأفعال الكفار (يضرب بعضكم رقاب بعض) برفع الباء من يضرب على أنها جملة مستأنفة مبينة لقوله ((لا ترجعوا بعدي ضلالاً)) ويجوز الجزم. قال أبو البقاء: على تقدير شرط مضمر أي ((إن ترجعوا بعدي يضرب)) وقال الحافظ: قوله ((يضرب)) بجزم الباء على أنه جواب النهي، وبرفعها على الاستيناف أو يجعل حالاً. وقال النووي: الرواية ((يضرب)) برفع الباء هذا هو الصواب، وهكذا رواه المتقدمون والمتأخرون، وبه يصح المقصود هنا. ونقل القاضي عياض أن بعض العلماء ضبطه بإسكان الباء. قال القاضي: وهو إحالة للمعنى والصواب الضم. قال النووي: في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: فلا ترجعوا بعدي كفارًا، إلخ. سبعة أقوال أحدها أن ذلك كفر في حق المستحل بغير حق، والثاني أن المراد كفر النعمة وحق الإسلام، والثالث أنه يقرب من الكفر ويؤدي إليه، والرابع أنه فعل كفعل الكفار، والخامس المراد حقيقة الكفر، ومعناه لا تكفروا بل دوموا مسلمين، والسادس حكاه الخطابي وغيره أن المراد المتكفرون بالسلاح، يقال: تكفر الرجل بسلاحه إذا لبسه، قال الأزهري في كتابه (تهذيب اللغة)) يقال للابس السلاح كافر. والسابع معناه: لا يكفر بعضكم بعضًا فتستحلوا قتال بعضكم بعضًا، قاله الخطابي. قال النووي: وأظهر الأقوال الرابع وهو اختيار القاضي عياض. وقال الحافظ: جملة ما فيه من الأقوال ثمانية، أحدها قول الخوارج أنه على ظاهره، ثانيها هو في المستحلين، ثالثها المعني كفارًا بحرمة الدماء وحرمة المسلمين وحقوق الوالدين، رابعها تفعلون فعل الكفار في قتل بعضهم بعضًا، خامسها لابسين السلاح يقال: كفر درعه إذا لبس فوقها ثوبًا، سادسها كفارًا بنعمة الله، سابعها المراد الزجر عن الفعل، وليس ظاهره مرادًا، ثامنها لا يكفر بعضكم بعضًا كأن يقول أحد الفريقين للآخر يا كافر فيكفر أحدهما، ثم وجدت تاسعًا وهو أن المراد ستر الحق، والكفر لغة الستر، لأن حق المسلم على المسلم أن ينصره ويعينه، فلما قاتله

ص: 294

ألا هل بلغت؟ " قالوا: نعم. قال: " اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع ".

ــ

كأنه غطى على حقه الثابت له عليه، وعاشرًا وهو أن الفعل المذكور يفضي إلى الكفر لأن من اعتاد الهجوم على كبار المعاصي جره شؤم ذلك إلى أشد منها فيخشى أن لا يختم له بخاتمة الإسلام. وقال الداودي: معناه لا تفعلوا بالمؤمنين ما تفعلون بالكفار، ولا تفعلوا بهم ما لا يحل وأنتم ترونه حرامًا. قلت (قائله الحافظ) : وهو داخل في المعاني المتقدمة قلت: واستشكل بعض الشراح غالب هذه الأجوبة بأن راوي الخبر وهو أبو بكرة فهم خلاف ذلك (لأنه ترك القتال في الفتنة) والجواب أن فهمه ذلك إنما يعرف من توقفه عن القتال واحتجاجه بهذا الحديث فيحتمل أن يكون توقفه بطريق الاحتياط لما يحتمله ظاهر اللفظ، ولا يلزم أن يكون يعتقد حقيقة كفر من باشر ذلك، ويؤيده أنه لم يمتنع من الصلاة خلفهم ولا امتثال أوامرهم ولا غير ذلك مما يدل على أنه يعتقد فيهم حقيقته – انتهى. (ألا) للتنبيه (هل بلّغت؟) بتشديد اللام، أي أعلمتكم ما أنزل إليّ من ربي وما أمرني به (اللهم اشهد) أي لي وعليهم، وإنما قال ذلك لأنه كان فرضًا عليه أن يبلغ فأشهد الله على أنه أدى ما أوجبه عليه (فليبلغ) بالتشديد ويخفف أي ليخبر (الشاهد أي الحاضر في المجلس (الغائب) أي الغائب عنه، والمراد إما تبليغ القول المذكور أو تبليغ جميع الأحكام، قال السندي: قوله ((الشاهد)) بالرفع فاعل ليبلغ، و ((الغائب)) بالنصب على أنه مفعول أول والمفعول الثاني محذوف، أي العلم الذي حضر سماعه أي ليعم البلاغ الكل كما هو مقتضى عموم الرسالة إليهم، ولأنه قد يفهم المبلغ ما لا يفهمه الحامل من الأسرار والعلوم وهذا معنى قوله:(فرب مبلغ) بتشديد اللام المفتوحة اسم مفعول أي من يبلغه كلامي بواسطة (أوعى) أي أحفظ لمبناه وأفهم لمعناه (من سامع) سمعه مني مباشرة. قال الحافظ: أي رب شخص بلغه كلامي فكان أحفظ له وأفهم لمعناه من الذي نقله. قال المهلب: فيه أنه يأتي في آخر الزمان من يكون له من الفهم في العلم ما ليس لمن تقدمه إلا أن ذلك يكون في الأقل، لأن ((رب)) موضوعة للتقليل. قلت (قائله الحافظ) : هي في الأصل كذلك إلا أنها استعملت في التكثير بحيث غلبت على الاستعمال الأول، لكن يؤيد أن التقليل هنا مراد أنه وقع في رواية للبخاري بلفظ ((عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه)) وقوله ((أوعى من سامع)) نعت لمبلغ، والذي يتعلق به رب محذوف وتقديره يوجد أو يكون، ويجوز على مذهب الكوفيين في أن رب اسم أن تكون هي مبتدأ وأوعى الخبر فلا حذف ولا تقدير وفي الحديث من الفوائد الحث على تبليغ العلم وجواز التحمل قبل كمال الأهلية وأن الفهم ليس شرطًا في الأداء. قال الحافظ: في الحديث دلالة على جواز تحمل الحديث لمن لم يفهم معناه ولا فقهه إذا ضبط ما يحدث به، ويجوز وصفه بكونه من أهل العلم بذلك، وفيه أيضًا وجوب تبليغ العلم على الكفاية، وقد يتعين في حق بعض الناس، وفيه تأكيد التحريم وتغليظه بأبلغ ممكن من تكرار ونحوه،

ص: 295

متفق عليه.

2684 – (2) وعن وبرة، قال: سألت ابن عمر: متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك فارمه. فأعدت عليه المسألة، فقال: كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا. رواه البخاري.

ــ

وفيه مشروعية ضرب المثل وإلحاق النظير بالنظير ليكون أوضح للسامع (متفق عليه) أخرجه البخاري في العلم والمناسك وبدء الخلق والمغازي (في باب حجة الوداع) وفي تفسير براءة وفي الأضاحي والفتن والتوحيد ومسلم في الديات، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 5: ص 37، 39، 40، 45، 49) وأبو داود والبيهقي (ج 5: ص 140) وأخرجه ابن ماجه في السنة مختصرًا جدًا.

2684-

قوله (وعن وبرة) بفتح الواو الموحدة بعدها راء – هو ابن عبد الرحمن المسلمي بضم الميم وسكون المهملة بعدها لام – أبو خزيمة أو أبو العباس الكوفي، ثقة تابعي، مات في ولاية خالد بن عبد الله القسري على الكوفة سنة ست عشرة ومائة (متى أرمي الجمار؟) يعني في غير يوم الأضحي (إذا رمى إمامك فارمه) بهاء ساكنة للسكت وقال القاري: بهاء الضمير أو السكت، وعلى الأول تقديره ارم موضع الجمرة أو ارم الرمي أو الحصى – انتهى. قال الحافظ: قوله ((إذا رمى إمامك فارمه)) يعني الأمير الذي على الحج، وكأن ابن عمر خاف عليه أن يخالف الأمير فيحصل له منه ضرر، فلما أعاد عليه المسألة لم يسعه الكتمان فأعلمه بما كانوا يفعلونه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رواه ابن عيينة عن مسعر عن وبرة عن ابن عمر فقال فيه: فقلت له: أرأيت إن أخر إمامي؟ أي الرمي فذكر له الحديث. أخرجه ابن أبي عمر في مسنده عنه ومن طريقه الإسماعيلي – انتهى (فأعدت عليه المسألة) أردت تحقيق وقت رمي الجمرة (كنا نتحين) نتفعل من الحين وهو الزمان، أي نراقب الوقت المطلوب وهو زوال الشمس. قال الطيبي: أي ننتظر دخول وقت الرمي – انتهى. وقال الطبري: أي نطلب حينها والحين الوقت، ومنه كانوا يتحينون وقت الصلاة أي يطلبون حينها، ولفظ أبي داود ((كنا نتحين زوال الشمس (فإذا زالت الشمس رمينا) بلا ضمير أي الجمرة يعني قبل صلاة الظهر، فقد روى ابن ماجة من طريق الحكم عن مقسم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرمي الجمار إذا زالت الشمس قدر ما إذا فرغ من رميه صلى الظهر. قال السندي: هذا يدل على أنه بعد الزوال يبدأ برمي الجمار ثم يصلي أي الظهر – انتهى. وفي الحديث دليل على أن السنة أن يرمي الجمار في غير يوم الأضحى بعد زوال الشمس، وأنه لا يجزئ رميها قبل زوالها بل وقته بعد الزوال، وإلى هذا ذهب الجمهور. وخالف في ذلك عطاء وطاوس فقالا: يجوز الرمي قبل الزوال مطلقًا، ورخص الحنفية في الرمي في يوم النفر قبل الزوال. وقال إسحاق: إن رمى قبل الزوال أعاد إلا في اليوم الثالث فيجزئه، والحديث يرد على الجميع، وقد تقدم البسط في هذه المسألة في شرح حديث جابر في الفصل الأول من باب رمي الجمار (رواه البخاري) وأخرجه أيضًا أبو داود والبيهقي (ج 5: ص 148) .

ص: 296

2685 – (3) وعن سالم عن ابن عمر، أنه كان يرمي جمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على إثر كل حصاة، ثم يتقدم حتى يسهل، فيقوم مستقبل القبلة طويلاً، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى بسبع حصيات،

ــ

2685-

قوله (كان يرمي جمرة الدنيا) كذا في جميع النسخ وهكذا وقع في المصابيح أي بإضافة الجمرة إلى الدنيا. وفي البخاري ((الجمرة الدنيا)) قال التوربشتي: الجمرة واحدة جمرات المناسك. وهي ثلاث جمرات واحد منها ذات العقبة وهي مما يلي مكة ولا يرمي يوم النحر إلا جمرة ذات العقبة، وبعد يوم النحر يرمي الثلاث، والسنة فيها ما ذكر في الحديث، والدنيا هي التي يبدأ بها، ووصفها بالدنيا (أي القربى) لكونها أقرب إلى منازل النازلين عند مسجد الخيف، وهنالك كان مناخ النبي صلى الله عليه وسلم وإضافتها إلى الدنيا كإضافة المسجد إلى الجامع من إضافة الموصف إلى الصفة، ويحتمل أن يكون فيه حذف أي جمرة البقعة الدنيا كقولك ((حق اليقين)) (بسبع حصيات) في كل يوم من أيام التشريق (يكبر على إثر كل حصاة) بكسر الهمزة وسكون المثلثة وبفتحهما أي عقيب كل واحدة من الحصى، وظاهر هذا تأخير التكبير عن الرمي. وفي رواية أحمد (ج 2: ص 152) يكبر مع كل حصاة، وكذا وقع في حديث جابر عند مسلم وغيره وحديث ابن مسعود عند الشيخين، ويأتي في حديث ابن عمر في رمي جمرة العقبة ((يكبر عند كل حصاة)) قال القاري: وهو أعم، والمراد بالمعية خروج الجمرة من اليد فهو مع الرمي باعتبار الابتداء، أو أثره باعتبار الانتهاء – انتهى. وأول بعضهم قوله ((إثر كل حصاة)) بأن المراد عقب إرادة الرمي بها، وإلى المعية أي مقارنة التكبير لكل حصاة ذهب أتباع الأئمة الأربعة كما صرح به الباجي وابن قدامة والنووي، قال الدسوقي: ظاهر المدونة أن التكبير مع كل حصاة سنة، وأشعر قول الدردير مع رمي كل حصاة أنه لا يكبر قبل رميها ولا بعده، ويفوت المندوب بمفارقة الحصاة ليده قبل النطق بالتكبير – انتهى. وفي الهداية ((يكبر مع كل حصاة)) كذا روي عن ابن مسعود وابن عمر – انتهى (ثم يتقدم) أي يذهب قليلاً من ذلك الموضع وفي رواية ((ثم تقدم أمامها)) (حتى يسهل) بضم أوله وسكون المهملة، يقال: أسهل الرجل إذا صار إلى السهل من الأرض، قال الحافظ: أي يقصد السهل من الأرض وهو المكان المستوي الذي لا ارتفاع فيه – انتهى. وقال القاري: أي يدخل المكان السهل وهو اللين ضد الحزن بفتح الحاء وسكون الزاي أي الصعب (فيقوم) مرفوع عطفًا على يتقدم (مستقبل القبلة) أي حال كونه مقابل الكعبة (طويلاً) وفي رواية ((فيقوم قيامًا طويلاً)) (ويدعو) أي قدر سورة البقرة كما تقدم (ويرفع يديه) أي في الدعاء (ثم يرمي الوسطى) وفي رواية ((ثم يرمي الجمرة الوسطى)) أي الجمرة التي بين الأولى والأخرى. قال ابن الهمام: هل هذا الترتيب متعين أو أولى؟ مختلف فيه والذي يقوى عندي استنان الترتيب لا تعيينه، والله أعلم. قال القاري: والأحوط مراعاة الترتيب لأنه واجب عند الشافعي

ص: 297

يكبر كلما رمي بحصاة، ثم يأخذ بذات الشمال

ــ

وغيره، ثم الظاهر أن الموالاة سنة كما في الوضوء أو واجب وفق مذهب مالك هنالك – انتهى. وقال ابن قدامة في المعني (ج 3: ص 452) : والترتيب في هذه الجمرات واجب على ما وقع في حديث ابن عمرو وحديث عائشة عند أبي داود، فإن نكس فبدأ بجمرة العقبة ثم الثانية ثم الأولى أو بدأ بالوسطى ورمي الثلاث لم يجزه إلا الأولى وأعاد الوسطى والقصوى، نص عليه أحمد، وإن رمى القصوي ثم الأولى ثم الوسطى أعاد القصوى وحدها، وبهذا قال مالك والشافعي، وقال الحسن وعطاء: لا يجب الترتيب وهو قول أبي حنيفة، فإنه قال: إذا رمى منكسًا يعيد، فإن لم يفعل أجزأه، واحتج بعضهم بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قدم نسكًا بين يدي نسك فلا حرج، ولأنها مناسك متكررة في أمكنة متفرقة في وقت واحد ليس بعضها تابعًا لبعض فلم يشترط الترتيب فيها كالرمي والذبح. ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم رتبها في الرمي وقال: خذوا عني مناسككم، ولأنه نسك متكرر فاشترط الترتيب فيه كالسعي، وحديثهم إنما جاء في من يقدم نسكًا على نسك لا في تقديم بعض النسك على بعض، وقياسهم يبطل بالطواف والسعي – انتهى. وقال الشنقيطي:

اعلم أنه يجب الترتيب في رمي الجمار أيام التشريق فيبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم ينصرف إلى الجمرة الوسطى فيرميها كالتي قبلها، ثم ينصرف إلى جمرة العقبة فيرميها كذلك، وهذا الترتيب على النحو الذي ذكرنا هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بأخذ المناسك عنه، فعلينا أن نأخذ عنه من مناسكنا الترتيب المذكور، ثم ذكر حديث ابن عمر الذي نحن في شرحه، ثم قال: روى البخاري هذا الحديث في ثلاثة أبواب متوالية، وهو نص صحيح صريح في الترتيب المذكور، وقد قال صلى الله عليه وسلم: لتأخذوا عني مناسككم، فإن لم يرتب الجمرات بأن بدأ بجمرة العقبة لم يجزئه الرمي منكسًا لأنه خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وفي الحديث: من عمل عمًلا ليس عليه أمرنا فهو رد، وتنكيس الرمي عمل ليس من أمرنا فيكون مردودًا، وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وجمهور أهل العلم. وقال أبو حنيفة: الترتيب المذكور سنة، فإن نكس الرمي أعاده، وإن لم يعد أجزأه، وهو قول الحسن وعطاء، واحتجوا بأدلة لا تنتهض، وعلى الصحيح الذي هو قول الجمهور: أن الترتيب شرط لو بدأ بجمرة العقبة ثم الوسطى ثم الأولى أو بدأ بالوسطى ورمي الثلاث لم يجزه إلا الأولى لعدم الترتيب في الوسطى والأخيرة، فعليه أن يرمي الوسطى ثم الأخيرة، ولو رمى جمرة العقبة ثم الأولى ثم الوسطى أعاد جمرة العقبة وحدها، هذا هو الظاهر – انتهى كلام الشنقيطي (يكبر كلما رمى بحصاة) قال الباجي: وذلك أنه إذا كان التكبير مشروعًا عند الرمي فإنه يتكرر عند كل رمية، وكذلك كل عبادة شرع فيها التكبير فإنه يتكرر بتكرر محله كالانتقال من ركن إلى ركن في الصلاة، وقد قال مالك يكبر مع كل حصاة – انتهى. والأصل في ذلك ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكبر مع كل حصاة – انتهى. (ثم يأخذ بذات الشمال) في

ص: 298

فيسهل، ويقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه، ويقوم طويلاً، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات، يكبر عند كل حصاة، ولا يقف عندها، ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله. رواه البخاري.

ــ

البخاري ((ذات الشمال)) أي بدون الباء أي يمشي إلى جهة شماله (فيسهل) قال القاري: أي يذهب على شمال الجمرة الوسطى حتى يصل إلى موضع سهل يعني ليقف داعيًا في مكان لا يصيبه الرمي. وفي رواية ((ثم ينحدر ذات الشمال مما يلي الوادي فيقف مستقبل القبلة)) (ثم يرمي جمرة ذات العقبة) بإضافة الجمرة، قال الحافظ: هو نحو يا نساء المؤمنات، أي يأتي الجمرة ذات العقبة، وثبت كذلك في رواية سليمان (عن يونس عن الزهري عن سالم) عند البخاري، وفي رواية عثمان بن عمر (عن يونس) ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة (ولا يقف عندها) أي للدعاء (ثم ينصرف) أي ابن عمر. وفي الحديث مشروعية التكبير عند رمي كل حصاة، وقد أجمعوا على أن من تركه لا يلزمه شيء إلا الثوري فقال: يطعم وإن جبره بدم أحب إليَّ، وعلى الرمي بسبع وعلى استقبال القبلة والقيام طويًلا عند الجمرتين أي الأولى والثانية والتضرع عندهما، وفيه التباعد من موضع الرمي عند القيام بالدعاء حتى لا يصيب رمي غيره، وفيه مشروعية رفع اليدين في الدعاء وترك الدعاء والقيام عند جمرة العقبة. قال ابن قدامة: لا نعلم لما تضمنه حديث ابن عمر هذا مخالفًا إلا ما روي عن مالك من ترك رفع اليدين عند الدعاء بعد رمي الجمار، فقال ابن المنذر: لا أعلم أحدًا أنكر رفع اليدين في الدعاء عند الجمرة إلا ما حكاه ابن القاسم عن مالك – انتهى. قال الحافظ: ورده ابن المنير بأن الرفع لو كان هنا سنة ثابتة ما خفي عن أهل المدينة وغفل رحمه الله تعالى عن أن الذي رواه من أعلم أهل المدينة من الصحابة في زمانه وابنه سالم أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة، والراوي عنه ابن شهاب عالم المدينة ثم الشام في زمانه، فمن علماء المدينة إن لم يكونوا هؤلاء؟ والله المستعان – انتهى. ونقل في المحلى عن ابن المنذر أنه قال: لا أعلم أحدًا أنكر ذلك غير مالك فإن ابن القاسم حكى عنه أنه لم يكن يعرف رفع اليدين هناك. قال وإتباع السنة أفضل، وقيل يرفع حكاه ابن التين وابن الحاجب – انتهى. وحكى القسطلاني عن ابن فرحون من المالكية في مناسكه في رفع اليدين في الدعاء قولان – انتهى. ولم يذكر في الحديث حال الرمي في المشي والركوب، وقد روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن ابن عمر كان يمشي إلى الجمار مقبلاً ومدبرًا، وعن جابر أنه كان لا يركب إلا من ضرورة، وروى الترمذي عن ابن عمر وصححه والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمار مشي إليها ذاهبًا وراجعًا، وفي لفظ عنه كان يرمي الجمرة يوم النحر راكبًا وسائر ذلك ماشيًا، ويخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. رواه أحمد (ج 2: ص 114، 138، 156) وأبو داود والبيهقي (رواه البخاري) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: 152) والنسائي والبيهقي (ج 5: ص 148) .

ص: 299

2686 -

(4) وعن ابن عمر، قال: استأذن العباس بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، فأذن له.

ــ

2686-

قوله (استأذن العباس بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى) المراد بها ليلة الحادي عشر واللتين بعده (من أجل سقايته) قال القاري: أي التي بالمسجد الحرام المملوءة من ماء زمرم المندوب الشرب منها عقب طواف الإفاضة وغيره إذا لم يتيسر الشرب من البئر للخلق الكثير، وهي الآن بركة، وكانت حياضًا في يدي قصي، ثم منه لابنه عبد مناف ثم منه لابنه هاشم، ثم منه لابنه عبد المطلب ثم منه لابنه العباس ثم منه لابنه عبد الله ثم منه لابنه علي وهكذا إلى الآن، لكن لهم نواب يقومون بها.قالوا: وهي لآل عباس أبدًا - انتهى. وروى الفاكهي بسنده عن عطاء قال: سقاية الحاج زمرم. وقال الأزرقي: كان عبد مناف يحمل الماء في الروايا والقرب إلى مكة ويسكبه في حياض من أدم بفناء الكعبة للحجاج، ثم فعله ابنه هاشم بعده، ثم عبد المطلب، فلما حفر زمزم كان يشترى الزبيب فينبذه في ماء زمزم ويسقي الناس. قال ابن إسحاق: لما ولى قصي بن كلاب أمر الكعبة كان إليه الحجابة والسقاية واللواء والرفادة ودار الندوة، ثم تصالح بنوه على أن لعبد مناف السقاية والرفادة، والبقية للأخوين، ثم ذكر نحو ما تقدم، وزاد ((ثم ولي السقاية من بعد عبد المطلب ولده العباس وهو يومئذ من أحدث إخوته سنًا، فلم تزل بيده حتى أقام الإسلام وهي بيده، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه فهي اليوم إلى بني العباس)) كذا في الفتح. وقال الطبري: قال أهل التواريخ: كان أصل السقاية حياض من أدم توضع على عهد قصي بفناء الكعبة ويستقي فيها الماء للحاج، وأصل الرفادة خرج كانت قريش تخرجه من أموالها إلى قصي يصنع به طعامًا للحاج يأكله من ليس له سعة..... وما زال ذلك الأمر حتى قام به هاشم ثم أخوه عبد المطلب ثم عبد المطلب ثم قام به العباس (فأذن له) وفي رواية: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس أن يبيت بمكة أيام منى من أجل سقايته، والمراد بأيام منى لياليها كما وقع في رواية البخاري، وهي ليلة الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر. والحديث دليل على مشروعية المبيت في منى ليالي أيام التشريق، وعلى جواز التخلف عن المبيت فيه لأجل السقاية. واتفق العلماء على ذلك، ثم اختلفوا هل المبيت فيه واجب أو سنة فذهب مالك وأصحابه إلى أنه واجب ولو بات ليلة واحدة منها أو جل ليلة وهو خارج عن منى لزمه دم لأثر ابن عباس ((من نسي من نسكه شيئًا أو تركه فليهرق دمًا)) أخرجه البيهقي، وروى مالك في الموطأ عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال: لا يبين أحد من الحاج ليالي منى من وراء العقبة. ومذهب أبي حنيفة هو أن عدم المبيت بمنى ليالي منى مكروه لأنه صلى الله عليه وسلم بات بمنى، وعمر كان يؤدب على ترك المقام بها، ولو بات بغيرها متعمدًا لم يلزمه شيء عند أبي حنيفة وأصحابه لأنهم يرون أن المبيت بمنى لأجل أن يسهل

ص: 300

..............................................................................................

ــ

عليه الرمي في أيامه فلم يكن من الواجبات عندهم. وللشافعي في هذه المسألة قولان أصحهما وأشهرهما وأظهرهما أنه واجب، والثاني أنه سنة، فعلى القول بأنه واجب فالدم واجب في تركه وعلى أنه سنة فالدم سنة في تركه ولا يلزم عندهم الدم إلا في ترك المبيت في الليالي كلها لأنها عندهم كأنها نسك واحد، وإن ترك المبيت في ليلة من الليالي الثلاث ففيه الأقوال المذكورة في ترك الحصاة الواحدة عندهم، أصحها أن في ترك مبيت الليلة الواحدة مدًا والثاني أن فيه درهمًا، والثالث أن فيه ثلث دم، وحكم الليلتين معلوم، والمعتبر في المبيت عندهم الكون بمنى معظم الليل إذ المبيت ورد مطلقًا والاستيعاب غير واجب اتفاقًا فأقيم المعظم مقام الكل، ولا فرق بين أول الليل وآخره، وفي قوله أن المعتبر الكون بمنى عند طلوع الفجر ومن حضر بها قبله فقد أدى واجب المبيت، ومذهب الإمام أحمد أن المبيت بمنى ليالي منى واجب فلو ترك المبيت بها في الليالي الثلاث فعليه دم على الصحيح من مذهبه، وعنه يتصدق بشيء وعنه لا شيء عليه، فإن ترك المبيت في ليلة من لياليها ففيه ما في الحصاة الواحدة من الأقوال التي قدمنا: قيل مد، وقيل درهم، وقيل ثلث دم، وأظهر الأقوال دليلاً أن المبيت بمنى أيام منى نسك من مناسك الحج يدخل في قول ابن عباس: من نسي من نسكه شيئًا أو تركه فليرهق دمًا، والدليل على ذلك ثلاثة أمور، الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها الليالي المذكورة وقال لتأخذوا عني ماسككم، فعلينا أن نأخذ عنه من مناسكنا البيتوتة بمنى الليالي المذكورة. الثاني هو حديث ابن عمر في الترخيص للعباس الذي نحن في شرحه. قال الحافظ: في الحديث دليل على وجوب المبيت بمنى، وأنه من مناسك الحج، لأن التعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة، وإذا لم توجد هي أو ما في معناها لم يحصل الإذن، وبالوجوب قال الجمهور، وفي ((قول للشافعي ورواية عن أحمد وهو مذهب الحنفية أنه سنة ووجوب الدم بتركه مبني على هذا الاختلاف، ولا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل – انتهى. وما ذكره من أخذ الوجوب من الحديث المذكور واضح. الأمر الثالث هو ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يمنع الحجاج من المبيت خارج منى ويرسل رجالاً يدخلونهم في منى، وهو من الخلفاء الراشدين الذين أمرنا بالإقتداء بهم والتمسك بسنتهم، والظاهر أن من ترك المبيت بمنى لعذر لا شيء عليه كما دل عليه الترخيص للعباس من أجل السقاية والترخيص لرعاء الإبل في عدم المبيت. قال الحافظ: وهل يختص الإذن بالسقاية وبالعباس أو بغير ذلك من الأوصاف المعتبرة في هذا الحكم، فقيل يختص الحكم بالعباس وهو جمود، وقيل يدخل معه آلة، وقيل قومه وهم بنو هاشم، وقيل كل من احتاج إلى السقاية فله ذلك، ثم قيل أيضًا: يختص الحكم بسقاية العباس حتى لو عملت سقاية لغيره لم يرخص لصاحبها في المبيت لأجلها، ومنهم من عممه، وهو الصحيح في الموضعين، والعلة في ذلك إعداد الماء للشاربين، وهل يختص ذلك بالماء أو يلتحق به ما في معناه من الأكل وغيره، محل احتمال، وجزم الشافعية بإلحاق من له مال يخاف ضياعه أو أمر يخاف فوته أو مريض يتعاهده بأهل السقاية كما جزم الجمهور

ص: 301

..............................................................................................

ــ

بإلحاق الرعاء خاصة. قال الزرقاني: لكنهم لم يجزموا بذلك بالإلحاق، إنما هو بالنص الذي رواه مالك وأصحاب السنن الأربع عن عاصم بن عدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى. قال الحافظ: وهو قول أحمد، واختاره ابن المنذر أعني الاختصاص بأهل السقاية ورعاء الإبل، والمعروف عن أحمد اختصاص العباس بذلك، وعليه اقتصر صاحب المغني حيث قال بعد ذكر حديث ابن عمر: وتخصيص العباس بالرخصة لعذره دليل على أنه لا رخصة لغيره، وعن ابن عباس قال لم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم لأحد يبيت بمكة إلا العباس من أجل سقايته رواه ابن ماجة – انتهى. وقال أيضًا: يجوز للرعاة ترك المبيت بمنى ليالي منى ويؤخرون رمي اليوم الأول ويرمون يوم النفر الأول عن الرميين جميعًا لما عليهم من المشقة في المبيت والإقامة للرمي لحديث أبي البداح بن عاصم بن عدي (الآتي وكذلك الحكم في أهل سقاية الحاج لحديث ابن عمر (الذي نحن في شرحه) إلا أن الفرق بين الرعاء وأهل السقاية أن الرعاء إذا قاموا حتى غربت الشمس فقد انقضى وقت الرعي وأهل السقاية يشتغلون ليلاً ونهارًا فافترقا وصار الرعاء كالمريض الذي يباح له ترك الجمعة لمرضه، فإذا حضرها تعينت عليه، والرعاء أبيح لهم ترك المبيت لأجل الرعي، فإذا فات وقته وجب المبيت، وأهل الأعذار من غير الرعاء كالمرضى ومن له مال يخاف ضياعه ونحوهم كالرعاء في ترك البيتوتة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهؤلاء تنبيهًا على غيرهم. أو نقول: نص عليه لمعنى وجد في غيرهم فوجب إلحاقه بهم – انتهى. وقال النووي في مناسكه: من ترك مبيت منى لعذر فلا شيء عليه، والعذر أقسام أحدها أهل سقاية العباس يجوز لهم تركه سواء تولى بنو العباس أو غيرهم. ولو حدثت سقاية للحجاج فللمقيم بشأنها ترك المبيت كسقاية العباس (هذا هو المعتمد، وإن أطال الأسنوي وغيره في رده) الثاني رعاء الإبل يجوز لهم ترك المبيت لعذر الرعي (ينبغي حمله على ما إذا احتاجوا إليه ليلاً أو كانوا مع الذهاب إليه لا يمكنهم المجيء إلى المبيت وإن لم يحتاجوا إليه ليلاً فلا منافاة بين هذا وفرقه الآتي بين السقاة والرعاة) ومتى أقام الرعاء بمنى حتى غربت الشمس لزمهم المبيت بها تلك الليلة، ولو أقام أهل السقاية حتى غربت الشمس فلهم الذهاب إلى السقاية بعد الغروب، لأن شغلهم يكون ليلاً ونهارًا. الثالث من له عذر بسبب آخر كمن له مال يخاف ضياعه لو اشتغل بالمبيت أو يخاف على نفسه أو مال معه أو له مريض يحتاج إلى تعهده أو يطلب عبدًا آبقًا أو يكون به مرض يشق معه المبيت أو نحو ذلك فالصحيح أنه يجوز لهم ترك المبيت، ولهم أن ينفروا بعد الغروب ولا شيء عليهم – انتهى. وقال الدردير: إن ترك المبيت بها جل ليلة فأكثر فدم ولو لضرورة ورخص لراعي إبل فقط بعد رمي العقبة يوم النحر أن ينصرف إلى رعيه ويترك المبيت ليلة الحادي عشر والثاني عشر، ويأتي اليوم الثالث من أيام النحر فيرميه فيه لليومين. وكذا يرخص لصاحب السقاية في ترك المبيت خاصة فلا بد أن يأتي نهارًا للرمي ثم ينصرف، لأن ذا السقاية ينزع الماء من زمزم ليلاً ويفرغه في الحياض. قال الدسوقي: قوله: ((ولو

ص: 302

متفق عليه.

2687 – (5) وعن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى، فقال العباس: يا فضل! اذهب إلى أمك فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها. فقال: " اسقني ". فقال: يا رسول الله! إنهم يجعلون أيديهم فيه.

ــ

كان الترك لضرورة)) أي لخوف على متاعه وهو الذي يقتضيه مذهب مالك حسبما رواه عنه ابن نافع في من حبسه مرض فبات بمكة فإن عليه هديًا، وقوله ((لراعي إبل فقط)) لأن الرخصة كما في الموطأ عن النبي صلى الله عليه وسلم لرعاة الإبل، ومعلوم أن الرخصة لا تتعدى محلها، وفي القياس عليها نزاع، وظاهر المصنف (أي الشيخ خليل) وابن شاس وابن الحاجب وابن عرفة الإطلاق (أي في رعاء الإبل ورعاء غير الإبل) قوله ويأتي اليوم الثالث ولا دم عليه لترك المبيت ولا لتأخير رمي اليوم الثاني لليوم الثالث، قوله ((في ترك المبيت خاصة)) أي لا في ترك الإتيان يوم الحادي عشر والإتيان في الثاني عشر كالرعاة – انتهى. وقال في الأنوار عن حاشية الصاوي: رخص مالك جوازًا لراعي الإبل فقط بعد رمي العقبة أن ينصرف إلى رعيه ويترك المبيت ليلة الحادي عشر والثاني عشر، ويأتي اليوم الثالث من أيام النحر فيرمي فيه لليومين الذي فاته والذي حضر فيه، ورخص لصاحب السقاية في ترك المبيت خاصة فلا بد أن يأتي نهارًا للرمي ثم ينصرف لأن ذا السقاية ينزع الماء من زمزم ويفرغه في الحياض – انتهى. وكذا قال الزرقاني: إن أهل السقاية إنما يرخص لهم في ترك البيات بمنى لا في ترك رمي اليوم الأول من أيام الرمي فيبيتون بمكة ويرمون الجمار نهارًا ويعودون لمكة، كما في الطراز المذهب – انتهى. وقد تقدم أن المبيت بمنى سنة عند الحنفية وعدم المبيت بها مكروه تنزيهًا عندهم فضلاً أن يكون للعذر. وفي الحديث استئذان الأمراء والكبراء فيما يطرأ من المصالح والأحكام وبدار من استؤمر إلى الإذن عند ظهور المصلحة (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 19، 22، 28) وأبو داود وابن ماجة والدارمي والبيهقي (ج 5: ص 153) .

2687 – قوله (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية) قال في المجمل: السقاية هي المحل الذي يتخذ فيه الشراب في الموسم كان يشتري الزبيب فينبذ في ماء زمزم ويسقي للناس وكان يليها العباس جاهلية وإسلامًا، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم له، فهي لآل العباس أبدًا فلا يجوز لأحد نزعها منهم ما بقى منهم أحد – انتهى (فاستسقى) أي طلب الشراب (فقال العباس: يا فضل: اذهب إلى أمك) الفضل هو ابن العباس أخو عبد الله وأمه هي أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية، وهي والدة عبد الله أيضًا (فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب) أي خالص خاص ما وصله استعمال (اسقني) بهمزة وصل أو قطع أي من هذا الشراب الحاضر في السقاية (فقال) أي العباس (يا رسول الله إنهم) أي الناس (يجعلون أيديهم فيه) أي في هذا الشراب والغالب عليهم عدم النظافة. قال الحافظ: في رواية الطبراني من طريق يزيد بن أبي زياد عن عكرمة في هذا

ص: 303

قال: " اسقني ". فشرب منه، ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها، فقال:" اعملوا فإنكم على عمل صالح ". ثم قال: " لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه ". وأشار إلى عاتقه.

ــ

الحديث أن العباس قال له: إن هذا قد مرث (أي وسخوه بإدخال أيديهم فيه) أفلا أسقيك من بيوتنا، قال: لا، ولكن اسقني مما يشرب منه الناس – انتهى. وعند أحمد (ج 1: ص 320، 336) بسند ضعيف، قال ابن عباس: جاء النبي صلى الله عليه وسلم عباسًا فقال: اسقونا، فقال: إن هذا النبيذ شراب قد مغث ومرث، أفلا نسقينك لبنًا أو عسلاً؟ قال: اسقونا مما تسقون منه الناس (قال: اسقني) زاد أبو علي بن السكن في روايته ((فناوله العباس الدلو)) (فشرب منه) قال الحافظ في رواية يزيد المذكورة ((فأتى به فذاقه فقطب ثم دعا بماء فكسره)) قال: وتقطيبه إنما كان لحموضته وكسره بالماء ليهون عليه شربه وعرف بهذا جنس المطلوب شربه إذ ذاك، وقد أخرج مسلم من طريق بكر بن عبد الله المزني. قال: كنت جالسًا مع ابن عباس فقال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفه أسامة فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة وقال: أحسنتم، كذا فاصنعوا (ثم أتى زمزم وهم يسقون) أي الناس عليها (ويعملون فيها) أي يكدحون بالجذب والصب (فإنكم على عمل أي قائمون أو ثابتون أي تسعون على عمل (صالح) أي خير (لولا أن تغلبوا) بضم أوله على البناء للمجهول، أي لولا كراهة أن يغلبكم الناس ويأخذوا هذا العمل الصالح من أيديكم (لنزلت) أي عن ناقتي، قال التوربشتي: أعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يكدحون فيه من سقاية الحاج بمكان من العمل الصالح لحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يشاركهم فيه غيره أنه لا يأمن عليهم إن فعل ذلك غائلة الولاة وتنافسهم وتنازعهم فيه حرصًا على حيازة هذه المأثرة لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبته فيها فتغلبوا عليها وينتزع عنكم فهذا هو المانع الذي صدني عن النزع معكم – انتهى. وقال الحافظ: معناه لولا أن يغلبكم الناس على هذا العمل إذا رأوني قد عملته لرغبتهم في الإقتداء بي فيغلبوكم بالمكاثرة لفعلت. ويؤيد هذا ما أخرج مسلم من حديث جابر: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم فقال: انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، واستدل بهذا على أن سقاية الحاج خاصة ببني العباس. وقال ابن بزيزة: أراد بقوله ((لولا أن تغلبوا)) قصر السقاية عليهم وأن لا يشاركوا فيها، واستدل به على أن الذي أرصد للمصالح العامة لا يحرم على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على آله تناوله، لأن العباس أرصد سقاية زمزم لذلك، وقد شرب منها النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن المنير في الحاشية: يحمل الأمر في مثل هذا على أنها مرصدة للنفع العام فتكون للغني في معنى الهدية وللفقير صدقة (حتى أضع) بالنصب والرفع (وأشار إلى عاتقه) هو أحد طرفي رقبته، قال الحافظ: في الحديث من الفوائد أنه لا يكره طلب السقي من الغير ولا رد ما يعرض على المرء من الإكرام إذا عارضته مصلحة أولى منه، لأن رده لما عرض عليه العباس مما يؤتى به من نبيذ لمصلحة التواضع التي ظهرت من شربه مما يشرب منه الناس. وفيه الترغيب في سقي

ص: 304

رواه البخاري.

2688 – (6) وعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به.

ــ

الماء خصوصًا ماء زمزم وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وحرص أصحابه على الإقتداء به، وكراهة التقذر والتكره للمأكولات والمشروبات. قال ابن المنير في الحاشية: وفيه أن الأصل في الأشياء الطهارة لتناوله صلى الله عليه وسلم من الشراب الذي غمست فيه الأيدي – انتهى (رواه البخاري) وأخرجه أيضًا الطبراني والبيهقي (ج 5: ص 147) .

2688 – قوله (صلى الظهر) أي بعد النفر من منى في اليوم الرابع من يوم النحر، وهذا صريح في تقديم رمي الجمار على الظهر أثر الزوال وأنه ينفر من منى قبل أداء صلاة الظهر. قال الحافظ: قوله ((صلى الظهر)) لا ينافي أنه صلى الله عليه وسلم لم يرم إلا بعد الزوال لأنه رمى فنفر فنزل المحصب

فصلى الظهر به (ثم رقد رقدة) أي نام نومة خفيفة، وفي حديث ابن عمر عند أحمد وأبي داود ((ثم هجع هجعة)) أي اضطجع ونام يسيرًا (بالمحصب) بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الصاد المهملة المفتوحة وفي آخره باء موحدة، مكان متسع بين مكة ومنى سمي به لاجتماع الحصباء فيه بحمل السيل فإنه موضع منهبط، قال في شرح اللباب: المحصب وهو الأبطح ويسمى الحصباء والبطحاء والخيف، قيل هو إلى منى أقرب وليس بصحيح، والمعتمد أنه بفناء مكة وحده على الصحيح ما بين الجبل الذي عند مقابر مكة، والجبل الذي يقابله مصعدًا إلى جهة الأعلى في الشق الأيسر وأنت ذاهب إلى منى مرتفعًا عن بطن الوادي وليس المقبرة من المحصب. وقال في المرقاة: قوله ((بالمحصب)) تنازع في الجار والمجرور ((صلى)) و ((رقد)) وهو في الأصل كل موضع كثر حصباؤه، والمراد الشعب الذي أحد طرفيه منى والآخر متصل بالأبطح وينتهي عنده، ولذلك لم يفرق الراوي بينهما، فروى في هذا الحديث أنه صلى بالمحصب، وفي حديثه الآخر ((أنه صلى بالأبطح)) ويقال له البطحاء، وقال التوربشتي: قوله ((بالمحصب)) متعلق بأول الحديث إلى قوله ثم رقد كأنه قال: وذلك بالمحصب، والمعنى أنه صلى الصلوات الأربع بالمحصب ثم رقد به رقدة ثم ركب إلى البيت فطاف به أي طواف الصدر وهو طوف الوداع والمراد من المحصب في هذا الحديث هو الأبطح الذي في الحديث الذي يليه، والمحصب يصح أن يقال لكل موضع كثر حصباؤه، والأبطح مسيل واسع فيه دقاق الحصى وهذا الموضع المذكور في الحديث تارة بالأبطح والأخرى بالمحصب أوله منقطع الشعب من وادي منى وآخره متصل بالمقبرة التي يسميه أهل مكة المعلي – انتهى. وهذا الحديث صريح في أن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحصب صلاة الظهر، والمتبادر من الحديث الآتي أنه العصر فيقدم الصريح على الظاهر (ثم ركب) أي من المحصب متوجهًا (إلى البيت فطاف به) أي طواف الوداع، والحديث فيه دليل على مشروعية النزول بالمحصب واستحبابه لمن لم يكن

ص: 305

رواه البخاري.

2689 – (7) وعن عبد العزيز بن رفيع، قال: سألت أنس بن مالك. قلت: أخبرني بشيء عقلته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أين صلى الظهر يوم التروية؟ قال: بمنى.

ــ

متعجلاً. واختلفوا في أنه سنة أو منزل اتفاقي على القولين، وسيأتي تفصيل الكلام فيه شرح حديث عائشة الآتي (رواه البخاري) وأخرجه أيضًا النسائي في الكبرى والبيهقي (ج 5: ص 110) .

2689-

قوله (عن عبد العزيز بن رفيع) بضم الراء وفتح الفاء مصغرًا، الأسدي أبو عبد الله المكي نزيل الكوفة من مشاهير التابعين وثقاتهم، قال البخاري عن علي: له نحو ستين حديثًا، مات سنة ثلاثين ومائة. وقيل بعدها وليس لعبد العزيز بن رفيع عن أنس في الصحيحين إلا هذا الحديث الواحد (قلت) بدل من سألت أو بيان (عقلته) بفتح القاف أي علمته وحفظته. وهي جملة في محل الجر لأنها وقعت صفة لقوله شيء (أين صلى الظهر) زاد في رواية البخاري ((والعصر)) (يوم التروية؟)) أي اليوم الثامن من ذي الحجة، وقد تقدم وجه تسميته بذلك. وقال الحافظ: سمي التروية بفتح المثناة وسكون الراء وكسر الواو وتخفيف التحتانية لأنهم كانوا يروون فيها إبلهم ويتروون من الماء، لأن تلك الأماكن لم تكن إذ ذاك فيها آبار ولا عيون، وأما الآن فقد كثرت جدًا واستغنوا عن حمل الماء، وقد روى الفاكهي في كتاب مكة من طريق مجاهد قال: قال عبد الله بن عمر: يا مجاهد إذا رأيت الماء بطريق مكة ورأيت البناء يعلوا أخاشبها فخذ حذرك، وفي رواية ((فاعلم أن الأمر قد أظلك)) . وقيل في تسمية التروية أقوال أخرى شاذة، منها أن آدم رأى فيه حواء واجتمع بها. ومنها أن إبراهيم رأى في ليلة أنه يذبح ابنه فأصبح متفكرًا يتروى. ومنها أن جبريل عليه السلام أرى فيه إبراهيم مناسك الحج. ومنها أن الإمام يعلم الناس فيه مناسك الحج، ووجه شذوذها أنه لو كان من الأول لكان يوم الرؤية، أو الثاني لكان يوم التروي بتشدد الواو، أو من الثالث لكان من الرؤيا، أو من الرابع لكان من الرواية (قال بمنى) فيه أن السنة أن يصلي الحاج الظهر يوم التروية بمنى وهو قول الجمهور، ويدل عليه أيضًا ما تقدم في حديث جابر الطويل في صفة الحج ((فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر)) الحديث. وروى أبو داود والترمذي وأحمد والحاكم من حديث ابن عباس، قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بمنى خمس صلوات، ولأحمد عن ابن عمر أنه كان يحب إذا استطاع أن يصلي الظهر بمنى يوم التروية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمنى. ولابن خزيمة والحاكم من طريق القاسم بن محمد بن عبد الله بن الزبير قال: من سنة الحج أن يصلي الإمام الظهر وما بعدها والفجر بمنى ثم يغدون إلى عرفة. وروى الثوري في جامعه عن عمرو بن دينار قال: رأيت ابن الزبير صلى الظهر يوم التروية بمكة. قال الحافظ: لعله فعل ما نقله عمرو عنه لضرورة أو لبيان الجواز، وروى ابن المنذر من طريق ابن عباس قال: إذ زاغت الشمس فليرح إلى منى. قال ابن المنذر في حديث

ص: 306

قال: فأين صلى العصر يوم النفر؟ قال: بالأبطح. ثم قال افعل كما يفعل أمرآؤك. متفق عليه.

ــ

ابن الزبير أن من السنة أن يصلي الإمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى، قال به علماء الأمصار. قال: ولا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه أوجب على من تخلف عن منى ليلة التاسع شيئًا، ثم روى عن عائشة أنها لم تخرج من مكة يوم الترويه حتى دخل الليل وذهب ثلثه. قال ابن المنذر: والخروج إلى منى في كل وقت مباح. قلت: الظاهر من سياق حديث أنس وجابر أن توجهه صلى الله عليه وسلم كان قبل الزوال. وذكر أبو سعيد النيسابوري في كتاب ((شرف المصطفى)) أن خروجه صلى الله عليه وسلم يوم التروية كان ضحوة النهار، وهذا يدل على استحباب الغدو من الغد. وفي سيرة الملا أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى منى بعد ما زاغت الشمس. وهذا يدل على استحباب الرواح بعد الزوال. قال الطبري: يمكن أن يكون صلى الله عليه وسلم تأهب للتوجه ضحوة النهار وتوجه في أول الزوال، ويكون أمره بالرواح على ما رواه الشافعي عن الحسن بن مسلم للراكب المخف الذي يصل إلى منى قبل فوات الصلاة وأمره بالغدو للماشي أو لذي الثقل أو يكون أمر بهما توسعة فيهما، فالمتوجه إلى منى مخير بين الغدو والرواح لذلك. وقد اتفقت الروايات كلها على أنه صلى الله عليه وسلم صلى بها الظهر والعصر – انتهى. وقال المهلب: الناس في سعة من هذا يخرجون متى أحبوا ويصلون حيث أمكنهم، ولذلك قال أنس: صل حيث يصلي أمراؤك، والمستحب في ذلك ما فعله الشارع، صلى الظهر والعصر بمنى، وهو قول مالك والثوري أبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور (قال) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وفي الصحيحين ((قلت)) بدل ((قال)) قال القاري: في قوله ((قال)) التفات، إذ حقه أن يقول ((قلت)) (يوم النفر) بفتح النون وسكون الفاء وهو الرجوع والانصراف من منى. قال القاري: أي النفر الثاني وهو اليوم الثالث من أيام التشريق (قال: بالأبطح) أي البطحاء التي بين مكة ومنى وهي ما انبطح من الوادي واتسع، وهي التي يقال لها المحصب، وحدها ما بين الجبلين إلى المقبرة، قاله الحافظ. وقد تقدم ما ذكره القاري في الفرق (ثم قال) أي أنس (افعل كما يفعل أمراؤك) قال الحافظ: خشي عليه أن يحرص على ذلك فينسب إلى المخالفة أو تفوته الصلاة مع الجماعة فقال له: صل مع الأمراء حيث يصلون، وفيه إشعار لأن الأمراء إذ ذاك كانوا لا يواظبون على صلاة الظهر ذلك اليوم بمكان معين فأشار أنس إلى أن الذي يفعلونه جائز، وأن الإتباع أفضل يعني إتباعهم أفضل خوفًا من حدوث فتنة. وقال القاري: أي لا تخالفهم فإن نزلوا به أي (بالأبطح) فانزل، وإن تركوه فاتركه حذرًا مما يتولد على المخالفة من المفاسد فيفيد أن تركه لعذر لا بأس به. انتهى. قال الحافظ: وفي الحديث الإشارة إلى متابعة أولي الأمر والاحتراز عن مخالفة الجماعة (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والدرامي وابن خزيمة وأبو عوانة في صحيحه، وابن الجارود في المنتقى وسمويه في فوائده وابن المنذر والإسماعيلي والبيهقي.

ص: 307

2690 – (8) وعن عائشة، قالت: نزول الأبطح ليس بسنة،

ــ

2690 – قوله (نزول الأبطح) أي المحصب تعني النزول فيه (ليس بسنة) زاد في رواية أبي داود ((فمن شاء نزل ومن شاء لم ينزل)) قال القاري: ليس بسنة، أي قصدية أو من سنن الحج. وروى الشيخان عن ابن عباس، قال: ليس التحصيب بشيء. قال ابن المنذر: أي من أمر المناسك الذي يلزم فعله. وروى أحمد من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة قالت: ثم ارتحل حتى نزل الحصبة. قالت: والله ما نزلها إلا من أجلي. وروى مسلم وأبو داود وغيرهما من طريق سليمان ابن يسار عن أبي رافع قال لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنزل الأبطح حين خرج من منى ولكن جئت فضربت قبته فنزل، وروى مسلم من طريق الزهري عن سالم أن أبا بكر وعمر وابن عمر كانوا ينزلون الأبطح. قال الزهري: وأخبرني عروة عن عائشة أنها لم تكن تفعل ذلك وقالت: إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان منزلاً أسمح لخروجه. قال الحافظ: لكن لما نزله النبي صلى الله عليه وسلم كان النزول به مستحبًا إتباعًا له ولتقريره على ذلك وفعله الخلفاء بعده كما رواه مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ينزلون الأبطح. ومن طريق أخرى عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرى التحصيب سنة، قال نافع: قد حصب رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده. فالحاصل أن من نفى أنه سنة كعائشة وابن عباس أراد أنه ليس من المناسك فلا يلزم بتركه شيء، ومن أثبته كابن عمر أراد دخوله في عموم التأسي بأفعاله صلى الله عليه وسلم لا الإلزام بذلك، ويستحب أن يصلي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويبيت به بعض الليل كما دل عليه حديث أنس (المتقدم) وحديث ابن عمر – انتهى. قلت: نقل ابن المنذر الاختلاف في استحبابه مع الاتفاق على أنه ليس من المناسك. وادعى الحافظ زكي الدين المنذري استحبابه عند جميع العلماء، وكذلك ادعى قبله القاضي عياض. قال العراقي: فيه نظر، لأن الترمذي حكى استحبابه عن بعض أهل العلم، وقال النووي: إن عائشة وابن عباس كانا لا يقولان به، ويقولان هو منزل اتفاقي لا مقصود، فحصل خلاف بين الصحابة رضي الله عنهم، ومذهب الشافعي ومالك والجمهور استحبابه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وغيرهم. قال العيني: وهذا هو الصواب، وقد كان من أهل العلم من لا يستحبه فكانت أسماء وعروة بن الزبير رضي الله عنهما لا يحصبان، حكاه ابن عبد البر في الاستذكار عنهما، وكذلك سعيد بن جبير، فقيل لإبراهيم إن سعيد بن جبير لا يفعله، فقال: قد كان يفعله ثم بدأ له، وقد تقدم أن عائشة لم تكن تفعل ذلك. قلت: ومما يدل على استحباب التحصيب ما أخرجه الجماعة من حديث أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نحن نازلون بخيف بني كنانة حيث تقاسمت قريش على الكفر يعني المحصب، وذلك أن بني كنانة حالفت قريشًا على بني هاشم أن لا يناكحوهم ولا يؤووهم ولا يبايعوهم وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين أراد أن ينفر من منى: نحن نازلون غدًا

ص: 308

إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج. متفق عليه.

ــ

فذكر نحوه، وكان نزوله صلى الله عليه وسلم بالمحصب شكرًا لله تعالى على ما منحه فيه من الظهور فيه على أعدائه الذين تقاسموا فيه على قطيعته ومضرته، وتذكيرًا للنعمة من القضاء على الكفر وإظهار دينه ونصرته وتأييده. وقال ابن الهمام بعد ذكر حديث أسامة وأبي هريرة: فثبت بهذا أنه نزله قصدًا ليرى لطيف صنع الله به وليتذكر فيه نعمته سبحانه عليه عند مقايسته نزوله به الآن إلى حاله قبل ذلك، أعني حال انحصاره من الكفار في ذات الله تعالى. وهذا أمر يرجع إلى معنى العبادة، ثم هذه النعمة التي شملته عليه الصلاة والسلام من النصر والاقتدار على إقامة التوحيد وتقرير قواعد الوضع الإلهي الذي دعا الله تعالى إليه عباده لينتفعوا به في دنياهم ومعادهم لا شك في أنها النعمة العظمى على أمته لأنهم مظاهر المقصود من ذلك المؤيد، فكل واحد منهم جدير بتفكرها والشكر التام عليها لأنها عليه أيضًا فكان سنة في حقهم، لأن معنى العبادة في ذلك يتحقق في حقهم أيضًا، وعن هذا حصب الخلفاء الراشدون، وعلى هذا الوجه لا يكون كالرمل ولا على الأول، لأن الإراءة لم يلزم أن يراد بها إراءة المشركين، ولم يكن بمكة مشرك عام حجة الوداع، بل المراد إراءة المسلمين الذين كان لهم علم بالحال الأول، كذا في المرقاة. قلت: ومذهب الحنفية في ذلك على ما في فروعهم وفي مناسكهم أن السنة أن ينزل به ولو ساعة ويدعو أو يقف على راحلته ويدعو. قال في الدر المختار: وإذا نفر إلى مكة نزل استنانًا ولو ساعة بالمحصب. قال ابن عابدين: قوله ((ولو ساعة)) يقف فيه على راحلته يدعو فيحصل بذلك أصل السنة. وأما الكمال فما ذكره الكمال ابن الهمام من أنه يصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويهجع هجعة ثم يدخل مكة (بحر) وفي شرح النقاية للقاري: والأظهر أن يقال إنه سنة كفاية لأن ذلك الموضع لا يسع الحاج جميعهم، وينبغي لأمراء الحج وكذا غيرهم أن ينزلوا فيه ولو ساعة إظهار للطاعة – انتهى. وفي المدونة: استحب مالك لمن يقتدي به أن لا يدع النزول به ووسع لمن لا يقتدي به في تركه، وكان يفتي به سرًا وفي العلانية يفتي بالنزول به لجميع الناس (إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان أسمح لخروجه) أي أسهل لمخرجه إلى المدينة ليجتمع الناس إليه مدة مقامه ثم يرحلوا لرحيله، فليس ذاك لقصد النسك حتى يكون سنة (إذا خرج) أي إذا أراد الخروج إلى المدينة. قال الحافظ: قوله ((أسمح)) أي أسهل لتوجهه إلى المدينة يستوي في ذلك البطيء والمعتدل ويكون مبيتهم وقيامهم في السحر ورحيلهم بأجمعهم إلى المدينة. وقال الطيبي: لأنه كان يترك فيه ثقله ومتاعه، أي كان نزوله بالأبطح ليترك ثقله ومتاعه هناك ويدخل مكة فيكون خروجه منها إلى المدينة أسهل – انتهى. قال القاري: وفيه أنه لا ينافيه قصد النزول به للمعنى الذي ذكره ابن الهمام كما مر (متفق عليه) وتفرد مسلم منه بقولها ((نزول الأبطح ليس بسنة)) والحديث أخرجه أيضًا أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة والبيهقي.

ص: 309

2691 – (9) وعنها، قالت: أحرمت من التنعيم بعمرة، فدخلت فقضيت عمرتي، وانتظرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح حتى فرغت، فأمر الناس بالرحيل، فخرج فمر بالبيت فطاف به قبل صلاة الصبح، ثم خرج إلى المدينة. هذا الحديث ما وجدته برواية الشيخين، بل برواية أبي داود مع اختلاف يسير في آخره.

2692 – (10) وعن ابن عباس، قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه،

ــ

2691-

قوله (أحرمت من التنعيم بعمرة) قد تقدم الكلام على إحرامها من التنعيم بالعمرة في الفصل الأول من باب قصة حجة الوداع في شرح حديث عائشة (فدخلت) أي مكة (فقضيت عمرتي) أي أديتها منفردة عن الحج (وانتظرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح حتى فرغت) أي من العمرة (فأمر الناس بالرحيل فخرج) أي من الأبطح (فطاف به) أي طواف الوداع (هذا الحديث ما وجدته برواية الشيخين) أي أحدهما (بل) وجدته (برواية أبي داود مع اختلاف يسير) أي بينه وبين لفظ المصابيح (في آخره) قال القاري: فيه اعتراضان على صاحب المصابيح حيث ذكر الحديث في الفصل الأول وحيث خالف لفظ أبي داود، والله أعلم. قلت روى أبو داود حديث عائشة في باب طواف الوداع أولاً من طريق وهب بن بقية عن خالد عن أفلح عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أحرمت من التنعيم بعمرة فدخلت فقضيت عمرتي وانتظرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح حتى فرغت وأمر الناس بالرحيل. قالت: وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فطاف به ثم خرج. ثم رواه من طريق محمد بن بشار عن أبي بكر الحنفي عن أفلح عن القاسم عن عائشة قالت: خرجت معه تعني مع النبي صلى الله عليه وسلم في النفر الآخر فنزل المحصب. قال أبو داود: ولم يذكر ابن بشار قصة بعثها إلى التنعيم في هذا الحديث. قالت: ثم جئنه بسحر فأذن في أصحابه بالرحيل فارتحل فمر بالبيت قبل صلاة الصبح فطاف به حين خرج، ثم انصرف متوجهًا إلى المدينة – انتهى. وقد اتضح بهذا ما وقع عن البغوي من التصرف والاختلاف في نقل لفظ الحديث. وقال المناوي في الكشف: لم أقف على هذا الحديث بجملة في الصحيحين، إنما الذي في الصحيحين القطعة الأخير منه، وهي قوله ((فأمر الناس بالرحيل)) إلى آخره، وأول الحديث معناه في الصحيحين لا لفظه، ولفظه في أبي داود، هذا ما ظهر لي بعد الكشف – انتهى. كذا في تنقيح الرواة. والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، وأخرجه البيهقي (ج 5: ص 161) من طريق أبي داود عن محمد بن بشار ثم قال: رواه البخاري في الصحيح عن محمد بن بشار.

2692-

قوله (كان الناس ينصرفون في كل وجه) أي في كل طريق بعد انقضاء أيام منى، منهم من يطوف ومنهم

ص: 310

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت،

ــ

من لم يطف. وقال القاري: أي بعد حجهم في كل طريق طائفًا وغير طائف (لا ينفرن أحدكم) أي النفر الأول وهو الذي يكون في اليوم الثاني من التشريق لمن تعجل أو النفر الثاني وهو في اليوم الثالث لمن تأخر، أو لا يخرجن أحدكم من مكة. والمراد به الآفاقي، وقوله ((أحدكم)) هكذا وقع في نسخ المشكاة، والذي في صحيح مسلم ((لا ينفرن أحد)) (حتى يكون آخر عهده بالبيت) أي الطواف به كما رواه أبو داود، وقوله بالبيت خبر كان والسياق المذكور لمسلم، ولفظ البخاري ((قال ابن عباس: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض)) وكذا وقع في رواية لمسلم. قال الحافظ: قوله ((أمر الناس)) كذا في رواية سفيان عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس على البناء لما لم يسم فاعله، والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم وكذا قوله ((خفف)) وقد رواه سفيان أيضًا عن سليمان الأحوال عن طاوس فصرح فيه بالرفع، ولفظه عن ابن عباس قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهد بالبيت، وأخرجه مسلم هو والذي قبله عن سعيد بن منصور عن سفيان بالإسنادين فرقهما فكأن طاوسًا حدث به على الوجهين، ولهذا وقع في رواية كل من الروايين عنه ما لم يقع في رواية الآخر. وفيه دليل على وجوب طواف الوداع للأمر المؤكد به وللتعبير في حق الحائض بالتخفيف كما سيأتي، والتخفيف لا يكون إلا من أمر مؤكد. قال النووي: في الحديث دلالة لمن قال بوجوب طواف الوداع وأنه إذا تركه لزمه دم وهو الصحيح في مذهبنا، وبه قال أكثر العلماء منهم الحسن البصري والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال مالك وداود وابن المنذر: هو سنة لا شيء في تركه، وعن مجاهد روايتان كالمذهبين – انتهى. قال الحافظ: والذي رأيته في الأوسط لابن المنذر أنه واجب للأمر به إلا أنه لا يجب بتركه شيء – انتهى. قال الشوكاني: قد اجتمع في طواف الوداع أمره صلى الله عليه وسلم به ونهيه عن تركه وفعله الذي هو بيان للمجمل الواجب، ولا شك أن ذلك يفيد الوجوب. وقال ابن قدامة: طواف الوداع واجب ينوب عنه الدم إذا تركه، وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي. وقال أيضًا: من أتى مكة لا يخلو إما أن يريد الإقامة بها أو الخروج منها فإن أقام بها فلا وداع عليه لأن الوداع من المفارق لا من الملازم، سواء نوى الإقامة قبل النفر أو بعده، وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن نوى الإقامة بعد أن حل له النفر لم يسقط عنه الطواف ولا يصح، لأنه غير مفارق، فلا يلزمه وداع كمن نواها قبل حل النفر، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت، وهذا ليس بنافر. فأما الخارج من مكة فليس له أن يخرج حتى يودع البيت بطواف، وهو واجب من تركه لزمه دم، وبذلك قال الحكم وحماد والثوري وإسحاق وأبو ثور. وقال الشافعي في قول له (ضعيف) : لا يجب بتركه شيء، وبه قال مالك كما تقدم، لأنه يسقط عن الحائض فلم

ص: 311

..............................................................................................

ــ

يكن واجبًا. ولنا ما روى ابن عباس قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلخ. ولمسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت، وليس في سقوطه عن المعذور ما يجوز سقوطه لغيره كالصلاة تسقط عن الحائض وتجب على غيرها، بل تخصيص الحائض بإسقاطه عنها دليل على وجوبه على غيرها، إذ لو كان ساقطًا عن الكل لم يكن لتخصيصها بذلك معنى. ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: حتى يكون آخر عهده بالبيت. ومن كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا وداع عليه، ومن كان منزله خارج الحرم قريبًا منه فظاهر كلام الخرقي أنه لا يخرج حتى يودع البيت، وهذا قول أبي ثور، وقال: أصحاب الرأي في أهل المواقيت إنهم بمنزلة أهل مكة في عدم وجوب طواف الوداع. ولنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت. ولأنه خارج من مكة فلزمه التوديع كالبعيد، فإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج ففيه روايتان: إحداهما يجزئه عن طواف الوداع لأنه أمر يكون آخر عهده بالبيت، وقد فعل، ولأن ما شرع لتحية المسجد أجزأ عنه الواجب من جنسه كتحية المسجد بركعتين تجزئ عنهما المكتوبة، وعنه (أي عن أحمد وهي الرواية الثانية) لا يجزئه عن طواف الوداع لأنهما عبادتان واجبتان فلم تجزئ إحداهما عن الأخرى كالصلاتين الواجبتين، فإن طاف للوداع ثم اشتغل بتجارة أو إقامة فعليه إعادته، وبهذا قال عطاء ومالك والثوري والشافعي وأبو ثور. وقال أصحاب الرأي: إذا طاف للوداع بعد ما حل له النفر أجزأه، وإن أقام شهرًا أو أكثر (أي لا إعادة عليه، والأفضل أن يعيد) لأنه طاف بعد ما حل له النفر فلم يلزمه إعادته كما لو نفر عقبيه. ولنا قوله عليه السلام: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت، ولأنه إذا أقام بعده خرج عن أن يكون وداعًا في العادة، فلم يجزئه كما لو طافه قبل حل النفر. فأما إن قضى حاجة في طريقه أو اشترى زادًا أو شيئًا لنفسه في طريقه لم يعده، لأن ذلك ليس بإقامة تخرج طوافه عن أن يكون آخر عهده بالبيت، وبهذا قال مالك والشافعي، ولا نعلم مخالفًا لهما، فإن خرج قبل طواف الوداع رجع إن كان بالقرب (فطاف) وإن بعد بعث بدم، هذا قول عطاء والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور. والقريب هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر، والبعيد من بلغ مسافة القصر. نص عليه أحمد وهو قول الشافعي. وقال الثوري: حد ذلك الحرم، فمن كان في الحرم فهو قريب ومن خرج منه فهو بعيد، وإن لم يمكنه الرجوع لعذر فهو كالبعيد، ولو لم يرجع القريب الذي يمكنه الرجوع لم يكن عليه أكثر من دم، إلى آخر ما بسط الكلام في هذه المسألة. وقال العيني: قال أصحابنا الحنفية: هو واجب على الآفاقي دون المكي والميقاتي ومن دونهم: وقال أبو يوسف: أحب إلى أن يطوف المكي لأنه يختم المناسك، ولا يجب على الحائض والنفساء ولا على المعتمر، لأن وجوبه عرف نصًا في الحج فيقتصر عليه (وما ورد في ثبوته على المعتمر فهو حديث ضعيف أخرجه

ص: 312

إلا أنه خفف عن الحائض ".

ــ

الترمذي) ولا على فائت الحج لأن الواجب عليه العمرة وليس لها طواف الوداع، وقال مالك: من أخر طواف الوداع وخرج ولم يطف إن كان قريبًا رجع فطاف، وإن لم يرجع فلا شيء عليه. وقال عطاء والثوري وأبو حنيفة والشافعي في أظهر قوليه وأحمد وإسحاق وأبو ثور: إن كان قريبًا رجع فطاف، وإن تباعد مضى واهراق دمًا، واختلفوا في حد القرب فروي أن عمر رد رجلاً من مر الظهران لم يكن ودع وبينه وبين مكة ثمانية عشر ميلاً (رواه مالك ولم يحد له هو حدًا بل أراد الحكم على المشقة كما قال الباجي) وعند أبي حنيفة يرجع ما لم يبلغ المواقيت، وعند الشافعي وأحمد يرجع من مسافة لا تقصر فيها الصلاة، وعند الثوري يرجع ما لم يخرج من الحرم (إلا أنه خفف) بصيغة المجهول من التخفيف أي طواف الوداع (عن الحائض) وفي معناها النفساء وعلى هذا الاستثناء اتفاق جميع أهل العلم. واستدل به على أن الطهارة شرط لصحة الطواف، وقد تقدم الكلام في ذلك، وصنيع البغوي يدل على أن قوله ((إلا أنه خفف عن الحائض)) تتمة قوله صلى الله عليه وسلم: لا ينفرن أحدكم، إلخ. والأمر ليس كذلك، فإنه قد انتهى إلى قوله ((بالبيت)) والاستثناء المذكور إنما هو تتمة قول ابن عباس عند الشيخين: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، كما تقدم وهو دليل على سقوط طواف الوداع عن المرأة الحائضة، فلا يكون واجبًا عليها ولا يلزمها دم بتركه. قال ابن قدامة: المرأة إذا حاضت قبل أن تودع خرجت ولا وداع عليها ولا فدية، وهذا قول عامة فقهاء الأمصار، وقد روى عن عمر وابنه أنهما أمرا الحائض بالمقام لطواف الوداع. وكان زيد بن ثابت يقول به، ثم رجع عنه كما روى مسلم. وروى عن ابن عمر أنه رجع إلى قول الجماعة أيضًا، وقد ثبت التخفيف عن الحائض بحديث صفية حين قالوا: يا رسول الله إنها حائض، فقال: أحابستنا هي قالوا: يا رسول الله إنها قد أفاضت يوم النحر، قال: فلتنفر إذًا، ولا أمرها بفدية ولا غيرها. وفي حديث ابن عباس: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض. والحكم في النفساء كالحكم في الحائض – انتهى. وقال النووي: حديث ابن عباس دليل لوجوب طواف الوداع على غير الحائض وسقوطه عنها، ولا يلزمها دم بتركه، هذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والعلماء كافة إلا ما حكى ابن المنذر عن عمر وابنه وزيد بن ثابت أنهم أمروا بالمقام لطواف الوداع، ودليل الجمهور هذا الحديث وحديث صفية – انتهى. وروى البخاري من طريق عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: رخص للحائض أن تنفر إذا أفاضت، قال: وسمعت ابن عمر يقول: إنها لا تنفر. ثم سمعته يقول بعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهن. قال الحافظ: قوله ((ثم سمعته يقول بعد)) إن ذلك كان قبل موت ابن عمر بعام كما وقع للطحاوي من رواية عقيل عن الزهري عن طاوس، وقال ابن المنذر: قال عامة الفقهاء بالأمصار: ليس على الحائض التي قد أفاضت طواف وداع،

ص: 313

متفق عليه.

2693 – (11) وعن عائشة، قالت: حاضت صفية

ــ

وروينا عن عمر بن الخطاب وابن عمر وزيد بن ثابت أنهم أمروها بالمقام إذا كانت حائضًا لطواف الوداع، وكأنهم أوجبوه عليها كما يجب عليها طواف الإفاضة إذ لو حاضت قبله لم يسقط عنها، ثم أسند عن عمر بإسناد صحيح إلى نافع عن ابن عمر قال: طافت امرأة بالبيت يوم النحر ثم حاضت فأمر عمر بحبسها بمكة بعد أن ينفر الناس حتى تطهر وتطوف بالبيت. قال: وقد ثبت رجوع ابن عمر وزيد بن ثابت عن ذلك وبقي عمر فخالفناه لثبوت حديث عائشة، يشير بذلك إلى حديثها الآتي وما في معناه، وقد روى ابن أبي شيبة من طريق القاسم بن محمد كان الصحابة يقولون: إذا أفاضت المرأة قبل أن تحيض فقد فرغت إلا عمر فإنه كان يقول: يكون آخر عهدها بالبيت. وقد وافق عمر على رواية ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم غيره، فروى أحمد وأبو داود والنسائي والطحاوي واللفظ لأبي داود من طريق الوليد بن عبد الرحمن عن الحارث بن عبد الله بن أوس الثقفي قال: أتيت عمر فسألته عن المرأة تطوف بالبيت يوم النحر ثم تحيض، قال: ليكن آخر عهدها بالبيت، فقال الحارث كذلك أفتاني، وفي رواية أبي داود: هكذا حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدل الطحاوي بحديث عائشة على نسخ حديث الحارث في حق الحائض، وكذلك استدل على نسخه بحديث أم سليم عند أبي داود الطيالسي أنها قالت: حضت بعد ما طفت بالبيت فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنفر، والحق مع الجمهور، ولعل عمر لم يبلغه حديث الرخصة وإلا لكان أو الناس عملاً به (متفق عليه) قد تقدم أن أول الحديث إلى قوله بالبيت لمسلم وحده وقوله ((إلا أنه خفف عن الحائض)) إنما هو تتمة الرواية الأخرى التي اتفق عليها الشيخان، والحديث أخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 222) وأبو داود والنسائي وابن ماجة والشافعي وابن الجارود والدارمي والبيهقي والبغوي في شرح السنة.

2693 – قوله (حاضت صفية) بفتح الصاد المهملة وكسر الفاء وتشديد الياء آخر الحروف، وهي أم المؤمنين صفية بنت حيي – بضم الحاء المهملة ويجوز كسرها وفتح التحتية الأولى المخففة وشدة الأخرى – ابن أخطب، بفتح الهمزة وإسكان الخاء المعجمة وفتح الطاء المهملة آخرها باء موحدة، بن سعنة بن ثعلبة الإسرائيلية من سبط لاوي بن يعقوب ثم من سبط هارون بن عمران أخي موسى عليهما السلام، كانت تحت سلام بن مشكم اليهودي، ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحقيق، وهما شاعران فقتل زوجها كنانة في غزوة خيبر حين افتتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة سبع فوقعت في السبي فاصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه وأسلمت فأعتقها وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد خيبر في سنة سبع من الهجرة. قيل: كان اسمها زينب فلما صارت من الصفاء سميت صفية وكانت حليمة عاقلة فاضلة توفيت في رمضان سنة (50 أو 52) في زمن

ص: 314

ليلة النفر، فقالت: ما أراني إلا حابستكم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " عقرى حلقى

ــ

معاوية، وقيل سنة (36) وهو غلط، فإن علي بن الحسين لم يكن ولد، وقد ثبت سماعه منها في الصحيحين ودفنت بالبقيع ولها نحو ستين سنة لقولها: ما بلغت سبع عشرة سنة يوم دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحافظ: قوله ((حاضت)) أي بعد أن أفاضت يوم النحر كما في رواية البخاري في باب الزيارة يوم النحر من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة قالت: حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأفضنا يوم النحر فحاضت صفية – الحديث. ثم قال البخاري: ويذكر عن القاسم وعروة والأسود عن عائشة: أفاضت صفية يوم النحر. قال الحافظ: غرضه بهذا أن أبا سلمة لم ينفرد عن عائشة بذلك وإنما لم يجزم به لأن بعضهم أورده بالمعنى، ثم ذكر الحافظ تخريج روايات هؤلاء الثلاثة من الصحيحين (ليلة النفر) أي ليلة يوم النفر لأن النفر لم يشرع في تلك الليلة بل في يومها. قال القاري: والنفر يحتمل الأول والثاني وجزم به ابن حجر، قلت: يدل على أن المراد هو الثاني ما رواه مسلم من طريق الحكم عن إبراهيم عن عائشة قالت: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفر إذا صفية على باب خبائها كئيبة حزينة فقال: عقرى حلقى إنك لحابستنا – الحديث (فقالت) أي صفية للنبي صلى الله عليه وسلم (ما أراني) بصيغة المجهول من الإراءة، أي ما أظن نفسي (إلا حابستكم) بكسر الباء وفتح التاء نصبًا على المفعولية، أي مانعتكم عن الخروج إلى المدينة بل تنظرون إليَّ أن أطهر فأطوف طواف الوداع ظنا منها أن طواف الوداع كطواف الإفاضة لا يجوز تركه بالأعذار. قال العيني: قولها ما أراني إلا حابستكم أي ما أظن نفسي إلا حابستكم لانتظار طهري وطوافي للوداع فإني لم أطف للوداع، وقد حضنت فلا يمكنني الطواف الآن، وظنت أن طواف الوداع لا يسقط عن الحائض – انتهى. وفي رواية للبخاري قالت صفية: ما أراني إلا حابستهم. قال العيني: أي ما أظن نفسي إلا حابسة القوم عن التوجه إلى المدينة لأني حضت وما طفت بالبيت (أي للوداع) فلعلهم بسببي يتوقفون إلى زمان طوافي بعد الطهارة، وإسناد الحبس إليها على سبيل المجاز – انتهى (قال النبي صلى الله عليه وسلم: عقرى حلقى) بالفتح فيهما ثم السكون، وبالقصر بغير تنوين في الرواية، ويجوز في اللغة التنوين، وصوبه أبو عبيد، لأن معناه الدعاء بالعقر والحلق كما يقال سقيا ورعيا ونحو ذلك من المصادر التي يدعى بها، وعلى الأول هو نعت لا دعاء، ثم معنى ((عقرى)) عقرها الله أي جرحها وقيل جعلها عاقرًا لا تلد وقيل عقر قومها، ومعنى ((حلقى)) حلق شعرها وهو زينة المرأة، أو أصابها وجع في حلقها، أو حلق قومها بشؤمها أي أهلكهم، وحكى القرطبي أنها كلمة تقولها اليهود للحائض، فهذا أصل هاتين الكلمتين، ثم اتسع العرب في قولهما بغير إرادة حقيقتهما كما قالوا: قاتله الله، وتربت يداه، ونحو ذلك. وقال الطيبي: قوله عقرى حلقى، هكذا روي على وزن فعلى بلا تنوين والظاهر عقرًا وحلقًا بالتنوين، أي عقرها الله عقرًا وحلقها الله حلقًا يعني قتلها وجرحها أو أصاب حلقها بوجع، وهذا دعاء لا يراد وقوعه، بل عادة العرب التكلم بمثله على

ص: 315