المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ثم أحل كما حلوا ". رواه مسلم. ‌ ‌(3) باب دخول مكة - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٩

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

فهرس الكتاب

- ‌(2) باب قصة حجة الوداع

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(3) باب دخول مكة والطواف

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(4) باب الوقوف بعرفة

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(5) باب الدفع من عرفة والمزدلفة

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(6) باب رمي الجمار

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(7) باب الهدي

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(8) باب الحلق

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(9) باب

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(10) باب خطبة يوم النحر، ورمي أيام التشريق، والتوديع

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(11) باب ما يجتنبه المحرم

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(12) باب المحرم يجتنب الصيد

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(13) باب الإحصار، وفوت الحج

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(14) باب حرم مكة حرسها الله تعالى

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(15) باب حرم المدينة حرسها الله تعالى

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

الفصل: ثم أحل كما حلوا ". رواه مسلم. ‌ ‌(3) باب دخول مكة

ثم أحل كما حلوا ". رواه مسلم.

(3) باب دخول مكة والطواف

(الفصل الأول)

2585 -

(1) عن نافع، قال: إن ابن عمر كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى، حتى يصبح ويغتسل ويصلي،

ــ

الطريق (ثم أحل) أي بالفسخ كما حلوا، استدل بهذا الحديث على وجوب فسخ الحج إلى العمرة لمن لم يكن معه هدي، وقد سبق الكلام في ذلك في شرح حديث جابر الطويل (رواه مسلم) وفي معناه ما رُوي عن البراء بن عازب عند أحمد وابن ماجه وأبي يعلى، وقد ذكرنا لفظه في بحث فسخ الحج، وهو من الأحاديث في الفسخ التي صححها أحمد وابن القيم وقال الهيثمي في مجمع الزوائد بعد عزوه لأبي يعلى: رجاله رجال الصحيح.

(باب دخول مكة) أي آداب دخولها (الطواف) عطف على المضاف.

2585 -

قوله (عن نافع) أي مولى ابن عمر (كان لا يقدم مكة) بفتح الدال أي لا يجيئها (إلا بات) أي نزل في الليل عند قدومه (بذي طوى) بتثليث الطاء مع الصرف وعدمه، فمن صرفه جعله اسم واد ومكان وجعله نكرة، ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة. قال النووي: هو موضع معروف بقرب مكة يقال بفتح الطاء وضمها وكسرها، والفتح أفصح وأشهر ويصرف ولا يصرف. وقال الحافظ: ويعرف اليوم ببئر الزاهر، وهو مقصود منون وقد لا ينون. وقال الطبري: ذو طوى بضم الطاء المهملة وفتح الواو المخففة والقصر موضع عند باب مكة يسمى بذلك ببئر مطوية فيه، هكذا ضبطه بعضهم وضبطه الأصيلي بكسر الطاء. وقال الأصمعي: هي بفتح الطاء. قال المنذري: وهو الصواب، فأما الموضع الذي بالشام فيكسر طاؤه ويضم ويصرف ولا يصرف، وقد قرئ بهما، وأما التي بطريق الطائف فممدود (حتى يصبح) فكان ينزل بذي طوى ويبيت فيه للاستراحة وللاغتسال والنظافة (ويغتسل) أي به. قال النووي: في الحديث الاغتسال لدخول مكة وأنه يكون بذي طوى لمن كانت في طريقه (بأن يأتي من طريق المدينة) ويكون بقدر بعدها لمن لم يكن في طريقه (قال الطبري: ولو قيل: يسن له التعريج إليها والاغتسال بها إقتداء وتبركاً لم يبعد. قال الأذرعي: وبه جزم الزعفراني) قال أصحابنا: وهذا الغسل سنة فإن عجز عنه تيمم. وقال الحافظ: قال ابن المنذر الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند جميع العلماء وليس في تركه عندهم فدية. وقال أكثرهم: يجزئ منه الوضوء. وفي الموطأ أن ابن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام، وظاهره أن غسله لدخول مكة كان لجسده دون

ص: 81

فيدخل مكة نهارًا، وإذا نفر منها، مر بذي طوى وبات بها حتى

ــ

رأسه وقال الشافعية: إن عجز عن الغسل تيمم. وقال ابن التين: لم يذكر أصحابنا الغسل لدخول مكة، وإنما ذكروه للطواف، والغسل لدخول مكة هو في الحقيقة للطواف – انتهى. وقال ابن قدامة: يستحب الاغتسال لدخول مكة، لأن ابن عمر كان يغتسل ثم يدخل مكة نهارًا، ويُذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله، ولأن مكة مجمع أهل النسك فإذا قصدها استحب له الاغتسال كالخارج إلى الجمعة، والمرأة كالرجل وإن كان حائضًا أو نفساء لأن الغسل يراد به التنظيف وهذا يحصل مع الحيض فاستحب لها ذلك، وهذا مذهب الشافعي - انتهى. قلت: وهو مذهب أبي حنيفة أيضًا، فهذا الغسل عند الأئمة الثلاثة الشافعي وأحمد وأبي حنيفة لدخول مكة كما هو مصرح في كتب فروعهم ومناسكهم كما هو ظاهر أثر ابن عمر أنه كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم ولدخول مكة، ولم يحتج إلى غسل للطواف لأنه ليس بين الدخول والطواف كبير فصل، فيجتمع في غسله هذا أمران دخول مكة وطواف بيت الله، ويؤيد ذلك ما قاله العيني: أن الغسل لدخول مكة ليس لكونه محرمًا وإنما لحرمة مكة حتى يستحب لمن كان حلالاً أيضًا، وقد اغتسل لها صلى الله عليه وسلم عام الفتح وكان حلالاً أفاد ذلك الإمام الشافعي في الأم - انتهى. وأما عند المالكية فالغسل المذكور في الحديث وفي الأثر للطواف لا للدخول، قال الباجي: أضاف الغسل أي في أثر ابن عمر إلى دخول مكة وإن كان مقصوده الطواف لأنه يفعل عند دخول مكة ليتصل الدخول بالطواف، والغسل في الحقيقة للطواف دون الدخول، ولذلك لا تغتسل الحائض ولا النفساء لدخول مكة لتعذر الطواف عليهما – انتهى. وفي الشرح الكبير للدردير: وندب الغسل لدخول غير حائض ونفساء مكة بطوى، لأن الغسل في الحقيقة للطواف فلا يؤمر به إلا من يصح منه الطواف، وقوله ((بطوى)) حقه أن يقول: وبطوى. لأنه مندوب ثان – انتهى. (فيدخل مكة نهاراً) فيه استحباب دخول مكة نهارًا. قال النووي: وهذا هو الصحيح الذي عليه الأكثرون من أصحابنا وغيرهم أن دخولها نهارًا أفضل من الليل. وقال بعض أصحابنا وجماعة من السلف: الليل والنهار في ذلك سواء ولا فضيلة لأحدهما على الآخر، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها محرمًا بعمرة الجعرانة ليلاً، ومن قال بالأول حمله على بيان الجواز – انتهى. وقال الحافظ: وأما الدخول ليلاً فلم يقع منه صلى الله عليه وسلم إلا في عمرة الجعرانة فإنه صلى الله عليه وسلم أحرم من الجعرانة ودخل مكة ليلاً فقضى أمر العمرة ثم رجع ليلاً فأصبح بالجعرانة كبائت، كما رواه أصحاب السنن الثلاثة من حديث محرش الكعبي، وترجم عليه النسائي ((دخول مكة ليلاً)) وروى سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يستحبون أن يدخلوا مكة نهاراً ويخرجوا منها ليلاً، وأخرج عن عطاء: إن شئتم فادخلوا مكة ليلاً، وإن شئتم فادخلوها نهارًا، إنكم لستم في ذلك كالنبي صلى الله عليه وسلم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إمامًا فأحب أن يدخلها نهارًا ليراه الناس – انتهى. قال الحافظ: وقضية هذا أن من كان إماماً يقتدى به استحب له أن يدخلها نهارًا (وإذا نفر) أي خرج (منها) أي من مكة (مر بذي طوى وبات بها حتى

ص: 82

يصبح، ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. متفق عليه.

2586 – (2) وعن عائشة، قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى مكة دخلها من أعلاها وخرج من أسفلها.

ــ

يصبح) انتظارًا لأصحابه واهتمامًا لجمع أسبابه (ويذكر) عطف على ((لا يقدم)) أي وكان ابن عمر يذكر (كان يفعل ذلك) أي كلاً من المبيت بذي طوى والاغتسال وصلاة الصبح به ودخول مكة نهارًا (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 14، 16، 157) وأبو داود والنسائي والبيهقي (ج 5: ص 71، 72) .

2586 – قوله (إن النبي صلى الله عليه وسلم) أي عام حجة الوداع لأنها كانت معه حينئذ (لما جاء إلى مكة) أي وصل إلى قربها (دخلها من أعلاها) وكذا دخل في فتح مكة منها وأعلى مكة هو الجانب الشرقي (وخرج من أسفلها) أي لما أراد الخروج منها وفي حديث ابن عمر عند البخاري ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة من كداء من الثنية العلياء التي بالبطحاء، وخرج من الثنية السفلى)) فالمراد بأعلاها ((ثنية كَداء)) بفتح الكاف والمد والتنوين أي صرفه وعدمه نظرًا إلى أنه علم المكان أو البقعة، وقال أبو عبيد: لا تصرف، أي للعلمية والتأنيث، وهي الثنية العليا التي ينحدر منها على المقبرة المسماة عند العامة بالمعلاة، وتسمى بالحجون عند الخاصة. وقال الحافظ: هذه الثنية هي التي ينزل منها إلى المعلى مقبرة أهل مكة، وهي التي يقال لها الحجون يفتح المهملة وضم الجيم، وكانت صعبة المرتقى فسهلها معاوية ثم عبد الملك ثم المهدي على ما ذكره الأزرقي، ثم سهل في عصرنا هذا منها سنة إحدى عشرة وثمانمائة موضع، ثم سهلت كلها في زمن سلطان مصر الملك المؤيد في حدود العشرين وثمان مائة. وكل عقبة في جبل أو طريق عال تسمى ثنية. قال ابن جاسر: ثم سهلت في زمن الشريف الحسين بن علي في حدود الثلاثين وثلاثمائة وألف، ثم سهلت في زمن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود، ثم سهلت تسهيلاً كاملاً بعده – انتهى. والمراد بأسفلها ثنية كدى كهدى وقرئ بضم الكاف والقصر والتنوين وتركه. قال الحافظ: وهي عند باب شبيكة بقرب شعب الشافعين من ناحية قعيقعان، وكان ذلك بناء هذا الباب عليها في القرن السابع – انتهى. قال ابن جاسر: لا وجود الآن لهذا الباب، وقد أزيل لاتساع البلد، قال: وهذه الثنية تعرف الآن بريع الرسام، وقد سهلت، وهي الآن في الشارع العام الموصل إلى جرول. تنبيه: حكى الحميدي عن أبي العباس العذري أن بمكة موضعًا ثالثًا يقال له: ((كُدي)) كسمي، أي بالضم والتصغير يخرج منه إلى جهة اليمن. قال المحب الطبري: حققه العذري عن أهل المعرفة بمكة، قال: وقد بُني عليها باب مكة الذي يدخل منه أهل اليمن، واختلف في المعنى الذي لأجله خالف النبي صلى الله عليه وسلم بين طريقيه، فقيل: فعله تفاؤلاً بتغيير الحال إلى أكمل منه كما فعل في العيد وليشهد له الطريقان أو ليتبرك به أهلهما، وقيل: ليرى السعة في ذلك. وقيل: لأن نداء أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان من جهة العلو. وقيل: ليظهر شوكة المسلمين في كلتا الطريقين. وقيل: ليغيظ المنافقين بظهور الدين

ص: 83

..............................................................................................

ــ

وعز الإسلام. وقال الحافظ: قيل الحكمة في ذلك المناسبة بجهة العلو عند الدخول لما فيه من تعظيم المكان وعكسه الإشارة إلى فراقه، وقيل لأن إبراهيم لما دخل مكة دخل منها، وقيل لأنه صلى الله عليه وسلم خرج منها مختفيًا في الهجرة، فأراد أن يدخلها ظاهرًا عاليًا، وقيل لأن من جاء من تلك الجهة كان مستقبلاً للبيت، ويحتمل أن يكون ذلك لكونه دخل منها يوم الفتح فاستمر على ذلك. والسبب في ذلك قول أبي سفيان بن حرب للعباس: لا أُسلم حتى أرى الخيل تطلع من كداء فقلت: ما هذا؟ قال: شيء طلع بقلبي، وإن الله لا يطلع الخيل هناك أبدًا. قال العباس فذكرت أبا سفيان بذلك لما دخل. وللبيهقي من حديث ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: كيف قال حسان؟ فأنشده:

عدمت بنيتي إن لم تروها _

تثير النقع مطلعها كداء

فتبسم وقال: ادخلوها من حيث قال حسان – انتهى. والحديث يدل على استحباب دخول مكة من أعلاها أي الثنية العليا والخروج من أسفلها، وبه قال جمهور العلماء، وهل يسن الدخول من الثنية العليا لكل داخل سواء كانت تلقاء طريقه أم لم تكن في طريقه؟ فذهب أبو بكر الصيدلاني وجماعة من الشافعية، واعتمده الرافعي إلى أنه إنما يستحب الدخول منها لمن كانت في طريقه، وأما من لم تكن في طريقه فقالوا: لا يستحب له العدول إليها، وذهب النووي إلى أن الدخول منها نسك مستحب لكل أحد، وصوبه وصححه وهو ما مشى عليه في المجموع وزوائد الروضة، واعتمده المتأخرون منهم. قال النووي في شرح المهذب: واعلم أن المذهب الصحيح المختار الذي عليه المحققون من أصحابنا أن الدخول من الثنية العليا مستحب لكل محرم داخل مكة سواء كانت في صوب طريقه أم لم تكن، ويعتدل إليها من لم تكن في طريقه. وقال الصيدلاني والقاضي حسين والفوراني وإمام الحرمين والبغوي والمتولي: إنما يستحب الدخول منها لمن كانت في طريقه، وأما من لم تكن في طريقه فقالوا: لا يستحب له العدول إليها، قالوا: وإنما دخل النبي صلى الله عليه وسلم اتفاقًا لكونها كانت في طريقه، هذا كلام الصيدلاني وموافقيه، واختاره إمام الحرمين ونقله الرافعي عن جمهور الأصحاب، وقال الشيخ أبو محمد الجويني: ليست العليا على طريق المدينة بل عدل إليها النبي صلى الله عليه وسلم متعمدًا لها، قال: فيستحب الدخول منها لكل أحد. قال: ووافق إمام الحرمين الجمهور في الحكم ووافق أبا محمد في أن موضع الثنية كما ذكره. وهذا الذي قاله أبو محمد من كون الثنية ليست على نهج الطريق بل عدل إليها هو الصواب الذي يقضي به الحس والعيان، فالصحيح استحباب الدخول من الثنية العليا لكل محرم قصد مكة سواء كانت في طريقه أم لا، وهو ظاهر نص الشافعي في المختصر ومقتضى إطلاقه فإنه قال: ويدخل المحرم من ثنية كداء، ونقله صاحب البيان عن عامة الأصحاب – انتهى. وقال ابن جاسر: لم أر من تعرض لهذا البحث من أصحابنا الحنابلة، وظاهر كلامهم يقتضي سنية ذلك لإطلاقهم سنية الدخول من أعلاها من ثنية كداء، ولكن ينبغي تقييد هذا الإطلاق بما إذا كانت ثنية كداء إزاء طريقه، أما إذا لم تكن في طريقه فلا يستحب له

ص: 84

متفق عليه.

2587 – (3) وعن عروة بن الزبير، قال: قد حج النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرتني عائشة أن أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ،

ــ

2587 -

قوله (وعن عروة بن الزبير، قال: قد حج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة) إلخ. للحديث سبب ذكره مسلم في صححه قد روى بسنده عن محمد بن عبد الرحمن (هو أبو الأسود النوفلي المدني المعروف بيتيم عروة) أن رجلاً من أهل العراق قال له: سل لي عروة بن الزبير عن رجل يهل بالحج، فإذا طاف بالبيت أيحل أم لا؟ فإن قال لك: لا يحل، فقل له: إن رجلاً يقول ذلك. قال: فسألته فقال: لا يحل من أهل بالحج إلا بالحج، قلت: فإن رجلا كان يقول ذلك. قال: بئسما قال. فتصداني الرجل، فسألني فحدثته، فقال: فقل له: فإن رجلاً كان يخبر أن رسول لله صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك وما شأن أسماء والزبير قد فعلا ذلك؟ قال: فجئته فذكرت له ذلك فقال: من هذا؟ فقلت: لا أدري (أي لا أعرف اسمه) قال: فما باله لا يأتيني بنفسه يسألني، أظنه عراقيًا (يعني وهم يتعنتون في المسائل) قلت: لا أدري. قال: فإنه قد كذب، قد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة أن أول شيء بدأ به (رسول الله صلى الله عليه وسلم) حين قدم مكة أنه توضأ، فذكر الحديث. قال الحافظ: قوله " فإن رجلاً كان يخبر " عني به ابن عباس، فإنه كان يذهب إلى أن من لم يسق الهدي وأهل بالحج إذا طاف يحل من حجه وأن من أراد أن يستمر على حجه لا يقرب البيت حتى يرجع من عرفة، وكان يأخذ ذلك من أمر النبي صلى الله عليه وسلم لمن لم يسق الهدي من أصحابه أن يجعلوها عمرة، قال الحافظ: هذا مذهب لابن عباس خالفه فيه الجمهور، ووافقه فيه ناس قليل منهم إسحاق بن راهويه، وجواب الجمهور عن مأخذه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يفسخوا حجهم فيجعلوه عمرة، ثم اختلفوا فذهب الأكثر إلى أن ذلك كان خاصًا بهم، وذهب طائفة إلى أن ذلك جائز لمن بعدهم، واتفقوا كلهم أن من أهل بالحج مفردًا لا يضره الطواف بالبيت، وبذلك احتج عروة في حديث الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالطواف ولم يحل من حجه ولا صار عمرة، وكذا أبو بكر وعمر (أن أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ) قال القاري: أي جدد الوضوء لما تقدم أنه كان يغتسل فلا دلالة فيه على كون الطهارة شرطًا لصحة الطواف لأن مشروعيتها مجمع عليها، وإنما الخلاف في صحة الطواف بدونها، فعندنا أنها واجبة، والجمهور على أنها شرط – انتهى. وترجم البخاري لهذا الحديث " باب الطواف على وضوء ". قال الحافظ: أورد فيه حديث عائشة " أن أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم أنه توضأ ثم طاف " الحديث. وليس فيه دلالة على الاشتراط إلا إذا انضم إليه

ص: 85

..............................................................................................

ــ

قوله صلى الله عليه وسلم: " خذوا عني مناسككم " وباشتراط الوضوء للطواف قال الجمهور وخالف فيه بعض الكوفيين، ومن الحجة عليهم قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة لما حاضت " غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري ". وقال في شرح حديث عائشة هذا: هو ظاهر في نهي الحائض عن الطواف حتى ينقطع دمها وتغتسل، لأن النهي في العبادات يقتضي الفساد، وذلك يقتضي بطلان الطواف لو فعلته، وفي معنى الحائض الجنب والمحدث وهو قول الجمهور. وذهب جمع من الكوفيين إلى عدم الاشتراط. قال ابن أبي شيبة: حدثنا غندر حدثنا شعبة: سألت الحكم وحمادًا ومنصورًا وسليمان عن الرجل يطوف بالبيت على غيره طهارة فلم يروا به بأسًا، ورُوي عن عطاء إذا طافت المرأة ثلاثة أطواف فصاعدًا ثم حاضت أجزأ عنها، ففي هذا تعقب على النووي حيث قال في شرح المهذب: انفرد أبو حنيفة بأن الطهارة ليست بشرط في الطواف: واختلف أصحابه في وجوبها وجبرانه بالدم إن فعله – انتهى. قال الحافظ: " ولم ينفردوا بذلك كما ترى فلعله أراد انفرادهم عن الأئمة الثلاثة "، لكن عند أحمد رواية أن الطهارة للطواف واجبة تجبر بالدم، وعند المالكية قول يوافق هذا – انتهى. قلت: والذي جزم به الدردير والدسوقي من المالكية هو اشتراط الطهارة حيث قال الدردير: للطواف مطلقًا ركنًا أو واجبًا أو مندوبًا شروط أولها كونه أشواطًا سبعًا، وثانيها كونه متلبسًا بالطهارتين أي طهارة الحدث والخبث – انتهى. وقال الباجي في شرح قول ابن عمر: المرأة الحائض تهل بحجها أو عمرتها إذا أرادت ولكن لا تطوف بالبيت، لأن الطواف بالبيت ينافيه ولذلك يفسده الحيض والنفاس ويمنع صحته وتمامه لأن من شرطه الطهارة – انتهى. وقال ابن قدامة: ويكون طاهرًا في ثياب طاهرة يعني في الطواف لأن الطهارة من الحدث والنجاسة والستارة شرائط لصحة الطواف في المشهور عن أحمد وهو قول مالك والشافعي، وعن أحمد أن الطهارة ليست بشرط فمتى طاف للزيارة غير متطهر أعاد ما كان بمكة، فإن خرج إلى بلده جبره بدم، وكذلك يخرج في الطهارة من النجس والستارة، وعنه فيمن طاف للزيارة وهو ناس للطهارة لا شيء عليه – انتهى. وبسط الكلام في ذلك الولي العراقي في طرح الثريب (ج5: ص 120، 121) وكذا الساعاتي في شرح المسند (ج 12: ص 14) وقال النووي في شرح مسلم تحت حديث عائشة الذي أشار إليه الحافظ: فيه دليل على أن الطواف لا يصح من الحائض، وهذا مجمع عليه، لكن اختلفوا في علته على حسب اختلافهم في اشتراط الطهارة للطواف، فقال مالك والشافعي وأحمد هي شرط، وقال أبو حنيفة: ليست بشرط، وبه قال داود، فمن شرط الطهارة قال: العلة في بطلان الطواف عدم الطهارة، ومن لم يشترطها قال: العلة فيه كونها ممنوعة من اللبث في المسجد – انتهى. قال الولي العراقي بعد ذكره: فيه نظر فإن أبا حنيفة يصحح الطواف كما هو معروف عنه، وكما حكاه هو عنه في شرح المهذب، ولا يلزم من ارتكاب المحرم في اللبث في المسجد بطلان الطواف – انتهى. وقال ابن الهمام في شرح الهداية: والحاصل أن حرمة الطواف من وجهين دخولها المسجد وترك واجب الطواف، فإن الطهارة واجبة في

ص: 86

ثم طاف بالبيت، ثم لم تكن عمرة،

ــ

الطواف فلا يحل لها أن تطوف حتى تطهر فإن طافت كانت عاصية مستحقة لعقاب الله تعالى ولزمها الإعادة (ثم طاف بالبيت) أي طواف القدوم، قاله الطيبي. وقال القاري: أي طواف العمرة لكونه قارنًا أو متمتعًا ولا يخفى ما فيه. وقال في اللباب: ثم إن كان المحرم مفردًا بالحج وقع طوافه هذا للقدوم، وإن كان مفردًا بالعمرة أو متمتعًا أو قارنًا وقع عن طواف العمرة نواه له أو لغيره، وعلى القارن أن يطوف طوافًا آخر للقدوم – انتهى. قال القاري: أي استحبابًا بعد فراغه عن سعي العمرة – انتهى. وأول وقته حين دخوله مكة وآخره قبل وقوفه بعرفة فإذا وقف فقد فات وقته ويسن هذا الطواف للآفاقي لأنه القادم ويسمي أيضًا طواف التحية لأنه بمنزلة تحية المسجد شرع تعظيمًا للبيت ويسمى طواف اللقاء وطواف أول عهد بالبيت وطواف الورود. والحديث يدل على مشروعية طواف القدوم ولا اختلاف فيه. قال الحافظ: في هذا الحديث استحباب الابتداء بالطواف للقادم لأنه تحية المسجد الحرام. واستثنى بعض الشافعية ومن وافقه المرأة الجميلة أو الشريفة التي لا تبرز فيستحب لها تأخير الطواف إلى الليل إن دخلت نهارًا، وكذا من خاف فوت مكتوبة أو جماعة مكتوبة أو مؤكدة أو فائتة، فإن ذلك كله يقدم على الطواف، وذهب الجمهور إلى أن من ترك طواف القدوم لا شيء عليه، وعن مالك وأبي ثور من الشافعية عليه دم، وهل يتداركه من تعمد تأخيره بغير عذر؟ وجهان كتحية المسجد. وقال النووي: جميع العلماء يقولون إن طواف القدوم سنة ليس بواجب إلا بعض أصحابنا ومن وافقه فيقولون واجب يجبر تركه بالدم، والمشهور أنه سنة ليس بواجب ولا دم في تركه – انتهى. وقال الشوكاني: قد اختلف في وجوب طواف القدوم فذهب مالك وأبو ثور وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه فرض أي واجب لقوله تعالى {وليطوفوا بالبيت العتيق} (22: 29) ولفعله صلى الله عليه وسلم وقوله: " خذوا عني مناسككم " فذهب الأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد إلى أنه سنة، قالوا لأنه ليس فيه إلا فعله صلى الله عليه وسلم وهو لا يدل على الوجوب. وأما الاستدلال على الوجوب بالآية فقال شارح البحر: إنها لا تدل على طواف القدوم لأنها في طواف الزيارة أي الإفاضة إجماعًا، قال الشوكاني: والحق الوجوب لأن فعله صلى الله عليه وسلم مبين لمجمل واجب هو قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} (3: 97) وقوله صلى الله عليه وسلم: خذوا عني مناسككم. وقوله: حجوا كما رأيتموني أحج. وهذا الدليل يستلزم وجوب كل فعل فعله النبي صلى الله عليه وسلم في حجه إلا ما خصه دليل، فمن ادعى عدم وجوب شيء من أفعاله في الحج فعليه الدليل على ذلك، وهذه كلية فعليك بملاحظتها في جميع الأبحاث التي ستمر بك (ثم لم تكن) بالتأنيث (عمرة) بالرفع وكان تامة، أي لم يوجد بعد الطواف عمرة، وقد ينصب أي لم يكن الطواف عمرة، كذا في اللمعات. وقال الحافظ: معنى قوله " ثم لم تكن عمرة " أي لم تكن الفعلة عمرة هذا إن كان بالنصب على أنه خبر كان، ويحتمل أن تكون كان تامة والمعنى: ثم لم تحصل عمرة، وهي على هذا بالرفع، وقد وقع في رواية مسلم بدل عمرة " غيره " بغين معجمة وياء ساكنة وآخره هاء، قال عياض: وهو

ص: 87

ثم حج أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرة، ثم عمر، ثم عثمان مثل ذلك. متفق عليه.

2588 – (4) وعن ابن عمر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم سعى ثلاثة أطواف ومشى أربعة، ثم سجد سجدتين، ثم يطوف بين الصفا والمروة.

ــ

تصحيف، وقال النووي: لها وجه أي لم يكن غير الحج، وكذا وجه القرطبي – انتهى. وقال التوربتشي: قوله ((ثم لم تكن عمرة)) أي لم يحل عن إحرامه ذلك ولم يجعلها عمرة، والمراد من قوله ((ثم لم يكن غيره)) أي لم يكن هناك تحلل بالطواف من الإحرام بل أقام على إحرامه حتى نحر هديه (ثم حج أبو بكر) أي بعده صلى الله عليه وسلم (فكان أول شيء) بالرفع (ثم عمر ثم عثمان مثل ذلك) قال القاري: بالنصب أي فعلا مثل ذلك، وفي نسخة بالرفع أي فعلهما مثل ذلك وقوله ((ثم عمر ثم عثمان مثل ذلك)) كذا في جميع النسخ، وهكذا في المصابيح، ولفظ الصحيحين ((ثم عمر مثل ذلك ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به بالطواف بالبيت ثم لم يكن عمرة)) وفي مسلم ((لم يكن غيره)) قال الداودي: ما ذكر من حج عثمان هو من كلام عروة وما قبله من كلام عائشة. وقال أبو عبد الملك: منتهى حديث عائشة عند قوله ((ثم لم تكن عمرة)) ومن قوله ((ثم حج أبو بكر)) إلخ. من كلام عروة – انتهى. قال الحافظ: فعلى هذا يكون بعض هذا منقطعًا لأن عروة لم يدرك أبا بكر ولا عمر، نعم أدرك عثمان، وعلى قول الداودي يكون الجميع متصلاً وهو الأظهر – انتهى. (متفق عليه) قد عرفت مما قدمنا أن مسلمًا رواه مطولاً والبخاري مختصرًا دون قصة الرجل أي حذف صورة السؤال وجوابه، واقتصر على المرفوع منه كما في المشكاة، والحديث أخرجه البيهقي مطولاً من طريق مسلم.

2588 – قوله (إذا طاف في الحج أو العمرة) كذا عند البخاري بحرف ((أو)) وعند مسلم ((في الحج والعمرة)) أي بالواو، والظاهر أن أو للتنويع (أول ما يقدم) ظرف (سعى) جواب للشرط. قال القاري: ولا يبعد أن يكون ظرف طاف. قلت: ويقويه رواية مسلم بلفظ: كان إذا طاف في الحج والعمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاث أطواف بالبيت. والمراد بالسعي الرمل كما في الروايات الأخرى (ثلاث أطواف) أي أشواط ونصبه على أنه مفعول فيه (ثم سجد سجدتين) أي صلى ركعتين للطواف (ثم يطوف) أي يسعى، والتعبير بالمضارع فيه وفي ((يقدم)) لحكاية الحال الماضية، وفي رواية لابن عمر عند الشيخين ((كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثًا ومشى أربعًا)) ، وفيها وفي رواية الباب دليل على أن الرمل إنما يشرع في طواف القدوم لأنه الطواف الأول، وهو الذي عليه الجمهور. قال أصحاب الشافعي: ولا يستحب الرمل إلا في طواف واحد في حج أو عمرة، أما إذا طاف في غير حج أو عمرة فلا رمل. قال النووي: بلا خلاف. ولا يشرع أيضًا في كل طوافات الحج بل إنما يشرع في واحد منها، وفيه قولان

ص: 88

.............................................................................................

ــ

مشهوران للشافعي أصحهما طواف يعقبه سعي ويتصور ذلك في طواف القدوم وفي طواف الإفاضة، ولا يتصور في طواف الوداع، والقول الثاني: أنه لا يشرع إلا في طواف القدوم، وسواء أراد السعي بعده أم لا، ويشرع في طواف العمرة إذ ليس فيها إلا طواف واحد، وفيها أيضًا دليل على أن السنة أن يرمل في الثلاثة الأول من أول طواف يطوفه القادم إلى مكة سواء كان عمرة أو طواف قدوم في حج ويمشي على عادته في الأشواط الأربعة الباقية ولا يرمل فيها وإن ترك الرمل في الأشواط الأول لم يقضه في الأشواط الأخيرة على الصواب ولا يلزم بتركه دم على الأظهر لعدم الدليل خلافًا لمن أوجب فيه الدم. قال الحافظ في الفتح: لا يشرع تدارك الرمل، فلو تركه في الثلاث لم يقضه في الأربع لأن هيأتها السكينة فلا تغير، ويختص بالرجال فلا رمل على النساء ويختص بطواف يعقبه سعي على المشهور، ولا فرق في استحبابه بين ماش وراكب ولا دم بتركه عند الجمهور، واختلف في ذلك المالكية. قال الشوكاني: وقد رُوي عن مالك أن عليه دمًا ولا دليل على ذلك. ثم قال: يؤيده أنهم اقتصروا عند مراآة المشركين على الإسراع إذا مروا من جهة الركنين الشاميين، لأن المشركين كانوا بإزاء تلك الناحية يعني ناحية الحجر، فإذا مروا بين الركنين اليمانيين مشوا على هيأتهم كما هو مبين في حديث ابن عباس (عند الشيخين) ولما رملوا في حجة الوداع أسرعوا في جميع كل طوفة فكانت سنة مستقلة. وقال الطبري: قد ثبت أن الشارع سعى ولا مشرك يومئذ بمكة يعني في حجة الوداع فعلم أنه من مناسك الحج إلا أن تاركه ليس تاركًا لعمل بل لهيأة مخصوصة فكان كرفع الصوت بالتلبية فمن لبى خافضًا صوته لم يكن تاركًا للتلبية بل لصفتها ولا شيء عليه – انتهى. قال النووي: ولو لم يمكنه الرمل بقرب الكعبة وأمكنه إذا تباعد عنها فالأولى أن يتباعد ويرمل، لأن فضيلة الرمل هيأة للعبادة في نفسها والقرب من الكعبة هيأة في موضع العبادة لا في نفسها، فكان تقديم ما تعلق بنفسها أولى. تنبيه: إن قيل: ما الحكمة في الرمل بعد زوال علته التي شرع من أجلها، والغالب اطراد العلة وانعكاسها بحيث يدور معها المعلل بها وجودًا وعدمًا. فالجواب أن بقاء حكم الرمل مع زوال علته لا ينافي أن لبقائه علة أخرى، وهي أن يتذكر به المسلمون نعمة الله عليهم حيث كثرهم وقواهم بعد القلة والضعف كما قال الله تعالى:{واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره} (8: 26) الآية. وقال تعالى عن نبيه شعيب: {واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم} (7: 86) وصيغة الأمر في قوله ((اذكروا)) في الآيتين تدل على تحتم ذكر النعمة بذلك، وإذًا فلا مانع من كون الحكمة في بقاء حكم الرمل هي تذكر نعمة الله بالقوة بعد الضعف والكثرة بعد القلة، وقد أشار إلى هذا الحافظ في الفتح كما سيأتي. ومما يؤيده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع بعد زوال العلة المذكورة فلم يمكن بعد ذلك تركه لزوالها. قال الحافظ: إن عمر كان هم بترك الرمل في الطواف لأنه عرف سببه وقد انقضى، فهم أن يتركه لفقد سببه، ثم رجع عن ذلك الاحتمال أن تكون له حكمة ما اطلع عليها فرأى أن الإتباع أولى من طريق المعنى. وأيضًا إن فاعل ذلك إذا فعله تذكر السبب الباعث على ذلك فيتذكر نعمة الله على

ص: 89

متفق عليه.

2589 – (5) وعنه، قال: رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم

ــ

إعزاز الإسلام وأهله – انتهى. وقال الشاه ولي الله الدهلوي: إن مشروعية الرمل والاضطباع في الطواف لمعان، منها ما ذكره ابن عباس من إخافة قلوب المشركين وإظهار صولة المسلمين، وكان أهل مكة يقولون: وهنتهم حمى يثرب، فهو فعل من أفعال الجهاد، وهذا السبب قد انقضى ومضى، ومنها تصوير الرغبة في طاعة الله وأنه لم يزده السفر الشاسع والتعب العظيم إلا شوقًا ورغبة كما قال الشاعر:

إذا اشتكت من كلال السير واعدها _

روح الوصال فتحيى عند ميعاد

وكان عمر رضي الله عنه أراد أن يترك الرمل والاضطباع لانقضاء سببهما، ثم تفطن إجمالاً أن لهما سببًا آخر غير منقض فلم يتركهما – انتهى. وفي الحديث دليل لما أجمع عليه العلماء من مشروعية صلاة ركعتين بعد الطواف واختلفوا هل هما واجبتان أم سنتان، والصحيح عند الحنفية أنهما واجبتان، والأصح عند الشافعية أنهما سنة. واستدل للوجوب بصيغة الأمر في قوله تعالى:{اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} (2: 125) على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي. قيل: والنبي صلى الله عليه وسلم لما طاف قرأ هذه الآية الكريمة وصلى ركعتين خلف المقام ممتثلاً بذلك الأمر، وقد قال صلى الله عليه وسلم ((خذوا عني مناسككم)) والأمر في قوله ((واتخذوا)) على القراءة المذكورة يقتضى الوجوب. وأجيب عن ذلك الاستدلال بأن الأمر في الآية إنما هو باتخاذه المصلى لا بالصلاة، وقد قال: الحسن البصري وغيره أن قوله ((مصلى)) أي قبلة، ولا يخفى ما في هذا الجواب من التعسف، واستدل لعدم الوجوب بحديث ضمام بن ثعلبة لما قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أخبره بالصلوات الخمس: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع، ففي هذا الحديث التصريح بأنه لا بجب شيء من الصلاة غير الخمس المكتوبة. وقد يجاب عن هذا الاستدلال بأن الأمر بصلاة ركعتي الطواف وارد بعد قوله صلى الله عليه وسلم: لا إلا أن تطوع، قال النووي: وفي قوله ((ثم يطوف بين الصفا والمروة)) دليل على وجوب الترتيب بين الطواف والسعي، وأنه يشترط تقدم الطواف على السعي، فلو قدم السعي لم يصح السعي، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وفيه خلاف ضعيف لبعض السلف (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي.

2589-

قوله (رَمَل رسول الله صلى الله عليه وسلم) الرَّمَل بفتح الراء والميم في الاسم والفعل الماضي: سرعة المشي مع تقارب في الخطو، والخبب هو الإسراع في المشي مع هز المنكبين دون وثب هكذا فسره أكثر المفسرين. وقال بعضهم: الخبب هو وثب في المشي مع هز المنكبين، والهرولة ما بين المشي والعدو، والسعي يقع على الجميع، فلهذا يقال سعي خفيف وسعي شديد فيحمل السعي المذكور في الحديث المتقدم على الرمل والخبب جمعًا بينهما، هكذا ذكره الطبري وقال

ص: 90

من الحجر إلى الحجر ثلاثًا، ومشى أربعًا، وكان يسعى ببطن المسيل

ــ

الشنقيطي: الرمل مصدر رمَل بفتح الميم يرمُل بضمها رمَلاً بفتح الميم ورملانًا إذا أسرع في مشيته وهز منكبيه وهو في ذلك لا ينزو أي لا يثب وهو الخبب، ولذا جاء في بعض روايات الحديث رمل، وفي بعضها خبّ، والمعنى واحد (من الحجر) أي الأسود (إلى الحجر) هذا نص في استيعاب الرمل لجميع الطوفة يعني في مشروعية الرمل في جميع المطاف من الحجر إلى الحجر، وحديث ابن عباس المروي في بيان سبب الرمل نص في عدم الاستيعاب وأن يمشوا ما بين الركنين اليمانيين، والجواب عن هذا الاختلاف أن حديث ابن عباس الذي فيه أنهم مشوا ما بين الركنين كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، وما في الروايات الأخرى من الرمل من الحجر إلى الحجر في حجة الوداع سنة عشر فهو ناسخ لحديث ابن عباس وقيل إن الرمل سنة فعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء في استيعاب الرمل بجميع الطوفة لضعفهم بالحمى، قال الباجي: إن جابراً عاين ما روى عام حجة الوداع وابن عباس إنما روى عن غيره فإنه لم يشاهد عام القضية لصغره مع أنه يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ترك رمل ما بين الركنين وإن كان مشروعاً لحاجته إلى الإبقاء على أصحابه، فلما ارتفعت هذه العلة لزم استدامة الرمل المشروع – انتهى. وقال ابن قدامة: الرمل سنة في الأشواط الثلاثة بكمالها يرمل من الحجر إلى أن يعود إليه، لا يمشي في شيء منها، روى ذلك عن عمر وابنه وابن مسعود وابن الزبير، وبه قال عروة والنخعي ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي. وقال طاوس وعطاء والحسن وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله: يمشي ما بين الركنين لرواية ابن عباس. ولنا ما روى ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر إلى الحجر، وحديث جابر عند مسلم " قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف ". وهذا يقدم على حديث ابن عباس لوجوه، الأول: أنه مثبت. والثاني: أن رواية ابن عباس إخبار عن عمرة القضية، وهذا إخبار عن حجة الوداع فيكون متأخرًا ويجب العمل به. والثالث: أن ابن عباس كان في تلك الحال صغيرًا. والرابع: أن جلة الصحابة عملوا بما ذكرنا، ولو علموا من النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ابن عباس ما عدلوا عنه إلى غيره، ويحتمل أن ما رواه ابن عباس يختص بالذين كانوا في عمرة القضية لضعفهم والإبقاء عليهم، وما رويناه سنة في سائر الناس – انتهى. ويظهر من كلام ابن حزم في المحلى أنه مال إلى أن الرمل من الحجر الأسود إلى الركن اليماني وفيما بينهما جائز (وكان يسعى) أي يسرع ويشتد عدوًا، قاله القاري. واعلم أن السعي في كلامهم يطلق على معنيين، الأول: المشي بين الصفا والمروة وهو المذكور في كلامهم إذا أطلقوا السعي بين الصفا والمروة. والثاني: شدة المشي بين الميلين الأخضرين وهو المراد في هذا الحديث، وهو مندوب وسنة عند الجمهور، منهم الحنفية وهو المرجح عند المالكية (ببطن المسيل) أي المكان الذي يجتمع فيه السيل. قال الحافظ: المراد ببطن المسيل الوادي لأنه موضع السيل. وقال القاري بطن المسيل

ص: 91

إذا طاف بين الصفا والمروة.

ــ

اسم موضع بين الصفا والمروة، وجعل علامته بالأميال الخضر – انتهى. والميلان الأخضران هما العلمان، أحدهما بركن المسجد والآخر بالموضع المعروف بدار العباس، وقد أزيلت الدار للتوسعة، وهما بعد العمارة الجديدة بجداري المسعى. قال النووي: السعي ببطن المسيل مجمع على استحبابه وهو أنه إذا سعى بين الصفا والمروة استحب أن يكون سعيه شديداً في بطن المسيل وهو قدر معروف. وقال ابن قدامة: إن الرمل في بطن الوادي سنة مستحبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم سعى وسعى أصحابه فروت صفية بنت شيبة عن أم ولد شيبة قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى بين الصفا والمروة ويقول: لا يقطع الأبطح إلا شدًا. وليس ذلك بواجب، ولا شيء على تاركه، فإن ابن عمر قال: إن أسع بين الصفا والمروة فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى، وإن أمش فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وأنا شيخ كبير، رواهما ابن ماجة وروى هذا أبو داود، ولأن ترك الرمل في الطواف بالبيت لا شيء فيه فبين الصفا والمروة أولى – انتهى. وكذلك عند الحنفية والمالكية كما صرح به في فروعهم. تنبيه: قيل في وجه مشروعية السعي الشديد والجري في بطن الوادي: ما رواه البخاري عن ابن عباس، ومحصله: أن هاجر لما تركها إبراهيم عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد عطشت وعطش ابنها حين نفد ما في السقاء من الماء وانقطع درها واشتد جوعهما حتى نظرت إلى ابنها يتشحط ويتلوى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فقامت على الصفا وهو أقرب جبل يليها، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فلذلك سعى الناس بينهما. فجعل ذلك نسكًا إظهارًا لشرفهما وتفخيمًا لأمرهما. قال الشاه ولي الله الدهلوي: السر في السعي بين الصفا والمروة على ما ورد في الحديث أن هاجر أم إسماعيل عليه السلام لما اشتد بها الحال سعت بينهما سعي الإنسان المجهود فكشف الله عنهما الجهد بإبداء زمزم وإلهام الرغبة في الناس أن يعمروا تلك البقعة، فوجب شكر تلك النعمة على أولاده ومن تبعهم، وتذكر تلك الآية الخارقة لتبهت بهيمتهم وتدلهم على الله، ولا شيء في هذا مثل أن يعضد عقد القلب بهما بفعل ظاهر منضبط مخالف لمألوف القوم فيه تذلل عند أول دخولهم مكة، وهو محاكاة ما كانت فيه من العناء والجهد، وحكاية الحال في مثل هذا أبلغ بكثير من لسان المقال – انتهى. وروى أحمد عن ابن عباس أن إبراهيم عليه السلام لما أمر بالمناسك عرض الشيطان له عند السعي فسابقه فسبقه إبراهيم. وقبل: إنما سعى نبينا صلى الله عليه وسلم إظهارًا للجلد والقوة للمشركين الناظرين إليه في الوادي، وهذا كان في عمرة القضاء، ثم بقي بعده كالرمل في الطواف إذ لم يبق في حجة الوداع مشرك بمكة (إذا طاف بين الصفا والمروة) أي سعى بينهما، واختلف

ص: 92

رواه مسلم.

2590 – (6) وعن جابر، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة، أتى الحجر فاستلمه، ثم مشى على يمينه،

ــ

أهل العلم في حكم السعي على ثلاثة أقوال، أحدها: أنه ركن لا يصح الحج، إلا به، وهو قول ابن عمر وعائشة وجابر، وبه قال الشافعي ومالك في المشهور، وأحمد في أصح الروايتين عنه، وإسحاق وأبو ثور، والقول الثاني: أنه واجب يجبر بدم، وبه قال الثوري وأبو حنفية ومالك في العتبية كما حكاه ابن العربي، والثالث: أنه ليس بركن ولا واجب بل هو سنة ومستحب، وهو قول ابن عباس وابن سيرين وعطاء ومجاهد وأحمد في رواية، قال الحافظ في الفتح بعد ذكر الأقوال الثلاثة المذكورة: واختلف عن أحمد كهذه الأقوال الثلاثة، وعند الحنفية تفصيل فيما إذا ترك بعض السعي كما هو عندهم في الطواف بالبيت. وقال ابن قدامة: اختلفت الرواية في السعي، فرُوي عن أحمد أنه ركن لا يتم الحج إلا به، وهو قول عائشة وعروة ومالك والشافعي لما رُوي عن عائشة، قالت: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون يعني بين الصفا والمروة فكانت سنة، ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة، رواه مسلم. ثم ذكر حديث صفية بنت شيبة الآتي من رواية ابن ماجة وفيه " سمعته يقول: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ". وسيأتي الكلام عليه، ورُوي عن أحمد أنه سنة لا يجب بتركه دم، رُوي ذلك عن ابن عباس وأنس وابن الزبير وابن سيرين، لقول الله تعالى {فلا جناح أن يطوف بهما} (2: 185) ونفي الحرج عن فاعله دليل على عدم وجوبه، فإن هذا رتبة المباح وإنما تثبت سنيته بقوله " من شعائر الله " ورُوي أن في مصحف أُبيّ وابن مسعود " فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ". وهذا إن لم يكن قرآنًا فلا ينحط عن رتبة الخبر لأنهما يرويانه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال القاضي: هو واجب وليس بركن، إذا تركه وجب عليه دم، وهو مذهب الحسن وأبي حنيفة والثوري، وهو أولى، لأن دليل من أوجبه دل على مطلق الوجوب لا على كونه لا يتم الحج إلا به، وقول عائشة في ذلك معارض بقول من خالفها من الصحابة، وحديث صفية بنت شيبة عن أبي تجراة، قال ابن المنذر: يرويه عبد الله بن المؤمل وقد تكلموا في حديثه، ثم هو يدل على أنه مكتوب وهو الواجب وأما الآية فإنها نزلت لما تحرج ناس من السعي في الإسلام لما كانوا يطوفون بينهما في الجاهلية لأجل صنمين كانا على الصفا والمروة، كذلك قالت عائشة – انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في مسألة السعي في شرح حديث صفية بنت شيبة عن بنت أبي تجراة (رواه مسلم) . قال صاحب تنقيح الرواة: أخرجه أيضًا أحمد والبخاري ثلاثتهم في حديثين، فالحديث متفق عليه، أخرجه البيهقي كذلك.

2590-

قوله (لما قدم مكة أتى الحجر) أي الأسود وهو في ركن الكعبة القريب بباب البيت من جانب الشرق وارتفاعه من الأرض ذراعان وثلثا ذراع (فاستلمه) أي لمسه وقبله (ثم مشى على يمينه) أي يمين نفسه مما يلي الباب،

ص: 93

فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا. رواه مسلم.

2591 -

(7) وعن الزبير بن عربي، قال: سأل رجل ابن عمر عن استلام الحجر. فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه

ــ

وقيل على يمين الحجر، والمعنى يدور حول الكعبة على يساره. وفيه دليل على أنه يستحب أن يكون ابتداء الطواف من الحجر الأسود بعد استلامه، وحكى في البحر عن الشافعي أن ابتداء الطواف من الحجر الأسود فرض. وفيه أيضًا دليل على مشروعية مشى الطائف بعد استلام الحجر على يمينه جاعلاً للبيت عن يساره، وقد ذهب إلى أن هذه الكيفية شرط لصحة الطواف الأكثر، قالوا: فلو عكس لم يجزه. قال الشوكاني: ولا يخفاك أن الحكم على بعض أفعاله صلى الله عليه وسلم في الحج بالوجوب لأنها بيان لمجمل واجب، وعلى بعضها بعدمه تحكم محض لفقد دليل يدل على الفرق بينهما (فرمل ثلاثًا) أي في ثلاث مرات من الأشواط (ومشى أربعًا) أي بالسكون والهينة. قال النووي: في هذا الحديث أن السنة للحاج أن يبدأ أول قدومه بطواف القدوم ويقدمه على كل شيء وأن يستلم الحجر الأسود في أول طوافه، وأن يرمل في ثلاث طوفات من السبع ويمشى في الأربع الأخيرة، (رواه مسلم) . وأخرجه أيضًا النسائي والترمذي والبيهقي.

2591-

قوله (وعن الزبير بن عرَبيّ) بفتح الراء بعدها موحدة ثم ياء مشددة، النمري أبو سلمة البصري تابعي ثقة قال الحافظ في تهذيب التهذيب: روى عن ابن عمر، وعنه ابنه إسماعيل وحماد بن زيد وسعيد بن زيد ومعمر، قال الأثرم عن أحمد: أراه لا بأس به. وقال ابن معين: ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس. أخرج البخاري والترمذي والنسائي له حديثًا واحدًا في استلام الحجر، وذكره ابن حبان في الثقات – انتهى. تنبيه: قال الحافظ في الفتح: قال أبو علي الجياني: وقع عند الأصيلي عن أبي أحمد الجرجاني، الزبير بن عدي بدال مهملة بعدها ياء مشددة وهو وهم وصوابه ((عربي)) براء مهملة بعدها موحدة ثم ياء مشددة كذلك رواه سائر الرواة عن الفربري – انتهى. وكأن البخاري استشعر هذا التصحيف فأشار إلى التحذير منه فحكى الفربري أنه وجد في كتاب أبي جعفر يعني محمد بن أبي حاتم وراق البخاري قال: قال أبو عبد الله يعني البخاري: الزبير بن عربي هذا بصري والزبير بن عدي كوفي – انتهى. هكذا وقع عند أبي ذر عن شيوخه عن الفربري، وعند الترمذي من غير رواية الكروخي عقب هذا الحديث ((الزبير هذا هو ابن عربي، وأما الزبير بن عدي فهو كوفي)) ويؤيده أن في رواية أبي دواد الطيالسي الزبير بن العربي بزيادة الألف ولام، وذلك مما يرفع الإشكال (سأل رجل) قال الحافظ: هو الزبير الرواي كذلك وقع عند أبي داود الطيالسي عن حماد حدثنا الزبير سألت ابن عمر (عن استلام الحجر) أي هو سنة؟ (يستلمه) أي باللمس ووضع اليد عليه، قاله القاري. وقال في اللمعات: الاستلام يتناول اللمس والتقبيل بعده فذكر التقبيل بعد الاستلام في حكم ذكر الخاص بعد العام، أو يراد هنا اللمس بقرينه ذكر

ص: 94

ويقبله. رواه البخاري.

2592 – (8) وعن ابن عمر، قال: لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين.

ــ

التقبيل بعده – انتهى. والمراد أن يستلمه بيمينه فإن عجز فبيساره أي يمسحه بها (ويقبله) قال الشوكاني: فيه دليل على أنه يستحب الجمع بين استلام الحجر وتقبيله، والاستلام المسح باليد والتقبيل لها، كما في حديث نافع، قال: رأيت ابن عمر استلم الحجر بيده ثم قبل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. قال الحافظ: يستفاد منه استحباب الجمع بين الاستلام والتقبيل بخلاف الركن اليماني فيستلمه فقط. والاستلام المسح باليد. والتقبيل يكون بالفم فقط. وروى الشافعي من وجه آخر عن ابن عمر قال: استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الحجر فاستلمه ثم وضع شفتيه عليه طويلاً يبكي – الحديث. واختص الحجر الأسود بذلك لاجتماع الفضيلتين له كما تقدم. وقال الطبري بعد ذكر رواية الشافعي: والعمل على هذا عند أهل العلم في كيفية التقبيل من غير تصويت كما يفعله كثير من الناس. وقال الحافظ: المستحب في التقبيل أن لا يرفع به صوته، وروى الفاكهي عن سعيد بن جبير قال: إذا قبلت الركن فلا ترفع بها صوتك كقبلة النساء – انتهى. قلت: أباح التقبيل بالصوت غير واحد من المالكية خلافًا للجمهور. (رواه البخاري) وأخرجه أيضًا النسائي وأبو داود الطيالسي والبيهقي وعزاه الحافظ في تهذيبه للترمذي أيضًا كما تقدم، وليس هو قي رواية الكروخي للترمذي.

2592-

قوله (لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت) أي من أركانه أو من أجزائه (إلا الركنين اليمانيين) أي دون الركنين الشاميين، واليماني بتخفيف الياء على المشهور لأن الألف عوض عن ياء النسب فلو شددت لكان جمعًا بين العوض والمعوض، وجوز سيبويه التشديد وقال: إن الألف زائدة، كذا في الفتح، وقال الشيخ الدهلوي: الأشهر في اليمانيين تخفيف الياء وقد يشدد، والأصل في النسبة يمني، وقد جاء يمان بمعنى النسبة. والمراد بالركنين اليمانيين الركن الأسود والركن اليماني الذي يليه من نحو دور الجمحيين، وإنما قيل لهما اليمانيان للتغليب كما في الأبوين والقمرين والعمرين وأمثالها، والركنان الآخران أحدهما شامي وثانيهما عراقي، ويقال لهما الشاميان تغليبًا. وإنما اقتصر صلى الله عليه وسلم على استلام اليمانيين لما ثبت في الصحيحين من قول ابن عمر: أنهما على قواعد إبراهيم دون الشاميين ولهذا كان ابن الزبير بعد عمارته للكعبة على قواعد إبراهيم يستلم الأركان كلها كما روى ذلك عنه الأزرقي في كتاب مكة، فعلى هذا يكون للركن الأول من الأركان الأربعة فضيلتان: كون الحجر الأسود فيه، وكونه على قواعد إبراهيم. وللثاني الثانية فقط. وليس للآخرين أعنى الشاميين شيء منهما فلذلك يقبل الأول ويستلم الثاني فقط، ولا يقبل الآخران ولا يستلمان على رأي الجمهور، وروى ابن المنذر وغيره استلام الأركان جميعًا عن جابر وأنس والحسن والحسين من الصحابة وعن

ص: 95

متفق عليه.

2593 -

(9) وعن ابن عباس، قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير،

ــ

سويد بن غفلة من التابعين، وقد أخرج البخاري ومسلم ((أن عبيد بن جريج قال لابن عمر: رأيتك تصنع أربعًا لم أر أحدًا من أصحابك يصنعها)) فذكر منها ((ورأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين)) وفيه دليل على أن الذين رآهم عبيد ابن جريج من الصحابة والتابعين كانوا لا يقتصرون في الاستلام على الركنين اليمانيين. وقال بعض أهل العلم: اختصاص الركنين مبين بالسنة ومسند التعميم القياس، كذا في النيل والفتح. وقال القاضي أبو الطيب: أجمع أئمة الأمصار والفقهاء على أن الركنين الشاميين لا يستلمان، قال: وإنما كان فيه خلاف لبعض الصحابة والتابعين، وانقرض الخلاف وأجمعوا على أنهما لا يستلمان. وفي رواية لابن عمر عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني. قال النووي: يحتج به الجمهور في أنه يقتصر بالاستلام في الحجر الأسود عليه دون الركن الذي هو فيه خلافًا للقاضي أبي الطيب من الشافعية (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي، وللترمذي معناه من رواية ابن عباس.

2593 – قوله (طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير) كان هذا في طواف الإفاضة يوم النحر أو في طواف الوداع، وأما طوافه ماشيًا فكان في طواف القدوم كما يفيده حديث جابر الطويل. قال الشيخ الدهلوي: إنما طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم راكبًا لكثرة ازدحام الناس وسؤالهم عنه صلى الله عليه وسلم الأحكام، وكانت ناقته محفوظة من الروث والبول فيه. وأما الطواف راكبًا لغيره صلى الله عليه وسلم فجائز أيضًا، والأفضل المشي انتهى. وقال الحافظ: حمل البخاري سبب طوافه صلى الله عليه وسلم راكباً على أنه كان عن شكوى (حيث أدخل حديث ابن عباس في باب المريض يطوف راكباً) وأشار بذلك إلى ما أخرجه أبو داود (وأحمد) من حديث ابن عباس أيضًا بلفظ ((قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته)) . ووقع في حديث جابر عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبًا ليراه الناس وليسألوه، فيحتمل أن يكون فعل ذلك للأمرين وحيئذٍ لا دلالة فيه على جواز الطواف راكبًا لغير عذر، وكلام الفقهاء يقتضى الجواز إلا أن المشي أولى والركوب مكروه تنزيهًا، قال: والذي يترجح المنع، لأن طوافه صلى الله عليه وسلم وكذا أم سلمة كان قبل أن يحوط المسجد، فإذا حوط امتنع داخله، إذ لا يؤمن التلويث فلا يجوز بعد التحويط بخلاف ما قبله، فإنه كان لا يحرم التلويث كما في السعي، قال: وأما طواف النبي صلى الله عليه وسلم راكبًا فللحاجة إلى أخذ المناسك عنه، ولذلك عده بعض من جمع خصائصه فيها واحتمل أيضًا أن تكون راحلته عصمت من التلويث حينئذ كرامة له، فلا يقاس غيره عليه، وأبعد من استدل به على طهارة بول البعير وبعره – انتهى. وسيأتي الكلام في هذا في شرح حديث أم سلمة

ص: 96

يستلم الركن

ــ

في الفصل الثالث. قال ابن قدامة في المغنى (ج 3: ص 397) : لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في صحة طواف الراكب إذا كان له عذر، فإن ابن عباس روى أنه صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن. وعن أم سلمة قالت: شكوت – الحديث، متفق عليهما، وقال جابر: طاف النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة ليراه الناس وليشرف عليهم ليسألوه، فإن الناس غشوه. والمحمول كالراكب فيما ذكرناه. قال: فأما الطواف راكبًا أو محمولاً لغير عذر فمفهوم كلام الخرقي أنه لا يجزئ وهو إحدى الروايات عن أحمد لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الطواف بالبيت صلاة. والثانية: يجزئه ويجبره بدم وهو قول مالك، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه قال: يعيد ما كان بمكة، فإن رجع جبره بدم، لأنه ترك صفة واجبة في ركن الحج. والثالثة: يجزئه ولا شيء عليه، اختارها أبو بكر، وهي مذهب الشافعي وابن المنذر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبًا. قال ابن المنذر: لا قول لأحد مع فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن الله تعالى أمر بالطواف مطلقًا فكيفما أتى به أجزاه. ولا يجوز تقيد المطلق بغير دليل. ولا خلاف في أن الطواف راجلاً أفضل لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم طافوا مشيًا، والنبي صلى الله عليه وسلم في غير حجة الوداع طاف مشيًا، وفي قول أم سلمة: شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أني أشتكي؟ فقال ((طوفي من وراء الناس وأنت راكبة)) دليل على أن الطواف إنما يكون مشيًا، وإنما طاف النبي صلى الله عليه وسلم راكبًا لعذر، فإن ابن عباس روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس يقولون: هذا محمد هذا محمد، حتى خرج العواتق من البيوت، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثروا عليه ركب. رواه مسلم. وكذلك في حديث جابر ((فإن الناس غشوه)) ورُوي عن ابن عباس ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف راكبًا لشكاة به)) وبهذا يعتذر من منع الطواف راكبًا عن طواف النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث الأول (يعني حديث ابن عباس الأول) أثبت. قال: فعلى هذا يكون كثرة الناس وشدة الزحام عذرًا، ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قصد تعليم مناسكهم فلم يتمكن منه إلا بالركوب، والله أعلم – انتهى. وقال النووي في شرح المهذب: قال أصحابنا: الأفضل أن يطوف ماشيًا ولا يركب إلا لعذر مرض أو نحوه أو ما كان ممن يحتاج الناس إلى ظهوره ليستفتى ويقتدى بفعله، فإن طاف بلا عذر جاز بلا كراهية لكنه خالف الأولى، كذا قاله جمهور أصحابنا، وكذا نقله الرافعي عن الأصحاب. وقال إمام الحرمين: في القلب من إدخال البهيمة التي لا يؤمن تلويثها المسجد شيء، فإن أمكن الاستيثاق فذلك، وإلا فإدخالها المسجد مكروه، هذا كلام الرافعي. وجزم جماعة من أصحابنا بكراهة الطواف راكبًا من غير عذر، والمرأة والرجل في الركوب سواء فيما ذكرناه. قال الماوردي: وحكم طواف المحمول على أكتاف الرجال كالراكب فيما ذكرناه. قال: وإذا كان معذورًا فطوافه محمولاً أولى منه راكبًا صيانة للمسجد من الدابة، قال: وركوب الإبل أيسر حالاً من ركوب البغال والحمير (يستلم الركن

ص: 97

بمحجن. متفق عليه.

2594 – (10) وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت على بعير، كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء في يده، وكبر. رواه البخاري.

2595 – (11) وعن أبي الطفيل، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم

ــ

بمحجن) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم بعدها نون هو عصا محنية الرأس، والحجن الاعوجاج، وبذلك سمي الحجون، والمعنى أنه يؤمئ بعصاه إلى الركن حتى يصيبه، قال ابن التين: هذا يدل على قربه من البيت لكن من طاف راكبًا يستحب له أن يبعد إن خاف أن يؤذي أحدًا، فيحمل فعله صلى الله عليه وسلم على الأمن من ذلك – انتهى. ويحتمل أن يكون في حال استلامه قريبًا حيث أمن ذلك وأن يكون في حال إشارته بعيدًا حيث خاف ذلك. وزاد مسلم من حديث أبي الطفيل كما سيأتي ((ويقبل المحجن)) . وله من حديث ابن عمر أنه استلم الحجر بيده ثم قبل يده ورفع ذلك، ولسعيد بن منصور من طريق عطاء قال: رأيت أبا سعيد وأبا هريرة وابن عمر وجابرًا إذا استلموا الحجر قبلوا أيديهم. قيل: وابن عباس؟ قال: وابن عباس. أحسبه قال: كثيرًا. وبهذا قال الجمهور أن السنة أن يستلم الركن ويقبل يده، فإن لم يستطع أن يستلمه بيده استلمه بشيء في يده وقبل ذلك الشيء، فإن لم يستطع أشار إليه واكتفى بذلك، وعن مالك في رواية ((لا يقبل يده)) وكذا قال القاسم بن محمد بن أبي بكر، وفي رواية عند المالكية يضع يده على فمه من غير تقبيل، كذا في الفتح (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.

2594 – قوله (طاف بالبيت على البعير) قال الطبري بعد ذكر الأحاديث التي تدل على إباحة الطواف على الرحلة: هذه الأحاديث تدل على جواز الركوب في الطواف، وخصه مالك بالضرورة استدلالاً بحديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكي وطاف على راحلته)) وبقوله في حديث جابر ((ليراه الناس وليشرف عليهم)) واختاره الشافعي مطلقًا مع كراهية، وعند مالك وأبي حنيفة إن قرب أعاد وإن بعد فعليه دم. (كلما أتى على الركن) أي الحجر الأسود (أشار إليه بشيء) المراد بالشيء المحجن الذي تقدم في الرواية الماضية. قال القاري: وفيه إشارة إلى أن الركن اليماني لا يشار إليه عند العجز عن الاستلام كما هو الصحيح من مذهبنا (في يده) كذا في المشكاة، وهكذا نقله الطبري في القرى والمجد في المنتقى، وفي البخاري ((عنده)) بدل ((في يده)) (وكبر) أي قال: الله أكبر، وفيه استحباب التكبير عند الركن الأسود في كل طوفة. (رواه البخاري) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 264) والترمذي والدارمي وغيرهم.

2595 – قوله (وعن أبي الطفيل) هو عامر بن وثلة بن عبد الله بن عمرو بن جحش الكناني الليثي أبو الطفيل،

ص: 98

يطوف بالبيت، ويستلم الركن بمحجن معه، ويقبل المحجن. رواه مسلم.

2596 – (12) وعن عائشة، قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج، فلما كنا بسرف

ــ

ويقال اسمه عمرو، والأول أصح وهو بكنيته أشهر، وقال المصنف: غلبت عليه كنيته. ولد عام أحد، أدرك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، وكان يسكن الكوفة ثم انتقل إلى مكة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعمر وعليّ وغيرهم من الصحابة والتابعين، وكان من أصحاب على المحبين له وشهد مع مشاهده كلها، وكان ثقة مأمونًا يعترف بفضل أبي بكر وعمر وغيرهما إلا أنه كان يقدم عليًا، وقال ابن سعد: كان أبو الطفيل ثقة في الحديث متشيعًا، وعُمّر إلى أن مات سنة عشر ومائة على الصحيح. وهو آخر من مات من الصحابة، قاله مسلم وغيره (يطوف بالبيت) أي راكبًا (ويقبل المحجن) أي بدل الحجر للماشي، قال الأمير اليماني في السبل: الحديث دال على أنه يجزئ عن استلامه باليد استلامه بآلة ويقبل الآلة كالمحجن والعصا، وكذلك إذا استمله بيده قبَّل يده، فقد روى الشافعي أنه قال ابن جريج لعطاء: هل رأيت أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استلموا قبَّلوا أيديهم؟ قال: نعم؛ رأيت جابر بن عبد الله وابن عمر وأبا سعيد وأبا هريرة إذا استلموا قبَّلوا أيديهم، فإن لم يمكن استلامه لأجل الزحمة قام حياله ورفع يديه وكبر لما رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعفاء، إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر، رواه أحمد والأرزقي. وإذا أشار بيده فلا يقبَّلها لأنه لا يقبل إلا الحجر أو ما مس الحجر – انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 5: ص 454) وأبو داود وابن ماجة.

2596 – قوله (لا نذكر) قال القاري: أي في تلبيتنا أو في محاورتنا، وقال بعضهم: أي لا نقصد (إلا الحج) فإنه الأصل المطلوب، وأما العمرة فإنها أمر مندوب، فلا يلزم من عدم ذكرها في اللفظ عدم وجودها في النية. وقال أيضًا: هذا الحديث بظاهره ينافي قولها السابق ((ولم أهلل إلا بعمرة)) إلا أن يقال: قولها: ((لا نذكر إلا الحج)) أي ما كان قصدنا الأصلي من هذا السفر إلا الحج بأحد أنواعه من القران والتمتع والإفراد، فمنا من أفرد ومنا من قرن ومنا من تمتع وإني قصدت التمتع فاعتمرت، ثم لما حصل لي عذر الحيض واستمر إلى يوم عرفة ووقت وقوف الحج أمرني أن أرفضها وأفعل جميع أفعال الحج إلا الطواف، وكذلك السعي إذ لا يصح إلا بعد الطواف – انتهى. وقال السندي: أرادت (عائشة رضي الله عنها بهذا المقصود الأصلي من الخروج ما كان إلا الحج، وما وقع الخروج إلا لأجله، ومن اعتمر فعمرته كانت تابعة للحج فلا يخالف ما سبق أنها كانت معتمرة وكان في الصحابة رجال معتمرون، ويحتمل أنها حكاية عن غالب من كان معه صلى الله عليه وسلم من الصحابة في ذلك السفر – انتهى. وتقدم شيء من الكلام في هذا في شرح حديث عائشة في باب الإحرام والتلبية (بسرف) بفتح المهملة وكسر الراء بعدها فاء موضع قريب من مكة بينهما نحو عشرة أميال، وهو ممنوع من الصرف

ص: 99

طمثت، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال:" لعلك نفست؟ " قلت: نعم. قال: " فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري ".

ــ

وقد يصرف، قاله الحافظ. وقال النووي: هو ما بين مكة والمدينة بقرب مكة على أميال منها، قيل ستة، وقيل سبعة، وقيل تسعة، وقيل عشرة، وقيل اثني عشر ميلاً - انتهى. وفيه قبر ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اتفق التزوج والبناء بها وموتها في هذا الموضع (طمثت) قال النووي: هو بفتح الطاء وكسر الميم أي حضت، يقال حاضت المرأة وتحيضت وطمثت وعرَكت - بفتح الراء - ونفست وضحكت وأعصرت وأكبرت، كله بمعنى واحد، والاسم منه الحيض والطمث والعراك والضحك والإكبار والإعصار، وهي حائض وحائضة في لغة غربية حكاها الفراء، وطامث وعارك ومكبر ومعصر - انتهى. (وأنا أبكي) أي ظنًا مني أن الحيض يمنع الحج (لعلك نفِست) بفتح النون وضمها لغتان مشهورتان، الفتح أفصح، والفاء مكسورة فيهما، أي حضت، وأما النفاس الذي هو الولادة فيقال فيه نفست - بالضم - لا غير، ذكره النووي (فإن ذلك) بكسر الكاف أي نفاسك بمعنى حيضك (كتبه الله) أي قدره الله (على بنات آدم) قال القاري: فيه تسلية لها، إذ البلية إذا عمت طابت - انتهى. وقال النووي: هذا تسلية لها وتخفيف لهمها، ومعناه أنك لست مختصة به، بل كل بنات آدم يكون منهن هذا كما يكون منهن ومن الرجال البول والغائط. واستدل البخاري في صحيحه في كتاب الحيض بعموم هذا اللفظ على أن الحيض كان في جميع بنات آدم، وأنكر به على من قال إن الحيض أول ما أرسل ووقع في بني إسرائيل. قال الحافظ: وكأنه يشير إلى ما أخرجه عبد الرزاق عن ابن مسعود بإسناد صحيح قال: كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يصلون جميعًا فكانت المرأة تتشوف للرجل، فألقى الله عليهن الحيض ومنعهن المساجد، وعنده عن عائشة نحوه، قال الداودي: ليس بينهما مخالفة، فإن نساء بني إسرائيل من بنات آدم فعلى هذا فقوله ((بنات آدم)) عام أريد به الخصوص. قلت (قائله الحافظ) : ويمكن أن يجمع بينهما مع القول بالتعميم بأن الذي أرسل على نساء بني إسرائيل طول مكثه بهن عقوبة لهن لا ابتداء وجوده، وقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس وغيره أن قوله تعالى في قصة إبراهيم} وامرأته قائمة فضحكت} (11: 71) أي حاضت، والقصة متقدمة على بني إسرائيل بلا ريب؛ وروى الحاكم وابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عباس: أن ابتداء الحيض كان على حواء بعد أن أهبطت من الجنة، وإذا كان كذلك فبنات آدم بناتها - انتهى (غير أن لا تطوفي بالبيت) قال الطيبي: استثناء من المفعول به ولا زائدة (حتى تطهري) أي بانقطاع الدم والاغتسال، وهو بفتح التاء والطاء المهملة وتشديد الهاء أيضًا، وهو على حذف إحدى التائين وأصله تتطهري والمراد بالطهارة الغسل كما وقع في رواية لمسلم حتى تغتسلي، وفي الحديث دليل على أن الحائض والنفساء والمحدث والجنب يصح منهم جميع أفعال الحج وأقواله وهيئاته إلا الطواف وركعتيه، فيصح الوقوف بعرفات وغيره،

ص: 100

متفق عليه.

2597 – (13) وعن أبي هريرة، قال: بعثني أبو بكر في الحجة التي أمره النبي صلى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع، يوم النحر في رهط، أمره أن يؤذن في الناس: " ألا

ــ

وكذلك الأفعال المشروعة في الحج تشرع للحائض وغيرها. وفيه دليل على أن الطواف لا يصح من الحائض. وهذا مجمع عليه. وأما السعي فكالطواف إذ لا يصح إلا بعد الطواف. قال الشوكاني: الحديث ظاهر في نهي الحائض عن الطواف حتى ينقطع دمها وتغتسل والنهي يقتضي الفساد المرادف للبطلان فيكون طواف الحائض باطلاً، وهو قول الجمهور – انتهى. وقد تقدم الكلام في اشتراط الطهارة للطواف في شرح حديث عروة عن عائشة ثالث أحاديث هذا الباب. (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد والنسائي وابن ماجة والبيهقي.

2597 – قوله (بعثني) أي أرسلني (أبو بكر) الصديق، قال الطحاوي في مشكل الآثار: هذا مشكل لأن الأخبار في هذه القصة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعث أبا بكر بذلك، ثم أتبعه عليًا فأمره أن يؤذن فكيف يبعث أبو بكر أبا هريرة ومن معه بالتأذين مع صرف الأمر عنه في ذلك إلى عليّ؟ ثم أجاب بما حاصله أن أبا بكر كان الأمير على الناس في تلك الحجة بلا خلاف، وكان عليّ هو المأمور بالتأذين بذلك، وكأن عليًا لم يطق التأذين بذلك وحده، واحتاج إلى من يعينه على ذلك، فأرسل معه أبو بكر أبا هريرة وغيره ليساعدوه على ذلك، ثم ساق من طريق المحرز بن أبي هريرة عن أبيه قال: كنت مع علي حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ببراءة إلى أهل مكة فكنت أنادي معه بذلك حتى يصحل صوتي وكان هو ينادي قبلي حتى يعيي. وأخرجه أحمد أيضًا وغيره من طريق محرز بن أبي هريرة، فالحاصل أن مباشرة أبي هريرة لذلك كانت بأمر أبي بكر وكان ينادي بما يلقيه إليه عليّ مما أمر بتبليغه، كذا في الفتح (في الحجة التي أمره النبي صلى الله عليه وسلم) بتشديد الميم أي جعله أميرًا على قافلة الحج في الستة التاسعة من الهجرة (عليها) متعلق بأمره أي على الحجة (قبل حجة الوداع) أي بسنة. قال ابن القيم: يستنبط منه أنها كانت سنة تسع لأن حجة الوداع كانت سنة عشر اتفاقًا، وذكر ابن إسحاق أن خروج أبي بكر كان في ذي القعدة. وذكر الواقدي أنه خرج في تلك الحجة مع أبي بكر ثلاث مائة من الصحابة، وبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين بدنة. قال الحافظ: وقد وقفت ممن سمي ممن كان مع أبي بكر في تلك الحجة على أسماء جماعة منهم سعد بن أبي وقاص وجابر بن عبد الله فيما أخرجه الطبري (يوم النحر) ظرف بعث (في رهط) أي في جملة رهط أو مع رهط، والرهط – بسكون الهاء ويحرك – عدد يجمع من الثلاثة إلى العشرة أو ما دون العشرة وما فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه (أمره) بالتخفيف (أن يؤذن) بالتشديد، والمراد بالتأذين الإعلام، وهو اقتباس من قوله تعالى:{وأذان من الله ورسوله} (9: 3) أي إعلام. قال الطيبي: والضمير راجع إلى الرهط، والإفراد باعتبار اللفظ، ويجوز أن يكون لأبي هريرة على الالتفات. قال القاري: أو على التجريد أو التقدير ((أمر أحد الرهط أن ينادي)) (ألا)

ص: 101