المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(الفصل الأول) 2669 – (1) عن ابن عمر، أن رسول الله - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٩

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

فهرس الكتاب

- ‌(2) باب قصة حجة الوداع

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(3) باب دخول مكة والطواف

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(4) باب الوقوف بعرفة

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(5) باب الدفع من عرفة والمزدلفة

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(6) باب رمي الجمار

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(7) باب الهدي

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(8) باب الحلق

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(9) باب

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(10) باب خطبة يوم النحر، ورمي أيام التشريق، والتوديع

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(11) باب ما يجتنبه المحرم

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(12) باب المحرم يجتنب الصيد

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(13) باب الإحصار، وفوت الحج

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(14) باب حرم مكة حرسها الله تعالى

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(15) باب حرم المدينة حرسها الله تعالى

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

الفصل: ‌ ‌(الفصل الأول) 2669 – (1) عن ابن عمر، أن رسول الله

(الفصل الأول)

2669 – (1) عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق رأسه في حجة الوداع، وأناس من أصحابه، وقصر بعضهم.

ــ

لبيك بإهلال كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أحسنت، فأمرني فطفت بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم قال لي: أحل، متفق عليه. وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سعى بين الصفا والمروة قال: من كان معه هدي فليحل وليجعلها عمرة. رواه مسلم. وعن سراقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حل إلا من كان معه هدي. رواه أبو إسحاق الجوزجاني، والرواية الأولى أصح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به فروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة وليقصر وليحلل. وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: احلوا إحرامكم بطواف بالبيت (والصفا والمروة) وقصروا. وأمره يقتضي الوجوب. ولأن الله تعالى وصفهم به بقوله سبحانه: {محلقين رؤوسكم ومقصرين} (48: 27) ولم يكن من المناسك لما وصفهم به كاللبس وقتل الصيد، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ترحم على المحلقين ثلاثًا وعلى المقصرين مرة. ولو لم يكن من المناسك لما دخله التفضيل كالمباحات، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعلوه في جميع حجهم وعمرهم ولم يخلوا به، ولو لم يكن نسكًا لما داوموا عليه بل لم يفعلوه، لأنه لم يكن من عادتهم فيفعلوه عادة، ولا فيه فضل فيفعلوه لفضله، وأما أمره بالحل فإنما معناه – والله أعلم – الحل بفعله، لأن ذلك كان مشهورًا عندهم، فاستغنى عن ذكره، ولا يمتنع الحل من العبادة بما كان محرمًا فيها كالسلام من الصلاة – انتهى. قال الولي العراقي في شرح التقريب: القائلون بأنه نسك اختلفوا في أنه ركن الحج لا يتم إلا بفعله ولا يجبر بدم أو واجب، فذهب إلى الأول أكثر الشافعية. وقال إمام الحرمين: إنه متفق عليه، وقال النووي: إنه الصواب، وذهب الداركي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي إلى أنه واجب، وهو مذهب الأئمة الثلاثة، وذهب الشيخ أبو حامد الإسفرائيني وجماعة إلى أنه ركن في العمرة واجب في الحج.

2669 – قوله (حلق رأسه) بتشديد اللام وتخفيفها أي أمر بحلقه (في حجة الوداع وأناس من أصحابه) أي حلقوا لإدراك شرف متابعته وفضيلة الحلق التي بينه بالدعاء للمحلقين مرات (وقصر) بتشديد الصاد (بعضهم) أي بعض أصحابه أخذًا بالرخصة بعد دعائه للمقصرين في المرة الأخيرة بالتماسهم. قال القاري: ويمكن أن يكون المراد من قوله ((وقصر بعضهم)) أي بعد عمرتهم قبل حجتهم – انتهى. واللفظ المذكور للبخاري في المغازي، أخرجه من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن عبد الله بن عمر، وأخرج مسلم من طريق الليث بن سعد عن نافع أن عبد الله قال: حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلق طائفة من أصحابه وقصر بعضهم، قال عبد الله: إن سول الله صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله المحلقين. مرة أو مرتين

ص: 249

متفق عليه.

2670 -

(2) وعن ابن عباس، قال: قال لي معاوية: إني قصرت من رأس النبي صلى الله عليه وسلم عند المروة بمشقص.

ــ

(الشك من الليث) ثم قال ((والمقصرين)) ومجموع الروايتين يدل على أن الحلق والدعاء للمحلقين كان في حجة الوداع، وسيأتي الكلام فيه مفصلاً. تنبيه: أفاد ابن خزيمة في صحيحه من الوجه الذي أخرجه البخاري منه في المغازي من طريق موسى بن عقبة عن نافع متصلاً بالمتن المذكور، قال: وزعموا أن الذي حلقه معمر بن عبد الله بن نضلة، وبين أبو مسعود في الأطراف أن قائل ((وزعموا)) ابن جريج الراوي له عن موسى بن عقبة، كذا في الفتح، وقال النووي: اختلفوا في اسم الحالق فالصحيح أنه معمر بن عبد الله (العدوي) كما ذكر البخاري. وقيل هو خراش بن أمية، وهو بمعجمتين (الأولى مكسورة) انتهى. قال الحافظ: والصحيح أن خراشًا كان الحالق بالحديبية، والله أعلم. قلت: وقد بينه ابن عبد البر فقال في ترجمة خراش بن أمية بن الفضل الكعبي الخزاعي: وهو الذي حلق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية – انتهى. ولمعمر بن عبد الله الذي حلقه في حجة الوداع قصة رواها أحمد والطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد، والبخاري في تاريخه الكبير كما حكاها العيني (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي المغازي، ومسلم في الحج، واللفظ المذكور للبخاري في المغازي، وأخرجه أيضًا الترمذي والبيهقي (ج 5: ص 103، 134) .

2670 – قوله (قال لي معاوية) أي ابن أبي سفيان (إني قصرت من رأس النبي صلى الله عليه وسلم) أي من شعر رأسه، واستدل به من ذهب إلى اجتزاء تقصير بعض شعر الرأس كالحلق لأن ظاهر حرف ((من)) للتبعيض. ووقع عند أحمد (ج 4: ص 92) والنسائي من طريق عطاء أن معاوية حدث أنه أخذ من أطراف شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام العشر – الحديث. قال: فلو ثبت هذا لكفى في تقدير الحلق والقصر ببعض الرأس – انتهى. قلت: اختلفت ألفاظ الرواية، وفي بعضها ((قال قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)) وهذا كما ترى مجمل، وأما ما وقع في بعض الروايات من قوله ((قصرت من رأسه)) أو ((أخذ من أطراف شعره)) فالظاهر أن المراد به نفي المبالغة في التقصير بحيث يبلغ إلى أصل الشعر لا الاجتزاء بأخذ بعض الرأس وترك بعضه على أن حمل فعله على المتفق عليه أولى من حمله على المختلف فيه بل هو المتعين، والله أعلم. قال النووي: في هذا الحديث جواز الاقتصار على التقصير وإن كان الحلق أفضل، وسواء في ذلك الحاج والمعتمر إلا أنه يستحب للمتمتع أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج ليقع الحلق في أكمل العبادتين، وقد سبقت الأحاديث في هذا – انتهى (عند المروة) فيه أنه يستحب أن يكون تقصير المعتمر أو حلقه عند المروة لأنها موضع تحلله كما يستحب للحاج أن يكون حلقه أو تقصيره في منى لأنها موضع تحلله، وحيث حلقا أو قصرا من الحرم كله جاز (بمشقص) بكسر الميم وإسكان

ص: 250

..............................................................................................

ــ

الشين المعجمة وفتح القاف وآخره صاد مهملة أي نصل طويل عريض أو غير عريض له حدة، وقيل المراد به المقص وهو الأشبه في هذا المحل، قاله القاري. وقال في اللمعات: مشقص كمنبر، وهو نصل عريض أو سهم فيه ذلك، وقيل المراد به الجلم بالجيم بفتحتين وهو الذي يجز به الشعر والصوف وهو أشبه. ثم اعلم أن في الحديث إشكالاً وهو أنه لا يدري أن تقصير رأسه صلى الله عليه وسلم الذي أخبر به معاوية كان في الحج أو في العمرة؟ ولا يصح الحمل على الأول، لأن الحلق والتقصير من الحاج يكون بمنى لا عند المروة. وأيضًا قد ثبت حلق رأسه في الحج فتعين أن يكون في العمرة، ثم في أي عمرة من عمره كان؟ لا يجوز أن يكون في العمرة الحكمية التي كانت بالحديبية لأنه حلق يومئذ فيها ولم يدخل مكة ولم يسلم معاوية يومئذ، ولا يصح أن يحمل على عمرة القضاء لأنه قد ثبت عن أهل العلم بالسير أن معاوية إنما أسلم عام الفتح، نعم قد ينقل عنه نفسه أنه كان يقول: أسلمت عام القضية، لكن الصحيح أنه أسلم عام الفتح. وفي هذا النقل وهن، أو يحمل على عمرة الجعرانة وكان في ذي القعدة عام الفتح، وذلك أيضًا لا يصح لأنه قد جاء في بعض ألفاظ الصحيح ((وذلك في حجته)) وفي رواية النسائي بإسناد صحيح ((وذلك في أيام العشر)) وهذا إنما يكون في حجة الوداع، كذا في المواهب فتعين حمله على عمرة حجة الوداع، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لم يحل يومئذ ولا من كان معه هدي، وإنما أمر بحل من لم يسق الهدي، نعم قد توهم بعض الناس أنه صلى الله عليه وسلم حج متمتعًا حل فيه من إحرامه ثم أحرم يوم التروية بالحج مع سوق الهدي، وتمسكوا بهذا الحديث من معاوية لكن الصواب أنه صلى الله عليه وسلم لم يحل يومئذ. وقد قالوا: إن الصحابة أنكروا هذا القول على معاوية وغلطوه فيه كما أنكروا على ابن عمر في قوله ((إن إحدى عمره صلى الله عليه وسلم كان في رجب)) قال التوربشتي: الوجه فيه أن نقول: نسي معاوية أنه كان في حجة الوداع، ولا يستبعد ذلك في من شغلته الشواغل ونازعته الدهور والأعصار في سمعه وأبصاره وذهنه، وكان قد جاوز الثمانين وعاش بعد حجة الوداع خمسين سنة – انتهى. فحينئذ يحمل ذلك على عمرة الجعرانة، ويكون ذكر الحجة وأيام العشر سهوًا والله أعلم – انتهى ما في اللمعات. وقال ابن الهمام: حديث معاوية (أي في إحلاله بالتقصير عند المروة) إما هو خطأ أو محمول على عمرة الجعرانة فإنه قد كان أسلم إذ ذاك وهي عمرة خفيت على بعض الناس لأنها كانت ليلاً على ما في الترمذي والنسائي، وعلى هذا فيجب الحكم على الزيادة التي في النسائي وهو قوله ((في أيام العشر)) بالخطأ ولو كانت بسند صحيح إما للنسيان من معاوية أو من بعض الرواة، كذا في المرقاة. وقال الحافظ بعد ذكر رواية الباب: هذا يحتمل أن يكون في عمرة القضية أو الجعرانة لكن وقع عند مسلم والنسائي ما يدل على أن ابن عباس حمل ذلك على وقوعه في حجة الوداع لقوله لمعاوية: إن هذه حجة عليك إذ لو كان في العمرة لما كان فيه على معاوية حجة، وأصرح منه ما وقع عند أحمد (ج 4: ص 92) من طريق قيس بن سعد عن عطاء أن معاوية حدث أنه أخذ من أطراف شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام العشر بمشقص

ص: 251

..............................................................................................

ــ

معي وهو محرم، وفي كونه في حجة الوداع نظر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى بلغ الهدي محله فكيف يقصر عنه على المروة وقد بالغ النووي هنا في الرد على من زعم أن ذلك كان في حجة الوداع فقال: هذا الحديث محمول على أن معاوية قصر عن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الجعرانة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان قارنًا وثبت أنه حلق بمنى، وفرق أبو طلحة شعره بين الناس فلا يصح حمل تقصير معاوية على حجة الوداع ولا يصح حمله أيضًا على عمرة القضاء الواقعة سنة سبع، لأن معاوية لم يكن يومئذ مسلمًا، إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان، هذا هو الصحيح المشهور، ولا يصح قول من حمله على حجة الوداع، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعًا، لأن هذا غلط فاحش، فقد تظاهرت الأحاديث في مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر. قلت (قائله الحافظ) : ولم يذكر الشيخ هنا ما مر في عمرة القضية والذي رجحه من كون معاوية إنما أسلم يوم الفتح صحيح من حيث السند لكن يمكن الجمع بأنه كان أسلم خفية وكان يكتم إسلامه، ولم يتمكن من إظهاره إلا يوم الفتح. وقد أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق من ترجمة معاوية تصريح معاوية بأنه أسلم بين الحديبية والقضية، وأنه كان يخفي إسلامه خوفًا من أبويه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل في عمرة القضية مكة خرج أكثر أهلها عنها حتى لا ينظرونه وأصحابه يطوفون بالبيت، فلعل معاوية كان ممن تخلف بمكة بسبب اقتضاه. ولا يعارضه أيضًا قول سعد بن أبي وقاص فيما أخرجه مسلم وغيره: فعلناها يعني العمرة في أشهر الحج، وهذا يومئذ كافر بالعرش – بضمتين – يعني بيوت مكة، يشير إلى معاوية، لأنه يحمل على أنه أخبر بما استصحبه من حاله ولم يطلع على إسلامه لكونه كان يخفيه. ويعكر على ما جوزوه أن تقصيره كان في عمرة الجعرانة أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب من الجعرانة بعد أن أحرم بعمرة ولم يستصحب أحدًا معه إلا بعض أصحابه المهاجرين فقدم مكة فطاف وسعى وحلق ورجع إلى الجعرانة فأصبح بها كبائت، فخفيت عمرته على كثير من الناس، كذا أخرجه الترمذي وغيره، ولم يعدوا معاوية فيمن كان صحبه حينئذ ولا كان معاوية فيمن تخلف عنه بمكة في غزوة حنين حتى يقال لعله وجده بمكة، بل كان مع القوم وأعطاه مثل ما أعطى أباه من الغنيمة مع جملة المؤلفة، وأخرج الحاكم في الإكليل في آخر قصة غزوة حنين أن الذي حلق رأسه صلى الله عليه وسلم في عمرته التي اعتمرها من الجعرانة أبو هند عبد بني بياضة. فإن ثبت هذا وثبت أن معاوية كان حينئذ معه وكان بمكة فقصر عنه بالمروة أمكن الجمع بأن يكون معاوية قصر عنه أولاً وكان الحلاق غائبًا في بعض حاجته ثم حضر فأمره أن يكمل إزالة الشعر بالحلق لأنه أفضل ففعل، وإن ثبت أن ذلك كان في عمرة القضية، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم حلق فيها جاء هذا الاحتمال بعينه وحصل التوفيق بين الأخبار كلها، وهذا مما فتح الله علي به في هذا الفتح ولله الحمد ثم لله الحمد أبدًا. قال صاحب الهدي: الأحاديث الصحيحة المستفيضة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يحل من إحرامه إلى يوم النحر كما أخبر عن

ص: 252

متفق عليه.

2671 -

(3) وعن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع:

ــ

نفسه بقوله ((فلا أحل حتى أنحر)) وهو خبر لا يدخله الوهم بخلاف خبر غيره، ثم قال: فلعل معاوية قصر عنه في عمرة الجعرانة فنسي بعد ذلك وظن أنه كان في حجته – انتهى. ولا يعكر على هذا إلا رواية قيس بن سعد المتقدمة لتصريحه فيها بكون ذلك في أيام العشرة إلا أنها شاذة. وقد قال قيس بن سعد عقبها: والناس ينكرون ذلك على معاوية – انتهى. وأظن قيسًا رواها بالمعنى ثم حدث بها فوقع له ذلك. وقد أشار النووي إلى ترجيح كونه في الجعرانة وصوبه المحب الطبري وابن القيم وفيه نظر لأنه جاء أنه حلق في الجعرانة واستبعاد بعضهم أن معاوية قصر عنه في عمرة الحديبية لكونه لم يكن أسلم ليس ببعيد – انتهى كلام الحافظ. قلت: لا إشكال في رواية الشيخين فإنها تحمل على عمرة من عمره كما وقع في التصريح بذلك في رواية النسائي، والمراد بها عمرة الجعرانة، كما قال النووي والمحب الطبري وابن القيم وغيرهم، وأما ما وقع في رواية الحاكم في الإكليل ورواية الملا في سيرته على ما حكاه الطبري من أنه حلق في عمرة الجعرانة فقد تقدم وجه الجمع بينه وبين روايات ((أنه قصر عنه)) والمشكل إنما هو رواية أبي داود بلفظ ((قصرت عنه على المروة بحجته)) ورواية أحمد والنسائي بلفظ ((أخذ من أطراف شعر النبي صلى الله عليه وسلم في أيام العشر)) وأول المنذري رواية أبي داود بأن قوله ((لحجته)) يعني لعمرته، قال: وقد أخرجه النسائي أيضًا، وفيه ((في عمرة على المروة)) وتسمى العمرة حجًا، لأن معناها القصد، وقد قالت حفصة: ما بال الناس حلوا، ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قيل: إنما تعني من حجتك – انتهى. وأما راوية أحمد والنسائي فهي محمولة على الخطأ والنسيان والوهم كما قال التوربشتي وابن القيم وابن الهمام والطيبي والحافظ، والله أعلم (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وقوله ((عند المروة)) مما تفرد به مسلم دون البخاري، والحديث أخرجه أيضًا أحمد (ج 4: ص 95، 96، 97، 98، 102) وأبو داود في باب الأقران، والنسائي والبيهقي (ج 5: ص 102) .

2671 – قوله (قال في حجة الوداع) هكذا في جميع نسخ المشكاة والمصابيح وهو خطأ من المصنف والبغوي، فإن الحديث رواه مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر ومن طريق مالك رواه أحمد (ج 2: ص 79) والبخاري ومسلم وأبو داود وليس عندهم قوله ((في حجة الوداع)) وقد اختلف المتكلمون على هذا الحديث في الوقت الذي قال فيه رسول صلى الله عليه وسلم ذلك فقال ابن عبد البر: كونه في الحديبية هو المحفوظ. وقال النووي: الصحيح المشهور أنه كان في حجة الوداع. قال القاضي عياض: لا يبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله في الموضعين. قال العيني: ما قاله القاضي هو الصواب جمعًا بين الأحاديث، وهو الذي اختاره الحافظ حيث قال: قال ابن عبد البر: لم يذكر أحد من رواة نافع عن

ص: 253

..............................................................................................

ــ

ابن عمر أن ذلك كان يوم الحديبية، وهو تقصير وحذف، وإنما جرى ذلك يوم الحديبية حين صد عن البيت، وهذا محفوظ مشهور من حديث ابن عمر وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وحبشي بن جنادة وغيرهم، ثم أخرج حديث أبي سعيد بلفظ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لأهل الحديبية للمحلقين ثلاثًا وللمقصرين مرة، وحديث ابن عباس بلفظ ((حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله المحلقين)) الحديث. وحديث أبي هريرة من طريق محمد بن فضيل الذي أخرجه البخاري بلفظ ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين، قال: اللهم اغفر للمحلقين. قالوا: والمقصرين؟ قالها ثلاثًا. قال: وللمقصرين. ولم يسق ابن عبد البر لفظه بل قال: نذكر معناه وتجوز في ذلك فإنه ليس في رواية أبي هريرة تعيين الموضع، ولم يقع في شيء من طرقه التصريح بسماعه لذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، ولو وقع لقطعنا بأنه كان في حجة الوداع لأنه شهدها، ولم يشهد الحديبية، ولم يسق ابن عبد البر عن ابن عمر في هذا شيئًا ولم أقف على تعيين الحديبية في شيء من الطريق عنه، وقد قدمت في صدر الباب (أي باب الحلق والتقصير عند الإحلال) أنه مخرج من مجموع الأحاديث عنه أن ذلك كان في حجة الوداع كما يؤمئ إليه صنيع البخاري، وحديث أبي سعيد الذي أخرجه ابن عبد البر أخرجه أيضًا الطحاوي من طريق الأوزاعي، وأحمد وابن أبي شيبة وأبو داود الطيالسي من طريق هشام الدستوائي كلاهما عن يحيى بن أبي كثير عن أبي إبراهيم الأنصاري عن أبي سعيد، وزاد فيه أبو داود (وأحمد) أن الصحابة حلقوا يوم الحديبية إلا عثمان وأبا قتادة، وأما حديث ابن عباس فأخرجه ابن ماجة من طريق ابن إسحاق حدثني ابن أبي نجيح عن مجاهد عنه وهو عند ابن إسحاق في المغازي بهذا الإسناد وأن ذلك كان بالحديبية، وكذلك أخرجه أحمد وغيره من طريقه، وأما حديث حبشي بن جنادة فأخرجه ابن أبي شيبة من طريق أبي إسحاق عنه ولم يعين المكان، وأخرجه أحمد من هذا الوجه (ج 4: ص 164، 165) وزاد في سياقه ((عن حبشي وكان ممن شهد حجة الوداع)) فذكر هذا الحديث، وهذا يشعر بأنه كان في حجة الوداع، وأما قول ابن عبد البر فوهم، فقد ورد تعيين الحديبية من حديث جابر عند أبي قرة في السنن، ومن طريق الطبراني في الأوسط، ومن حديث المسور بن مخرمة عند ابن إسحاق في المغازي، وورد تعيين حجة الوداع من حديث أبي مريم السلولي عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أم الحصين عند مسلم، ومن حديث قارب بن الأسود الثقفي عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أم عمارة عند الحارث. فالأحاديث التي فيها تعيين حجة الوداع أكثر عددًا وأصح إسنادًا (لأن بعضها في صحيح مسلم بخلاف الحديبية) ولهذا قال النووي عقب أحاديث ابن عمر وأبي هريرة وابن الحصين: هذه الأحاديث تدل على أن هذه الواقعة كانت في حجة الوداع. قال: وهو الصحيح المشهور، وقيل: كان في الحديبية، وجزم بأن ذلك كان في الحديبية إمام الحرمين في النهاية. ثم قال النووي: لا يبعد أن يكون وقع في الموضعين – انتهى. وقال عياض: كان

ص: 254

" اللهم ارحم المحلقين ".

ــ

في الموضعين. وقال ابن دقيق العيد: إنه الأقرب. قلت (قائله الحافظ) : بل هو المتعين لتظافر الروايات بذلك في الموضعين كما قدمناه إلا أن السبب في الموضعين مختلف. فالذي في الحديبية كان بسبب توقف من توقف من الصحابة عن الإحلال لما دخل عليهم من الحزن لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم وصالح قريشًا على أن يرجع من العام المقبل، والقصة مشهورة، فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإحلال توقفوا، فأشارت أم سلمة أن يحل هو صلى الله عليه وسلم قبلهم ففعل فتبعوه، فحلق بعضهم وقصر بعض، وكان من بادر على الحلق أسرع إلى امتثال الأمر ممن اقتصر على التقصير وقد وقع التصريح بهذا السبب في حديث ابن عباس المشار إليه قبل، فإن في آخره عند ابن ماجة وغيره أنهم قالوا: يا رسول الله ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالرحمة؟ قال: لأنهم لم يشكوا (في أن ما فعلته أحسن مما قام في أنفسهم، أو معناه أي ما عاملوا معاملة من يشك في أن الإتباع أحسن، وأما من قصر فقد عامل معاملة الشاك في ذلك حيث ترك فعله صلى الله عليه وسلم) وأما السبب في تكرير الدعاء للمحلقين في حجة الوداع فقال ابن الأثير في النهاية: كان أكثر من حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسق الهدي، فلما أمرهم أن يفسخوا الحج ثم يتحللوا منها ويحلقوا رؤؤسهم شق عليهم، ثم لما لم يكن لهم بد من الطاعة كان التقصير في أنفسهم أخف من الحلق ففعله أكثرهم، فرجح النبي صلى الله عليه وسلم فعل من حلق لكونه أبين في امتثال الأمر – انتهى. قال الحافظ: وفيما قاله نظر، وإن تابعه عليه غير واحد، لأن المتمتع يستحب في حقه أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج إذا كان ما بين النسكين متقاربًا، وقد كان ذلك في حقهم كذلك، فالأولى ما قاله الخطابي وغيره أن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعر والتزين به وكان الحلق فيهم قليلاً وربما كانوا يرونه من الشهرة، ومن زي الأعاجم، فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير، قلت: ما حكاه الحافظ عن الخطابي يأبى عنه كلام الخطابي في المعالم (ج 2: ص 418) حيث قال في شرح حديث ابن عمر: قلت: كان أكثر من أحرم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة ليس معهم هدي، وكان صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي، ومن كان معه هدي فإنه لا يحلق حتى ينحر هديه، فلما أمر من ليس معه هدي أن يحل وجدوا من ذلك في أنفسهم وأحبوا أن يأذن لهم في المقام على إحرامهم حتى يكملوا الحج، وكان طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بهم، فلما لم يكن لهم بد من الإجلال كان التقصير في نفوسهم أحب من الحلق فمالوا إلى التقصير، فلما رأي ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أخرهم في الدعاء وقدم عليهم من حلق وبادر إلى الطاعة وقصر بمن تهيبه وحاد عنه، ثم جمعهم في الدعوة وعمهم بالرحمة – انتهى. وهذا كما ترى هو عين ما قاله ابن الأثير في النهاية (اللهم ارحم المحلقين حيث عملوا بالأفضل لأن العمل بما بدأ الله تعالى في قوله {محلقين رؤوسكم ومقصرين} (48: 27) أكمل. وقضاء التفث المأمور به في قوله عز وجل {ثم ليقضوا تفثهم} (22: 29)

ص: 255

قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: " اللهم ارحم المحلقين ". قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: " والمقصرين ".

ــ

يكون به أجمل، ويكون في ميزان العمل أثقل، وفيه دليل على الترحم على الحي وعدم اختصاصه بالميت (قالوا) أي الصحابة، قال الحافظ: لم أقف في شيء من الطرق على الذي تولى السؤال في ذلك بعد البحث الشديد (والمقصرين يا رسول الله) قال الحافظ: الواو معطوفة على شيء محذوف تقديره ((قل: والمقصرين، أو قل: وارحم المقصرين) وهو يسمى العطف التلقيني كقوله تعالى {ومن ذريتي} بعد قوله {إني جاعلك للناس إمامًا} (2: 124) قال الآلوسي: {ومن ذريتي} عطف على كاف {جاعلك} يقال: سأكرمك، فتقول: وزيدًا، أي وتكرم زيدًا، تريد تلقينه بذلك، قال {ومن ذريتي} في معني بعض ذريتي، فكأنه قال:((وجاعل بعض ذريتي)) وهو من قبيل عطف التلقين فيكون خبرًا في معني الطلب، وكأن أصله واجعل بعض ذريتي، لكنه عدل إلى المنزل لما فيه من البلاغة من حيث جعله من تتمة كلام المتكلم كأنه مستحق مثل المعطوف عليه وجعل نفسه كالنائب عن المتكلم، والعدول من صيغة الأمر للمبالغة في الثبوت ومراعاة الأدب في التفادي عن صورة الأمر، وفيه من الاختصار الواقع موقعه ما يروق كل ناظر، قلت: ومن هذا القبيل قوله تعالى {قال ومن كفر} بعد قوله {وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر} (2: 126) فإنه يصح التقدير: وارزق من كفر بصيغة الأمر، فالطلب بمعني الخبر على عكس {ومن ذريتي} وفائدة العدول تعليم تعميم دعاء الرزق وأن لا يحجر في طلب اللطف، أو التقدير وأرزق من كفر، بصيغة المتكلم، وقال الآلوسي: ولك أن تجعل العطف على محذوف أي ارزق من آمن ومن كفر (قال: اللهم ارحم المحلقين) تنبيهًا على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكتف على المحلقين أولاً لعدم الالتفات إلى المقصرين بل دعي لهم قصدًا وكرر الدعاء لهم خاصة لإظهار فضيلة التحليق (قالوا: والمقصرين يا رسول الله) تأكيد لاستدعاء الرحمة للمقصرين. قال القاري: هل هو قول المحلقين أو المقصرين أو قولهما جميعًا؟ احتمالات ثلاث، أظهرها بعض الكل من النوعين (قال: والمقصرين) قال الحافظ: فيه إعطاء المعطوف حكم المعطوف عليه ولو تخلل بينهما السكوت بلا عذر ثم هو هكذا في معظم الروايات عن مالك الدعاء للمحلقين مرتين، وعطف المقصرين عليهم في المرة الثالثة، وانفرد يحيى بن بكير دون رواة الموطأ بإعادة ذلك ثلاث مرات، نبه عليه ابن عبد البر في التقصي وأغفله في التمهيد، بل قال فيه: إنهم لم يختلفوا على مالك في ذلك، وقد راجعت أهل سماعي من موطأ يحيى بن بكير فوجدته كما قال في التقصي. وفي رواية الليث عن نافع عند مسلم وعلقها البخاري ((رحم الله المحلقين مرة أو مرتين، قالوا: والمقصرين، قال ((والمقصرين)) والشك فيه من الليث وإلا فأكثرهم موافق لما رواه مالك، ولمسلم أيضًا وعلقه البخاري من رواية عبيد الله – بالتصغير – العمري عن نافع، قال في الرابعة ((والمقصرين)) ولمسلم من

ص: 256

.............................................................................................

ــ

وجه آخر عن عبيد الله بلفظ مالك سواء، قال الحافظ: وبيان كونها في الرابعة أن قوله والمقصرين معطوف على مقدر، تقديره ((يرحم الله المحلقين)) وإنما قال ذلك بعد أن دعا للمحلقين ثلاثًا صريحًا فيكون دعاؤه للمقصرين في الرابعة، وقد رواه أبو عوانة في مستخرجه من طريق الثوري عن عبيد الله بلفظ ((قال في الثالثة: والمقصرين)) والجمع بينهما واضح بأن من قال ((في الرابعة)) فعلى ما شرحناه، ومن قال ((في الثالثة)) أراد أن قوله {والمقصرين} معطوف على الدعوة الثالثة أو أراد بالثالثة مسألة السائلين في ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم لا يراجع بعد ثلاث كما ثبت، ولو لم يدع لهم بعد ثالث مسألة ما سألوه في ذلك، وأخرجه أحمد (ج 2: ص 34) من طريق أيوب عن نافع بلفظ ((اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: وللمقصرين حتى قالها ثلاثًا أو أربعًا، ثم قال: والمقصرين)) ورواية من حزم مقدمة على من شك – انتهى. وروى البخاري بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين. قال: اللهم اغفر للمحلقين. قالوا: والمقصرين، قالها ثلاثًا. قال: وللمقصرين. قال الحافظ: قوله ((قالها ثلاثًا)) أي قوله: اللهم اغفر للمحلقين، وهذه الرواية شاهدة لأن عبيد الله العمري حفظ الزيادة – انتهى. واستدل بقوله ((المحلقين)) على مشروعية حلق جميع الرأس لأنه الذي تقتضيه الصيغة (إذ لا يقال لمن حلق بعض رأسه أنه حلقه إلا مجازًا) وقال بوجوب حلق جميعه مالك وأحمد، واستحبه الكوفيون والشافعي ويجزئ البعض عندهم، واختلفوا فيه فعن الحنفية الربع إلا أبا يوسف فقال: النصف. وقال الشافعي: أقل ما يجب حلق ثلاث شعرات، وفي وجه لبعض أصحابه شعرة واحدة، والتقصير كالحلق فالأفضل أن يقصر من جميع شعر رأسه، ويستحب أن لا ينقص عن قدر الأنملة، وإن اقتصر على دونها أجزأ. هذا للشافعية، وهو مرتب عند غيرهم على الحلق، وهذا كله في حق الرجال، كذا في الفتح. وقال ابن قدامة (ج 3: ص 393) : يلزم التقصير أو الحلق من جميع شعره، كذلك المرأة، نص عليه أحمد، وبه قال مالك، وعن أحمد يجزئه البعض مبنيًا على المسح في الطهارة، وكذلك قال ابن حامد، وقال الشافعي: يجزئه التقصير من ثلاث شعرات، واختار ابن المنذر أنه يجزئه ما يقع عليه اسم التقصير لتناول اللفظ له، ولنا قول الله تعالى:{محلقين رؤوسكم} وهذا عام في جميعه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق جميع رأسه تفسيرًا لمطلق الأمر به فيجب الرجوع إليه، ولأنه نسك تعلق بالرأس فوجب استيعابه به كالمسح – انتهى. واختار ابن الهمام قول مالك في وجوب استيعاب الرأس بالحلق والتقصير، وقال بعد بسط الكلام فيه: فكان مقتضى الدليل في الحلق وجوب الاستيعاب كما هو قول مالك، وهو الذي أدين الله به. قال: وقياسه على المسح قياس مع الفارق. وقال الشنقيطي بعد ذكر مذاهب الأئمة في ذلك: أظهر الأقوال عندي أنه يلزم حلق جميع الرأس أو تقصير جميعه، ولا يلزم تتبع كل شعرة في التقصير، لأن فيه مشقة كبيرة، بل يكفي تقصير جميع جوانب الرأس مجموعة أو مفرقة، وأنه لا يكفي الربع ولا ثلاث شعرات خلافًا للحنفية والشافعية،

ص: 257

..............................................................................................

ــ

لأن الله تعالى يقول: {محلقين رؤوسكم} ولم يقل: بعض رؤوسكم {ومقصرين} أي رؤوسكم لدلالة ما ذكر قبله عليه، وظاهره حلق الجميع أو تقصيره، ولا يجوز العدول عن ظاهر النص إلا لدليل يجب الرجوع إليه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" دع ما يريبك إلا ما لا يريبك ". فمن حلق الجميع أو قصره ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، ومن اقتصر على ثلاث شعرات أو على ربع الرأس لم يدع ما يريبه، إذ لا دليل يجب الرجوع إليه من كتاب ولا سنة على الاكتفاء بواحد منهما، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حلق في حجة الوداع حلق جميع رأسه وأعطى شعر رأسه لأبي طلحة ليفرقه على الناس، وفعله في الحلق بيان للنصوص الدالة على الحلق كقوله:{محلقين رؤوسكم} الآية، وقوله:{ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} (2: 196) وقد قدمنا أن فعله صلى الله عليه وسلم إذا كان بيانًا لنص مجمل يقتضي وجوب حكم أن ذلك الفعل المبين لذلك النص المجمل واجب، ولا خلاف في ذلك بين من يعتد به من أهل الأصول – انتهى. قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد أن التقصير يجزئ عن الحلق وهو مجمع عليه إلا ما روي عن الحسن البصري أن الحلق يتعين في أول حجة. حكاه ابن المنذر بصيغة التمريض، وقد ثبت عن الحسن خلافه. قال ابن أبي شبيبة: حدثنا عبد الأعلى عن هشام عن الحسن في الذي لم يحج قط، فإن شاء حلق وإن شاء قصر، نعم روى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي قال: إذا حج الرجل أول حجة حلق، فإن حج أخرى فإن شاء حلق وإن شاء قصر، ثم روي عنه أنه قال: كانوا يحبون أن يحلقوا في أول حجة وأول عمرة – انتهى. وهذا يدل على أن ذلك للاستحباب لا المزوم. نعم عند المالكية والحنابلة أن محل تعيين الحلق والتقصير أن لا يكون المحرم لبد شعره أو ضفره أو عقصه، وهو قول الثوري والشافعي في القديم والجمهور، وقال في الجديد وفاقًا للحنفية: لا يتعين إلا إن نذره أو كان شعره خفيفًا لا يمكن تقصيره أو لم يكن له شعر فيمر الموسى على رأسه، وأغرب الخطابي فاستدل بهذا الحديث لتعين الحلق لمن لبد، ولا حجة فيه – انتهى. وقال ابن قدامة (ج 3: ص 434) : وهو أي المحرم مخير بين الحلق والتقصير أيهما فعل أجزأه في قول أكثر أهل العلم. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن التقصير يجزئ، يعني في حق من لم يوجد منه معنى يقتضي وجوب الحلق عليه، إلا أنه يروي عن الحسن أنه كان يوجب الحلق في أول حجة حجها ولا يصح هذا، لأن الله تعالى قال {محلقين رؤوسكم ومقصرين} (48: 27) ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: رحم الله المحلقين والمقصرين. وقد كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من قصر فلم يعب عليه، ولو لم يكن مجزيًا لأنكر عليه، واختلف أهل العلم فيمن لبد أو عقص أو ضفر، فقال أحمد: من فعل ذلك فليحلق وهو قول النخعي ومالك والشافعي وإسحاق، وكان ابن عباس يقول: من لبد أو ضفر أو عقد أو فتل أو عقص فهو على ما نوى، يعني إن نوى الحلق فليحلق وإلا فلا يلزمه، وقال أصحاب الرأي: هو مخير على كل حال لأن ما ذكرناه يقتضي التخيير على العموم، ولم يثبت في خلاف ذلك دليل، واحتج من نصر القول الأول بأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من لبد

ص: 258

متفق عليه.

ــ

فليحلق، وثبت عن عمر وابنه أنهما أمرا من لبد رأسه أن يحلقه، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لبد رأسه وأنه حلقه، والصحيح أنه مخير إلا أن يثبت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقول عمر وابنه قد خالفهما فيه ابن عباس، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم له لا يدل على وجوبه بعد ما بين لهم جواز الأمرين – انتهى. وقال النووي في مناسكه: إذا فرغ من النحر حلق رأسه أو قصر وأيهما فعل أجزأ، والحلق أفضل. هذا في من لم ينذر الحلق، أما من نذر الحلق في وقته فيلزمه حلق الجميع، ولا يجزئه التقصير، ولو لبد رأسه عند الإحرام لم يكن ملتزمًا للحلق على المذهب الصحيح، وللشافعي قول قديم أن التلبيد كنذر الحلق – انتهى. وقال الدردير: والتقصير مجزئ لمن له الحلق أفضل، قال الدسوقي: أي إن لم يكن لبد شعره وإلا تعين الحلق، ونص المدونة: من ضفر أو عقص أو لبد فعليه الحلاق، ومثله في الموطأ، وعلله ابن الحاجب تبعًا لابن شاس بعدم إمكان التقصير، ورده في التوضيح بأنه يمكن أن يغسله ثم يقصر، وإنما علل علماؤنا تعين الحلق في حق هؤلاء بالسنة – انتهى. ومذهب الحنفية أنه لو تعذر الحلق لعارض تعين التقصير أو التقصير لعارض تعين الحلق كأن لبده بصمغ فلا يعمل فيه المقراض، ومتى نقض تناثر بعض شعره وذلك لا يجوز للمحرم قبل الحلق كذا في العالمكيرية. وقال في الدر المختار: ومتى تعذر أحدهما لعارض تعين الآخر، فلو لبد بصمغ بحيث تعذر التقصير تعين الحلق، قال ابن عابدين: مثال لتعذر التقصير ومثله ما لو كان الشعر قصيرًا فيتعين الحلق، وكذا لو كان معقوصًا أو مضفورًا كما عزى إلى المبسوط، ووجهه أنه إذا نقضه تناثر بعض الشعر فيكون جناية على إحرامه، لكن قد يقال: إن هذا التناثر غير جناية لأنه في وقت جواز إزالة الشعر بحلق أو غيره، ولو نتفًا منه أو من غيره، فبقى ما في المبسوط مشكلاً، تأمل. ومثال تعذر الحلق مع إمكان التقصير أن يفقد آلة الحلق أو من يحلقه أو يضره الحلق بنحو صداع أو قروح برأسه، وتقدم مثال تعذرهما جميعًا في الأقرع وذي قروح شعره قصير – انتهى. وفي الحديث أيضًا أن الحلق أفضل من التقصير ووجهه مع قطع النظر عن سببه الوارد في الحديبية وحجة الوداع أنه أبلغ في العبادة وأبين للخضوع والذلة وأدل على صدق النية، والذي يقصر يبقى على نفسه شيئًا مما يتزين به بخلاف الحالق فإنه يشعر بأنه ترك ذلك لله تعالى، وأما قول النووي تبعًا لغيره في تعليل ذلك بأن المقصر يبقي على نفسه الشعر الذي هو زينة والحاج مأمور بترك الزينة بل هو أشعث أغبر، ففيه نظر، لأن الحلق إنما يقع بعد انقضاء زمن الأمر للتقشف فإنه يحل له عقبه كل شيء إلا النساء في الحج خاصة، وفيه أيضًا مشروعية الدعاء لمن فعل ما شرع له وتكرار الدعاء لمن فعل الراجح من الأمرين المخير فيهما، والتنبيه بالتكرار على الرجحان وطلب الدعاء لمن فعل الجائز وإن كان مرجوحًا، هذا. وقد بسط الكلام في فوائد الحديث ومباحثه الولي العراقي في طرح التثريب (ج 5: ص 110 إلى ص 118) فارجع إليه إن شئت (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 79) وأبو داود والبيهقي (ج 5: ص 103) وغيرهم.

ص: 259

2672 – (4) وعن يحيى بن الحصين، عن جدته، أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، دعا للمحلقين ثلاثًا، وللمقصرين مرة واحدة. رواه مسلم.

2673 – (5) وعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى، ونحر نسكه، ثم دعا بالحلاق، وناول الحالق شقه الأيمن

ــ

2672 – قوله (وعن يحيى بن الحصين) بمهملتين مصغرًا الأحمسي البجلي الكوفة ثقة، قال الحافظ: يحيى بن الحصين الأحمسي البجلي عن جدته أم الحصين ولها صحبة، وعن طارق بن شهاب وعنه أبو إسحاق السبيعي وزيد بن أبي أنيسة وشعبة. قال ابن معين والنسائي: ثقة. وزاد أبو حاتم ((صدوق)) وذكره ابن حبان في الثقات. وقال العجلي ((كوفي ثقة)) (عن جدته) أي أم الحصين بنت إسحاق الأحمسية الصحابية لم تسم. قال ابن عبد البر: أم الحصين بنت إسحاق الأحمسية روى عنها ابن ابنها يحيى بن الحصين والعيزار بن حريث شهدت حجة الوداع. قال الحافظ: سمي ابن عبد البر أباها إسحاق ولم أرها لغيره ورواية العيزار بن حريث عنها عند ابن مندة وأحمد (ج 6: ص 402) من طريق يونس بن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث، قال: سمعت الأحمسية يعني أم الحصين تقول: رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بردًا قد التحف به من تحت إبطه – الحديث (أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع) هذا نص في شهود أم الحصين حجة الوداع وأن الدعاء المذكور كان في حجة الوداع، وتقدم الكلام في هذا (مرة واحدة) هكذا في جميع النسخ وكذا وقع في جامع الأصول (ج 4: ص 108) وطرح التثريب (ج 5: ص 111) والذي في صحيح مسلم ((مرة)) أي بدون لفظة ((واحدة)) وهكذا في المصابيح والسنن للبيهقي والقرى (ص 412) للمحب الطبري، ولفظ أحمد في رواية: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بمنى دعا للمحلقين ثلاث مرات، فقيل له ((والمقصرين)) فقال في الثالثة (أي عقب الثالثة فتكون رابعة لتتفق مع الرواية الآتية) وفي لفظ له قالت: سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم بعرفات (في الطريق الأولى ((بمنى)) فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كرر الدعاء في خطبته بعرفات ثم في خطبته بمنى فسمعته في الموضعين) يقول: غفر الله للمحلقين، ثلاث مرار، قالوا: والمقصرين، فقال: والمقصرين، في الرابعة (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 6: ص 402، 403) والبيهقي (ج 5: ص 103) .

2673 – قوله (فأتى الجمرة) أي جمرة العقبة (فرماها ثم أتى منزله بمنى) فيه أنه يستحب إذا قدم منى أن لا يعرج على شيء قبل الرمي، بل يأتي الجمرة الكبرى جمرة العقبة راكبًا كما هو فيرميها ثم يذهب فينزل حيث شاء من منى (ونحر نسكه) بسكون السين ويضم جمع نسيكة وهي الذبيحة، والمراد بدنه صلى الله عليه وسلم، وقد نحر بيد ثلاثًا وستين وأمر عليًا أن ينحر بقية المائة، وفيه استحباب نحر الهدي بمنى، ويجوز حيث شاء من بقاع الحرم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر (ثم دعا بالحلاق) هو معمر بن عبد الله العدوي (وناول الحالق شقه) أي جانبه (الأيمن)

ص: 260

فحلقه،

ــ

أي من الرأس (فحلقه) فيه أنه يستحب في حلق الرأس أن يبدأ بالشق الأيمن من رأس المحلوق وإن كان على يسار الحالق وإلى ذلك ذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة يبدأ بجانبه الأيسر لأنه على يمين الحالق، والحديث يرد عليه، قال الطيبي: دل الحديث على أن المستحب الابتداء بالأيمن (من رأس المحلوق) وذهب بعضهم إلى أن المستحب الأيسر – انتهى. قال القاري: أي ليكون أيمن الحالق، ونسب إلى أبي حنيفة إلا أنه رجع عن هذا، وسبب ذلك أنه قاس أولاً يمين الفاعل كما هو المتبادر من التيامن، ولما بلغه أنه عليه الصلاة والسلام اعتبر يمين المفعول رجع عن ذلك القول المبني على المعقول إلى صريح المنقول إذ الحق بالإتباع أحق، ولو وقف الحالق خلف المحلوق أمكن الجمع بين الأيمنين (أي اجتمع الابتداء بيمين الحالق والمحلوق وارتفع الخلاف وإذا تعذر الجمع فلا بد من ترجيح ما يدل عليه حديث أنس) وقال ابن عابدين في رد المحتار (ج 2: ص 249) تنبيه: قالوا: (أي الحنفية) يندب البداءة بيمين الحالق لا المحلوق إلا أن ما في الصحيحين يفيد العكس وذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال للحلاق: خذ، وأشار على الجانب الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس، قال (أي ابن الهمام) في الفتح: وهو الصواب وإن كان خلاف المذهب – انتهى. وأقول (قائله ابن عابدين) : يوافقه ما في الملتقط عن الإمام، حلقت رأسي فخطأني الحلاق في ثلاثة أشياء لما أن جلست قال: استقبل القبلة، وناولته الجانب الأيسر، فقال: ابدأ بالأيمن، فلما أردت أن أذهب قال: ادفن شعرك، فرجعت فدفنته – انتهى (نهر) أي فهذا يفيد رجوع الإمام إلى قول الحجام، ولذا قال في اللباب: هو المختار، قال شارحه: كما في منسك ابن العجمي، والبحر، وقال في النخبة: وهو الصحيح، وقد روى رجوع الإمام عما نقل عنه الأصحاب فصح تصحيح قوله الأخير، واندفع ما هو المشهور عنه عند المشائخ من البداءة من يمين الحالق وأيسر المحلوق، وقال السروجي: وعند الشافعي يبدأ بيمين المحلوق، وذكر كذلك بعض أصحابنا ولم يعزه إلى أحد، والسنة أولى، وقد صح بداءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بشق رأسه الكريم من الجانب الأيمن، ولا لأحد بعده كلام، وقد كان يحب التيامن في شأنه كله، وقد أخذ الإمام بقول الحجام ولم ينكره، ولو كان مذهبه خلافه لما وافقه – انتهى ملخصًا. ومثله في ((المعراج)) و ((غاية البيان)) انتهى كلام ابن عابدين. قلت: قصة أبي حنيفة مع الحجام مشهورة كما قال الحافظ، وأخرجها أبو الفرج بن الجزري في ((مثير الغرام الساكن)) بإسناده إلى وكيع عنه، قال وكيع قال لي أبو حنيفة: أخطأت في خمسة أبواب من المناسك فعلمنيها حجام فذكرها، ثم قال: فقلت: له (أي الحجام) من أين لك ما أمرتني به؟ قال: رأيت عطاء بن أبي رباح يفعل هذا، وذكر هذه القصة المحب الطبري في ((القرى)) (ص 114) مفصلاً، والحافظ في ((التلخيص)) مختصرًا، ولا اضطراب فيها أصلاً، وهي تدل على أن أبا حنيفة رجع عن قوله الأول بتعليم الحجام وتدل على عظم شأنه حيث ترك قياسه ورأيه وقبل الحق عمن هو دونه، وتدل أيضًا على أنه لم يبلغه حديث الابتداء في حلق الرأس بيمين المحلوق وإلا لما خالفه، وهو نص في مورد النزاع قاطع

ص: 261

ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه، ثم ناول الشق الأيسر. فقال " احلق ". فحلقه فأعطاه أبا طلحة، فقال:" اقسمه بين الناس ".

ــ

للخلاف اتفقت روايته عند مخرجيه على التصريح بالبداءة بشق الرأس الأيمن، وفيه بيان أن التيامن المحجوب المطلوب في حلق الرأس وهو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وعمله لا ما فهمه أبو حنيفة أو لا، ولذلك اضطر ابن الهمام والسروجي والإتقاني وابن نجيم والعيني وغيرهم من الحنفية إلى تصحيح قول أبي حنيفة الأخير وتصويبه واختياره (ثم دعا أبا طلحة الأنصاري) زوج أم سليم والدة أنس راوي هذا الحديث واسم أبي طلحة زيد بن سهل الجاري، تقدم ترجمته (ج 1: ص 406) قال القاري: وكان له عليه الصلاة والسلام بأبي طلحة وأهله مزيد خصوصية ومحبة ليست لغيرهم من الأنصار وكثير من المهاجرين الأبرار رضي الله عنهم (فأعطاه) أي أبا طلحة (إياه) أي الشعر المحلوق (ثم ناول) وفي مسلم ((ثم ناوله)) أي الحالق (الشق الأيسر) من الرأس (فأعطاه أبا طلحة فقال: اقسمه بين الناس) الحديث ظاهر بل نص في أن شعر شقيه صلى الله عليه وسلم أعطاه أبا طلحة وفي أنه أمر بقسم شعر الشق الأيسر بين الناس ويدل عليه أيضًا رواية أبي عوانة في صحيحه بلفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الحلاق فحلق رأسه ودفع إلى أبي طلحة الشق الأيمن ثم حلق الشق الآخر فأمره أن يقسمه بين الناس، وفي رواية لمسلم أنه قسم الأيمن بين من يليه وأعطى الأيسر أم سليم، وفي لفظ له ((فوزعه (أي الأيمن) الشعرة والشعرتين بين الناس ودفع الأيسر إلى أبي طلحة)) . قال الحافظ: ولا تناقض في هذه الروايات بل طريق الجمع بينها أنه ناول أبا طلحة كلا من الشقين، فأما الأيمن فوزعه أبو طلحة بأمره، وأما الأيسر فأعطاه لأم سليم زوجته بأمره صلى الله عليه وسلم أيضًا، زاد أحمد في رواية له لتجعلها في طيبها، وعلى هذا فالضمير في قوله يقسمه في رواية أبي عوانة يعود على الشق الأيمن وكذا قوله في رواية الباب فقال: اقسمه بين الناس – انتهى. وقال المحب الطبري: والصحيح أن الذي وزعه على الناس صلى الله عليه وسلم الشق الأيمن على ما تضمنه حديث توزيع الشعرة والشعرتين بين الناس، وأعطى الأيسر أبا طلحة أو أم سليم على ما تضمنه أيضًا ولا تضاد بين الروايتين، لأن أم سليم امرأة أبي طلحة فأعطاه صلى الله عليه وسلم لهما، فنسبت العطية تارة إليه وتارة إليها – انتهى. قال النووي: في الحديث فوائد منها بيان السنة في أعمال الحج يوم النحر بعد الدفع من مزدلفة ووصوله منى وهي أربعة: رمي جمرة العقبة أولاً، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم دخوله مكة وطواف الإفاضة، وكلها ذكرت في هذا الحديث إلا طواف الإفاضة. والسنة في هذه الأعمال الأربعة أن تكون مرتبة كما ذكرنا لهذا الحديث الصحيح، فإن خالف ترتيبها فقدم مؤخرًا أو أخر مقدمًا جاز لقوله صلى الله عليه وسلم ((افعل ولا حرج)) وسيأتي الكلام على هذا في الباب الآتي، ومنها طهارة شعر الآدمي وهو الصحيح من مذهبنا، وبه قال جماهير العلماء، ومنها التبرك بشعره صلى الله عليه وسلم وجواز اقتنائه للتبرك، ومنها مواساة الإمام والكبير بين أصحابه وأتباعه فيما يفرقه عليهم

ص: 262

متفق عليه.

2674 -

(6) وعن عائشة، قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت،

ــ

من عطاء وهدية قال الحافظ: وفيه أن المواساة لا تستلزم المساواة، وفيه تنفيل من يتولى التفرقة على غيره، قال العيني: وفيه أن حلق الرأس سنة أو مستحبة إقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم. قال الزرقاني: وإنما قسم شعره في أصحابه ليكون بركة باقية بينهم وتذكرة لهم، وكأنه أشار بذلك إلى اقتراب الأجل، وخص أبا طلحة بالقسمة التفاتًا إلى هذا المعنى، لأنه هو الذي حفر قبره ولحد له وبنى فيه اللبن – انتهى. (متفق عليه) أي على أصل الحديث، فإن البخاري رواه في ((باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان)) من كتاب الطهارة مختصرًا جدًا بلفظ ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ من شعره)) قال العيني: لم يخرجه أحد من الستة غيره بهذه العبارة. وقال المزي في الأطراف (ج 1: ص 373) بعد ذكره: هو مختصر من حديث قد تقدم (ج 1: ص 371) يريد بذلك حديث الباب، وقد أخرجه مسلم في الحج مطولاً بألفاظ مختلفة متقاربة المعنى والسياق المذكور في الكتاب مأخوذ من روايتين لمسلم فقوله ((إن النبي صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى)) وقع عنده في رواية يحيى بن يحيى عن حفص بن غياث عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أنس، وقوله ((ونحر نسكه وناول الحالق شقه الأيمن)) إلخ. وقع في رواية ابن أبي عمر عن ابن عيينة عن هشام عن ابن سيرين، وقوله ((ثم دعا بالحلاق)) ليس عند مسلم بل هو عند أبي داود فقط. فالمصنف أخذ صدر الرواية الأولى وترك عجزها، وترك أول الرواية الثانية وأدخل في الوسط فقرة من رواية أبي داود ولا يخفى ما في هذا الصنيع من الخلل. والحديث أخرجه أحمد والترمذي والنسائي في الكبرى وأبو داود وابن الجارود (ص 173) والبيهقي (ج 5: ص 103، 134) قال المزي في الأطراف (ج 1: ص 371) : حديث عبيد بن هشام الحلبي وعمرو بن عثمان الحمصي عن ابن عيينة (عند أبي داود) في رواية أبي الحسن بن العبد وأبي بكر بن داسة ولم يذكره أبو القاسم.

2674 – قوله (كنت أطيب رسول الله قبل أن يحرم) فيه دليل على جواز استعمال الطيب بل استحباب التطيب قبل الإحرام بما شاء من طيب سواء كان يبقى عينه ولونه أو أثره بعد الإحرام أو لا يبقى، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة والثوري وهو مذهب أكثر الصحابة وجماعة من التابعين، وقال مالك: يكره التطيب عند إرادة الإحرام إذا يبقى أثر الطيب وريحه أو عينه بعد التلبس بالإحرام، وإليه ذهب محمد بن الحسن واختاره الطحاوي (ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت) أي طواف الإفاضة يعني بعد التحلل الأول وهو بالحلق، وبه يظهر المناسبة بين الباب وبين هذا

ص: 263

بطيب فيه مسك. متفق عليه.

2675 -

(7) وعن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى.

ــ

الحديث (بطيب) متعلق بأطيب (فيه) أي في أجزائه (مسك) في الحديث دليل على حل التطيب بعد رمي الجمرة والحلق قبل طواف الإفاضة، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وأبو حنيفة، وكرهه مالك، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث مستوفى في باب الإحرام والتلبية، وهو أول أحاديث الباب المذكور فعليك أن تراجعه (متفق عليه) واللفظ لمسلم، رواه عن أحمد بن منيع ويعقوب الدورقي كلاهما عن هشيم عن منصور عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة، ((قالت: كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم)) إلخ. وليس عند البخاري لفظ المسك.

2675 – قوله (أفاض يوم النحر) أي نزل من منى إلى مكة بعد رميه ونحره وحلقه فطاف طواف الفرض أي طواف الزيارة والإفاضة وقت الضحى (ثم رجع) أي في ذلك اليوم (فصلى الظهر بمنى) فيه تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم طاف طواف الإفاضة نهارًا وصلى صلاة الظهر بمنى بعد ما رجع من مكة، ويوافقه في وقت الطواف حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، ويخالفه في الموضع الذي صلى فيه ظهر يوم النحر حيث قال:((ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر)) ففيه التصريح بأنه أفاض نهارًا وهو نهار يوم النحر، وأنه صلى ظهر يوم النحر بمكة، وكذلك قالت عائشة أنه طاف يوم النحر وصلى الظهر بمكة، فاتفق الحديثان في وقت طواف الإفاضة واختلفا في موضع صلاته لظهر ذلك اليوم. ووجه الجمع بينهما أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة كما قال جابر وعائشة، ثم رجع إلى منى فصلى بأصحابه الظهر مرة أخرى كما صلى بهم صلاة الخوف مرتين مرة بطائفة ومرة بطائفة أخرى في بطن نخل، فرأى جابر وعائشة صلاته في مكة فأخبر بما رأيا، وقد صدقا، ورأى ابن عمر صلاته بهم في منى فأخبر بما رأى وقد صدق، وبهذا الجمع جزم النووي وغير واحد، وقد جمع بعضهم بينهما بوجوه أخرى وصار بعضهم إلى الترجيح كما تقدم مفصلاً في شرح حديث جابر في قصة حجة الوداع. هذا، وقد ورد في بعض الرويات ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم طاف طواف الإفاضة ليلاً. قال البخاري في صحيحه: وقال الزبير عن عائشة وابن عباس: أخر النبي صلى الله عليه وسلم الزيارة إلى الليل، وقد تقرر أن كل ما علقه البخاري بصيغة الجزم فهو صحيح إلى من علق عنه مع أنه وصله أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم من طريق سفيان الثوري عن أبي الزبير به، وزياراته ليلاً في هذا الحديث المروي عن عائشة وابن عباس مخالفة لما تقدم في حديثي جابر وابن عمر وللجمع بينهما أوجه كما سبق منها أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف الزيارة في النهار يوم النحر كما أخبر به جابر وعائشة وابن عمر ثم بعد ذلك صار يأتي البيت ليلاً ثم يرجع إلى منى فيبيت بها، وإتيانه البيت في ليالي منى هو مراد عائشة وابن عباس. وقال البخاري في صحيحه بعد أن ذكر هذا الحديث الذي علقه بصيغة الجزم ما نصه: ويذكر عن أبي حسان

ص: 264