المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الترمذي: هذا حديث صحيح. ‌ ‌(11) باب ما يجتنبه المحرم ‌ ‌(الفصل الأول) 2703 - - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٩

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

فهرس الكتاب

- ‌(2) باب قصة حجة الوداع

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(3) باب دخول مكة والطواف

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(4) باب الوقوف بعرفة

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(5) باب الدفع من عرفة والمزدلفة

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(6) باب رمي الجمار

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(7) باب الهدي

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(8) باب الحلق

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(9) باب

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(10) باب خطبة يوم النحر، ورمي أيام التشريق، والتوديع

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(11) باب ما يجتنبه المحرم

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(12) باب المحرم يجتنب الصيد

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(13) باب الإحصار، وفوت الحج

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(14) باب حرم مكة حرسها الله تعالى

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

- ‌(15) باب حرم المدينة حرسها الله تعالى

- ‌(الفصل الأول)

- ‌(الفصل الثاني)

- ‌(الفصل الثالث)

الفصل: الترمذي: هذا حديث صحيح. ‌ ‌(11) باب ما يجتنبه المحرم ‌ ‌(الفصل الأول) 2703 -

الترمذي: هذا حديث صحيح.

(11) باب ما يجتنبه المحرم

(الفصل الأول)

2703 -

(1) عن عبد الله بن عمر، أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يلبس المحرم من الثياب؟

ــ

الترمذي: هذا حديث صحيح) وسكت عنه أبو داود ونقل المنذري تصحيح الترمذي وقرره، وصححه الحاكم على شرط الشيخين وسكت عنه الذهبي.

(باب ما يجتنبه المحرم) أي من المحظورات يعني وما لا يجتنبه من المباحات، قاله القاري. والمقصود بيان ما يحرم على المحرم وما يباح له، والمراد بالمحرم من أحرم بحج أو عمرة أو قرن، وقد تقدم الكلام على معنى الإحرام وحقيقته في باب الإحرام والتلبية.

2703 -

قوله (عن عبد الله ابن عمر أن رجلاً) قال الحافظ: لم أقف على اسمه في شيء من الطرق (سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يلبس) كلمة استفهامية أو موصولة أو موصوفة في محل النصب على أنه مفعول ثان لسأل، و ((يلبس)) بفتح الموحدة من اللبس بضم اللام، يقال: لبس الثوب يلبس من باب علم يعلم. وأما اللبس بفتح اللام فهو من باب ضرب يضرب، يقال لبست عليه الأمر ألبس بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل إذا خلطت عليه، ومنه التباس الأمر وهو اشتباهه (المحرم) قال الحافظ: أجمعوا على أن المراد به ها هنا الرجل ولا يلتحق به المرأة في ذلك. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن للمرأة لبس جميع ما ذكر، وإنما تشترك مع الرجل في منع الثوب الذي مسه الزعفران أو الورس وسيأتي الكلام على ذلك (من الثياب) أي من أنواع الثياب وهو بيان لما، أو للمسئول عنه وعند أحمد (ج 2: ص 77) والنسائي من طريق عمر بن نافع عن أبيه ((ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا؟)) وهكذا عند أحمد (ج 2: ص 54) من طريق عبيد الله و (ص 65) من طريق أيوب كلاهما عن نافع، وهو مشعر بأن السؤال كان قبل الإحرام. وللبيهقي من طريق عبد الله بن عون عن نافع عن ابن عمر قال: قام رجل من هذا الباب يعني بعض أبواب مسجد المدينة فقال: يا رسول الله ما يلبس المحرم؟ وله أيضًا من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: ((نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب وهو بذاك المكان، وأشار نافع إلى مقدم المسجد)) فظهر أن السؤال كان بالمدينة. وفي حديث ابن عباس عند الشيخين أنه صلى الله عليه وسلم خطب بذلك في عرفات فيحمل على التعدد. ويؤيده أن في حديث ابن عمر أجاب به السائل. وفي حديث ابن عباس ابتدأ به الخطبة. وقوله ((ما يلبس المحرم من الثياب)) هي الرواية المشهورة عن نافع عن ابن عمر. وقد رواه أبو عوانة من طريق ابن جريج عن نافع بلفظ ((ما يترك المحرم)) قال الحافظ: وهي شاذة، والاختلاف فيها على ابن جريج لا على

ص: 330

فقال: " لا تلبسوا القمص

ــ

نافع، وأخرجه أحمد (ج 2: ص 8) عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن ابن عمر فقال مرة: ما يترك؟ ومرة: ما يلبس؟ وأخرجه أبو داود عن ابن عيينة بلفظ ((ما يترك)) من غير شك. ورواه سالم عن ابن عمر بلفظ ((أن رجلاً قال: ما يجتنب المحرم من الثياب)) أخرجه أحمد (ج 2: ص 34) وابن خزيمة وأبو عوانة في صحيحيهما من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عنه، وأخرجه البخاري في أواخر الحج من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري بلفظ نافع فالاختلاف فيه على الزهري يشعر بأن بعضهم رواه بالمعني فاستقامت رواية نافع لعدم الاختلاف فيها (لا تلبسوا أي مريدوا الإحرام. وفي رواية للبخاري ((لا يلبس)) بالرفع على الخبر على الأشهر وهو في معنى النهي، وروى بالجزم على أنه نهى، وهذا الجواب مطابق للسؤال على إحدى الروايتين وهي قول السائل ما يترك المحرم أو ما يجتنب المحرم؟ وأما على الرواية المشهورة أي قول السائل ((ما يلبس)) فإن المسئول عنه ما يلبسه المحرم فأجيب بذكر ما لا يلبسه، والحكمة فيه أن ما يجتنبه المحرم ويمتنع عليه لبسه محصور فذكره أولى ويبقى ما عداه على الإباحة بخلاف ما يباح له لبسه فإنه كثير غير محصور فذكره تطويل، وفيه تنبيه على أن السائل لم يحسن السؤال وأنه كان الأليق السؤال عما يتركه فعدل عن مطابقته إلى ما هو أولى، وبعض علماء المعاني يسمى هذا أسلوب الحكيم، وقريب منه قوله تعالى {يسألونك ماذا ينفقون، قل ما أنفقتم من خير فللوالدين} (سورة البقرة، الآية 215) فالسؤال عن جنس المنفق فعدل عنه في الجواب إلى ذكر المنفق عليه لأنه أهم. وكان اعتناء السائل بالسؤال عنه أولى. قال النووي: قال العلماء: هذا الجواب من بديع الكلام وجزله فإنه صلى الله عليه وسلم سئل عما يلبسه المحرم فقال: لا يلبس كذا وكذا فحصل في الجواب أنه لا يلبس المذكورات ويلبس ما عداها، فكان التصريح بما لا يلبس أولى لأنه منحصر، وأما الملبوس الجائز للمحرم فغير منحصر فضبط الجميع بقوله لا يلبس كذا وكذا يعني ويلبس ما سواه – انتهى. وقال البيضاوي: سئل عما يلبس فأجاب بما لا يلبس ليدل بالالتزام من طريق المفهوم على ما يجوز، وإنما عدل عن الجواب لأنه أخصر وأحصر، وفيه إشارة إلى أن حق السؤال أن يكون عما لا يلبس لأنه الحكم العارض في الإحرام المحتاج لبيانه، إذ الجواز ثابت بالأصل معلوم بالاستصحاب فكان الأليق السؤال عما لا يلبس. وقال ابن دقيق العيد: يستفاد منه أن المعتبر في الجواب ما يحصل منه المقصود كيف ما كان، ولو بتغيير أو زيادة ولا يشترط المطابقة (القمص) بضمتين جمع قميص نوع من الثياب معروف وهو الدرع، وذكر ابن الهمام في أبواب النفقة من فتح القدير أنهما سواء إلا أن القميص يكون مجيبًا من قبل الكتف والدرع من قبل الصدر – انتهى. ونبه به وبالسراويلات على جميع ما في معناهما وهو ما كان محيطًا أو مخيطًا معمولاً على قدر البدن أو قدر عضو منه، وذلك مثل الجبة والقميص والقباء والتبان والقفار، وفي البحر عن مناسك ابن أمير الحاج الحلبي أن ضابطه لبس كل شيء معمول على قدر البدن أو

ص: 331

..............................................................................................

ــ

بعضه بحيث يحيط به بخياطة أو تلزيق بعضه ببعض أو غيرهما، ويستمسك عليه بنفس لبس مثله إلا المكعب – انتهى. وفي شرح الإحياء للزبيدي ((ثم إن قولهم: إن المحرم لا يلبس المخيط)) ترجمة لها جزآن لبس ومخيط، فأما اللبس فهو مرعي في وجوب الفدية على ما يعتاد في كل ملبوس إذ به يحصل الترفه والتنعم، فلو ارتدى بقميص أو قباء أو التحف فيهما أو اتزر بسراويل فلا فدية عليه (فإنه لا يعد لابسًا له في العرف) كما لو اتزر بإزار خيط عليه رقاع، وأما المخيط فخصوص الخياطة غير معتبر بل لا فرق بين المخيط والمنسوج كالدرع والمعقود كجبة اللبد والملزق بعضه ببعض قياسًا لغير المخيط على المخيط والمتخذ من القطن والجلد وغيرهما سواء – انتهى. فإن قلت: تقييد اللبس المنتهي عنه باللبس المعتاد يخالف ما سيأتي في الفصل الثالث من حديث نافع أن ابن عمر وجد القر فقال: ألق على ثوبًا يا نافع، فألقيت عليه برنسًا، فقال: تلقي على هذا؟ وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلبسه المحرم. قلت: قال ابن عبد البر:هذا من ورعه وتوقيه كره أن يلقى عليه البرنس وسائر أهل العلم إنما يكرهون الدخول فيه ولكنه رضي الله عنه استعمل العموم في اللباس لأن التغطية والامتهان قد يسمى لباسًا، ألم تسمع إلى قول أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس – انتهى. وهو يقتضي أن ابن عمر إنما فعل ذلك احتياطًا لا لاعتقاده الوجوب. وقال العراقي في شرح الترمذي: ويحتمل أن البرنس كان مفرجًا كالقباء بحيث لو قام عد لابسًا له، فإن بعض البرانس كذلك. وقد حكى الرافعي عن إمام الحرمين فيما لو ألقي على نفسه قباء أو فرجية وهو مضطجع أنه إن أخذ من بدنه ما إذا قام عد لابسه فعليه الفدية، وإن كان بحيث لو قام أو قعد لم يستمسك عليه إلا بمزيد أمر فلا – انتهى، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك عند شرح حديث نافع المذكور. تنبيه: قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مناسك الحج ((والسنة أن يحرم في إزار ورداء سواء كانا مخيطين أو غير مخيطين باتفاق الأئمة)) قال صديقنا العلامة عبد الرحمن الافريقي رحمه الله في كتابه ((توضيح الحج والعمرة)) (ص 44) : ومعنى ((مخيطين)) أن تكون في الرداء والإزار خياطة عرضًا وطولاً،وقد غلط في هذا كثير من العوام، يظنون أن المخيط الممنوع هو كل ثوب خيط سواء في صورة عضو الإنسان أم لا، بل كونه مخيطًا مطلقًا، وهذا ليس بصحيح، بل المراد بالمخيط الذي نهي عن لبسه هو ما كان على صورة عضو الإنسان كالقميص والفنيلة والجبة والصدرية والسراويل وكل ما على صفة الإنسان محيط بأعضائه لا يجوز للمحرم لبسه ولو بنسج، وأما الرداء الموصل لقصره أو لضيقة أو خيط لوجود الشق فيه فهذا جائز – انتهى. قال النووي: قال العلماء: الحكمة في تحريم اللباس المذكور في الحديث على المحرم ولباسه الإزار والرداء أن يبعد عن الترفه ويتصف بصفة الخاشع الذليل وليتذكر أنه محرم في كل وقت فيكون أقرب إلى كثرة أذكاره وأبلغ في مراقبته وصيانته لعبادته وامتناعه من ارتكاب المحظورات وليتذكر به الموت ولباس الأكفان ويتذكر البعث يوم القيامة حفاء عراة مهطعين إلى الداع، والحكمة في تحريم الطيب

ص: 332

ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف،

ــ

والنساء أن يبعد عن الترفه وزينة الدنيا وملاذها، ولأن الطيب داع إلى الجماع ولأنه ينافي الحاج فإنه أشعث أغبر، ومحصله أن يجمع همه لمقاصد الآخرة – انتهى بزيادة يسيرة. وقال الشيخ ولى الله الدهلوي: الفرق بين المخيط وما في معناه وبين غير ذلك أن الأول ارتفاق وتحمل وزينة والثاني ستر عورة، وترك الأول تواضع لله وترك الثاني سوء أدب. وقال أيضًا: إن الإحرام في الحج والعمرة بمنزلة التكبير في الصلاة، فيه تصوير الإخلاص والتعظيم وضبط عزيمة الحج بفعل ظاهر، وفيه جعل النفس متذللة خاشعة لله بترك الملاذ والعادات المألوفة وأنواع التجمل، وفيه تحقيق معاناة التعب والتشعث والتغبر لله، وإنما شرع أن يجتنب المحرم هذه الأشياء تحقيقًا للتذلل وترك الزينة والتشعث وتنويها لاستشعار خوف الله وتعظيمه ومؤاخذة نفسه أن لا تسترسل في هواها – انتهى. (ولا العمائم) جمع عمامة بكسر العين، سميت بذلك لأنها تعم جميع الرأس، ونبه به على كل ساتر للرأس مخيطًا أو غير مخيط حتى العصابة فإنها حرام (ولا السراويلات) هو واحد جاء بلفظ الجمع، وقيل جمع سروالة، وهو ثوب خاص بالنصف الأسفل من البدن ولفظه أعجمي لا عربي على الصحيح، يقال: هو فارسي معرب ((شلوار)) في الهندية. في القاموس: السراويل فارسية معربة جمعها سراويلات أو هي جمع سروال وسروالة – انتهى. فالسراويلات تكون حينئذ جمع الجمع. وقال صاحب المحكم: السراويل فارسي معرب يذكر ويؤنث ولم يعرف الأصمعي فيها إلا التأنيث والجمع سراويلات، والسراوين (بالنون) السراويل. زعم يعقوب أن النون فيها بدل من اللام. وقال أبو حاتم السجستاني وسمعت من الأعراب من يقول: الشراويل بالشين المعجمة (ولا البرانس) بفتح الموحدة وكسر النون، جمع البرنس بضمهمها. قال الأزهري وصاحب المحكم وغيرهما: البرنس كل ثوب رأسه منه ملتزق به دراعة كانت أو جبة أو ممطرًا (الممطر بكسر الميم الأولى وفتح الطاء ما يلبس في المطر يتوقى به) من البرس بكسر الباء وهو القطن والنون زائدة، قال النووي: نبه بالعمام والبرانس على كل ساتر للرأس مخيطًا كان أو غيره حتى العصابة فإنها حرام، فإن احتاج إليها لشجة أو صداع أو غيرهما شدهما ولزمته الفدية – انتهى. وقال الخطابي: ذكر العمامة والبرنس معًا ليدل على أنه لا يجوز تغطية الرأس لا بالمعتاد ولا بالنادر. قال: ومن النادر المكتل يحمله على رأسه. قال الحافظ: إن أراد أنه يجعله على رأسه كلابس القبع صح ما قال، وإلا فمجرد وضعه على رأسه على هيأة الحامل لحاجته لا يضر، ومما لا يضر أيضًا الانغماس في الماء فإنه لا يسمى لابسًا وكذا ستر الرأس باليد (ولا الخفاف) بكسر الخاء المعجمة جمع خف. قال النووي: نبه صلى الله عليه وسلم بالخفاف على كل ساتر للرجل من مداس وجمجم وجورب وغيرها. وهذا وما قبله كله حكم الرجال، وأما المرأة فيباح لها ستر جميع بدنها بكل ساتر من مخيط وغيره إلا ستر وجهها فإنه حرام بكل ساتر وفي ستر يديها بالقفازين خلاف

ص: 333

إلا أحد لا يجد نعلين،

ــ

للعلماء وهما قولان للشافعي أصحهما تحريمه – انتهى. قال الغزالي في الإحياء: وللمرأة أن تلبس كل مخيط بعد أن لا تستر وجهها بما يماسه، فإن إحرامها في وجهها – انتهى. قال الزبيدي في شرحه: أي إن الوجه في حق المرأة كالرأس في حق الرجل ويعبر عن ذلك بأن إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها، والأصل في ذلك ما روى البخاري من حديث نافع عن ابن عمر مرفوعًا: لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين (سيأتي الكلام على هذا بعد تخريج الحديث حيث ذكره المصنف) ثم إن قوله: فإن إحرامها في وجهها هو لفظ حديث أخرجه البيهقي في المعرفة (وفي السنن ج 5: ص 47) عن ابن عمر قال: إحرام المرأة في وجهها وإحرام الرجل في رأسه. وأخرج الدارقطني والطبراني والعقيلي وابن عدي (والبيهقي في السنن ج 5: ص 47 مرفوعًا) من حديثه بلفظ ((ليس على المرأة إحرام إلا في وجهها)) وإسناده ضعيف (لأن في سنده أيوب بن محمد أبا الجمل. قال البيهقي: وهو ضعيف عند أهل العلم بالحديث، ضعفه ابن معين وغيره) وقال العقيلي: لا يتابع على رفعه، إنما يروى موقوفًا. وقال الدارقطني في العلل: الصواب وقفه، وليس للرجل لبس القفازين كما ليس له لبس الخفين، وهل للمرأة فيه قولان: أحدهما لا يجوز، قاله في الأم والإملاء، وبه قال مالك وأحمد. والثاني وهو منقول المزني نعم، وبه قال أبو حنفية. وفي الوجيز أنه أصح القولين لكن أكثر النقلة على ترجيح الأول * انتهى. وسيأتي الكلام في هذه المسألة عند شرح قوله: لا تلبس القفازين (إلا أحد) قال القاري: بالرفع على البدلية من واو الضمير، وقال الزرقاني في شرح الموطأ: بالنصب عربي جيد، وروي بالرفع وهو المختار في الاستثناء المتصل بعد النفي وشهبه. قال الزين بن المنير: يستفاد منه جواز استعمال أحد في الإثبات خلافًا لمن خصه بضرورة الشعر كقوله:

وقد ظهرت فلا تخفى على أحد _

إلا على أحد لا يعرف القمرا

قال: والذي يظهر لي بالاستقراء أنه لا يستعمل في الإثبات إلا أن كان يعقبه نفي وكان الإثبات حينئذ في سياق النفي (لا يجد نعلين) في محل الرفع لأنه صفة لأحد، وزاد معمر في روايته عن الزهري عن سالم في هذا الموضع زيادة حسنة تفيد ارتباط ذكر النعلين بما سبق، وهي قوله: وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين، فإن لم يجد نعلين فليلبس الخفين واستدل بقوله ((فإن لم يجد نعلين)) على أن واجد النعلين لا يلبس الخفين المقطوعين وهو قول الجمهور. وأجازه الحنفية وبعض الشافعية. وقال ابن العربي: إن صار كالنعلين جاز، وإلا متى سترا من ظاهر الرجل شيئًا لم يجز إلا للفاقد. قال الزرقاني: فإن لبسهما مع وجود نعلين افتدى عند مالك والليث، وعن الشافعي قولان – انتهى. وصرح في الشرح الكبير والدسوقي بالفدية إن لبسهما مع وجود النعلين سواء قطعهما أولا، وقال في شرح الإحياء: هل يجوز لبس الخف المقطوع والمكعب مع وجود النعلين، فيه وجهان أحدهما نعم لشهبه بالنعل وأصحهما لا، لأن الإذن في الخبر

ص: 334

فيلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين،

ــ

مقيد بشرط أن لا يجدهما - انتهى. وقال القاري في شرح المناسك: ويجوز لبس المقطوع مع وجود النعلين لكن لا ينافي الكراهة المرتبة على مخالفة السنة – انتهى. قال الحافظ: والمراد بعدم الوجدان أن لا يقدر على تحصيله إما لفقده أو ترك بذل المالك له أو عجزه عن الثمن إن وجد من يبيعه أو الأجرة، ولو بيع بغبن لم يلزمه شراؤه أو وهب له لم يجب قبوله إلا أن أعير له (فيلبس الخفين) كذا في نسخ المشكاة بصيغة المضارع وهكذا وقع في بعض نسخ الموطأ. وفي الصحيحين ((فليلبس)) بزيادة اللام على صيغة الأمر. قال الحافظ: ظاهر الأمر للوجوب لكنه لما شرع للتسهيل لم يناسب التثقيل فهو للرخصة (وليقطعهما) بكسر اللام وسكونها (أسفل من الكعبين) وفي رواية حتى يكونا تحت الكعبين. والمراد قطعهما بحيث يصير الكعبان وما فوقهما من الساق مكشوفًا لا قطع موضع الكعبين فقط. قال العيني والحافظ: والمراد كشف الكعبين في الإحرام وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، ويؤيده ما روى ابن أبي شيبة عن جرير عن هشام بن عروة عن أبيه قال: إذا اضطر المحرم إلى الخفين خرق ظهورهما وترك فيهما قدر ما يستمسك رجلاه – انتهى. اعلم أن المراد بالكعبين ها هنا هو المراد بهما في الوضوء عند الجمهور وهما العظمان الناتئان في جانبي القدم، والمراد بهما عند محمد بن الحسن ومن تبعه من الحنفية هو العظم الشاخص في ظهر القدم عند معقد الشراك. قال ابن عابدين تحت قول المصنف ((فيقطعهما أسفل من الكعبين عند معقد الشراك)) وهو المفصل الذي في وسط القدم، كذا رواه هشام عن محمد بخلافه في الوضوء، فإنه العظم الناتي أي المرتفع ولم يعين في الحديث أحدهما لكن لما كان الكعب يطلق عليهما حمل على الأول احتياطًا لأن الأحوط فيما كان أكثر كشفًا – انتهى. قال الحافظ: لا يلزم من نقل ذلك عن محمد بن الحسن على تقدير صحته عنه أن يكون قول أبي حنفية ونقل عن الأصمعي وهو قول الإمامية أن الكعب عظم مستدير تحت عظم الساق حيث مفصل الساق والقدم، وجمهور أهل اللغة على أن في كل قدم كعبين – انتهى. وقال الجوهري: الكعب العظم الناشز عند ملتقي الساق والقدم وأنكر الأصمعي قول الناس إنه في ظهر القدم – انتهى. وقال في القاموس الكعب كل مفصل للعظام والعظم الناشز فوق القدم والناشزان من جانبيها أي القدم. قال في تاج العروس (ج 1: ص 456) : وأنكر الأصمعي قول الناس: إنه في ظهر القدم وسأل ابن جابر أحمد بن يحيى عن الكعب فأومأ ثعلب إلى رجله إلى المفصل منها بسبابته عليه. ثم قال: هذا قول المفضل وابن الأعرابي. قال وأومأ إلى الناتئين. قال: وهذا قول أبي عمرو بن العلاء والأصمعي، وكل قد أصاب، كذا في لسان العرب (ج 1: ص 213) قلت: وهذا يدل على أن لفظ الكعب في اللغة يستعمل بالمعنيين بمعنى العظم الناتئ عند مفصل الساق والقدم، وبمعنى العظم في ظهر القدم عند معقد الشراك، فأخذه محمد بهذا المعنى في المحرم لكونه أحوط عنده.

ص: 335

..............................................................................................

ــ

قلت: والظاهر عندنا هو قول الجمهور. ثم ظاهر الحديث أنه لا فدية على من لبسهما بعد القطع إذا لم يجد النعلين، وهو مذهب الجمهور. وقال الحنفية تجب، وتعقب بأنها لو وجبت لبينها النبي صلى الله عليه وسلم لأنه وقت الحاجة، وأيضًا لو وجبت فدية لم يكن للقطع فائدة لأنها تجب إذا لبسهما بلا قطع، قاله الزرقاني. وهذا الذي حكاه عن الحنفية قد اختاره الطحاوي في معاني الآثار ورجحه من حيث الدليل وعزاه إلى أبي حنيفة وصاحبيه، ولكن قال القاري في المرقاة بعد نقل كلام الطحاوي: وفي منسك ابن جماعة: وإن شاء قطع الخفين من الكعبين ولبسهما ولا فدية عند الأربعة – انتهى. وأغرب الطبري والنووي والقرطبي و (الحافظ) ابن حجر فحكوا عن أبي حنيفة أنه يجب عليه الفدية إذا لبس الخفين بعد القطع عند عدم النعلين وهو خلاف المذهب، بل قال في مطلب الفائق: وهذه الرواية ليس لها وجود في المذهب بل هي منتقدة – انتهى. وقال في شرح المناسك: إذا لبسهما قبل القطع يومًا فدم، وفي أقل من يوم صدقة، وإن لبسهما بعد القطع أسفل من موضع الشراك فلا شيء عليه عندنا. وأغرب الطبري والنووي والقرطبي فحكوا عن أبي حنيفة أنه يجب عليه الفدية إذا لبس الخفين بعد القطع عند عدم النعلين – انتهى. وبهذا ظهر أن مذهب الحنفية هو كالجمهور، واستدل بالحديث على أن لبس الخفين مشروط بالقطع، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة مع الاختلاف فيما بينهم في موضع القطع، وعن أحمد في المشهور عنه لا يلزمه قطعهما بل يجوز لبسهما من غير قطع قال ابن قدامة: ويروى ذلك عن علي، وبه قال عطاء وعكرمة وسعيد بن سالم القداح، واحتج أحمد بإطلاق حديث ابن عباس عند البخاري بلفظ ((ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين)) ومثله حديث جابر عند مسلم، وتعقب بأنه موافق على قاعدة حمل المطلق على المقيد فينبغي أن يقول بها ها هنا، وبأن ابن عباس حفظ لبس الخفين ولم ينقل صفة اللبس بخلاف ابن عمر فهو أولى. قال الحافظ: وأجاب الحنابلة عن حديث القطع بأشياء: منها دعوى النسخ في حديث ابن عمر فقد روى الدارقطني من طريق عمرو بن دينار أنه روى عن ابن عمر حديثه، وعن جابر بن زيد عن ابن عباس حديثه وقال: انظروا أي الحديثين قبل. ثم حكى الدارقطني عن أبي بكر النيسابوري أنه قال: حديث ابن عمر قبل، لأنه كان بالمدينة قبل الإحرام، وحديث ابن عباس بعرفات فيكون ناسخًا لحديث ابن عمر، لأنه لو كان القطع واجبًا لبينه للناس إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وأجاب الشافعي عن هذا في الأم فقال: كلاهما صادق حافظ وزيادة ابن عمر لا تخالف ابن عباس لاحتمال أن تكون عزبت عنه أو شك أو قالها فلم يقلها عنه بعض رواته – انتهى. وسلك بعضهم الترجيح بين الحديثين. قال ابن الجوزي: حديث ابن عمر اختلف في وقفه ورفعه، وحديث ابن عباس لم يختلف في رفعه – انتهى. وهو تعليل مردود بل لم يختلف على ابن عمر في رفع الأمر بالقطع إلا في رواية شاذة على أنه اختلف في حديث ابن عباس أيضًا فرواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفًا ولا يرتاب أحد

ص: 336

ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسه زعفران

ــ

من المحدثين أن حديث ابن عمر أصح من حديث ابن عباس لأن حديث ابن عمر جاء بإسناد وصف بكونه أصح الأسانيد واتفق عليه عن ابن عمر غير واحد من الحفاظ منهم نافع وسالم، بخلاف حديث ابن عباس فلم يأت مرفوعًا إلا من رواية جابر بن زيد عنه حتى قال الأصيلي: إنه شيخ بصري لا يعرف، كذا قال، وهو معروف موصوف بالفقه عند الأئمة. واستدل بعضهم بالقياس على السراويل كما سيأتي البحث فيه في حديث ابن عباس إن شاء الله تعالى، وأجيب بأن القياس مع وجود النص فاسد الاعتبار، واحتج بعضهم بقول عطاء: إن القطع فساد والله لا يحب الفساد، وأجيب بأن الإفساد إنما يكون فيما نهى الشرع عنه لا فيما أذن فيه، وقال ابن الجوزي: يحمل الأمر بالقطع على الإباحة لا على الاشتراط عملاً بالحديثين، ولا يخفي تكلفه - انتهى كلام الحافظ، وهكذا ذكر العيني، ثم قال: والأحسن في الجواب أن يقال إن حديث ابن عباس قد ورد في بعض طرقه الصحيحة موافقته لحديث ابن عمر في قطع الخفين، رواه النسائي في سننه من طريق إسماعيل بن مسعود عن يزيد بن زريع عن أيوب عن عمرو عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا لم يجد إزار فليلبس السراويل، وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ". قال العيني: وهذا إسناد صحيح وإسماعيل بن مسعود الجحدري وثقه أبو حاتم وغيره، وباقيهم رجال الصحيح. والزيادة من الثقة مقبولة على المذهب الصحيح – انتهى. قلت: وكذا ورد الأمر بالقطع في حديث جابر أيضًا عند الطبراني الأوسط بإسناد حسنه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج 3: ص 219) فاتفقت الأحاديث كلها. قال ابن قدامة (ج 3: ص 302) والأولى قطعهما عملاً بالحديث الصحيح وخروجًا من الخلاف وأخذًا بالاحتياط – انتهى. وقال الخطابي (ج 2: ص 345) : أنا أتعجب من أحمد في هذا فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه، وقلت سنة لم تبلغه، ويشبه أن يكون إنما ذهب إلى حديث ابن عباس، وليست هذه الزيادة فيه، إنما رواها ابن عمر إلا أن الزيادات مقبولة – انتهى (ولا تلبسوا) بفتح أوله وثالثه، وهذا الحكم شامل للنساء، والدليل الصريح على تعميم هذا الحكم ما سيأتي من حديث ابن عمر في نهى النساء في الإحرام عن لبس ما مسه الزعفران والورس في الفصل الثاني من هذا الباب. قال القاري: نكتة الإعادة اشتراك الرجال والنساء في هذا الحكم إما وجه التغليب أو التبعية – انتهى. وقال الحافظ: قيل عدل عن طريقة ما تقدم ذكره إشارة إلى اشتراك الرجال والنساء في ذلك، وفيه نظر. بل الظاهر أن نكتة العدول أن الذي يخالطه الزعفران والورس لا يجوز لبسه سواء كان مما يلبسه المحرم أو لا يلبسه. قال الزرقاني: والظاهر أنه لا تنافي بين النكتتين (من الثياب شيئًا مسه) أي صبغه (زعفران) بالتنكير والتنوين لأنه ليس فيه إلا ألف ونون فقط وهو لا يمنع الصرف، وفي بعض الروايات الزعفران بالتعريف وهو بفتح الزأي المعجمة وسكون العين

ص: 337

ولا ورس ".

ــ

المهملة وفتح فاء وراء مهملة بعدها ألف ونون اسم عربي، كذا في المحيط. وقال العيني: الزعفران اسم أعجمي صرفته العرب فقالوا: ثوب مزعفر وقد زعفر ثوبه يزعفره زعفرة ويجمع على زعافر (ولا ورس) وفي بعض الروايات ولا الورس – وهو بفتح الواو وإسكان الراء آخره سين مهملة – كذا في المحيط، قال المجد: نبات كالسمسم ليس إلا باليمن يزرع فيبقى عشرين سنة، نافع للكلف طلاء والبهق شربًا، وقال العيني: نباته مثل حب السمسم، فإذا جف عند إدراكه تفتق فينفض منه مثل الورق. وقال الجوهري: الورس نبت أصفر يكون باليمن. وقال ابن بيطار: يؤتى بالورس من الصين واليمن والهند، وهو يشبه زهر العصفر. وقال الحافظ: الورس نبت أصفر طيب الريح يصبغ به وذكر ابن العربي أنه ليس بطيب فقال: والورس وإن لم يكن طيبًا فله رائحة طيبة، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين تجنب الطيب المحض وما يشبه الطيب في ملائمة الشم فيؤخذ منه تحريم أنواع الطيب على المحرم وهو مجمع عليه فيما يقصد به التطيب – انتهى. واستدل بقوله ((مسه)) على تحريم ما صبغ كله أو بعضه ولو خفيت رائحته بعد ذلك للغسل أو لمرور الزمان، وقال الشافعية: إذا صار الثوب بحيث لو أصابه الماء لم تفح له رائحة لم يمنع وإن بقى اللون، والحجة فيه حديث ابن عباس عند البخاري بلفظ ((ولم ينه عن شيء من الثياب إلا المزعفرة التي تردع الجلد)) وأما المغسولة فقال الجمهور: إذا ذهبت الرائحة جاز خلافًا لمالك، واستدل لهم بما روى أبو معاوية عن عبيد الله بن عمر عن نافع في هذا الحديث إلا أن يكون غسيلاً، أخرجه يحيى بن عبد الحميد الحماني في مسنده عنه، وروى الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران أن يحيى بن معين أنكره على الحماني فقال له عبد الرحمن بن صالح الأزدري قد كتبته عن أبي معاوية، وقام في الحال فأخرج له أصله فكتبه عنه يحيى بن معين – انتهى. قال: الحافظ وهي زيادة شاذة لأن أبا معاوية وإن كان متقنًا لكن في حديثه عن غير الأعمش مقال. قال أحمد: أبو معاوية مضطرب الحديث في عبيد الله ولم يجيء بهذه الزيادة غيره. قال الحافظ: والحماني ضعيف وعبد الرحمن الذي تابعه فيه مقال – انتهى. وقال: العيني: في الحديث حرمة لبس الثوب الذي مسه ورس أو زعفران، وأطلق حرمته جماعة منهم مجاهد وهشام بن عروة وعروة بن الزبير ومالك في رواية ابن القاسم عنه، فإنهم قالوا: كل ثوب مسه ورس أو زعفران لا يجوز لبسه للمحرم سواء كان مغسولاً أو لم يكن لإطلاق الحديث، وإليه ذهب ابن حزم الظاهري وخالفهم جماعة، وهم سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري وطاوس وقتادة وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور فإنهم أجازوا للمحرم لبس الثوب المصبوغ بالورس أو الزعفران إذا كان غسلاً لا ينفض – انتهى. وفي الموطأ: سئل مالك عن ثوب مسه طيب ثم ذهب ريح الطيب منه هل يحرم فيه؟ قال: نعم ما لم يكن فيه صباغ زعفران أو ورس. قال الباجي: إذا

ص: 338

..............................................................................................

ــ

زال من الثوب ريح الطيب ولم تكن في لونه زينة كلون الزعفران والورس أو كان مما في لونه زينة فزال اللون بالغسل فلا مانع يمنع من الإحرام فيه، وقال أيضًا في موضع آخر: إن كان الثوب مصبوغًا فيجنب المصبوغ بالزعفران أو الورس يجتنبه الرجال والنساء لما فيه من الطيب والصبغ الذي يستعمله غالبًا للتجمل، وهذان المعنيان ينافيان الإحرام، فمن لبسه من الرجال والنساء فعليه الفدية، وفي المدونة كان مالك يكره الثياب المصبوغة بالورس والزعفران وإن كان قد غسل إلا أن يكون ذهب لونه فلم يبق فيه من لونه شيء – انتهى. وحاصل كلام الباجي والمدونة أن المحظور عند المالكية شيئان الطيب ولون الزينة والتجمل كلون الزعفران، فإذا كان الثوب مصبوغًا بشيء فيه ريح فقط وزال يجوز الإحرام فيه وإذا كان مصبوغًا بنحو الزعفران لا يجوز الإحرام فيه بمجرد زوال الريح حتى يزول اللون أيضًا. وقال العيني في موضع آخر: وقال أصحابنا (الحنفية) : ما غسل من ذلك حتى صار لا ينفض (لأن المنع للطيب لا للون) فلا بأس بلبسه في الإحرام وهو المنقول عن سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح والحسن وطاوس وقتادة والنخعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور، ومعنى ((لا ينفض)) لا يتناثر صبغه وقيل لا يفوح ريحه وهما منقولان عن محمد بن الحسن والتعويل على زوال الرائحة حتى لو كان لا يتناثر صبغه ولكنه يفوح ريحه يمنع من ذلك، لأن ذلك دليل بقاء الطيب، ثم ذكر العيني حديث أبي معاوية عن عبيد الله بن عمر المذكور ثم قال: فإن قلت: ما حال هذه الزيادة أعني قوله ((إلا أن يكون غسيلاً)) قلت: صحيح لأن رجاله ثقات وروى هذه الزيادة أبو معاوية الضرير وهو ثقة ثبت، فإن قلت: قال ابن حزم: لا نعلمه صحيحًا، وقال أحمد بن حنبل: أبو معاوية مضطرب الحديث في أحاديث عبيد الله، ولم يجيء أحد بهذه غيره، قلت: كفى حجة لصحة هذه الزيادة شهادة عبد الرحمن وكتابة يحيى بن معين ورواية أبي معاوية، وأما قول ابن حزم ((لا نعلمه صحيحًا)) فهو نفي لعلمه بصحته، وهذا لا يستلزم نفي صحة الحديث في علم غيره فافهم. وقد روى أحمد في مسنده من حديث ابن عباس حديثًا يدل على جواز لبس المزعفر للمحرم إذا لم يكن فيه نفض ولا ردع – انتهى. قلت: أبو معاوية الضرير المذكور في سند حديث ابن عمر عند الطحاوي هو مضطرب الحديث في غير حديث الأعمش سيما في عبيد الله بن عمر العمري كما قاله الإمام أحمد ومع ذلك كان يدلس كما صرح به يعقوب بن شيبة وابن سعد، وروى هذا الحديث عن عبيد الله معنعنًا ففي صحته نظر، وأما حديث ابن عباس الذي أشار إليه العيني فأخرجه أحمد في مسند (ج 1: ص 353) عن يزيد بن هارون عن الحجاج عن الحسين بن عبد الله بن عبيد الله عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا بأس أن يحرم الرجل في ثوب مصبوغ بزعفران قد غسل، ليس فيه نفض ولا ردع. ثم رواه في (ج 1: ص 362) عن ابن نمير عن حجاج بن أرطاة عن حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في الثوب المصبوغ ما لم يكن به نفض ولا ردع. والسندان ضعيفان لتدليس الحجاج وضعف الحسين بن عبيد الله، وذكره

ص: 339

.............................................................................................

ــ

الزيلعي في نصب الراية (ج 3: ص 29) من رواية إسحاق بن راهوية وابن أبي شيبة والبزار وأبي يعلى الموصلي في مسانيدهم من طريق يزيد بن هارون عن الحجاج عن الحسين بن عبد الله وسكت عنه الزيلعي وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج 3: ص 219) وقال: رواه أبو يعلى والبزار وفيه حسين بن عبد الله بن عبيد الله وهو ضعيف – انتهى. هذا وقد يستفاد من ظاهر الحديث جواز لبس المزعفر لغير المحرم لأنه قال ذلك في جواب السؤال عما يلبس المحرم فدل على جوازه لغيره، ويؤيده حديث ابن عمر مرفوعًا ((كان يصبغ بالصفرة ثيابه كلها حتى عمامته)) أخرجه أبو داود والنسائي، وفي لفظ للنسائي أن ابن عمر كان يصبغ ثيابه بالزعفران، وأصله في الصحيح، ولفظه: وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها، ويؤيده أيضًا حديث قيس بن سعد قال: أتانا النبي صلى الله عليه وسلم فوضعنا له ماء يتبرد فاغتسل ثم أتيته بملحة صفراء فرأيت أثر الورس عليه، أخرجه أبو داود وابن ماجة وغيرهما، ويعارض ذلك في المزعفر للرجل ما رواه الشيخان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتزعفر الرجل. قال الشافعي: وأنهى الرجل الحلال بكل حال أن يتزعفر وأمره إذا تزعفر أن يغسله، وحمل الخطابي والبيهقي النهي على ما صبغ من الثياب بعد نسجه، فأما ما صبغ غزله ثم نسج فلا يدخل في النهي، وجوز الزين العراقي في شرح الترمذي أمرين آخرين أحدهما أن النهي عن لبس ما مسه الورس والزعفران ليس داخلاً في جواب السؤال عما يجتنبه المحرم بل هو كلام منفصل مستقل يعني أن جواب سؤاله انتهى عند قوله أسفل من الكعبين، ثم استأنف قوله ((ولا تلبسوا شيئًا مسه الزعفران)) ولا تعلق له بالمسؤل عنه، ثم استعبد العراقي هذا الاحتمال وهو حقيق بالاستبعاد، ومما رده به ما في الصحيحين عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يلبس المحرم ثوبًا مصبوغًا بورس أو زعفران. قال فقيد ذلك بالمحرم، ثانيهما حمل النهي على لطخ البدن بالزعفران دون لبس الثوب المصبوغ به، وأيده بما في سنن النسائي بإسناد صحيح عن أنس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزعفر الرجل جلده، وبما تقدم من حديث ابن عمر وقيس بن سعد ذكره الولي العراقي في شرح التقريب، وذهب ابن الهمام إلى ترجيح حديث أنس لكونه مرويًا في الصحيحين، ولكون المحرم مقدمًا على المبيح. قال الحافظ: واستنبط من منع لبس الثوب المزعفر منع أكل الطعام الذي فيه الزعفران، وهذا قول الشافعية وعن المالكية خلاف. وقال الحنفية: لا يحرم لأن المراد اللبس والتطيب، والآكل لا يعد متطيبًا، وقال الولي العراقي مورد النص في اللبس، فلو أكل ما فيه من زعفران أو غيره من أنواع الطيب قال أصحابنا (الشافعية) : إن استهلك الطيب فلم يبق له طعم ولا لون ولا ريح لم يحرم بلا خلاف، وإن ظهرت هذه الأوصاف حرم بلا خلاف، وإن بقيت الرائحة وحدها حرم أيضًا، لأنه يعد طيبًا، وإن بقى الطعم وحده فالأظهر التحريم، وإن بقى اللون وحده فالأظهر عدم التحريم، وقال المالكية: لا شيء عليه في أكل الخبيض بالزعفران، وقيل إن صبغ الفم فعليه الفدية. وما خلط بالطيب من غير طبخ ففي إيجاب

ص: 340

متفق عليه. وزاد البخاري في رواية:

ــ

الفدية به روايتان. وقال الحنفية: إن أكل الطيب في طعام قد طبخ وتغير فلا شيء عليه، وإن لم يطبخ وريحه موجود كره له ذلك، وقد يقال: إن تحريم الأكل حيث حرم مأخوذ من طريق الأولى، لأن الأكل أبلغ في مخالطة الجسد من اللبس، تنبيه: قال الحافظ: زاد الثوري في روايته عن أيوب عن نافع في هذا الحديث ((ولا القباء)) أخرجه عبد الرزاق عنه، ورواه الطبراني من وجه آخر عن الثوري، وأخرجه البيهقي والدارقطني عن عبيد الله بن عمر عن نافع أيضًا. والقباء معروف ويطلق على كل ثوب مفرج، ومنع لبسه على المحرم متفق عليه إلا أن أبا حنيفة قال: يشترط أن يدخل يديه في كميه لا إذا ألقاه على كتفه، ووافقه أبو ثور والخرقي من الحنابلة – انتهى. وقال الولي العراقي: ظاهر زيادة لفظ القباء أنه لا فرق بين أن يدخل يديه في كميه أم لا وبه قال مالك والشافعي وأحمد وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي وحكاه ابن عبد البر عن سفيان الثوري والليث بن سعد وزفر، وخص أبو حنيفة ذلك بما أدخل يديه في كميه، فإن اقتصر على لبسه على كتفيه لم يحرم وبه قال إبراهيم النخعي وحكاه ابن عبد البر عن أبي ثور – انتهى. وقال الباجي: ليس له أن يدخل منكبيه، فإن فعل ذلك افتدي، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا شيء عليه يدخل يديه في كميه – انتهى. وقال الدردير في محرمات الإحرام: وقباء وإن لم يدخل كمًا في يد بل وضعه على منكبيه مخرجًا يديه من تحته، ومحل المنع إن أدخل المنكبين في محلهما، فإن نكسه بأن جعل أسفله على منكبيه فلا فدية – انتهى. (متفق عليه أخرجه البخاري في العلم وفي الصلاة وفي المناسك وفي اللباس، ومسلم في الحج، وأخرجه أيضًا مرارًا، ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي والدارقطني والبيهقي وابن الجارود والطحاوي (وزاد البخاري في رواية) وكذا زاده أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي كلهم من رواية الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر. وذكر البخاري وأبو داود وغيرهما الاختلاف في رفع هذه الزيادة ووقفها. قال البخاري بعد روايته: تابعه (أي الليث) موسى بن عقبة وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة وجويرية وابن إسحاق في النقاب والقفازين (أي في ذكرهما في الحديث المرفوع وقال عبيد الله (يعنى ابن عمر العمري) ولا ورس، وكان يقول: ولا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين، وقال مالك عن نافع عن ابن عمر:((لا تنتقب المحرمة)) وتابعه ليث بن أبي سليم – انتهى. قال الحافظ: قوله ((وقال عبيد الله ولا ورس)) إلخ. يعنى أن عبيد الله المذكور خالف المذكورين قبل في رواية هذا الحديث عن نافع فوافقهم على رفعه إلى قوله ((زعفران ولا ورس)) وفضل بقية الحديث فجعله من قول ابن عمر، وهذا التعليق عن عبيد الله وصله إسحاق بن راهويه في مسنده عن محمد بن بشر وحماد بن مسعدة وابن خزيمة من طريق بشر بن المفضل ثلاثتهم عن عبيد الله بن عمر عن نافع فساق الحديث إلى قوله ((ولا ورس)) قال وكان عبد الله يعنى ابن عمر يقول: ولا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين. ورواه

ص: 341

" ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين ".

ــ

يحيى القطان عند النسائي وحفص بن غياب عند الدارقطني كلاهما عن عبيد الله، فاقتصر على المتفق على رفعه، وقوله ((وقال مالك)) إلخ. هو في الموطأ كما قال مالك، والغرض أن مالكًا اقتصر على الموقوف فقط. وفي ذلك تقوية لرواية عبيد الله، وظهر الإدراج في رواية غيره. وقد استشكل ابن دقيق العيد الحكم بالإدراج في هذا الحديث لورود النهى عن النقاب والقفاز مفردًا مرفوعًا (عند أبي داود من رواية إبراهيم بن سعد المدني عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم) وللابتداء بالنهي عنهما في رواية ابن إسحاق (عن نافع عن ابن عمر عند أحمد وأبي داود والحاكم) وقال في الاقتراح: دعوى الإدراج في أول المتن ضعيفة وأجيب بأن الثقات إذا اختلفوا وكان مع أحدهم زيادة قدمت ولا سيما إن كان أحفظ والأمر ها هنا كذلك، فإن عبيد الله بن عمر في نافع أحفظ من جميع من خالفه، وقد فصل المرفوع من الموقوف. وأما الذي اقتصر على الموقوف فرفعه (وهو إبراهيم بن سعد) فقد شذ بذلك وهو ضعيف، وأما الذي ابتدأ في المرفوع بالموقوف (وهو ابن إسحاق) فإنه من التصرف في الرواية بالمعنى، وكأنه رأي أشياء متعاطفة فقدم وأخر لجواز ذلك عنده، ومع الذي فصل زيادة علم فهو أولى، أشار إلى ذلك شيخنا في شرح الترمذي – انتهى. قلت: وبسط الكلام على ذلك الولي العراقي في شرح التقريب (ج 5: ص 42، 43) نقلاً عن شرح الترمذي لوالده الزين العراقي (لا تنتقب) بفوقيتين مفتوحتين بينهما نون ساكنة ثم قاف مكسورة من باب الافتعال وهو مجزوم على النهي فتكسر لالتقاء الساكنين، ويجوز رفعه على الخبرية، والانتقاب هو أن تخمر المرأة وجهها أي تغطيه بالخمار وتجعل لعينيها خرقين تنظر منهما (المرأة المحرمة) قال الزرقاني: أي لا تلبس النقاب وهو الخمار الذي تشده المرأة على الأنف أو تحت المحاجر وأن قرب من العين حتى لا يبدو أجفانها فهو الوصواص – بفتح الواو وسكون الصاد الأولى – فإن نزول إلى طرف الأنف فهو اللفاف – بكسر اللام وبالفاء – فإن نزل إلى الفم ولم يكن على الأرنبة منه شيء فهو اللثام بالمثلثة – انتهى. (ولا تلبس) بفتح الباء والجزم على النهي ويجوز رفعه (القفازين) بضم القاف وشد الفاء وبعد الألف زأي تثنية قفاز بوزن رمان شيء تلبسه نساء العرب في أيديهن يغطي الأصابع والكف والساعد من البرد ويكون فيه قطن محشو، ذكره الطيبي. وقيل يكون له أزرار يزر على الساعد، كذا في المرقاة. وقال الحافظ: القفاز ما تلبسه المرأة في يدها فيغطي أصابعها وكفيها عند معاناة الشيء كغزل ونحوه وهو لليد كالخف للرجل – انتهى، قال الولي العراقي: النهي عن الانتقاب دل على تحريم ستر الوجه بما يلاقيه ويمسه دون ما إذا كان متجافيًا عنه، وهذا قول الأئمة الأربعة وبه قال الجمهور. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله، والخفاف وأن لها أن تغطى رأسها إلا وحهها فتسدل عليه الثوب سدلاً خفيفًا تستر به عن نظر الرجال ولا تخمر إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق فلا تنكره علينا. قال ابن المنذر ويحتمل

ص: 342

..............................................................................................

ــ

أن يكون ذلك التخمير سدلاً كما جاء عن عائشة. قالت كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه، أخرجه أبو داود وابن ماجة. وقال ابن المنذر أيضًا: لا نعلم أحدًا من أصحاب رسول الله رخص فيه يعني النقاب، ثم قال: وكانت أسماء بنت أبي بكر تغطي وجهها وهي محرمة، وروينا عن عائشة أنها قالت: المحرمة تغطي وجهها إن شاءت. وقال ابن عبد البر: وعلي كراهة النقاب للمرأة جمهور علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من فقهاء الأمصار أجمعين إلا شيء روي عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تغطى وجهها وهي محرمة، وعن عائشة أنها قالت: تغطي المرأة وجهها إن شاءت وروي عنها أنها لا تفعل وعليه الناس – انتهى. وهذا كله يدل على اتفاق العلماء على وجوب كشف وجهها وعلى أن لها أن تسدل الثوب وترخيه من فوق رأسها على وجهها للتستر عن أعين الناس كما يدل عليه حديث عائشة المذكور. وعليه يحمل ما روي عن فاطمة بنت المنذر وأسماء بنت أبي بكر. وقال ابن القيم: أما نهيه صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر المرأة أن تنتقب وأن تلبس القفازين فهو دليل على أن وجه المرأة كبدن الرجل لا كرأسه فيحرم عليها فيه ما وضع وفصل على قدر الوجه كالنقاب والبرقع، ولا يحرم عليها ستره بالمقنعة والجلباب ونحوهما، وهذا أصح القولين فإن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بين وجهها ويديها ومنعها من القفازان والنقاب، ومعلوم أنه لا يحرم عليها ستر يديها وأنهما كبدن المحرم يحرم ستررهما بالمفصل على قدرهما وهما القفازان، فهكذا الوجه إنما يحرم ستره بالنقاب ونحوه. وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم حرف واحد في وجوب كشف المرأة وجهها عند الإحرام إلا النهي عن النقاب وهو كالنهي عن القفازين فنسبة النقاب إلى الوجه كنسبة القفازين إلى اليد سواء، وقد ثبت عن أسماء أنها كانت تغطي وجهها وهي محرمة، وقالت عائشة: كانت الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها فإذا جاوزونا كشفنا، ذكره أبو داود. واشتراط المجافاة عن الوجه – كما ذكره القاضي وغيره – ضعيف لا أصل له دليلاً ولا مذهبًا. قال صاحب المغنى: ولم أر هذا الشرط – يعنى المجافاة – عن أحمد ولا هو في الخبر مع أن الظاهر خلافه فإن الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة، فلو كان هذا شرطًا لبين، وإنما منعت المرأة من البرقع والنقاب ونحوهما مما يعد لستر الوجه، قال أحمد: لها أن تسدل على وجهها من فوق، وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل، كأنه يقول: إن النقاب من أسفل على وجهها، تم كلامه. فإن قيل: فما تصنعون بالحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها، فجعل وجه المرأة كرأس الرجل، وهذا يدل على وجوب كشفه؟ قيل: هذا الحديث لا أصل له أي في المرفوع ولم يروه أحد من أصحاب الكتب المعتمد عليها ولا يعرف له إسناد ولا تقوم به حجه، ولا يترك له الحديث الصحيح الدال على أن وجهها كبدنها، وأنه يحرم عليها فيه ما أعد للعضو كالنقاب والبرقع ونحوه، لا مطلق الستر كاليدين – انتهى. ونحو ذلك قال ابن تيمية. وأما لبس

ص: 343

............................................................................................

ــ

المرأة القفازين فمختلف فيه فذهب مالك وأحمد إلى منعه وهو أصح القولين عن الشافعي وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وعطاء ونافع وإبراهيم النخعي. وقال ابن المنذر: اتقاؤه أحب إليّ للحديث الذي جاء فيه (يعنى حديث ابن عمر الذي نحن في شرحه) وقال ابن عبد البر: الصواب عندي نهي المرأة عنه ووجوب الفدية عليها به لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب آخرون إلى جوازه وحكاه ابن المنذر عن سعد بن أبي وقاص وعائشة وعطاء والثوري ومحمد بن الحسن، وحكاه النووي وغيره عن أبي حنفية. قال ابن عبد البر: ويشبه أن يكون مذهب ابن عمر لأنه كان يقول: إحرام المرأة في وجهها – انتهى. قال الولي العراقي: وهو رواية المزني عن الشافعي وصححه من أصحابنا الغزالي والبغوي، قال الرافعي: لكن أكثر النقلة على ترجيح الأول، وحكى الخطابي عن أكثر أهل العلم أنه لا فدية عليها إذا لبست القفازين وهو قول عند المالكية – انتهى. قلت: اتفقت فروع المذاهب الثلاثة على منع المحرمة من لبس القفازين واستدلوا لذلك بحديث ابن عمر الذي نحن في شرحه، ومذهب الحنفية على ما في البدائع أنه لا يكره لبس القفازين عندهم. قال الكاساني: وهو قول علي وعائشة. قال: وقال الشافعي: لا يجوز لحديث ابن عمر، ولنا ما روي أن سعد بن أبي وقاص كان يلبس بناته وهن محرمات القفازين ولأن لبس القفازين ليس إلا تغطية يديها بالمخيط وأنها غير ممنوعة عن ذلك فإن لها أن تغطيهما بقميصها وأن كان مخيطًا فكذا بمخيط آخر بخلاف وجهها، وقوله لا تلبسن القفازين نهي ندب حملناه عليه جمعًا بين الدلائل بقدر الإمكان – انتهى. وقال ابن القيم: تحريم لبس القفازين قول عبد الله بن عمر وعطاء وطاوس ومجاهد وإبراهيم النخعي ومالك والإمام أحمد والشافعي في أحد قوليه وإسحاق بن راهويه، وتذكر الرخصة عن علي وعائشة وسعد بن أبي وقاص وبه قال الثوري وأبو حنيفة والشافعي في القول الآخر. ونهي المرأة عن لبسهما ثابت في الصحيح كنهي الرجل عن لبس القميص والعمائم، وكلاهما في حديث واحد عن راو واحد، وكنهيه المرأة عن النقاب وهو في الحديث نفسه، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالإتباع، وهي حجة على من خالفها، وليس قول من خالفها حجة عليه. فأما تعليل حديث ابن عمر في القفازين بأنه من قوله فإنه تعليل باطل، وقد رواه أصحاب الصحيح والسنن والمسانيد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث نهيه عن لبس القمص والعمائم والسراويلات وانتقاب المرأة ولبسها القفازين، ولا ريب عند أحد من أئمة الحديث أن هذا كله حديث واحد من أصح الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعًا إليه، ليس من كلام ابن عمر، وموضع الشبهة في تعليله أن نافعًا اختلف عليه فيه، ثم ذكر ابن القيم عن أبي داود والبخاري ما وقع من الاختلاف في رفعه ووقفه ثم قال: فالبخاري ذكر تعليله ولم يرها علة مؤثرة فأخرجه في صحيحه عن عبد الله بن يزيد عن الليث عن نافع عن ابن عمر – انتهى. ثم ظاهرقوله ولا تنتقب المرأة اختصاصها بذلك، وأن الرجل ليس كذلك وهو مقتضى ما ذكره أول الحديث فيما يتركه المحرم، فإنه لم يذكر فيه ستر الوجه. ومذهب الشافعي وأحمد والجمهور

ص: 344

2704 -

(2) وعن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، وهو يقول:" إذا لم يجد المحرم نعلين لبس خفين، وإذا لم يجد إزارًا لبس سراويل ".

ــ

أنه يجوز للمحرم ستر وجهه ولا فدية عليه، وفيه آثار عن الصحابة عثمان بن عفان وزيد بن ثابت، وذهب أبو حنيفة ومالك إلى منعه كالرأس وهو رواية عن أحمد، وقالوا: إذا حرم على المرأة ستر وجهها مع احتياجها إلى ذلك فالرجل أولى بتحريمه. وتمسكوا أيضًا بقوله عليه الصلاة والسلام في المحرم الذي وقصته ناقته ولا تخمروا وجهه ولا رأسه. وأجاب الجمهور عنه بأن النهي عن تغطية وجهه إنما كان لصيانة رأسه لا لقصد كشف وجهه. ولا بد من هذا التأويل لأن المتمسكين بهذا الحديث وهم الحنفية والمالكية لا يقولون ببقاء أثر الإحرام بعد الإحرام بعد الموت لا في الرأس ولا في الوجه، والجمهور يقولون: لا إحرام في الوجه في حق الرجل فحينئذٍ لم يقل بظاهره أحد منهم، ولا بد من تأويله على أن المالكية قالوا إنه لا فدية في تغطية المحرم وجهه إلا في رواية ضعيفة جزم بها ابن المنذر عن مالك، وبنى بعضهم هذا الخلاف على أن التغطية حرام أو مكروهة، وحكى ابن المنذر عن محمد بن الحسن أنه إن غطى ثلثه أو ربعه فعليه دم، وإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة. ومذهب الحنفية أنه لو غطى جميع وجهه بمخيط أو غيره يومًا وليلة فعليه دم وفي الأقل من يوم صدقة كما بسط في فروعهم. وروى سعيد بن منصور عن عطاء بن أبي رباح يغطي المحرم وجهه ما دون الحاجبين أي من أعلى. وفي رواية له ما دون عينيه. قال الزين العراقي: ويحتمل أنه أراد الاحتياط لكشف الرأس. ولكن هذا أمر زائد على الاحتياط لذلك، وهو حاصل بدونه – انتهى. وفي المسألة قول رابع وهو أنه إن كان حيًا فله تغطية وجهه، وإن كان ميتًا لم يجز، قاله ابن حزم، قال الحافظ: قال أهل الظاهر: يجوز للمحرم الحي تغطية وجهه ولا يجوز للمحرم الذي يموت عملاً بالظاهر في الموضعين- انتهى.

2704 – قوله (يخطب) أي بعرفات كما تقدم (إذا لم يجد المحرم نعلين لبس خفين) أي بعد قطعهما أسفل من الكعبين كما هو مذهب الجمهور خلافًا لأحمد (وإذا لم يجد إزارًا لبس سراويل) فيه دليل على جواز لبس السراويل عند عدم الإزار من غير لزوم شيء، وإليه ذهب أحمد والشافعي، وعن أبي حنيفة منع السراويل للمحرم مطلقًا، ومثله عن مالك وكأنه لم يبلغه حديث ابن عباس، ففي الموطأ أنه سئل عما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من لم يجد إزارًا فليلبس سراويل فقال: لم أسمع بهذا ولا أرى أن يلبس المحرم سراويل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى (في حديث ابن عمر) عن لبس السراويلات (مطلقًا فيما نهي عنه من لبس الثياب التي لا ينبغي للمحرم أن يلبسها ولم يستثن فيها (أي في السراويلات في حديث ابن عمر) كما استثنى في الخفين – انتهى. قال ابن عبد البر: قال عطاء بن أبي رباح والشافعي وأصحابه والثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وداود: إذا لم يجد المحرم إزارًا لبس السراويل ولا

ص: 345

..............................................................................................

ــ

شيء عليه، وحكاه النووي عن الجمهور، قال: ولا حجة في حديث ابن عمر لأنه ذكر فيه حالة وجود الإزار وذكر في حديث ابن عباس حالة العدم ولا منافاة. وقال الرازي من الحنفية: يجوز لبسه وعليه الفدية كما قال أصحابهم في الخفين، وأجاب بعض الحنفية عن هذا الحديث بأنه متروك الظاهر، ثم حكى عن القدوري أنه قال في التجريد: وافقونا على أن السراويل لو كان كبيرًا يمكن أن يتزر به من غير فتق لم يجز لبسه لأنه واجد للإزار، وكذا لو خاط إزاره سراويل قطعة واحدة لا يجوز لبسه وإن لم يجد إزارًا غيره، لأنه إزار في نفسه إذا فتقه. قال الزين العراقي في شرح الترمذي: لا يحصل الاعتراض بهاتين الصورتين لأنه واجد للإزار فيهما وقد علله القدوري بذلك، وإنما يجوز لبس السراويل عند عدم وجدان الإزار فليس الحديث إذن متروك الظاهر، كذا في شرح التقريب. وقال ابن رشد: اختلفوا في من لم يجد غير السراويل هل له لباسها؟ فقال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز له لباس السراويل وإن لبسها افتدى، وقال الشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وداود: لا شيء عليه إذالم يجد إزارًا، وعمدة مذهب مالك ظاهر حديث ابن عمر المتقدم، وعمدة الطائفة الثانية حديث ابن عباس – انتهى. قال الأبي: ما في حديث ابن عباس أخذ به الشافعي ولم يأخذ به مالك لسقوطه في حديث ابن عمر. وقال في الموطأ: لم أسمع بها ولا أرى أن يلبسها المحرم، إلخ. وهذا يدل على أن هذه الزيادة لم تبلغه أو لم يبلغه أن المحرم يلبسه على حاله، أما لو فتق وجعل منه شبه إزار جاز – انتهى. قلت: ومذهب الحنفية أنه إذا لم يجد غير سروال فلبسه من غير فتق فعليه دم، وإن شقه واتزره فلا شيء عليه. قال الرازي: يجوز لبس السراويل من غير فتق عند عدم الإزار، ولا يلزم منه عدم لزوم الدم لأنه قد يجوز ارتكاب المحظور للضرورة مع وجوب الكفارة كالحلق للأذى ولبس المخيط للعذر. وقد صرح الطحاوي في الآثار بإباحة ذلك مع وجوب الكفارة. قال القاري: وليس في الحديث أنه لا يلزمه فتق السراويل حتى يصير غير مخيط كما قال به أبو حنيفة قياسًا على الخفين. وأما اعتراض الشافعية بأن في إضاعة مال فمردود بما تقدم، نعم لو فرض أنه بعد الفتق لا يستر العورة يجوز له لبسه من غير فتق بل هو متعين واجب إلا أنه يفدي. وأما قول ابن حجر: وعن أبي حنيفة ومالك امتناع لبس السراويل على هيئته مطلقًا فغير صحيح عنهما، وقال الولي العراقي: لم يأمر في الحديث بقطع السراويل عند عدم الإزار كما في الخف وبه قال أحمد وهو الأصح عند أكثر الشافعية. وقال إمام الحرمين والغزالي: لا يجوز لبس السراويل على حاله إلا إذا لم يتأت فتقه وجعله إزارًا، فإن تأتى ذلك لم يجز لبسه، وإن لبسه لزمته الفدية. وقال الخطابي: يحكى عن أبي حنيفة أنه قال يفتق السراويل ويتزر به، وقالوا: هذا كما جاء في الخف أنه يقطع. قال الخطابي: وهو الأصل في المال أن تضييعه حرام والرخصة إذا جاءت في لبس السراويل فظاهرها اللبس المعتاد، وستر العورة واجب، وإذا فتق السراويل واتزر به لم تستتر العورة، وأما الخف فإنه لا يغطي عورة وإنما

ص: 346

متفق عليه.

2705 -

(3) وعن يعلى بن أمية، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة إذ جاءه رجل أعرابي،

ــ

هو لباس رفق وزينة فلا يشتبهان، ومرسل الإذن في لبس السراويل إباحة لا تقتضي غرامة – انتهى. قال الحافظ: ومن أجاز لبس السراويل على حاله قيده بأن لا يكون في حالة لو فتقه لكان إزارًا لأنه في تلك الحالة يكون واجد الإزار – انتهى. قلت: الظاهر عندنا ما ذهب إليه أحمد وأكثر الشافعية من أنه يجوز لبس السراويل بغير فتق عند عدم الإزار، ولا يلزمه شيء (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي اللباس بلفظ ((من لم يجد النعلين فليلبس الخفين ومن لم يجد إزارًا فليلبس السراويل للمحرم)) وأخرجه مسلم في الحج، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 215، 221، 228، 279، 285، 337) وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي (ج 5: ص 50) .

2705 – قوله (وعن يعلى) بمفتوحة وسكون مهملة وفتح لام وقصر كيرضى (بن أمية) بمضمومة فخفة مفتوحة وشدة تحتية، هو يعلى بن أمية بن أبي عبيدة بن همام التميمي حليف قريش وهو المعروف بيعلى بن منية بضم الميم وسكون النون وفتح التحتانية وهي أمه، وقيل جدته أم أبيه، كنيته أبو خلف، ويقال أبو خالد، ويقال أبو صفوان، أسلم يوم الفتح وشهد الطائف وحنينًا وتبوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه وعن عمر بن الخطاب وروى عنه أولاده صفوان ومحمد وعثمان وغيرهم، واستعمله أبو بكر على حلوان في الردة ثم عمل لعمر على بعض اليمن فحمى لنفسه حمى فعزله، ثم عمل لعثمان على صنعاء اليمن وحج سنة قتل عثمان فخرج مع عائشة في وقعة الجمل، ثم شهد صفين مع علي، وكان جوادًا معروفًا بالكرم، له تسعة عشر حديثًا، مات سنة بضع وأربعين (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة) أي معتمرين سنة ثمان في ذي القعدة بعد فتح مكة بالعمرة المسماة بعمرة الجعرانة، وهو اسم مكان بين الطائف ومكة، وهو إلى مكة أقرب وفي ضبطه لغتان مشهورتان. قال النووي: إحداهما إسكان العين (يعني بعد الجيم المكسورة) وتخفيف الراء، والثانية كسر العين وتشديد الراء، الأولى أفصح، وبهما قال الشافعي وأكثر أهل اللغة – انتهى. وقال ابن الأثير: وهي قريب من مكة وهي في الحل وميقات الإحرام، وقال القاري: الجعرانة موضع معروف، أحرم منه النبي صلى الله عليه وسلم للعمرة، وهو أفضل من التنعيم عند الشافعية خلافًا لأبي حنيفة بناء على أن الدليل القولي أقوى، لأن القول لا يصدر إلا عن قصده، والفعل يحتمل أن يكون اتفاقيًا لا قصديًا، وقد أمر صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها أن تعتمر عن التنعيم وهو أقرب المواضع من الحرم – انتهى، وقد تقدم الكلام على ذلك في شرح حديث عائشة ثاني أحاديث باب قصة حجة الوداع (إذ جاءه رجل أعرابي) منسوب إلى الأعراب وهم سكان البادية أي بدوي. قال الحافظ في الفتح: لم أقف على اسمه. وقال في مقدمة الفتح: الصواب أنه أي الرجل المبهم يعلى بن أمية راوي الحديث كما أخرجه الطحاوي من طريق شعبة عن قتادة

ص: 347

عليه جبة وهو متضمخ بالخلوق، فقال: يا رسول الله! إني أحرمت بالعمرة وهذه عليَّ. فقال: " أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك ".

ــ

عن عطاء أن رجلاً يقال له يعلى بن أمية أحرم وعليه جبة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزعها، قلت: روى الطحاوي بسنده إلى شعبة عن قتادة عن عطاء بن أبي رباح أن رجلاً يقال له يعلى بن أمية أحرم وعليه جبة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزعها. قال قتادة: قلت لعطاء: إنما كنا نرى أن نشقها فقال عطاء: إن الله لا يحب الفساد، فإن صح الحديث فيكون هو يعلى بن أمية صاحب القصة كما قال الحافظ: وأبهم اسمه كما يحصل كثيرًا من بعض الرواة لغرض ما والله أعلم (عليه جبة) ثوب معروف وفي رواية ((عليه قميص)) (وهو) أي الرجل (متضمخ) بالضاد والخاء المعجمتين أي متلوث ومتلطخ، يقال: تضمخ بالطيب إذا تلطخ به وتلوث به (بالخلوق) بفتح الخاء المعجمة نوع من الطيب يجعل فيه زعفران (إني أحرمت بالعمرة وهذه) أي الجبة (عليّ) بتشديد الياء (أما الطيب الذي بك) أي لصق ببدنك من الجبة (فاغسله ثلاث مرات) قال عياض وغيره: يحتمل أنه من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فيكون نصًا في تكرار الغسل ويحتمل أنه من كلام الصحابي وأنه صلى الله عليه وسلم أعاد لفظ ((اغسله)) ثلاث مرات على عادته أنه إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاث مرات لتفهم عنه – انتهى. وقال القاري: ذكر الثلاث إنما هو لنوقف إزالة الخلوق عليها غالبًا، وإلا فالواجب إزالة العين بأي وجه كان - انتهى. وفي رواية للبخاري ((قلت لعطاء: أراد الإنقاء حين أمره أن يغسل ثلاث مرات؟ فقال: نعم)) . قال الحافظ: القائل هو ابن جريج وهو دال على أنه فهم من السياق أن قوله ((ثلاث مرات)) من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، لكن يحتمل أن يكون من كلام الصحابي وأنه صلى الله عليه وسلم أعاد لفظة (أغسله)) مرة ثم مرة على عادته أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا لتفهم عنه، نبه عليه عياض – انتهى. وفي رواية أبي داود والبيهقي أمره أن ينزعها نزعًا ويغتسل مرتين أو ثلاثًا. قال النووي: إنما أمر بالثلاث مبالغة في إزالة لونه وريحه والواجب الإزالة، فإن حصلت بمرة كفت ولم تجب الزيادة، ولعل الطيب الذي كان على هذا الرجل كثير ويؤيده قوله متضمخ (وأما الجبة فانزعها) بكسر الزاي أي اقلعها فورًا وأخرجها (ثم اصنع في عمرتك) هذا يدل على أن المأمور به من الأعمال ما زاد على الغسل والنزع (كما تصنع في حجك) قال الباجي: هذا يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم علم من حال السائل أنه عالم بما يفعل في الحج وإلا فلا يصح أن يقول له ذلك لأنه إذا لم يعلم ما يفعل الحاج لم يمكنه أن يمتثله المعتمر – انتهى. اعلم أنهم اختلفوا في المراد بقوله صلى الله عليه وسلم هذا فقال ابن العربي: كأنهم كانوا في الجاهلية يخلعون الثياب ويجتنبون الطيب في الإحرام إذا حجوا وكانوا يتساهلون في ذلك في العمرة فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن مجراهما واحد. وقال ابن المنير في الحاشية: قوله ((واصنع)) معناه اترك، لأن المراد بيان ما يجتنبه المحرم فيؤخذ منه فائدة حسنة وهي أن الترك فعل. قال: وأما قول ابن بطال: أراد الأدعية وغيرها مما يشترك فيه الحج والعمرة ففيه

ص: 348

..............................................................................................

ــ

نظر، لأن التروك مشتركة بخلاف الأعمال. فإن في الحج أشياء زائدة على العمرة كالوقوف وما بعده. وقال النووي كما قال ابن بطال وزاد: ويستثنى من الأعمال ما يختص به الحج. وقال الباجي: يجب أن يكون ما أمره بأن يفعل غير ما أمره من إزالة القميص وغسل الصفرة لأنهما قد نص عليهما فلا معنى أن ينصرف قوله ((وافعل في عمرتك ما تفعل في حجك)) إليهما. والوجه الآخر أنه قد عطف هذا اللفظ الثاني على النزوع والغسل فالظاهر أنهما غيرهما ولا شيء يمكن أن يشار إليه في ذلك إلا الفدية. قال الحافظ: كذا قال الباجي: ولا وجه لهذا الحصر بل الذي تبين من طريق أخرى أن المأمور به الغسل والنزع، وذلك أن عند مسلم والنسائي من طريق سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء في هذا الحديث، فقال: ما كنت صانعًا في حجك؟ قال: أنزع عني هذه الثياب وأغسل عني هذا الخلوق، فقال: ما كنت صانعًا في حجك فاصنعه في عمرتك – انتهى، واستدل بحديث يعلى على منع استدامة الطيب بعد الإحرام للأمر بغسل أثره من الثوب والبدن وقد تقدم الكلام في هذا في شرح حديث عائشة أول أحاديث باب الإحرام والتلبية، واستدل به أيضًا على أن من أصابه طيب في إحرامه ناسيًا أو جاهلاً ثم علم فبادر إلى إزالته فلا كفارة عليه (وهو مذهب الشافعي) وقال مالك: إن طال ذلك عليه لزمته، وعن أبي حنيفة وأحمد في رواية تجب مطلقًا، كذا في الفتح. وقال العيني: في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر الرجل بالفدية فأخذ به الشافعي والثوري وعطاء وإسحاق وداود وأحمد في رواية، وقالوا: إن من لبس في إحرامه ما ليس له لبسه جاهلاً فلا فدية عليه والناسي في معناه، وقال أبو حنيفة والمزني في رواية عنه يلزمه إذا غطى رأسه متعمدًا أو ناسيًا يومًا إلى الليل فإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة يتصدق بها. وقال مالك: يلزمه إذا انتفع بذلك أو طال لبسه عليه – انتهى. قال ابن بطال: لو لزمته الفدية لبينها النبي صلى الله عليه وسلم أي في هذا الحديث لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وفرق مالك في من تطيب أو لبس ناسيًا بين من بادر فنزع وغسل وبين من تمادى والشافعي أشد موافقة للحديث، لأن السائل في حديث الباب كان غير عارف بالحكم، وقد تمادى ومع ذلك لم يؤمر بالفدية، وقول مالك فيه احتياط، وأما قول الكوفيين والمزني فهو مخالف لهذا الحديث وأجاب ابن المنير في الحاشية بأن الوقت الذي أحرم فيه الرجل في الجبة كان قبل نزول الحكم، ولهذا انتظر النبي صلى الله عليه وسلم الوحي (كما يدل عليه القصة) قال: ولا خلاف أن التكليف لا يتوجه على المكلف قبل نزول الحكم فلهذا لم يؤمر الرجل بفدية عما مضى بخلاف من لبس الآن جاهلاً، فإنه جهل حكمًا استقر، وقصر في علم ما كان عليه أن يتعلمه لكونه مكلفًا به، وقد تمكن من تعلمه، وأجيب أيضًا بأن الحديث ساكت عن الفدية نفيًا وإثباتًا. قال الباجي: لا يقتضي ذلك إثبات الفدية ولا نفيها، وإنما أحاله على من قدم علم من حال من أحرم بالحج – انتهى. واستدل بالحديث على أن المحرم إذا صار عليه مخيط نزعه ولا يلزمه تمزيقه ولا شقه، وأنه إذا نزعه من رأسه لم يلزمه دم، وهو مذهب الجمهور، وروى عن إبراهيم النخعي

ص: 349

متفق عليه.

2706 -

(4) وعن عثمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب ".

ــ

والشعبي أنه لا ينزعه من قبل رأسه بل يشقه ويمزقه لئلاً يصير مغطيًا لرأسه، أخرجه ابن أبي شيبة عنهما وعن علي نحوه، وكذا عن الحسن وأبي قلابة وقد وقع عند أبي داود بلفظ ((اخلع عنك الجبة، فخلعها من قبل رأسه)) – انتهى. قال الطبري: ووجه الحجة عليهما أي على الشعبي والنخعي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالنزع والخلع والمتعارف فيهما إنما هو من قبل الرأس، ولو أراد الشق لأمره به، ثم لما نزعه من قبل رأسه أقره عليه، ولو كان ممتنعًا لما أقره عليه، ولو وجب بذلك فدية لذكره وبينه كما بين غيره من الأحكام، لأنه موضع ضرورة فإنه سأل عما يجب عليه في تلك العمرة، والله أعلم (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي فضائل القرآن ومسلم في الحج، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 4: ص 222، 224) وأبو داود والترمذي والنسائي والطيالسي والبيهقي وغيرهم، وأخرجه مالك مرسلاً، وفي الحديث قصة عند الشيخين وأحمد وهي أن يعلى بن أمية قال لعمر: أرني النبي صلى الله عليه وسلم حين يوحى إليه قال: فبينما النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة ومعه نفر من أصحابه جاءه رجل فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة فجاءه الوحي فأشار عمر إلى يعلى فجاء يعلى وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب قد أظل به فأدخل رأسه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمر الوجه وهو يغط ثم سري عنه، فقال: أين الذي سأل عن العمرة؟ فأتي بالرجل فقال: اغسل الطيب، إلخ. وفيها دليل على أن المفتي والحاكم إذا لم يعرف الحكم يمسك عن الجواب حتى يتبين له وعلى أن بعض الأحكام ثبت بالوحي وإن لم يكن مما يتلى، وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحكم بالاجتهاد إلا إذا لم يحضره الوحى.

2706-

قوله (لا ينكح) بفتح الياء وكسر الكاف وتحريك الحاء بالكسر لالتقاء الساكنين على النهي وبالضم على النفي، قال صاحب المحلى: مرفوع على الخبرية، ويحتمل أن يكون مجزومًا بالكسر. وقال الخطابي: الرواية الصحيحة بكسر الحاء على معنى النهي أي لا يعقد لنفسه ولا يتزوج امرأة (المحرم) بحج أو عمرة أو بهما (ولا ينكح) بضم الياء وكسر الكاف مجزومًا أو بضم الحاء أي لا يعقد لغيره بولاية ولا وكالة (ولا يخطب) بضم الطاء من الخطبة بكسر الخاء، أي لا يطلب امرأة بنكاح. وزاد ابن حبان في صحيحه ((ولا يخطب عليه)) كما في نصب الراية والدراية والفتح. قال التوربشتي: يروى هذا الحديث عن وجهين أحدهما على صيغة الخبر ويكون لا للنفي، وعلى صيغة النهي ولا هي الجازمة والكلمات الثلاث مجزومة بها إلا أن الأولى منها تحرك بالكسر للوصل، وذكر الخطابي أنها على صيغة النهي أصح. قال التوربشتي: قد أخرج هذا الحديث مسلم وأبو داود وأبو عيسى (الترمذي) وأبو عبد الرحمن (النسائي) في كتبهم والذي وجدناه الأكثر فيما يعتمد عليه من روايات الأثبات هو الرفع في تلك الكلمات. وقد ذهب الأكثرون من

ص: 350

.............................................................................................

ــ

فقهاء الأمصار لا سيما من أصحاب الحديث إلى أن المراد منه النهي وإن روي على صيغة الخبر، وإيراد الإنشاء بصيغة الخبر أبلغ من إيراده بصيغة الإنشاء كما هو مقرر في موضعه. والحديث يدل على أنه لا يجوز للمحرم أن يتزوج ولا أن يزوج غيره، وإليه ذهب أكثر أهل العلم، وعزاه النووي في شرح المهذب لجماهير العلماء من الصحابة والتابعن فمن بعدهم، وقال: وهو مذهب عمر بن الخطاب وعثمان وعلى وزيد بن ثابت وابن عمر وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والزهري ومالك وأحمد والشافعي وإسحاق وداود وغيرهم، وقال في شرح مسلم: قال مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم: لا يصح نكاح المحرم – انتهى. وذهبت جماعة أخرى إلى أنه يجوز للمحرم أن يتزوج ويزوج غيره، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة وهو مروي عن الحكم بن عتيبة والثوري والنخعي وعطاء وحماد بن أبي سليمان وعكرمة ومسروق. قيل: وهو قول ابن عباس وابن مسعود وأنس ومعاذ بن جبل، وإليه يظهر ميل البخاري حيث ترجم في المناسك بلفظ ((باب تزويج المحرم)) وفي النكاح بلفظ ((باب نكاح المحرم)) وأورد فيهما حديث ابن عباس في تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة محرمًا. قال الحافظ في الحج: أورد فيه حديث ابن عباس في تزوج ميمونة، وظاهر صنيعه أنه لم يثبت عنده النهي عن ذلك ولا أن ذلك من الخصائص، وقد ترجم في النكاح باب نكاح المحرم، ولم يزد على إيراد هذا الحديث – انتهى. وقال الحافظ في النكاح: كأنه يجنح إلى الجواز لأنه لم يذكر في الباب شيئًا غير حديث ابن عباس في ذلك، ولم يخرج حديث المنع كأنه لم يصح عنده على شرطه – انتهى. واستدل الأولون بحديث عثمان ومما روى عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب ولا يخطب عليه، ذكره الهيثمي وقال: رواه الطبراني في الأوسط عن أحمد بن القاسم، فإن كان أحمد بن القاسم بن عطية فهو ثقة، وإن كان غيره فلم أعرفه وبقية رجاله لم يتكلم فيهم أحد، واحتج الذين ذهبوا إلى أن الإحرام لا يمنع عقد النكاح بحديث ابن عباس الآتي ففيه التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم والله تعالى يقول {ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (سورة الأحزاب: الآية 21) وهو المشرع لأمته بأقواله وأفعاله وتقريره، فلو كان تزويج المحرم حرامًا لما فعله صلى الله عليه وسلم، واحتجوا أيضًا بما روي عن عائشة مثل حديث ابن عباس أخرجه الطحاوي والبيهقي (ج 7: ص 212) والبزار والطبراني في الأوسط، قال الهيثمي (ج 4: ص 268) بعد عزوه إلى البزار والطبراني: ورجال البزار رجال الصحيح – انتهى. وبما روي عن أبي هريرة مثل حديث ابن عباس أيضًا أخرجه الطحاوي والدارقطني وابن حبان كما في موارد الظمآن (ص 309) قال الحافظ في الفتح في الحج: صح نحو حديث ابن عباس عن عائشة وأبي هريرة، وقال في النكاح: قدمت في الحج أن حديث ابن عباس جاء مثله صحيحًا عن عائشة وأبي هريرة فأما حديث عائشة فأخرجه النسائي من طريق أبي سلمة عنه. وأخرجه الطحاوي والبزار من طريق مسروق عنها وصححه ابن حبان وأكثر ما أعل بالإرسال وليس ذلك بقادح فيه.

ص: 351

.....................................................................................

ــ

وقال النسائي: أخبرنا عمرو بن علي أنبأنا أبو عاصم عن عثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة عن عائشة مثله. قال عمرو ابن علي: قلت لأبي عاصم أنت أمليت علينا من الرقعة ليس فيه عائشة، فقال: دع عائشة حتى أنظر فيه، وهذا إسناد صحيح لولا هذه القصة، ولكن هو شاهد قوي أيضًا. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الدارقطني، وفي إسناده كامل أبو العلاء وفيه ضعف لكنه يعتضد بحديثي ابن عباس وعائشة وفيه رد على قول ابن عبد البر أن ابن عباس تفرد من بين الصحابة بأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج وهو محرم، وجاء عن الشعبي ومجاهد مرسلاً مثله أخرجهما ابن أبي شيبة، وأخرج الطحاوي من طريق عبد الله بن محمد بن أبي بكر قال: سألت أنسًا عن نكاح المحرم فقال: لا بأس به، وهل إلا كالبيع، وإسناده قوي لكنه قياس في مقابل النص فلا عبرة به، وكان أنس لم يبلغه حديث عثمان – انتهى. واعلم أن النفي أو النهى في قوله ((لا ينكح ولا ينكح)) للتحريم، وفي قوله ((لا يخطب)) للتنزيه عند الأئمة الثلاثة ومن وافقهم، وفي الكل للتنزيه عند أبي حنيفة ومن وافقه، فاتفق الأئمة الأربعة على كون النفي في الثالث للتنزيه، والظاهر عندنا أن النهي في الجميع للتحريم فلا يجوز للمحرم أن يخطب امرأة وكذلك المحرمة لا يجوز للرجل خطبتها، فحرمة الخطبة كحرمة النكاح، لأن الصيغه فيها متحدة، فالحكم بحرمة أحدها دون الآخر يحتاج إلى دليل خاص، ولا دليل عليه والظاهر من الحديث حرمة النكاح وحرمة وسيلته التي هي الخطبة كما تحرم خطبة المعتدة، وما ذكروه من أن الخطبة لا تحرم في الإحرام وإنما تكره هو خلاف الظاهر من النص ولا دليل عليه، وما استدل به بعض أهل العلم من الشافعية وغيرهم على أن المتعاطفين قد يكون أحدهما مخالفًا لحكم الآخر كقوله تعالى {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} سورة الأنعام، الآية 141) قالوا: الأكل مباح وإيتاء الحق واجب لا دليل فيه، لأن الأمر بالأكل معلوم أنه ليس للوجوب، بخلاف قوله في الحديث ((ولا يخطب)) فلا دليل على أنه ليس للتحريم كقوله قبله ((لا ينكح المحرم)) هذا وأجاب القائلون بجواز عقد النكاح في الإحرام عن حديث عثمان بوجوه منها أن حديث ابن عباس أصح وأقوى لأنه اتفق عليه الشيخان، وأما حديث عثمان فهو مما انفرد به مسلم وقد تعارضا فيقدم عليه حديث ابن عباس. وفيه أن حديث عثمان تشريع قولي عام مقطوع الدلالة في الحكم، وحديث ابن عباس وما في معناه واقعة عين ومن المعلوم أن الحديث القولي العام يقدم على الفعلي عند التعارض: وإن كان أقوى إسنادًا. قال الحافظ: يترجح حديث عثمان بأنه تقعيد قاعدة، وحديث ابن عباس واقعة عين تحتمل أنواعًا من الاحتمالات – انتهى. ومنها أن المراد بالنكاح في حديث عثمان وطأ الزوجة وهو حرام في حال الإحرام إجماعًا وليس المراد به العقد، وفيه أولاً أن في نفس الحديث قرينتين دالتين على أن المراد عقد النكاح لا الوطء، الأولى أن قوله ((ولا ينكح)) بضم الياء دليل على أن المراد لا يزوج لا الوطء، لأن الولي إذا زوج قبل الإحرام وطلب الزوج وطأ زوجته في حال إحرام وليها فعليه أن يمكنه من ذلك إجماعًا فدل ذلك على أن المراد بقوله ((ولا ينكح)) ليس الوطء بل التزويج كما هو ظاهر، وأما ما قال ابن

ص: 352

..............................................................................................

ــ

الهمام من أن المراد بالجملة الثانية التمكين من الوطء والتذكير باعتبار الشخص أي لا تمكن المحرمة من الوطء زوجها فلا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف، على أنه ينافيه قوله ((ولا يخطب)) وهي القرينة الثانية الدالة على المراد بالنكاح في الجملتين الأوليين عقد النكاح لا الوطء، لأن المراد بالخطبة هي خطبة المرأة التي هي طلب تزويجها، وذلك دليل على أن المراد العقد لأنه هو الذي يطلب بالخطبة، وليس من شأن وطء الزوجة أن يطلب بخطبة كما هو معلوم، قال الحافظ: تأويل أهل الكوفة حديث عثمان بأن المراد به الوطء متعقب بالتصريح فيه بقوله ((ولا ينكح)) بضم أوله وبقوله فيه ((ولا يخطب)) وثانيًا أن أبان بن عثمان راوي الحديث وهو من أعلم الناس بمعناه فسره بأن المراد بقوله ((ولا ينكح)) أي لا يزوج لأن السبب الذي أورد فيه الحديث هو أنه أرسل له عمر بن عبيد الله حين أراد أن يزوج ابنه طلحة بن عمر ابنة شيبة بن جبير فأنكر عليه ذلك أشد الإنكار وبين له أن حديث عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم دليل على منع عقد النكاح في حال الإحرام ولم يعلم أنه أنكر عليه أحد تفسيره الحديث بأن المراد بالنكاح فيه العقد لا الوطء، وثالثًا أنه روى أحمد من حديث ابن عمر أنه سئل عن امرأة أراد أن يتزوجها رجل وهو خارج من مكة فأراد أن يعتمر أو يحج فقال: لا تتزوجها وأنت محرم، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. فنراه صرح بأن النكاح المنهي عنه في الإحرام التزويج، وروى مالك والبيهقي والدارقطني عن أبي غطفان بن طريف أن أباه طريفًا تزوج امرأة وهو محرم فرد عمر بن الخطاب نكاحه – انتهى. وهذا دليل على أن عمر يفسر النكاح الممنوع في الإحرام بالتزويج. وقد روى البيهقي في السنن الكبرى بإسناده عن الحسن عن علي قال: من تزوج وهو محرم نزعنا منه امرأته، وروى بإسناده أيضًا عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليًا رضي الله عنه قال: لا ينكح المحرم فإن نكح رد نكاحه، وروى بإسناده أيضًا عن شوذب مولى زيد بن ثابت أنه تزوج وهو محرم ففرق بينهما زيد بن ثابت، وروى بإسناده أيضًا عن سعيد بن المسيب أن رجلاً تزوج وهو محرم فأجمع أهل المدينة على أن يفرق بينهما. وقال الحافظ: قد ثبت أن عمر وعليًا وغيرهما من الصحابة فرقوا بين محرم نكح وبين امرأته ولا يكون هذا إلا عن ثبت – انتهى. فهذه الآثار صريحة في أن النكاح المنهي عنه في الإحرام هو التزويج وأن النهي للتحريم، وحمل هذه الآثار على أن عملهم ذلك كان من قبيل الزجر والتعزير سدًا للذرائع بعيد جدًا بل هو باطل. ومن الوجوه التي أجاب بها القائلون بجواز النكاح في الإحرام أن النهي في حديث عثمان للكراهة وأن المراد منه أن النكاح والخطبة ليست من شأن المحرم فإنه في شغل شاغل عن ذلك، قال التوربشتي: قصد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كف المحرم وتفتير رغبته عن النكاح والإنكاح والخطبة لكونها مدعاة إلى هيجان الشهوة ولم يقصد تحريمه، وقال الشيخ محمد عابد السندي: الأولى أن يقال: النهى للكراهة جمعًا بين الدلائل، وذلك لأن المحرم في شغل عن مباشرة عقود الأنكحة، لأن ذلك يوجب شغل خاطره عما هو بصدده من المناسك فكرهه النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، وإنما قلنا أنه الأولى لأنه لا قائل بعدم جواز الخطبة للمحرم (كما تقدم)

ص: 353

رواه مسلم.

2707 – (5) وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم.

ــ

وحاصله أن قران النكاح والإنكاح بالخطبة دليل على أن النهي للكراهة لأنه لا خلاف في جواز الخطبة، وإنما الخلاف في كراهتها، فالخطبة تصح عندهم مع الكراهة فكذا النكاح والإنكاح. وقال ابن الهمام: يحمل قوله ((لا ينكح المحرم)) على نهي الكراهة جمعًا بين الدلائل، وذلك لأن المحرم في شغل عن مباشرة عقود الأنكحة، لأن ذلك يوجب شغل قلبه عن الإحسان في العبادة لما فيه من خطبة ومراودات ودعوة واجتماعات، ويتضمن تنبيه النفس لطلب الجماع، وهذا محمل قوله ((ولا يخطب)) ولا يلزم كونه صلى الله عليه وسلم باشرا لمكروه (أي في قصة تزويج ميمونة محرمًا) لأن المعنى المنوط به الكراهة هو عليه الصلاة والسلام منزه عنه، ولا بعد في اختلاف حكم في حقنا وحقه لاختلاف المناط فيه وفينا كالوصال نهانا عنه وفعله – انتهى. وقال التوربشتي: فإن قيل كيف يصرف معنى الحديث إلى التنزه عن الخلال الثلاث وأنت تأبي أن يقال وهم ابن عباس (أي في قوله تزوج النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم) فترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتنزه عن ذلك، قلنا: كان النبي صلى الله عليه وسلم مشرعًا يفعل الشيء ليعلم أنه مباح، ويفعل الشيء ليقتدى به وكان يفعل الشيء أيضًا متخصصًا به ولم يكن هذا من باب ما خص به لأنه لو كان كذلك لبينه ولم يكن للإقتداء لأنه لم يحث عليه بل منع عمه حالة الإحرام بالمفهوم عن الحديث، وبعد فإن حاله صلى الله عليه وسلم في التمكن من الاستقامة والتصرف في القوي البشرية كانت خلاف حال غيره من الأمة، وقد كان صلى الله عليه وسلم مسيطرًا على حوائج النفس بتمكين الله إياه، وفي هذا المعنى حديث عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم وكان أملككم لأربه. وفيه أن الأصل في النهي التحريم، وهو الذي فهمه راوي الحديث أبان بن عثمان وغيره من الصحابة كعمر وابنه وعلي وزيد بن ثابت فلا يعدل عنه إلا بدليل صريح، وأما حديث ابن عباس فسيأتي الجواب عنه، وقد سبق منا أن النهي في قوله ((لا يخطب)) أيضًا للتحريم كالجملتين الأوليين (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 57، 64، 68، 73) ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والبيهقي وابن الجارود والدارمي والحميدي وغيرهم، وليس للترمذي فيه ((ولا يخطب)) وزاد ابن حبان ((ولا يخطب عليه)) .

2707-

قوله (تزوج ميمونة) أم المؤمنين وهي بنت الحارث الهلالية، آخر امرأة تزوجها ممن دخل بهن، تزوجها سنة سبع وتوفيت بسرف حيث بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة إحدى وخمسين على الراجح (وهو محرم) قد اشتهر عن ابن عباس برواية الثقات عنه أنه قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم، وقد تقدم أن له شاهدين قويين من حديث أبي هريرة وعائشة، ويعارض ذلك ما سيأتي من حديث يزيد بن الأصم عن ميمونة، ومن حديث أبي رافع أنه تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال، ويؤيد هذا ما رواه ابن سعد عن ميمون بن مهران قال

ص: 354

..............................................................................................

ــ

دخلت على صفية بنت شيبة وهي عجوزة كبيرة فسألتها أتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم؟ قالت: لا والله لقد تزوجها وهما حلالان، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج 4: ص 268) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجال الكبير رجال الصحيح، وبهذا ظهر أن الروايات اختلفت في تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بميمونة. قال ابن القيم بعد ما حكى اختلاف الروايات في نكاحه صلى الله عليه وسلم: فالأقوال ثلاثة أحدها أنه تزوجها بعد حله من العمرة، وهو قول ميمونة نفسها. وقول السفير بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبو رافع وقول جمهور أهل النقل، والثاني أنه تزوجها وهو محرم وهو قول ابن عباس وأهل الكوفة وجماعة، والثالث أنه تزوجها قبل أن يحرم – انتهى. هذا وقد تقدم أن حديث ابن عباس من مستدلات القائلين بجواز النكاح في الإحرام، وقد أجاب المانعون عنه بأجوبة: منها ما ذكره الترمذي عن بعضهم أنه تزوجها حلالاً وظهر أمر تزوجيها وهو محرم وبنى بها وهو حلال بسرف في طريق مكة. وحاصل هذا الجواب أن معنى قوله ((تزوجها وهو محرم)) أي ظهر أمر تزويجها وفشى واشتهر وهو محرم وإن كان عقد النكاح قبل الإحرام. وتعقب هذا الجواب أو الجمع بأنه قد ثبت بالروايات الصريحة أن نكاحه صلى الله عليه وسلم بميمونة كان بسرف فقد روى النسائي من طريق قتادة ويعلى بن حكيم عن عكرمة عن ابن عباس قال: تزوج رسول الله ميمونة بنت الحارث وهو محرم، وفي حديث يعلى ((بسرف)) وروى ابن سعد من طريق ميمون بن مهران سألت صفية بنت شيبة فقالت: تزوج رسول الله ميمونة بسرف وبنى بها في قبة لها، وماتت بسرف. وسرف قريب مكة خارج الحرم داخل الميقات. قال الطبري: وهو على عشرة أميال من مكة. وقال القاري: والصحيح أنه على ستة أميال، وروى الطحاوي من طريق محمد بن إسحاق عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حرام فأقام بمكة ثلاثًا فأتاه حويطب بن عبد العزى في نفر من قريش في اليوم الثالث فقالوا: إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا، فقال: وما عليكم لو تركتموني فعرست بين أظهركم فصنعنا لكم طعامًا فحضرتموه، فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا، فخرج نبي الله صلى الله عليه وسلم وخرج بميمونة حتى عرس بها بسرف. ونقل ابن القيم في الهدي عن مغازي موسي بن عقبة نحو ذلك، وهذا كله يدل على أن نكاحه صلى الله عليه وسلم ميمونة وقع بسرف ذاهبًا إلى مكة والبناء بها وقع فيها آئبًا من مكة. وأما ما رواه مالك عن ربيعة بن عبد الرحمن عن سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع ورجلاً من الأنصار فزوجاه ميمونة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قبل أن يخرج، وهو يدل على أن نكاحه بميمونة وقع بالمدينة قبل الخروج إلى عمرة القضاء فهو مأول بأن المراد بقوله ((زوجاه)) خطبا له فقط، مجازًا كما قال الزرقاني، لأنه صح عند أحمد والنسائي من حديث ابن عباس قال: لما خطبها النبي صلى الله عليه وسلم جعلت أمرها إلى العباس فأنكحها النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل معنى ((زوجاه)) بلغاه رضا ميمونة بالخطبة أو بتزوجها بالمدينة، ثم إنه وقع التصريح في صحيح البخاري في غزوة الحديبية بإنشاء إحرامه صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة في عمرة الحديبية قبل القضاء التي وقع فيها نكاحه صلى الله عليه وسلم بميمونة، وهذا ظاهر في

ص: 355

.............................................................................................

ــ

أن توقيت المواقيت وقع قبل عمرة الحديبية خلافًا لما حكى الأثرم عن أحمد أنه وقع عام حجة الوداع وإذا ثبت أنه تزوج بسرف ذاهبًا إلى مكة للعمرة وأن توقيت المواقيت كان قبل عمرة الحديبية لزم أن يكون نكاحه في الإحرام وإلالزم تجاوز الميقات وهو ذو الحليفة بغير إحرام، فإن سرف داخل الميقات قريب من مكة كما سبق، وهذا يبطل التأويل المذكور على أنه يمكن أن يأول حديث ميمونة ويزيد بن الأصم بمثل التأويل الذي ذكره الترمذي في حديث ابن عباس، فيقال: إنه تزوجها بسرف وهو محرم، وظهر واشتهر أمر تزويجه وهو حلال حين بنى بها بسرف راجعًا من مكة إلى المدينة أو حين أراد الوليمة بمكة، وفيه أن إحرامه صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة في عمرة الحديبية لا يستلزم وقوع التوقيت قبل حجة الوداع، وقد روى البخاري في باب ذكر العلم والفتيا في المسجد عن ابن عمر أن رجلاً قام في المسجد فقال: يا رسول الله من أين تأمرنا أن نهل، فقال رسول الله: يهل أهل المدينة إلخ. قال الحافظ: المراد بالمسجد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ويستفاد منه أن السؤال عن مواقيت الحج كان قبل السفر من المدينة، وقال في الحج بعد ذكر ما حكاه الأثرم عن أحمد من توقيت المواقيت عام حجة الوداع: وقد سبق حديث ابن عمر في العلم بلفظ ((أن رجلاً قام في المسجد فقال: يا رسول الله من أين تأمرنا أن نهل؟ - انتهى. وهذا يدل على أن الحافظ وافق الإمام أحمد في ذلك ومنها أن معنى قول ابن عباس تزوجها وهو محرم أي في الشهر الحرام وهو حلال وقد تزوجها صلى الله عليه وسلم في الشهر الحرام وهو ذو القعدة عام سبع في عمرة القضاء كما ذكره البخاري في كتاب المغازي في باب عمرة القضاء، ولا خلاف بين أهل اللسان العربي في إطلاق الإحرام على الدخول في حرمة لا تهتك كالدخول في الشهر الحرام أو في الحرم أو غير ذلك. وقال ابن منظور في اللسان: وأحرم الرجل إذا دخل في حرمة لا تهتك، ومن إطلاق الإحرام على الدخول في الشهر الحرام قد أنشده في اللسان شاهدًا لذلك قول زهير:

جعلن القنان عن يمين وحزنه _

وكم بالقنان من محل ومحرم

ولو أصبحت ليلى تدب على العصا _

لكان هوى ليلى جديدًا أوائله

وقول الآخر:

وإذ فتك النعمان بالناس محرمًا _

فملئ من عوف بن كعب سلاسله

وقول الراعي:

قتلوا ابن عفان الخليفة محرمًا _

ودعا فلم أر مثله مخذولاً

فتفرقت من بعد ذاك عصاهم -

شققًا وأصبح سيفهم مسلولاً -

ويروى فلم أر مثله مقتولاً، فقوله ((قتلوا ابن عفان محرمًا)) أي في الشهر الحرام وهو ذو الحجة. وقيل المعنى أنهم قتلوه في حرم المدينة لأن المحرم يطلق لغة على كل داخل في حرمة لا تهتك سواء كانت زمانية أو مكانية أو غير ذلك. وقال

ص: 356

.............................................................................................

ــ

بعض أهل اللغة منهم الأصمعي: إن معنى قول الراعي ((محرمًا)) في بيته المذكور: كونه حرمة الإسلام وذمته التي يجب حفظها ويحرم انتهاكها، وأنه لم يحل من نفسه شيئًا يستوجب به القتل، ومن إطلاق المحرم على هذا المعنى الأخير قول عدى بن زيد:

قتلوا كسرى محرمًا _

غادروه لم يمتع بكفن

ويروى ((فتولى ولم يمتع بكفن)) يريد قتل شيرويه أباه أبرويز بن هرمز مع أن له حرمة العهد الذي عاهدوه به حين ملكوه عليهم وحرمة الأبوة ولم يفعل لهم شيئًا يستوجب منهم القتل، وذلك هو مراده بقوله ((محرمًا)) وعلى تفسير قول ابن عباس ((وهو محرم)) بما ذكر فلا تعارض بين حديث ابن عباس وبين حديث ميمونة وأبي رافع، وتعقب هذا الجواب بأن رواية البخاري في باب عمرة القضاء بلفظ أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم وبنى بها وهو حلال، تدفع هذا التفسير أو تبعده كما قال الزيلعي، فإن المقابلة بين المحرم والحلال تدل على أن المراد بالمحرم في قول ابن عباس ضد الحلال، ولم يرد الحلال بمعنى الداخل في الحل أو في الشهر الحرام، وفيه أنه لو فرضنا أن تفسير حديث ابن عباس بما ذكر ليس بمتعبن وليس بظاهر كل الظهور وأن التعارض بين الحديثين باق فالمصير إلى الترجيح إذن واجب وهو الجواب الثالث فيقال: حديث ميمونة وأبي رافع أرجح من حديث ابن عباس، لأن ميمونة هي صاحبة الواقعة، ولا شك أن صاحب القصة أدرى بما جرى له في نفسه من غيره، وقد تقرر في الأصول أن خبر صاحب القصة المروية مقدم على خبر غيره، لأنه أعرف بالحال من غيره والأصولين يمثلون له بحديث ميمونة المذكور مع حديث ابن عباس ومما يرجح به حديث أبي رافع على حديث ابن عباس أن أبا رافع هو رسوله إليها يخطبها عليه فهو مباشر للواقعة وابن عباس ليس كذلك وقد تقرر في الأصول ترجيح خبر الراوي المباشر لما روى على خبر غيره، لأن المباشر لما روى أعرف بحاله من غيره، والأصولين يمثلون له بخبر أبي رافع مع حديث ابن عباس، ومما يرجح به حديث ميمونة وحديث أبي رافع معًا على حديث ابن عباس أن ميمونة وأبا رافع كانا بالغيْن وقت تحمل الحديث المذكور وابن عباس ليس ببالغ وقت التحمل، وقد تقرر في الأصول ترجيح خبر الراوي المتحمل بعد البلوغ على المتحمل قبله لأن البالغ أضبط من الصبي بما تحمل، وللاختلاف في قبول خبر المتحمل قبل البلوغ مع الاتفاق على قبول خبر المتحمل بعد البلوغ وإن كان الراجح قبول خبر المتحمل قبل البلوغ إذا كان الأداء بعد البلوغ لأن المتفق عليه أرجح من المختلف فيه، فإن قيل: يرجح حديث ابن عباس بأنه اتفق عليه الشيخان في صحيحهما ومعلوم أن ما اتفق عليه مسلم والبخاري أرجح مما انفرد به مسلم وهو حديث ميمونة، وأرجح مما أخرجه الترمذي وأحمد وهو حديث أبي رافع، فالجواب أن غاية ما يفيده اتفاق الشيخين على صحة الحديث إلى ابن عباس، ونحن لو جزمنا بأنه قاله قطعًالم يمنع ذلك من ترجيح حديث ميمونة وأبي رافع عليه لأنهما أعلم بحال الواقعة منه لأن ميمونة صاحبة الواقعة وأبو رافع

ص: 357

متفق عليه.

ــ

هو الرسول المباشر لذلك فلنفرض أن عباس قال ذلك، وأن أبا رافع وميمونة خالفا وهما أعلم بالحال منه لأن لكل منهما تعلقًا خاصًا بنفس الواقعة ليس لابن عباس مثله، وأما ما قال الطحاوي من أنه يحتمل أنه خفى عن ميمونة وقت تزويجها وذهب عنها الوقت الذي عقد عليها عند ما فوضت إلى العباس أمرها فلم تشعر إلا في الوقت الذي بنى بها فيه وعلمه ابن عباس لحضوره وغيبتها عنه فهو مما لا يلتفت إليه لأنه احتمال ناشئ من غير دليل ولم يثبت أن ابن عباس شهد الواقعة بل يدل على كلام العيني على عدم شهوده حيث قال: من الجائز غير المنكر أن يرويه ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم أو يرويه عن أبيه الذي ولي عقد النكاح بمشهد عنه ومرأى أو يرويه عن خالته ميمونة، فإن قيل: صح نحو حديث ابن عباس عن عائشة وأبي هريرة كما قال الحافظ وعلى هذا من روى أن تزويجها في حالة الإحرام أكثر ممن روى خلاف ذلك فيرجح حديثهم إذن بالكثرة، فالجواب أنهم وإن كثروا فميمونة وأبو رافع أعلم منهم بالواقعة كما تقدم والمرجحات يرجح بعضها على بعض، وضابط ذلك عند الأصوليين هو قوة الظن ومعلوم أن ما أخبرت به ميمونة رضي الله عنها عن نفسها وأخبر به الرسول بينها وبين زوجها صلى الله عليه وسلم الذي هو أبو رافع أقوى في ظن الصدق مما أخبره به غيرهما، ومن الأجوبة التي أجاب بها المانعون أنه لو سلم أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم لم تكن في ذلك حجة على جواز ذلك بالنسبة على أمته صلى الله عليه وسلم لأنه ثبت عنه من حديث عثمان ما يدل على منع النكاح في حال الإحرام وهو عام لجميع الأمة، والأظهر دخوله هو صلى الله عليه وسلم في ذلك العموم فإذا فعل فعلاً يخالف ذلك العموم المنصوص عليه بالقول دل على أن ذلك الفعل خاص به صلى الله عليه وسلم لتحتم تخصيص ذلك العموم القولي بذلك الفعل فيكون خاصًا به صلى الله عليه وسلم، وقد تقرر في الأصول أن النص القولي العام الذي يشمل النبي بظاهر عمومه لا بنص صريح إذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً يخالفه كان ذلك مخصصًا لذلك العموم القولي فيكون ذلك الفعل خاصًا به صلى الله عليه وسلم، كذا حقق الشنقيطي. وقال الشوكاني في نيل الأوطار: يجعل فعله صلى الله عليه وسلم مخصصًا له من عموم ذلك القول (يعني حديث عثمان) كما تقرر في الأصول إذا فرض تأخر الفعل عن القول، فإن فرض تقدمه ففيه الخلاف المشهور في الأصول في جواز تخصيص العام المتأخر بالخاص المتقدم كما هو المذهب الحق أو جعل العام المتأخر ناسخًا كما ذهب إليه البعض – انتهى. وقال في السيل الجرار: إن حديث ابن عباس غاية ما فيه على فرض أنه أرجح لكونه في الصحيحين أن ذلك جائز لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون خاصًا به، والنهي خاصًا بالأمة كما تقرر في الأصول أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة، وعلى تقدير شمول النهي له فيكون فعله مخصصًا له – انتهى. وقال النووي وغيره من الشافعية: هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم فكان له أن يتزوج في حال الإحرام وهو مما خص به دون الأمة، وتعقبه العيني فقال: دعوى التخصيص تحتاج إلى دليل، ويأتي مزيد الكلام في ذلك في شرح حديثي يزيد بن الأصم وأبي رافع (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي المغازي وفي النكاح، ومسلم في النكاح،

ص: 358

2708 – (6) وعن يزيد بن الأصم، ابن أخت ميمونة، عن ميمونة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال.

ــ

وأخرجه أيضًا أحمد مرارًا وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن الجارود والدرامي والبيهقي والطحاوي وغيرهم.

2708 – قوله (وعن يزيد بن الأصم) بن عبيد بن معاوية بن عبادة بن البكاء – بفتح الموحدة وتشديد الكاف – واسم الأصم عمرو أبو عوف البكائي الكوفي نزل الرقة، ربته خالته ميمونة أم المؤمنين، واسم أمه برزة بنت الحارث أخت ميمونة. قال الحافظ: يقال له رؤية ولا يثبت وهو ثقة من الطبقة الوسطى من التابعين، مات سنة ثلاث ومائة وذكر الواقدي أنه عاش ثلاثًا وسبعين سنة (ابن أخت ميمونة) بنت الحارث أم المؤمنين (تزوجها وهو حلال) أي غير محرم، قيل تزوجها قبل الإحرام كما يدل عليه رواية مالك عن ربيعة عن سليمان بن يسار المرسلة في وقوع التزويج بالمدينة قبل أن يخرج، وقيل تزوجها بعد ما حل من عمرته بمكة أو بسرف وعلى كل حال هذا الحديث معارض لحديث ابن عباس السابق وأجاب القائلون بجواز النكاح في الإحرام عن ذلك بوجهين: الأول ترجيح حديث ابن عباس على حديث يزيد بن الأصم وذلك بوجوه منها أن حديث ابن عباس أقوى وأصح إسنادًا لاتفاق الشيخين عليه بخلاف حديث ابن الأصم وما في معناه فإنه لم يخرجه البخاري، وقد تقدم الجواب عن هذا، ومنها أن ابن الأصم لا يقاوم بابن عباس حفظًا واتقانًا وفقهًا، ولذا قال عمرو بن دينار للزهري: وما يدري ابن الأصم أعرابي كذا وكذا بشيء؟ أتجعله مثل ابن عباس، فابن عباس بمرتبة من العلم والفقه والحفظ والإتقان لا يدانيه ابن الأصم، وأجاب عن هذا ابن حزم بما نصه: وأما ترجيحهم ابن عباس على يزيد فنعم، والله لا يقرب يزيد بعبد الله ولا كرامة، وهذا تمويه منهم لأن يزيد إنما رواه عن ميمونة، وروى أصحاب ابن عباس عن ابن عباس ونحن لا نقرن ابن عباس صغير من الصحابة إلى ميمونة أم المؤمنين لكن نعدل يزيد إلى أصحاب ابن عباس ولا نقطع بفضلهم عليه، قال: وخبر يزيد عن ميمونة هو الحق، وقول ابن عباس وهم لا شك فيه لأنها هي أعلم بنفسها منه وأنها كانت إذ ذاك امرأة كاملة، وكان ابن عباس يومئذ ابن عشرة أعوام وأشهر فبين الضبطين فرق لا يخفى، هذا وقد تصدى العيني للجواب عن كلام ابن حزم، من شاء الوقوف عليه رجع إلى العمدة (ج 10: ص 196) ومنها أن حديث ابن عباس مثبت لأمر زائد وهو الإحرام وحديث ابن الأصم ناف له، ومن المعلوم أن المثبت يقدم ويرجح على النافي. وفيه أن حديث يزيد عن ميمونة أيضًا مثبت لوقوع عقد النكاح حلالاً وحديث ابن عباس ناف لذلك وبه صرح أهل الأصول من الحنفية، وهذا يقتضي أن يقدم حديث ابن الأصم ومن وافقه على حديث ابن عباس ومنها أن حديث ابن عباس محكم لا يحتمل تأويلاً قريبًا بخلاف رواية ابن الأصم وما في معناها فإنها تحمل على الخطبة أو فشو أمر التزويج واشتهاره عند البناء في الحل أي بسرف راجعًا إلى المدينة. وفيه أن الأمر على العكس من ذلك كما تقدم. ومنها أن أمر النكاح كان إلى العباس

ص: 359

رواه مسلم، قال الشيخ الإمام محيي السنة رحمه الله: والأكثرون على أنه تزوجها حلالاً، وظهر أمر تزويجها وهو محرم، ثم بنى بها وهو حلال بسرف في طريق مكة.

ــ

وكان هو وكيل عقد النكاح، والوكيل أعرف من الموكل وكذا يكون ابن العباس أعرف بالقضية. وفيه ما تقدم أن صاحب القضية أي ميمونة أعرف بقضيتها ولم يرو عن العباس في وقت التزويج شيء ولم يثبت شهود ابنه واقعة النكاح، ومنها أم حديث ابن عباس مؤيد بالقياس فإنه عقد كسائر العقود التي يتلفظ بها من شراء الأمة للتسري وغيره كما حكي عن أنس فيما رواه الطحاوي. وفيه أن الواجب حينئذ الرجوع إلى الحديث القولي أي حديث عثمان لا إلى القياس فإن تحكيم القياس عند التعارض بين حكايتي فعل مع وجود النص القولي غير صحيح فإن فيه تركًا للنص وعملاً بالقياس، الوجه الثاني من الوجهين اللذين أجاب بهما القائلون بالجواز هو أن المراد بالنكاح والتزوج في حديث يزيد بن الأصم هو الدخول والبناء والوطء دون العقد. قال القاري: قوله تزوجها أي دخل بها. وقال ابن الهمام: يحمل لفظ التزوج في حديث ابن الأصم على البناء بها مجازًا بعلاقة السببية العادية – انتهى. وبنحو ذلك قال الزبيدي في شرح الإحياء. وفيه أنه روى مسلم عن ابن نمير عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء أن ابن العباس أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم. قال عمرو بن دينار: فحدثت به الزهري فقال: أخبرني يزيد بن الأصم أنه نكحها وهو حلال، زاد عبد الرزاق والبيهقي: قال عمرو بن دينار ((فقلت لابن شهاب: أتجعل أعرابيًا بوالاً على عقبيه على ابن عباس)) وهي خالة ابن عباس أيضًا؟ ولفظ الطحاوي ((أتجعله مثل ابن عباس؟)) قال البيهقي: ويزيد بن الأصم لم يقله عن نفسه إنما حدث به عن ميمونة بنت الحارث – انتهى. فهذه الرواية تدل على أن المراد بالنكاح والتزوج في حديثي ابن عباس ويزيد بن الأصم عند عمرو بن دينار وابن شهاب هو العقد لا الوطء والبناء وإلا لما صح المقابلة والمعارضة فافهم، وكذا يدل على بطلان التأويل المذكور رواية أحمد والترمذي والبيهقي لحديث يزيد بن الأصم عن ميمونة بلفظ ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالاً وبنى بها حلالاً)) (رواه مسلم) في النكاح وأخرجه أيضًا أحمد (ج 6: ص 332، 333، 335) وأبو داود وابن ماجة والدرامي وابن الجارود والبيهقي (ج 5: ص 66، وج 7: ص 211) (قال الشيخ الإمام محيي السنة) أي صاحب المصابيح (والأكثرون) قال القاري: يعني الأئمة الثلاثة وأتباعهم (على أنه تزوجها حلالاً) أي عقد عليها قبل أن يحرم (وظهر أمر تزويجها) أي بسرف ذاهبًا على مكة (وهو محرم ثم بنى) أي دخل بها (وهو حلال بسرف) على وزن كتف غير منصرف وقيل منصرف (في طريق مكة) أي إلى المدينة وذلك بعد فراغه من عمرته المسماة بعمرة القضاء، قال الساعاتي في شرح المسند: وهذا الجمع وجيه وعليه فيقال إن ابن عباس لم يعلم بالعقد إلا بعد انتشاره والنبي صلى الله عليه وسلم محرم بسرف، ففهم أن العقد لم يحصل إلا في المكان الذي يقال له

ص: 360

2709 – (7) وعن أبي أيوب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل رأسه وهو محرم.

ــ

سرف، ولهذا قال في روايته أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج بماء يقال له سرف وهو محرم، وتقدم أن هذا الماء أقرب إلى مكة من المدينة، وميقات أهل المدينة أقرب إلى المدينة من مكة فثبت أنه كان محرمًا بسرف ولم يبلغ ابن عباس خبر الزواج إلا بهذا المكان ففهم أنه حصل حينئذ.

2709 – قوله (كان يغسل رأسه وهو محرم) فيه دليل على جواز الاغتسال للمحرم وغسله رأسه وتشريبه شعره بالماء، وفي الحديث قصة وهو مختصر من حديث طويل رواه الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن حنين أن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء فقال عبد الله بن عباس: يغسل المحرم رأسه. وقال المسور: لا يغسل المحرم رأسه. فأرسلني عبد الله بن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستر بثوب فسلمت عليه، فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبد الله بن حنين، أرسلني إليك عبد الله بن عباس يسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه، ثم قال لإنسان يصب عليه: اصبب، فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر فقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل. وقد ترجم البخاري لهذا الحديث ((باب الاغتسال للمحرم)) قال الحافظ: أي ترفهًا وتنظفًا وتطهرًا من الجنابة، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن للمحرم أن يغتسل من الجنابة، واختلفوا فيما عدا ذلك، وكأن المصنف (أي البخاري) أشار إلى ما روي عن مالك أنه كره للمحرم أن يغطي رأسه في الماء، وروى في الموطأ عن نافع أن ابن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام. قال الحافظ: وفي الحديث جواز غسل المحرم وتشريبه شعره بالماء ودلكه بيده إذا أمن تناثره. وقال الزرقاني: دل حديث أبي أيوب على جواز ذلك ما لم يؤد إلى نتف الشعر، وقال الباجي: ليس في إمرار اليد على الرأس قتل الدواب ولا إزالتها عن موضعها إلا مثل ما في صب الماء على الرأس خاصة، ولذلك كانا مباحين فأما الانغماس في الماء فإنه محظور عند مالك على المحرم لأنه ربما زال القمل بكثرة الماء عن الشعر، وقد روى عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس إجازة انغماس المحرم في الماء. قال العيني: وكان أشهب وابن وهب يتغامسان في الماء وهما محرمان مخالفة لابن القاسم، وكان ابن القاسم يقول: إن غمس رأسه في الماء أطعم شيئًا من طعام خوفًا من قتل الدواب ولا تجب الفدية إلا بيقين، وعن مالك استحبابه ولا بأس عند جميع أصحاب مالك أن يصب المحرم على رأسه الماء لحر يجده – انتهى. قال الساعاتي في شرح المسند: اتفق العلماء على جواز غسل المحرم رأسه وجسده من الجنابة بل هو واجب عليه، وأما غسله تبردًا فمذهب الجمهور جوازه بلا كراهة، واختلفوا في غسل المحرم رأسه فذهب الأئمة أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري والأوزاعي إلى أنه لا بأس بذلك، ووردت الرخصة به عن عمر بن الخطاب وابن عباس وجابر

ص: 361

......................................................................................

ــ

وعليه الجمهور، وحجتهم حديث أبي أيوب وكان مالك يكره ذلك للمحرم لأثر ابن عمر أنه كان لا يغسل رأسه إلا من احتلام، ويجوز غسل الرأس بالسدر والخطمى عند الشافعية (ورواية للحنابلة) مع الكراهة بحيث لا ينتف شعرًا ولا فدية عليه. وذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد إلى التحريم ولزوم الفدية. وقال صاحبا أبي حنيفة: عليه صدقة لأن الخطمى تستلذ رائحته وتزيل الشعث وتقتل الهوام فوجبت به الفدية كالورس وقال ابن رشد: قال الجمهور (أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري والأوزاعي) : لا بأس بغسل المحرم رأسه، وقال مالك يكره، وعمدته أثر ابن عمر (المذكور) وعمدة الجمهور حديث أبي أيوب وحمله مالك على غسل الجنابة والحجة له إجماعهم على أن المحرم ممنوع من قتل القمل ونتف الشعر وإلقاء التفث، والغاسل رأسه إما أن يفعل هذه كلها أو بعضها – انتهى. وقال الأبي في الإكمال: اختلف في غسل المحرم تبردًا أو غسل رأسه فأجازه الجمهور كما قال عمر: لا يزيده الماء إلا شعثًا، وتؤول عن مالك مثله وتؤولت عنه الكراهة أيضًا، وكره غمس المحرم رأسه في الماء، وعللت الكراهة بأنه من تحريك يده في غسله أو غمسه قد يقتل بعض الدواب أو يسقط بعض الشعر، وقيل: لعله رآه من تغطية الرأس – انتهى. وقال الباجي: الغسل للتبرد جائز للمحرم وإن كان لغير ضرورة. وهذه رواية ابن القاسم عنه – انتهى. قلت: وأثر ابن عمر المذكور بظاهره معارض لما روى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان لا يدخل مكة إذا خرج حاجًا أو معتمرًا حتى يغتسل قبل أن يدخل إذا دنا من مكة بذي طوى ويأمر من معه فيغتسلون قبل أن يدخلوا مكة. قال الحافظ: ظاهره أن غسله لدخول مكة كان لجسده دون رأسه، وهكذا قال الباجي وزاد ((قال ابن حبيب: إذا اغتسل المحرم لدخول مكة فإنما يغسل جسده دون رأسه فقد كان ابن عمر لا يغسله)) . وقال الشيخ أبو محمد: لعل ابن عمر كان لا يغسل رأسه إلا من جنابة يعني في غير هذه المواضع الثلاثة فذهب إلى تخصيص ذلك وحكى ابن المواز عن مالك أن المحرم لا يتدلك رأسه في غسل دخول مكة ولا يغسل رأسه إلا بصب الماء فقط. واعتبر الباجي من قول مالك أنه في كل موضع أباح الغسل للمحرم لغير جنابة لا يذكر فيه إمرار اليد وإنما يذكر فيه صب الماء، وإذا ذكر غسل الجنابة ذكر إمرار اليد. وقال الشافعي: نحن ومالك لا نرى بأسًا أن يغسل المحرم رأسه من غير احتلام، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه اغتسل وهو محرم وأطال الكلام إلى أن قال: وقد يذهب على ابن عمر وغيره السنن ولو علمها ما خالفها – انتهى. وقال في المحلى: قوله ((كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام)) أي تحريًا لما هو الأفضل لما روى الترمذي عن ابن عمر مرفوعًا ((الحاج الشعث التفل)) انتهى، وأما غسل الرأس بالخطمى والسدر ونحوه فاختلفوا فيه أيضًا كما تقدم، قال العيني: إن غسل رأسه بالخطمى والسدر فإن الفقهاء يكرهونه وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وأوجب مالك وأبو حنيفة عليه الفدية. وقال الشافعي وأبو ثور: لا شيء عليه، وقال في البناية: لا يغسل رأسه ولا لحيته بالخطمى،

ص: 362

متفق عليه.

2710-

(8) وعن ابن عباس، قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم.

ــ

وبه قال مالك. وفي شرح الوجيز: لا يكره بالخطمى والسدر، وفي القديم يكره ولكن لا فدية عليه. وبه قال أحمد، وفي الهداية: لا يغسل بالخطمى لأنه نوع طيب ولأنه يقتل هوام الرأس، وقال القاري: يجوز للمحرم غسل رأسه بحيث لا ينتف شعرًا بلا خلاف، أما لو غسل رأسه بالخطمى فعليه دم عند أبي حنيفة، وبه قال مالك وقالا: صدقة، ولو غسل بأشنان فيه طيب فإن كان من رآه سماه أشنانًا فعليه الصدقة، وإن سماه طيبًا فعليه الدم، وكذا في قاضي خان، ولو غسل رأسه بالحرض والصابون والسدر ونحوه لا شيء عليه بالإجماع (متفق عليه) فيه أن اللفظ المذكور ليس لهما ولا لأحدهما بل هو مفهوم ما فعله أبو أيوب، ومقتضى ما نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما يظهر من سياق الحديث وتمامه عند الشيخين، وقد أخرجه أيضًا مطولاً أحمد (ج 5: ص 416، 418، 421) ومالك وأبو داود وابن ماجة والدرامي وابن الجارود والبيهقي وغيرهم.

2710 – قوله (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم) أي في حجة الوداع كما جزم به الحازمي وغيره (وهو محرم) جملة حالية، زاد في رواية للبخاري ((في رأسه من وجع كان به بماء يقال له لحي جمل)) وفي طريق أخرى له عن ابن عباس تعليقًا ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم في رأسه من شقيقة كانت به)) بشين معجمة وقافين وزن عظيمة: وجع يأخذ في أحد جانبي الرأس أو في مقدمه، وفي حديث ابن بحينة الآتي في الفصل الثالث ((في وسط رأسه)) قال الحافظ بفتح المهلمة أي متوسطة وهو ما فوق اليافوخ فيما بين أعلى القرنين. قال الليث: كانت هذه الحجامة في فأس الرأس، وفي حديث أنس الآتي في الفصل الثالث ((احتجم وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به)) وفي حديث جابر عند أحمد والنسائي ((احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم من وثئ كان بوركه أو ظهره)) ويجمع بين هذه الروايات بتعدد الحجامة منه في الإحرام، ثم يحتمل أنها في إحرام واحد أي في حجة الوداع، ويمكن أن يكون بعضها في إحدى عمراته، وفي الحديث دليل على جواز الحجامة للمحرم، وقد ترجم البخاري لحديث ابن عباس وابن بحينة ((باب الحجامة للمحرم)) قال الحافظ: أي هل يمنع منها أو تباح له مطلقًا أو للضرورة، والمراد في ذلك كله المحجوم لا الحاجم. قال ابن قدامة (ج 3: ص 305) : أما الحجامة إذا لم يقطع شعرًا فمباحة من غير فدية في قول الجمهور لأنه تداو لإخراج دم فأشبه الفصد وبط الجرح وقال مالك: لا يحتجم إلا من ضرورة. وكان الحسن البصري يرى في الحجامة دمًا – انتهى. وقال العيني: وبجوازه مطلقًا قال عطاء ومسروق وإبراهيم وطاوس والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق، وقالوا: ما لم يقطع الشعر، وقال قوم: لا يحتجم المحرم إلا من ضرورة روى ذلك عن ابن عمر وبه قال مالك – انتهى. وقال النووي: أجمع

ص: 363

..............................................................................................

ــ

العلماء على جواز الحجامة له في الرأس وغيره إذا كان له عذر في ذلك وإن قطع الشعر حينئذ، لكن عليه الفدية بقطع الشعر فإن لم يقطع فلا فدية عليه، ودليل المسألة قوله تعالى:{فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه ففدية} (سورة البقرة، الآية 196) وهذا الحديث محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له عذر في الحجامة في وسط الرأس، لأنه لا ينفك عن قطع شعر. أما إذا أراد المحرم الحجامة لغير حاجة فإن تضمنت قطع شعر فهي حرام لتحريم قطع الشعر، وإن لم تتضمن ذلك بأن كانت في موضع لا شعر فيه فهي جائزة عند الجمهور ولا فدية فيها وعن ابن عمر ومالك كراهتها، وعن الحسن البصري: فيها الفدية وإن لم يقطع شعرًا، دليلنا أن إخراج الدم في الإحرام ليس بحرام – انتهى. وخص أهل الظاهر الفدية بشعر الرأس. ونقل الحطاب عن ابن بشير المالكي أنه ذكر قولاً بسقوط الفدية مطلقًا أي سواء أزال بسبب الحجامة شعرًا أو لا. قال الشنقيطي: القول الذي ذكره ابن بشير من المالكية واستغربه خليل في التوضيح بسقوط الفدية مطلقًا ولو أزال بسبب الحجامة شعرًا، له وجه من النظر، ولا يخلو عندي من قوة والله تعالى أعلم، وإيضاح ذلك أن جميع الروايات المصرحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في رأسه، لم يرد في شيء منها أنه افتدى لإزالة ذلك الشعر من أجل الحجامة، ولو وجبت عليه في ذلك فدية لبينها للناس، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، والاستدلال على وجوب الفدية في ذلك بعموم قوله تعالى:{ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه ففدية} (سورة البقرة: الآية 196) لا ينهض كل النهوض، لأن الآية واردة في حلق جميع الرأس لا في حلق بعضه، وقد قدمنا أن حلق بعضه ليس فيه نص صريح، ولذلك اختلف العلماء فيه فذهب الشافعي إلى أن الفدية تلزم بحلق ثلاث شعرات فصاعدًا، وذهب أحمد في إحدى الروايتين إلى ذلك، وفي الأخرى إلى لزومها بأربع شعرات، وذهب أبو حنيفة إلى لزومها بحلق الربع، وذهب مالك إلى لزومها بحلق ما فيه ترفه أو إماطة أذى، وهذا الاختلاف يدل على عدم النص الصريح في حلق بعض الرأس، فلا تتعين دلالة الآية على لزوم الفدية لمن أزال شعرًا قليلاً لأجل تمكن آلة الحجامة من موضع الوجع، والله تعالى أعلم، وممن قال بأن إزالة الشعر عن موضع الحجامة لا فدية فيه: محمد وأبو يوسف صاحبا أبي حنيفة بل قالا: في ذلك صدقة، وقد قدمنا مرارًا أن الصدقة عندهم نصف صاع من بر أو صاع كامل من غيره كتمر وشعير، والحاصل أن أكثر أهل العلم منهم الأئمة الأربعة على أنه إن حلق الشعر لأجل تمكن آلة الحجامة لزمته الفدية على التفصيل المتقدم في قدر ما تلزم به الفدية من حلق الشعر كما تقدم إيضاحه وأن عدم لزومها عندنا له وجه من النظر قوي وحكاه ابن بشير من المالكية، وأما إن لم يحلق بالحجامة شعرًا فقد قدمنا قريبًا أقوال أهل العلم فيها وتفصيلهم بين ما تدعو إليه الضرورة وبين غيره – انتهى. قال النووي: وفي حديث الحجامة بيان قاعدة من مسائل الإحرام، وهي أن الحلق واللباس وقتل الصيد ونحو

ص: 364

متفق عليه.

2711 – (9) وعن عثمان، حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل إذا اشتكى عينيه وهو محرم: ضمدهما بالصبر.

ــ

ذلك من المحرمات يباح للحاجة وعليه الفدية كمن احتاج إلى حلق أو لباس لمرض أو حر أو برد أو قتل صيد للمجاعة وغير ذلك، واستدل بهذا الحديث على جواز الفصد وبط الجرح والدمل وقطع العرق وقلع الضرس وغير ذلك من وجوه التداوي إذا لم يكن في ذلك ارتكاب ما نهي عنه المحرم من تناول الطيب وقطع الشعر ولا فدية عليه في شيء من ذلك، وفيه مشروعية التداوي واستعمال الطب والتداوي بالحجامة، تنبيه: قال الزرقاني في شرح قول مالك ((لا يحتجم المحرم إلا من ضرورة)) أي يكره، لأنها قد تؤدي لضعفه كما كره صوم يوم عرفة للحاج مع أن الصوم أخف من الحجامة فبطل استدلال المجيز بأنه لم يقم دليل على تحريم إخراج الدم في الإحرام لأنّا لم نقل بالحرمة بل بالكراهة لعلة أخرى عملت – انتهى. ومرادهم أن ضعفه بإخراج الدم منه قد يؤدي إلى عجزه عن إتمام بعض المناسك. وهذا يدل على أن المنع عند المالكية لاحتمال الضعف لا لمعنى في نفس الحجامة، لكن قال الدردير: وكره حجامة بلا عذر خيفة قتل الدواب، فإن تحقق نفي الدواب فلا كراهة، ومحل الكراهة إذا لم يزل بسببها شعر وإلا حرم بلا عذر. وافتدى مطلقًا لعذر أم لا، وحكى الدسوقي اختلاف أصحابهم في إطلاق الكراهة وتقييدها باحتمال قتل الدواب ولم يذكر من كرهه لعارض الضعف ووجه بعض المالكية الكراهة المذكورة بأن الحجامة إنما تكون في العادة بشد الزجاج ونحوه والمحرم ممنوع من العقد والشد على جسده، قاله الشيخ سند (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي الصوم وفي الطب، ومسلم في الحج، وأخرجه أحمد مرارًا والترمذي وأبو داود والنسائي والحميدي والبيهقي والدرامي وابن الجارود وغيرهم.

2711 – قوله (في الرجل) أي في حقه وشأنه وكذا حكم المرأة المحرمة (إذا اشتكى عينيه) أي حين شكا وجعهما (ضمدهما) بصيغة الماضي مشددًا من باب التفعيل. قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة على بناء الأمر للإباحة. قلت: ويحتمل أن يكون بصيغة الماضي مخففًا من باب ضرب ونصر، يقال: ضمد الجرح يضمده ويضمده وضمّده شده بالضمادة وهي العصابة كالضماد، هذا أصله ثم استعمل في خلط الدواء بمائع فيلين ويوضع على العضو الماؤف، قال الطيبي: أصل الضمد الشد، يقال ضمد رأسه وجرحه إذا شده بالضماد وهو خرقة يشد بها العضو الماؤف أي المصاب بالآفة، ثم قيل لوضع الدواء على الجرح وغيره وإن لم يشد – انتهى (بالصبر) ككتف بفتح الصاد المهملة وكسر الباء ويجوز إسكانها، وقال في القاموس: ولا يسكن الباء إلا في ضرورة الشعر، عصارة شجر مر، وقال في بحر

ص: 365

رواه مسلم.

2712 – (10) وعن أم الحصين، قالت: رأيت أسامة وبلالاً وأحدهما آخذ بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة.

ــ

الجواهر: هو عصارة جامدة من نبات كالسوسن بين صفرة وحمرة منه سقو طري ومنه عربي ومنه سميخاني وأفضله سقو طري – انتهى. ويسمى بالأردية ((إيلوا)) والمقصود أن يخلط الصبر بالماء ويمرخ فيقطره في عينيه أو يكتحلهما به أو يضعه على عينيه. وفي الحديث دليل على جواز تضميد العين وغيرها بالصبر ونحوه. قال النووي: اتفق العلماء على جواز تضميد العين وغيرها بالصبر ونحوه مما ليس بطيب ولا فدية في ذلك، فإن احتاج إلى ما فيه طيب جاز له فعله وعليه الفدية. واتفق العلماء على أن للمحرم أن يكتحل بكحل لا طيب فيه إذا احتاج إليه ولا فدية عليه فيه. وأما الاكتحال للزينة فمكروه عند الشافعي وآخرين ومنعه جماعة منهم أحمد وإسحاق، وفي مذهب مالك قولان كالمذهبين، وفي إيجاب الفدية بذلك عندهم خلاف – انتهى. ومذهب الحنفية فيه مثل مذهب الشافعي، وروى البيهقي عن عائشة أنها قالت: في الإثمد والكحل الأسود إنه زينة نحن نكرهه ولا نحرمه. وبه قال مالك وأحمد وإسحاق إلا عند الحاجة، وأجمعوا على حلة حيث لا طيب فيه (رواه مسلم)) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 60، 61، 65، 68) وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي وابن الجارود والحميدي.

2712-

قوله (وعن أم الحصين) بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين ثم ياء ساكنة ثم نون، هي بنت إسحاق الأخمسية الصحابية ولا يعرف لها اسم (رأيت أسامة) هو ابن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم (وبلالاً) هو ابن رباح مولى أبي بكر الصديق (وأحدهما) أي والحال أن أحدهما. قال القاري: والظاهر أنه بلال (آخذ) بصيغة الفاعل (بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم) الخطام بكسر الخاء ككتاب بمعنى الزمام (والآخر) أي أسامة (رافع) بالتنوين (ثوبه) أي ثوبًا في يده (يستره) أي يظله بثوب مرتفع عن رأسه بحيث لم يصل الثوب إلى رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم (من الحر) وفي رواية ((رافع ثوبه على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشمس)) وروى أحمد عن أبي أمامة عمن رأى النبي صلى الله عليه وسلم ((راح إلى منى يوم التروية وإلى جانبه بلال، بيده عود عليه ثوب يظلل به رسول الله صلى الله عليه وسلم)) وفي الحديث دليل على جواز تظليل المحرم على رأسه بثوب أو نحوه سواءً كان راكبًا أو نازلاً وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعي والجمهور محتجين بحديثي أم الحصين وأبي أمامة، وذهب مالك وأحمد إلى عدم الجواز إلا إذا كان نازلاً، فإن استظل سائرًا فعليه الفدية، وعن أحمد رواية أخرى أنه لا فدية وأجمعوا على أنه لو قعد تحت خيمة أو سقف جاز. وقد احتج لمالك وأحمد على منع التظلل بما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه أبصر رجلاً على بعيره وهو محرم قد استظل بينه وبين الشمس،

ص: 366

......................................................................................

ــ

فقال: إضح لمن أحرمت له، وبما أخرجه البيهقي أيضًا بإسناد ضعيف عن جابر مرفوعًا ((ما من محرم يضحي للشمس حتى تغرب إلا غربت بذنوبه حتى يعود كما ولدته أمه)) وقوله ((أضح)) بالضاد المعجمة، وكذا ((يضحي)) والمراد أُبرز للشمس، وروى البيهقي أيضًا والشافعي وسعيد بن منصور عن عبد الله بن عياش بن ربيعة قال: حججت مع عمر بن الخطاب فما رأيت مضطربًا فسطاطًا حتى رجع، قيل له: فما كان يصنع؟ قال: يطرح النطع على الشجر فيجلس تحته، قال الشوكاني: ويجاب بأن قول ابن عمر لا حجة فيه، وبأن حديث جابر مع كونه ضعيفًا لا يدل على المطلوب وهو المنع من التظلل ووجوب الكشف لأن غاية ما فيه أنه أفضل، على أن يبعد منه صلى الله عليه وسلم أن يفعل المفضول ويدع الأفضل في مقام التبليغ – انتهى. وقال النووي: حديث جابر ضعيف مع أنه ليس فيه نهي وكذا فعل عمر وقول ابن عمر ليس فيه نهي ولو كان فحديث أم الحصين مقدم عليه – انتهى. قلت: ويدل على الجواز مطلقًا استظلاله صلى الله عليه وسلم بالقبة المضروبة في عرفة. وقال الشنقيطي: لا يجوز عند المالكية أن يظلل المحرم على رأسه أو وجهه بعصا فيها ثوب، فإن فعل افتدى، وفيه قول عندهم بعدم لزوم الفدية وهو الحق، وحديث أم الحصين في التظليل على النبي صلى الله عليه وسلم بثوب يقيه الحر وهو يرمي جمرة العقبة، يدل على ذلك، وعلى أنه جائز فالسنة أولى بالإتباع، وأجاز المالكية للمحرم أن يرفع فوق رأسه شيئًا يقيه من المطر، واختلفوا في رفعه فوقه شيئًا يقيه من البرد، والأظهر الجواز لدخوله في معنى الحديث المذكور إذ لا فرق بين الأذى من البرد والحر والمطر، وبعضهم يقول: إن الفدية المذكورة مندوبة لا واجبه ولا بأس عندهم باتقاء الشمس أو الريح باليد يجعلها على رأسه أو وجهه. قال الشنقيطي: ولا خلاف بين أهل العلم في الاستظلال بالخباء والقبة المضروبة والفسطاط والشجرة وأن يرمي عليها ثوبًا، وعن مالك منع إلقاء الثوب على الشجرة، وأجازه عبد الملك بن الماجشون قياسًا على الخيمة وهو الأظهر. قال: والاستظلال بالثوب على العصا عند المالكية إذا فعله وهو سائر لا خلاف في منعه، ولزوم الفدية فيه، وإن فعله وهو نازل ففيه خلاف عندهم. والحق الجواز مطلقًا للحديث المذكور لأن ما ثبتت فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز العدول عنه إلى رأى مجتهد من المجتهدين ولو بلغ ما بلغ من العلم والعدالة لأن سنته صلى الله عليه وسلم حجة على كل أحد، وليس قول أحد حجة على سنته صلى الله عليه وسلم، وحديث أم الحصين نص صحيح صريح في جواز استظلال المحرم الراكب بثوب مرفوع فوقه يقيه حر الشمس والنازل أحرى بهذا الحكم عند المالكية من الراكب. وهذا الحديث الصحيح المرفوع لا يعارض بما روي من فعل عمر وقول ابنه عبد الله موقوفًا عليهما، ولا بحديث جابر الضعيف في منع استظلال المحرم – انتهى. قلت: وأجاب عن حديث أم الحصين بعض أصحاب مالك بأن هذا المقدار لا يكاد يدوم فهو كما أجاز مالك للمحرم أن يستظل بيده. وقال الطبري: حمل بعض أصحاب مالك الحديث على أنه تساهل لما قارب

ص: 367

رواه مسلم.

2713-

(11) وعن كعب بن عجرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به

ــ

الإحلال كما تساهل في الطيب قبل الإفاضة. قلت: وما رواه أحمد من حديث أبي أمامة يرد التأويلين (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد (ج6: ص 401) وأبو داود والنسائي والدرامي والبيهقي (ج 5: ص 69) .

2713 – قوله (وعن كعب بن عجرة) بضم العين المهملة وسكون الجيم وبعدها راء مهملة ثم تاء تأنيث. نقل ابن عبد البر عن أحمد بن صالح المصري قال: حديث كعب بن عجرة في الفدية سنة معمول بها لم يروها من الصحابة غيره ولا رواها عنه إلا ابن أبي ليلي وابن معقل. قال: وهي سنة أخذها أهل المدينة عن أهل الكوفة. قال الزهري: سألت عنها علماءنا كلهم حتى سعيد بن المسيب فلم يبينوا كم عدد المساكين. قال الحافظ فيما أطلقه ابن صالح نظر فقد جاءت هذه السنة من رواية جماعة من الصحابة غير كعب فذكرهم، قال: ورواه عن كعب بن عجرة غير المذكورين أبو وائل عند النسائي ومحمد بن كعب القرظي عند ابن ماجة ويحيى بن جعدة عند أحمد وعطاء عند الطبري فيقيد إطلاق أحمد بن صالح بالصحة، فإن بقية الطرق التي ذكرتها لا تخلو عن مقال إلا طريق أبي وائل عن كعب بن عجرة عند النسائي (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به) فيه تجريد أو التفات أو نقل بالمعنى، قاله القاري. قلت: وفي رواية ((وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية)) وفي أخرى ((أتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية)) وفي أخرى ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أدنه، فدنوت، فقال: أدنه، فدنوت)) وفي رواية ((حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك ما أرى)) وفي أخرى ((أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم محرمًا فقمل رأسه ولحيته فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فدعا الحلاق فحلق رأسه)) والجميع بين هذا الاختلاف أن يقال: مر به أولاً وهو يوقد تحت قدر فرآه على تلك الصورة رؤية إجمالية عن بعد يسير وقال: أيؤذيك هوامك هذه؟ ولكنه لم يقدر قدر ما بلغ به من الوجع الشديد، ثم بلغه ما هو فيه من البلاء وشدة الأذى فأرسل إليه واستدعاه حتى أتاه محمولاً فاستدناه فدنا كما في رواية ابن عون عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عند الشيخين وحك رأسه بإصبعه الكريمة كما في رواية أبي وائل عن كعب عند الطبري فخاطبه وقال له: ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك ما أرى، ودعا الحلاق فحلق رأسه بحضرته، فنقل بعض الرواة ما لم ينقله الآخر. قال الحافظ بعد ما ذكر اختلاف الروايات في ذلك مفصلاً ما لفظه:((والجمع بين هذا الاختلاف في قول ابن أبي ليلى عن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به فرآه، وفي قول عبد الله بن معقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليه فرآه، أن يقال مر به أولاً فرآه على تلك الصورة فاستدعى به إليه فخاطبه وحلق رأسه بحضرته فنقل كل واحد منهما ما لم ينقله الآخر ويوضحه قوله في رواية ابن عون حيث قال فيها ((فقال: ادن فدنوت)) فالظاهر أن هذا الاستدناء كان عقب رؤيته إياه

ص: 368

وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم، وهو يوقد تحت قدر، والقمل تتهافت على وجهه، فقال:" أيؤذيك هوامك؟ ". قال: نعم. قال: " فاحلق رأسك،

ــ

إذ مر به وهو يوقد تحت القدر – انتهى. وقال الطبري: يحتمل أن يكون وقف عليه صلى الله عليه وسلم وأمره بذلك ثم حمل إليه لما كثر عليه فأمره ثانيًا فلا يكون بين قوله ((فحملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قوله ((مر به)) تضاد. وقال العيني بعد ذكر اختلاف الروايات: لا تعارض في شيء من ذلك ووجهه أنه مر به وهو محرم في أول الأمر وسأله عن ذلك، ثم حمل إليه ثانيًا بإرساله إليه، وأما إتيانه فبعد الإرسال، وأما رؤيته فلا بد منها في الكل – انتهى باختصار يسير (وهو) أي كعب (بالحديبية) تقدم ضبطها والكلام عليها، وكان ذلك سنة ست من الهجرة وكانوا محرمين بعمرة مع النبي صلى الله عليه وسلم فصدهم المشركون عن دخول مكة (قبل أن يدخل مكة) أي وهو يتوقع دخولها حين لم يقع منع عن وصولها، وفي رواية للبخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وإنه ليسقط القمل على وجهه، فقال: أيؤذيك هوامك؟ قال نعم، فأمره أن يحلق وهم بالحديبية ولم يبين لهم أنهم يحلون وهم على طمع أن يدخلوا مكة فأنزل الله الفدية (وهو يوقد) من الإيقاد (تحت قدر) وفي رواية ((برمة)) والقمل) أي جنسه وهو بفتح القاف وسكون الميم، دويبة تتولد من العرق والوسخ في بدن الإنسان أو ثوبه أو شعره تسمى بالفارسية ((سبس)) وبالأردوية ((جوين)) تتهافت) بالتائين، وفي مسلم ((يتهافت)) أي بصيغة التذكير يعنى تتساقط شيئًا فشيئًا، من التهافت وهو تساقط الشيء قطعة قطعة كالثلج والرذاذ ونحوهما (على وجهه) وفي رواية لأحمد ((قملت حتى ظننت أن كل شعرة من رأسي فيها القمل من أصلها إلى فرعها. وفي رواية له أيضًا ((وقع القمل في رأسي ولحيتي حتى حاجبي وشاربي)) وفي رواية لأبي داود ((أصابتني هوام حتى تخوفت على بصري)) (فقال أيؤذيك) بالتذكير، وفي بعض النسخ بالتأنيث (هوامك) بتشديد الميم جمع هامة وهي ما يدب من الأخشاش والمراد بها ما يلازم جسد الإنسان غالبًا إذا طال عهده بالتنظيف، وقد وقع في الرواية هذه نفسها القمل فهو المراد بالهوام.قال الحافظ: قد عين في كثير من الروايات أنها القمل، وقال في موضع آخر: الهوام اسم للحشرات لأنها تهم أن تدب، وإذا أضيفت إلى الرأس اختصت بالقمل. وقال القاري: الهوام جمع هامة بتشديد الميم وهي الدابة التي تسير على السكون كالنمل والقمل. قال القرطبي: قوله ((أيؤذيك هوامك؟)) هذا سؤال عن تحقيق العلة التي يترتب عليها الحكم فلما أخبره بالمشقة التي نالته خفف عنه – انتهى. قال الحافظ: واستدل به على أن الفدية مرتبة على قتل القمل، وتعقب بذكر الحلق. فالظاهر أن الفدية مرتبة عليه، وهما وجهان عند الشافعية. ويظهر أثر الخلاف فيما لو حلق ولم يقتل قملاً (فاحلق رأسك) أمر إباحة، قاله القاري. وفي رواية ((فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه، قال الباجي: والأمر وإن كان يقتضي الوجوب أو الندب ولا تكون الإباحة أمرًا فقد يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ندبه

ص: 369

وأطعم فرقًا بين ستة مساكين ". والفرق: ثلاثة آصع،

ــ

إلى ذلك، ورآه الأفضل له فقد نهى الإنسان عن أذى نفسه وتحمل المشقة الخارجة عن العادة المؤذية التي لا يطيقها الإنسان غالبًا في العبادات ولذلك كره من الحولاء بنت تويت أن لا تنام الليل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: اكلفوا من العمل ما تطيقون – انتهى. وقوله ((أن يلحق رأسه)) أي يزيل شعره أعم من أن يكون بموسى أو بمقص أو نورة، قاله الزرقاني، وقال ابن قدامه: لا نعلم خلافًا في إلحاق الإزالة بالحلق سواء كان بموسى أو مقص أو نورة أو غير ذلك وأغرب ابن حزم فأخرج النتف عن ذلك، فقال يلحق جميع الإزالات بالحلق إلا النتف، كذا في الفتح (وأطعم) أمر وجوب وهو بيان لقوله تعالى:((أو صدقة)) فرقًا) بفتح الفاء والراء وقد تسكن قاله ابن فارس. وقال الأزهري: كلام العرب بالفتح والمحدثون قد يسكنونه وآخره قاف، مكيال معروف بالمدينة وهو ستة عشر رطلاً. قال الحافظ: وإذا ثبت أن الفرق ثلاثة آصع كما سيأتي اقتضي أن الصاع خمسة أرطال وثلث خلافًا لمن قال إن الصاع ثمانية أرطال (بين ستة مساكين قال الطيبي: فلكل واحد نصف صاع بلا فرق بين الأطعمة (والفرق ثلاثة آصع) كذا في صحيح مسلم وكتاب الحميدي وشرح السنة، وفي نسخ المصابيح ((أصوع)) وكلاهما جمع صاع. وأخطأ من قال ((آصع)) لحن قال الطيبي: صح هذا اللفظ في الحديث وهو من قبيل القلب وأصله أصوع – انتهى. والمراد بالقلب القلب المكاني بأن تجعل الواو مكان الصاد وعكسه بعد نقل حركة الواو إلى الصاد ثم تقلب الواو ألفًا لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها، وكذا في المرقاة وقال النووي: الآصع جمع صاع، وفي الصاع لغتان، التذكير والتأنيث وهو مكيال يسع خمسة أرطال وثلثا بالبغدادي، هذا مذهب مالك وأحمد وجماهير العلماء، وقال أبو حنيفة يسع ثمانية أرطال، وأجمعوا على أن الصاع أربعة أمداد، وهذا الذي قدمناه من أن الآصع جمع صاع صحيح، وقد ثبت استعمال الآصع في هذا الحديث الصحيح من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك هو مشهور في كلام الصحابة والعلماء بعدهم، وفي كتب اللغة وكتب النحو والتصريف، ولا خلاف في جوازه وصحته – انتهى. وذكر الحافظ في الفتح هذه الرواية عن مسلم ثم قال: وأخرجه الطبري من طريق يحيى بن آدم عن ابن عيينة فقال: فيه قال سفيان: والفرق ثلاثة آصع، فأشعر بأن تفسير الفرق مدرج لكنه مقتضي الروايات الأخر ففي رواية سليمان بن قرم عن ابن الأصبهاني عند أحمد ((لكل مسكين نصف صاع)) وفي رواية يحيى بن جعدة عند أحمد أيضًا ((أو أطعم ستة مساكين مدين مدين)) وفي رواية زكريا عن ابن الأصبهاني عند مسلم ((أو يطعم ستة مساكين، لكل مسكينين صاع)) وكذا أخرجه مسدد في مسنده عن أبي عوانة عن ابن الأصبهاني، وللبخاري عن أبي الوليد عن شعبة عن ابن الأصبهاني ((أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع)) ثم أنه اختلفت الروايات في ذكر ما يخرج في الصدقة وفي مقدار الواجب لكل مسكين من المخرج، فللطبراني كما قال الحافظ عن أحمد

ص: 370

......................................................................................

ــ

ابن محمد الخزاعي عن أبي الوليد شيخ البخاري فيه ((لكل مسكين نصف صاع تمر)) ولمسلم وأحمد وأبي داود من طريق أبي قلابة عن ابن أبي ليلى ((أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين)) ولأحمد عن محمد بن جعفر وبهز عن شعبة نصف صاع طعام، والمراد بالطعام هنا التمر كما صرح بذلك في عدة طريق عند أحمد وأبي داود وغيرهما، وفي طريق لمسلم، قال الحافظ: ولبشر بن عمر الزهراني عن شعبة (عند الدارقطني في الغرائب) نصف صاع حنطة، ورواية الحكم عن ابن أبي ليلى (عند أبي داود والبيهقي) تقتضي أنه نصف صاع زبيب فإنه قال: يطعم فرقًا من زبيب بين ستة مساكين. قال ابن حزم: لا بد من ترجيح إحدى هذه الروايات لأنها قصة واحدة في مقام واحد في حق رجل واحد. قال الحافظ: المحفوظ عن شعبة أنه قال نصف صاع من طعام، والاختلاف عليه في كونه تمرًا أو حنطة لعله من تصرف الرواة، وأما الزبيب فلم أره إلا في رواية الحكم، وقد أخرجها أبو داود، وفي إسنادها ابن إسحاق وهو حجة في المغازي لا في الأحكام إذا خالف، والمحفوظ رواية التمر فقد وقع الجزم بها عند مسلم من طريق أبي قلابة كما تقدم، ولم يختلف فيه على أبي قلابة. وكذا أخرجه الطبري من طريق الشعبي عن كعب، وأحمد من طريق سليمان بن قوم عن ابن الأصبهاني، ومن طريق أشعث وداود عن الشعبي عن كعب، وكذا في حديث عبد الله بن عمرو عند الطبراني، وعرف بذلك قوة قول من قال: لا فرق في ذلك بين التمر والحنطة وأن الواجب ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع – انتهى. يشير بذلك إلى تضعيف ما هو محكي عن الحنفية، ففي الدر المختار ((أو تصدق بثلاثة أصوع طعام على ستة مساكين)) قال ابن عابدين ناقلاً عن القهستاني: والطعام البر بطريق الغلبة – انتهى. وقال ابن قدامة: قال الثوري وأصحاب الرأي: يجزئ من البر نصف صاع لكل مسكين، ومن التمر والشعير صاع صاع، وإتباع السنة أولى، وترجم البخاري ((باب الإطعام في الفدية نصف صاع)) قال الحافظ: أي لكل مسكين من كل شيء، يشير بذلك إلى الرد على من فرق في ذلك بين القمح وغيره، قال ابن عبد البر: قال أبو حنيفة والكوفيون: نصف صاع من قمح وصاع من تمر وغيره، وعن أحمد رواية تضاهي قولهم، قال عياض: وهذا الحديث يرد عليهم - انتهى. وأما رواية إسماعيل بن زكريا عن أشعث عن الشعبي عن عبد الله بن معقل عن كعب بلفظ ((لكل مسكين صاع من تمر)) فضعيفة كما قال ابن حزم (ج 7: ص 210) هذا وقوله ((أطعم فرقًا بين ستة مساكين)) يدل على أن الإطعام لستة مساكين، وترجم البخاري ((باب قول الله:{أو صدقة} وهي إطعام ستة مساكين)) قال الحافظ: يشير بهذا إلى أن الصدقة في الآية مبهمة فسرتها السنة، وبهذا قال جمهور العلماء، وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن الحسن قال: الصوم عشرة أيام والصدقة على عشرة مساكين، وروى الطبري عن عكرمة ونافع نحوه. قال ابن عبد البر: لم يقل بذلك أحد من فقهاء الأمصار - انتهى. وقال العيني: إن الإطعام لستة مساكين ولا يجزئ أقل من ستة، وهو قول الجمهور، وحكى عن أبي حنيفة أنه يجوز أن يدفع إلى مسكين واحد - انتهى.

ص: 371

أو صم ثلاثة أيام، أو انسك نسيكة.

ــ

(أو صم ثلاثة أيام) بيان لقوله تعالى {ففدية من صيام} قال ابن التين وغيره: جعل الشارع هنا صوم يوم معادلاً بصاع، وفي الفطر من رمضان عدل مد وكذا في الظهار والجماع في رمضان وفي كفارة اليمين بثلاثة أمداد وثلث، وفي ذلك أقوى دليل على أن القياس لا يدخل في الحدود والتقديرات، كذا في الفتح، وفي الحديث دليل على أن الصوم في الفدية الواجبة بحلق الشعر ثلاثة أيام، وقد تقدم ما روي عن الحسن أنه قال: الصيام عشرة أيام، قال ابن كثير: هو قول غريب فيه نظر لأنه ثبت السنة في حديث كعب بن عجرة صيام ثلاثة أيام لا عشرة. وقال ابن عبد البر في الاستذكار: روي عن الحسن وعكرمة ونافع صوم عشرة أيام ولم يتابعهم أحد من العلماء على ذلك - انتهى، هذا ولا تخصيص لصيام الفدية عند العلماء بموضع دون موضع بل يجوز له أن يصوم في أي موضع شاء بالاتفاق بين الأئمة الأربعة وغيرهم، وأما الإطعام ففيه خلاف فذهب الشافعي إلى أن الإطعام لا يجزيه إلا في الحرم وبه قال أحمد، قال أبو حنيفة ومالك: لا يختص ذلك بمكة ولا بالحرم فيطعم حيث شاء (أو انسك) بوصل الهمزة وضم السين (نسيكة) أي اذبح ذبيحة، وفي رواية ((انسك شاة)) أي اذبح شاة، والنسك يطلق على العبادة وعلى الذبح المخصوص. وقوله صلى الله عليه وسلم المذكور بيان لقوله تعالى:{أو نسك} وترجم البخاري ((باب النسك شاة)) قال الحافظ: أي النسك المذكور في الآية حيث قال: أو نسك، وروى الطبري من طريق مغيرة عن مجاهد في آخر هذا الحديث ((فأنزل الله {ففدية صيام أو صدقة أو نسك} والنسك شاة)) ومن طريق محمد بن كعب القرظي عن كعب ((أمرني أن أحلق وأفتدى بشاة)) قال عياض ومن تبعه تبعًا لأبي عمر: كل من ذكر النسك في هذا الحديث مفسرًا إنما ذكروا شاة وهو أمر لا خلاف فيه بين العلماء. قال الحافظ: يعكر عليه ما أخرجه أبو داود من طريق نافع عن رجل من الأنصار عن كعب بن عجرة أنه أصابه أذى فحلق فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدي بقرة، وللطبراني من طريق عبد الوهاب بن بخت عن نافع عن ابن عمر قال: حلق كعب بن عجرة رأسه فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفتدي فافتدى ببقرة، ولعبد بن حميد من طريق أبي معشر عن نافع عن ابن عمر قال: افتدى كعب من أذى كان برأسه فحلقه ببقرة قلدها وأشعرها، ولسعيد بن منصور من طريق ابن أبي ليلى عن نافع عن سليمان بن يسار قيل لابن كعب بن عجرة: ما صنع أبوك حين أصابه الأذى في رأسه؟ قال: ذبح بقرة، فهذه الطرق كلها تدور على نافع. وقد اختلف عليه في الواسطة الذي بينه وبين كعب، وقد عارضها ما هو أصح منها من أن الذي أمر به كعب وفعله في النسك إنما هو شاة، وروى سعيد بن منصور وعبد بن حميد من طريق المقبري عن أبي هريرة أن كعب بن عجرة ذبح شاة لأذى كان أصابه، وهذا أصوب من الذي قبله، واعتمد ابن بطال على رواية نافع عن سليمان بن يسار فقال: أخذ كعب بأرفع الكفارات ولم يخالف النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمره به من ذبح الشاة بل وافق

ص: 372

.............................................................................................

ــ

وزاد ففيه أن من أفتى بأيسر الأشياء فله أن يأخذ بأرفعها كما فعل كعب. وقال الحافظ: هو فرع ثبوت الحديث ولم يثبت بما قدمته - انتهى. وقال الحافظ العراقي: لفظ بقرة شاذ منكر، هذا واختلفت الروايات فيما افتدى به كعب بن عجرة، قال الحافظ بعد ذكر رواية أبي الزبير عن مجاهد عند الطبراني بلفظ ((ما أجد هديًا؟ قال: فأطعم، قال: ما أجد؟ قال: صم)) ما نصه: عرف من رواية أبي الزبير أن كعبًا افتدى بالصيام، ووقع في رواية ابن إسحاق ما يشعر بأنه افتدى بالذبح لأن لفظه صم أو أطعم أو انسك شاة، قال: فحلقت رأسي ونسكت. وروى الطبراني من طريق ضعيفة عن عطاء عن كعب في آخر هذا الحديث، فقلت: يا رسول الله: خر لي قال. أطعم ستة مساكين - انتهى. كذا ذكر الحافظ ولم يجزم بشيء من الثلاثة، لكن في كلامه السابق الإشارة إلى أن الذي فعله كعب إنما هو الافتداء بذبح الشاة حيث قال بعد ذكر رواية البقرة: وقد عارضها ما هو أصح منها من أن الذي أمر به كعب وفعله في النسك إنما هو شاة وتقدم أن ابن بطال اعتمد على رواية افتدائه بالبقرة، وتعقبه الحافظ بأن ذلك لم يثبت، ورواية أبي داود من طريق الحكم عن ابن أبي ليلى بلفظ: فحلقت رأسي ثم نسكت. تدل على أنه افتدى بالذبح وهي تؤيد رواية ابن إسحاق، لكن يأباه حديث الشعبي عن كعب عند أبي داود أيضًا، قال صلى الله عليه وسلم: أمعك دم؟ قال: لا، قال: فصم ثلاثة أيام أو تصدق. وجمع بينهما بأنه يحتمل أنه لم يكن واجدًا للشاة حين سأله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك حصلت له فذبحها، قال الزرقاني: يحتمل أنه وجدها بعد ما أخبر أنه لا يجدها فنسك بها، وأما ما أخرجه ابن عبد البر أنه قال: فحلقت وصمت، فإما أنها رواية شاذة أو أنه فعل الصوم أيضًا باجتهاده، واختلف العلماء في موضع ذبح فدية الأذى فقال مالك وأحمد: يذبح حيث شاء ولا يختص ذلك بمكة ولا بالحرم، وقال الشافعي وأبو حنيفة يختص بالحرم. قال العيني: احتج بعموم الحديث مالك على أن الفدية يفعلها حيث يشاء سواء في ذلك الصيام والإطعام والكفارة لأنه لم يعين له موضعًا للذبح أو الإطعام ولا يجوز تأخير البيان عن وقت البيان، وقد اتفق العلماء في الصوم أن له أن يفعله حيث شاء لا يختص ذلك بمكة ولا بالحرم، وأما النسك والإطعام فجوزهما مالك أيضًا كالصوم، وخصص الشافعي ذلك بمكة أو بالحرم، واختلف فيه قول أبي حنيفة فقال مرة: يختص بذلك الدم دون الإطعام، وقال مرة: يختصان جميعًا بذلك. وقال هشيم: أخبرنا ليث عن طاوس أنه كان يقول: ما كان من دم أو إطعام فبمكة، وما كان من صيام فحيث شاء، وكذا قال عطاء ومجاهد والحسن - انتهى. وقال الخرقي: كل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم إن قدر على إيصاله إليهم إلا من أصابه أذى من رأسه فيفرقه على المساكين في الموضع الذي حلق فيه، قال ابن قدامة: أما فدية الأذى فتجوز في الموضع الذي حلق فيه نص عليه أحمد، وقال الشافعي: لا يجوز إلا في الحرم لقوله تعالى {ثم محلها إلى البيت العتيق} (سورة الحج، الآية 33) ولنا أنه صلى الله عليه وسلم أمر كعب بن عجرة بالفدية بالحديبية ولم يأمر ببعثه إلى الحرم، وروى الأثرم وإسحاق والجوزجاني في كتابيهما

ص: 373

..............................................................................................

ــ

عن أبي أسماء مولى عبد الله بن جعفر قال: كنت مع عثمان وعلي وحسين بن على رضي الله عنهم حجاجًا فاشتكى حسين بن علي بالسقيا فأومأ بيده إلى رأسه فحلقه علي ونحر عنه جزورًا بالسقيا، هذا لفظ رواية الأثرم ولم يعرف لهم مخالف، والآية وردت في الهدي، وظاهر كلام الخرقي اختصاص ذلك بفدية الشعر، وما عداه من الدماء فبمكة، وقال القاضي في الدماء الواجبة بفعل محظور كاللباس والطيب هي كدم الحلق، وفي الجميع روايتان إحدهما يفدي حيث وجد سببه والثانية محل الجميع الحرم، وأما جزاء الصيد فهو لمساكين الحرم نص عليه أحمد، إلى آخر ما قال. وقال الدردير: لم يختص النسك بمعنى الفدية بأنواعها الثلاثة (شاة أو إطعام ستة مساكين أو صيام ثلاثة أيام) بزمان كأيام منى أو بمكان كمكة أو منى بخلاف الهدي فإنه يختص بهما إلا أن ينوي بالذبح الهدي بأن يقلد أو يشعر، والمعتمد أن مجرد النية كاف فحكمه حكم الهدي في الاختصاص بمنى أو مكة – انتهى. وفي الهداية الصوم يجزيه في أي موضع شاء لأنه عبادة في كل مكان، وكذلك الصدقة عندنا، وأما النسك فيختص بالحرم لأن الإراقة لم تعرف قربة إلا في زمان أو مكان، وهذا الدم لا يختص بزمان فتعين اختصاصه بالمكان – انتهى. قال الحافظ: واحتج (للمالكية) القرطبي بقوله في حديث كعب ((أو اذبح نسكًا)) قال: فهذا يدل على أنه ليس بهدي، قال: فعلى هذا يجوز أن يذبحها حث شاء، قلت:(قائله الحافظ) : لا دلالة فيه إذ لا يلزم من تسميتها نسكًا أو نسيكة أن لا تسمى هديًا أو لا تعطي حكم الهدي، وقد وقع تسميتها هديًا في رواية للبخاري حيث قال: أو تهدي شاة، وفي رواية مسلم ((واهد هديًا)) وفي رواية للطبري ((هل لك هدي؟ قلت: لا أجد)) فظهر أن ذلك من تصرف الرواة، ويؤيده قوله في رواية مسلم ((أو اذبح شاة)) واستدل به على أن الفدية لا يتعين لها مكان، وبه قال أكثر التابعين، وقال الحسن: تتعين مكة، وقال مجاهد: النسك بمكة ومنى، والإطعام بمكة، والصيام حيث شاء، وقريب منه قول الشافعي وأبي حنيفة: الدم والإطعام لأهل الحرم والصيام حيث شاء إذ لا منفعة فيه لأهل الحرم، وألحق بعض أصحاب أبي حنيفة وأبو بكر بن الجهم من المالكية الإطعام بالصيام – انتهى. والأظهر عندنا في النسك والصدقة أيضًا أن له أن يفعلهما حيث شاء، لأن فدية الأذى أشبه بالكفارة منها بالهدي، ولأن الله لم يذكر للفدية محلاً معينًا ولم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم وسماها نسكًا، والله أعلم، هذا وقد تقدم أن الحديث تفسير لقوله تعالى:{فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} وسياق الحديث موافق للآية و ((أو)) فيهما للتخيير، وقد ترجم البخاري في الحج من صحيحه بالآية وقال بعد ذكرها: وهو مخير والصيام ثلاثة أيام. قال الحافظ: قوله ((مخير)) من كلام المصنف، استفاده من أو المكررة، وقد أشار إلى ذلك في أول باب كفارات الأيمان، فقال: وقد خير النبي صلى الله عليه وسلم كعبًا في الفدية، ويذكر عن ابن عباس وعطاء وعكرمة: ما كان في القرآن أو فصاحبه بالخيار، قال الحافظ: وأقرب ما وقفت عليه من طريق حديث الباب إلى التصريح ما أخرجه أبو داود من طريق الشعبي

ص: 374

.............................................................................................

ــ

عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إن شئت فانسك نسيكة، وإن شئت فصم ثلاثة أيام، وإن شئت فأطعم – الحديث. وفي رواية مالك في الموطأ عن عبد الكريم بإسناده في آخر الحديث ((أي ذلك فعلت أجزأ)) . قال الحافظ: لكن رواية عبد الله بن معقل عند الشيخين تقتضي أن التخيير إنما هو بين الإطعام والصيام لمن لم يجد النسك، ولفظه عند البخاري قال: أتجد شاة؟ قال: لا، قال: فصم أو أطعم، ولأبي داود في رواية أخرى: أمعك دم؟ قال: لا، قال: فإن شئت فصم)) ونحوه للطبراني من طريق عطاء عن كعب، ووافقهم أبو الزبير عن مجاهد عند الطبراني، وزاد بعد قوله ((ما أجد هديًا)) قال: فأطعم. قال: ما أجد. قال: فصم، ولهذا قال أبو عوانة في صحيحه: فيه دليل على أن من وجد نسكًا لا يصوم يعني ولا يطعم لكن لا أعرف من قال بذلك من العلماء إلا ما رواه الطبري وغيره عن سعيد بن جبير ((قال: النسك شاة، فإن لم يجد قومت الشاة دراهم، والدراهم طعامًا فتصدق به أو صام لكل نصف صاع يومًا)) أخرجه من طريق الأعمش عنه، قال: فذكرته لإبراهيم فقال: ((سمعت علقمة مثله)) فحينئذ يحتاج إلى الجمع بين الروايتين وقد جمع بينهما بأوجه، منها: ما قال ابن عبد البر: إن فيه الإشارة إلى ترجيح الترتيب لا لإيجابه، ومنها ما قال النووي: ليس المراد أن الصيام أو الإطعام لا يجزئ إلا لفاقد الهدي بل المراد أنه استخبره هل معه هدي أو لا، فإن كان واجده أعلمه أنه مخير بينه وبين الصيام والإطعام وإن لم يجده أعلمه أه مخير بينهما، ومحصله أنه لا يلزم من سؤاله عن وجدان الذبح تعيينه لاحتمال أنه لو أعلمه أنه يجده لأخبره بالتخيير بينه وبين الإطعام والصوم. ومنها: ما قال غيرهما: يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن له في حلق رأسه بسبب الأذى أفتاه بأن يكفر بالذبح على سبيل الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم أو بوحي غير متلو فلما أعلمه أنه لا يجد نزلت الآية بالتخيير بين الذبح والإطعام والصوم فخيره حينئذ بين الصيام والإطعام لعلمه بأنه لا ذبح معه فصام لكونه لم يكن معه ما يطعمه، ويوضح ذلك رواية مسلم في حديث عبد الله بن معقل المذكور حيث قال: أتجد شاة؟ قلت: لا، فنزلت هذه الآية ((ففدية من صيام أو صدقة أو نسك)) فقال: فصم ثلاثة أيام أو أطعم، وفي رواية عطاء الخراساني قال: صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين، قال: وكان قد علم أنه ليس عندي ما أنسك به، ونحوه في رواية محمد بن كعب القرظي عن كعب، وسياق الآية يشعر بتقديم الصيام على غيره، وليس ذلك لكونه أفضل في هذا المقام من غيره بل السر فيه أن الصحابة الذين خوطبوا شفاهًا بذلك كان أكثرهم يقدر على الصيام أكثر مما يقدر على الذبح أو الإطعام – انتهى كلام الحافظ. ثم إن التخيير في الفدية بأنواعها الثلاثة هل يختص بالعذر والضرورة أو يعم، وأن الفدية المذكورة تختص بالحلق أو تعم الحلق وغيره من محرمات الإحرام كاللبس والتطيب؟ وهل تختص بالعمد أو تعم العمد والخطأ والنسيان؟ وما هو حكم بعض شعر الرأس وحكم شعر الجسد غير الرأس؟ العلماء مختلفون في ذلك كله من أراد الوقوف على مذاهبهم ومستندات

ص: 375