الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ودسه حيث تراه
…
بتركه فهو أرض
ومنه قوله: [الكامل]
لا شيء فوق الموت تألمه
…
إلا إذا أضيافه ارتحلوا
لو أن كعب الجود عاصره
…
بسماحه لم يضرب المثل
ومنه قوله في حائك صار خطيبا: [السريع]
وحائك صار خطيبا ومذ
…
صار خطيبا قد بدا منصرما
ظنّ وقد صار على منبر
…
بأنه قد صار فوق السما
وهو الذي من نفق في الثرى
…
إلى الثريّا قد رقي سلّما
ومنه قوله، وقد ولي شمس الدين محمد بن الرزيز خطابة الجامع الكريمي بقبيبات دمشق، وقام شخص اسمه ابن العديسة واعظا:[المجتث]
في الدهر شيء عجيب
…
مرآه يقذي اللواحظ
ابن الرزيز خطيب
…
وابن العديسة واعظ
ومما أملانا من نثره قوله مع قصيدة كتب بها إلى بعض الرؤساء، وهو:
فأرسلتها كالمهدي قطرة إلى البحر المحيط، أو النافخ بغيه ليزيد بنفسه في الهواء البسيط.
ومنهم:
60- أحمد بن محمد بن سلمان بن حمائل، شهاب الدين، أبو جعفر
«13»
عرف بابن غانم. أي لا يصبر على ضيم، ولا يتغافل لمساورة أيم، بل أي بلد نبت به أرضها، ونبت له ممضّها، طلّقها طلاق البتات، وقوّض عنها (219) خيامه قبل البيات. جوّال آفاق، وجوّاب مهامه بلا رفاق. طار بغير جناح، واخترق حيث تهب الرياح.
وقد تقدم ذكر أخيه في الكتّاب في هذا الكتاب. وكان أبوهما ممن أحبّ له داعي الفلاح، وأجيل قلمه في سهام القداح، ثم غضب ابنه هذا عليه غضبة حملته على الاغتراب، وحلّقت به حيث لا يحلق الغراب. هذا وبدره ما اكتمل، وجلباب الورق على غصنه ما اشتمل. فأتى العراق في رفقة، سلكوا به السماوة، لا يصحبه إلا أبيض مسلول، ولا يؤنسه إلا أرقط زهلول، ولا يظلله إلا سمرة في يهماء، ولا برد إلا أداوة يترشف منها الماء. ونزل بها على خفاجة مخفيا لنفسه، مظهرا له أدب درسه، فلما تسمّى لهم واكتنى، وكتم من أمره معلنا- وكان العهد إذ ذاك قريبا بأخذ بغداد، وشتات شذاذ الخلافة في أقطار البلاد- ظنوه ابنا للمستعصم، كان قد فقد على الجسر، بعد اقتحام التتار شوارعها الفساح، والتهام أفواه قسيهم الفاغرة مضغ الأرواح، وأبناء الخلائق لديهم نهب صيح في حجراته، وهضب ذيد عن سمراته.
ولقد حكى لي أن هذا صار فيه عقد دينهم، وعقل يقينهم، فقدموه عليهم إماما، وسلموه لهم زماما، وإنه لم يفسدهم بكشف باطنه، وإخراج خبيئة من مواطنه. وأتى الملك الظاهر هذا البناء، فخاف منه فتقا لا يرقعه، وخرقا لا يجمعه، فكتب إلى ملك العرب عيسى بن مهنا يطلب منه إحضاره، ويوكل به انتظاره، فاستدرجه إليه، ثم بعث به حتى أقدمه عليه، فلما حضر بين يديه، تعرّف إليه بأبيه، وشهد له بعض من حضر، فسلّم وقد أهوى إليه الحجر، وأمر باستدعاء أبيه من دمشق، فلما وصل سلّم إليه، وسلّ من قنصة الموت وألقى
لديه، وقيل له: لا بورك لك، ثم ردّ ضائعه عليه.
ثم إنه كتب الإنشاء في الممالك، وتنقل بمصر ودمشق، ثم أبى حمل المشق.
كان قد أفرد للكتابة في مجلس الوزارة بدمشق، والمتحدث إذ ذاك، الصاحب شمس الدين عبد الله المعروف بغبرال، فأمره يوما بكتابة كتاب، فضمنه شيئا (220) من الصناعة التي لا عهد بها لمن كتبت عنه، وقرأ ما فيها فلم يستبينه، فأنكر ما لم يحط به علمه، ولا تصوره فهمه، فسأله عن موضع منها كالمستفسر، فظنه كالمستنفر، فركب القفار يضربها أذرعا في أذرع، ويودع منها أربعا في أربع، وظنّ أنه قد تفلّت من يده تفلّت المملق من يد الغريم المقلق، وتقحّم مهالك بحار الرياح في قطعها، ومهاوي لا تكتحل جفن الغزالة، ينقعها بتلاعب يد الإقتار، ويقذف به في الفجاج البعيدة الأقطار، إلى أن نزل بالملك المؤيد صاحب اليمن، في بحبوحة مجد، وأرجوحة جد، وسعادة أراشت جناحه المحصوص، وأطارت طائره المقصوص.
ثم ضاقت به تلك الرحاب، ونغصت إليه تلك المحاب، لأمراض تناوبت بنيه، وأعراض هدّت مبانيه، فسيرهم من طريق لاقاهم إليه، إلى مكان لم يخلف لهم فيه موعدا، ولا تجاوزه مبعدا، إلى أن حلّ حضرة صنعاء متذمما بإمامها، وطالبا منه صنيعة يتمسك بذمامها، فوجد لديه إكراما، وحواليه لاقى كراما.
ثم وجه على طريق السراة ميمما مكة المعظمة، فوافاها والموسم قد أقمرت لياليه، ورقمت خدود الأيام غواليه، فحضر الموسم وشهد أيامه المعلومات، ولياليه الرافلة حلله المرقومات. وقد التقى كلّ ذي دين وماطله، وهدت به سنابك اليمن وأياطله، ثم قصد الباب الشريف النّاصري، فلقي برّا بحسن الخلف، وحلما لا يؤاخذ بما سلف، وأمر باستخدامه، ثم تنقل في مصره وشامه،
وتنقل ببرّه وإنعامه.
ولما فوّض إلينا الأمر بالشام في أخريات شعبان، سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، أبى إلا أن يحفظ عهدنا، وأن لا يقيم بمصر بعدنا، فجاء على آثارنا مستصحبا لحال المودة، مقضيا معنا عمره إلى آخر مدة. ثم منعه مانع الهرم أن يعود معنا إلى مصر، في جمادى الأولى من السنة القابلة، حين قلدنا بها ثانيا، وقعد عجزا لا توانيا، لفتور عزم قيد خطاه، وفند رأيه لحلول الأجل فما تخطاه.
وبلغنا على الأثر أنه غلب عليه سوء مزاج، لم يفد فيه حسن (221) علاج، إمضاء لإرادة الله في خلقه، وإفضاء به إلى نهاية أجله ورزقه.
وكان فاضل بيته، ومستدرك فوته، ناقلة لغة، وعاقلة أدب، مع إلمام بطرف كل فضيلة، وطرف ودّ أوى به إلى ضوء كل قبيلة.
فأما الشعر، فكان نبعته التي قرع بها القرناء، وصنعته التي ما خلا بعده لمن عاناها إلا العناء.
وله طرائف وظرائف. حكى عنه قريبنا القاضي جمال الدين، أبو محمد، يوسف بن رزق الله العمري، قال: اجتمعت به يوما في سماع، فرقص الناس ثم جلسوا، فأقامهم شخص استمع هو ورجال مثله، عليهم سيماء البادية، وطال الحال في الوقوف، وشهاب الدين ساكت لا يتكلم، وساكن لا يتحرك، فقال له رجل على سبيل الهزء به: مالي أراك ساكنا كأنه يرجى إليك؟ فقال: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ
«1»
وحكى عنه بعض أقاربه، أن الملك المنصور صاحب حماة، خرج إلى باب الشجريات بالمعرة، وشهاب الدين في صحبته، فاحتاج شهاب الدين إلى الخلاء، ولم يكن من رأيه دخول الخربشت، «2» وكان الفضاء مسدودا بالوطاق الظاهري، وهو إذ ذاك مخيم به، فصعد شهاب الدين إلى شجرة تين ليتخلّا، والملك المنصور يراه، ولم يعلم ما يصنع، فجهز شخصا لينظر ما يفعل، فقال: خذ! وسلح عليه، حتى ملأ وجهه وعينيه. فقال: ويلك، ما هذا؟ فقال: أطعمتك من التينة. فأتى الملك المنصور الخبر، وفهم الصورة، فانقلب يضحك حتى أغشي عليه.
وحكي أنه اجتمع يوما هو ونور الدين ابن هلال الدولة مقدم يمن بكفر عامر، في مجلس لهو فيه شيء من آلات الطرب، فأخذ شهاب الدين آلة منها ليضرب بها على سبيل العبث، وكان لا يعرف هذا، وابن هلال الدولة متهم بالرفض، فقال له ابن هلال الدولة: أحسنت، بالله سمّعنا غليظ ما نكره، فقال: رضي الله (222) عن أبي بكر وحكي عنه، ثم حكى هو لنا عن نفسه، أنه كان عند واحد الدهر القاضي كريم الدين عبد الكريم الناصري في خيمة جمع القرّاء بها بالقرافة، وأنه أوى إلى القاضي علاء الدين، علي بن الظاهر، وجلس إليه يحدثه، فبعث إليه بآخر هناك يعرف بالطواشي معاوية، يقول له: بقيت نوبتي، يعني قم تعال إليّ، وألحّ عليه. فقال له: ويلك! من يخلّي عليّا ويروح إلى معاوية؟ فيما أوردناه مقنع، وفي بعضه ممتع.
ومما أنشدنا من شعره تلفظا أو إجازة قوله: «1» [السريع]
والله ما أدعو على هاجري
…
إلا بأن يمحن بالعشق
حتى يرى مقدار ما قد جرى
…
منه وما قد تمّ في حقي
وقوله: «2» [المجتث]
يا حسنها من رياض
…
مثل النّضار نضاره
كالزهر زهرا وعنها
…
ريح العبير عباره «1»
وقوله: «2» [مخلع البسيط]
طرفك هذا به فتور
…
أضحى لقلبي به فنون
قد كنت لولاه في أمان
…
لله ما تفعل العيون
وقوله: [الكامل]
يا نازحا عني بغير بعاد
…
لولاك ما علق الهوى بفؤادي
أنت الذي أفردتني مني فلي
…
بك شاغل عن مقصدي ومرادي
سهرت بحبك مقلتي فحلالها
…
فيك السّهاد فلا وجدت رقادي
ورضيت ما ترضى فلو أقصيتني
…
أيام عمري ما نقضت ودادي
أنت العزيز عليّ إن أشكو لك ال
…
وجد الذي أهديته لفؤادي
وقوله: «3» [الخفيف]
أيّها اللائمي لأكلي كروشا
…
أتقنوها في غاية الإتقان
لا تلمني على الكروش فحبي
…
وطني من علائم الإيمان «4»
وهو من قول النصير الحمامي، وقول النصير أحسن، وهو:[السريع]
(223)
رأيت شخصا آكلا كرشة
…
وهو أخو ذوق وفيه فطن
وقال: ما زلت محبّا لها
…
قلت: من الإيمان حبّ الوطن
وكذلك قوله، أعني أبا جعفر بن غانم:«1» [الخفيف]
ما اعتكاف الفقيه أخذا بأجر
…
بل لحكم قضى به رمضان
هو شهر تغلّ فيه الشياطي
…
ن ولا شكّ أنه شيطان
وقوله: [البسيط]
تعجّب الناس للبطيخ حين أتى
…
لحين حين وإذ وافى بطاعون
وكيف لا يقطع الأعمار مقدمه
…
وليس يؤكل إلا بالسكاكين
وقوله في مولود سمّي مباركا: [مجزوء الرجز]
تهنّ يا مباركا
…
بالولد المبارك
بمن سمّوه أنسا
…
لكونه ابن مالك
وقوله، مما كتب به إلى قاضي القضاة، جمال الدين ابن واصل، وقد أقعده عاقدا بحماة في مكتب فيه السيف علي بن المغيزل:«2» [مخلع البسيط]
مولاي قاضي القضاة يا من
…
له على العبد ألف منّه
إليك أشكو قرين سوء
…
بليت منه بألف محنه
شهرته بيننا اعتداء
…
أغمده فالسيف سيف فتنه
وقوله في زركشي: [مجزوء الكامل]
بأبي أفدي زركشيا
…
قد سبى كلّ الورى
عشق الشريط جماله
…
فغدا نحيلا أصفرا
وقوله مناقضة للبيتين المشهورين، والذي قاله:[المتقارب]
تأمّل دمشق وجاور بها
…
فقد زانها الجامع الجامع
فسرّ السرور به مودع
…
وسعد السعود به طالع
وأما البيتان المنقوضان فيهما، فهما:[المتقارب]
(224)
تجنّب دمشق ولا تأتها
…
وإن شاقك الجامع الجامع
فسوق الفسوق به قائم
…
وفجر الفجور به طالع
عدنا إلى تتمة ما نذكره له، فمنه قوله في مقصوص الشعر:«1» [البسيط]
صدغان كان فؤادي هائما بهما
…
فكيف أسلو وكلّ الشعر أصداغ «2»
قالوا: ذؤابته مقصوصة حسدا
…
فقلت: قاطعها للحسن صوّاغ
ومنه قوله، نقلته مما كتبه لي من شعره القاضي نجم الدين أحمد ابن أخيه، واستثبته في قوله، فقال: إنه سمع هذا من فيه، وهو:[الطويل]
أعاهد قلبي في اجتناب هواكم
…
ويغلبني شوقي إليكم فأنكث
وأحلف لا واصلتكم ما بقيتم
…
وأعلم أن الوصل خير فأحنث
ومنه قوله: «3» [الخفيف]
بأبي صائغ مليح التثني
…
بقوام أزرى لغصن البان
أمسك الكلبتين يا صاح فاعجب
…
من غزال في كفّه كلبتان
وحكي أنه كان قد دعاه صاحب له ليضيفه، فلما جاءه قال له. اقلع قماشك واقعد عندنا اليوم. فلما قلع قماشه واطمأن، سرق جبّته وخبّأها على سبيل اللعب. ثم جاءه بصحن كبير مغطى، فلما كشفه لم يجد فيه إلا سبع حبات من القطائف في غاية الصغر. فقال: ويحك! ما هذه؟ فقال له: كل، فإن استطبتها زدناك. فلما أكلها لم يأته بشيء آخر، ثم أمره بالانصراف. فلما قام لينصرف، لم يجد جبّته، فسأل عنها. فقال له: أخذناها ثمن القطائف التي أكلتها.
فقال: «1» [مجزوء الرجز]
قل للذي ضيّفني
…
في بيته سبع لقم «2»
ورام أخذ جبّتي
…
هذا على الرطل بكم
قلت: وعلى طول مدته في ديوان الدرج، واسترزاقه بقلم الإنشاء، وما يتلاطم في حفظه من أمواج المراد، ما تعاظم إلا لديه من وافر الفضل (225) لا يذلّه في تنميق النثر، ولا في تحقيق طريق الكتابة، بل هو مخلّى فيها، ونفسه يركد ولا يهب، ويقعد ولا يقوم، حتى في كتب السفيل، لا يرضى منها له كتاب، ولا تحلّى بشيء مما عنده من الأدب، بل هي في معزل، والكتابة في مغزل، وقد سدّ بينهما باب، وضيّع خازنه المفتاح، حتى لا يفتح ذلك الباب.
انتهى كلامنا فيه.
وهذا آخر ما ذكرت من شعراء الجانب الشرقي، ممن ضمت حنايا القبور أسرارهم، وأخفت مغارب اللحود أقمارهم، ووسدهم التراب حشاياه، وكدّر