الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدّمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله بجميع محامده ما علمت منها وما لم أعلم، على جميع نعمه وآلائه، ما علمت منها وما لم أعلم.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبيّ الأميّ المبعوث رحمة إلى العالمين.
وبعد، فهذه طبعة جديدة لكتاب روائع القرآن، أقدمها إلى طلاب العربية وهواة الأدب العربي وكل من يعنى بدراسة القرآن.
ولقد تمنيت أن يتاح لي من الوقت ما يسمح لي بالتوسع في بحوثه والتعمّق في دراساته، بالقدر الذي يتفق مع روعة القرآن وعمق مراميه ودقة بيانه. ولكني على يقين بأن الزمن كله أضيق من أن يتّسع لشرح يتكافأ مع عظمته، والطاقات كلها أقل من أن تنهض باستيعاب دقائقه، والحياة كلها جزء يسير من مدّه الزاخر وإشراقه السامي ومعانيه التي لا تنقضي!
…
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (الكهف: 109).
ولقد شرّفني الله بتدريس القرآن وبلاغته بقسم اللغة العربية في جامعة دمشق ثم في جامعة اللاذقية، فما رأيت ذا رشد في فكره، وذوق في نفسه، يتاح له أن يعلم علما عن هذا الكتاب وأن ينصت إلى شيء من
بيانه، إلا وتهتز منه الجوانح طربا لرائع قوله وسمو إشراقه، ثم يقف مستسلما مشدوها تحت مظلة إعجازه!
…
لا يحول دون استعلانه بذلك فكر عرف به أو هوى يميل إليه أو عصبية تسيطر عليه.
هذا، على الرغم مما انحدرت إليه الدراسات العربية من الضحالة والسطحية والضعف، ومع كل ما انتهى إليه طلابها من فساد الذوق وعجمة اللسان وفهاهة البيان.
وأشهد لو أن العربية كانت تعيش على ألسنة العرب اليوم أيام شبابها، إذا لكان للقرآن أثر فريد في حياتهم الفكرية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية.
ولكن عدوا شرسا لهذه الأمة عرف كيف يسدد الطعنة إليها، وأدرك السبيل إلى تجفيف روافد العز في حياتها، فانحطّ في أسباب الكيد لثقافتها العربية وذاتيتها الإسلامية، عن طريق إبعادها عن سلطان هذا الكتاب وحجبها عن أسباب التأثّر به.
وإن التاريخ ليرصد السعي إلى هذه المكيدة بإحصاء دقيق، وإن ذهل عنه كثير من السادرين والسكارى من أهله، وإنه ليذكر ولا ينسى يوم وقف وزير المستعمرات البريطاني «غلادستون» بين زملائه في مجلس الوزراء يقول، وقد أمسك بيده قرآنا يلوّح إليهم به:
لن تحقّق بريطانيا شيئا من غاياتها في العرب والمسلمين إلا إذا سلبتهم سلطان هذا الكتاب أولا. أخرجوا سرّ هذا الكتاب مما بينهم تتحطم أمامكم جميع السدود (1)!
…
وبعد، فإن الإحاطة بأسرار هذا الكتاب وجوانب إعجازه، أمر
(1) كان هذا التصريح عام 1895.
عسير بل مستحيل تقف دونه قدرات البشر جميعا.
غير أن ما لا يدرك كله لا يترك كله؛ ولقد ساعدني التوفيق الإلهي على توسيع دائرة البحث في إعجاز القرآن من هذا الكتاب، بالقدر الذي سمح به الوقت وامتدّ إليه الجهد.
وكلّ ما زدته أو توسعت فيه من هذا البحث، ليس إلا بمثابة إصبع تشير من على الشاطئ إلى المحيط المتلاطم الذي لا يستبين له حدود.
وإنما المهم من دراسة الإعجاز القرآني أن يصل منها القارئ إلى ما يدرك معه أن صياغة هذا الكتاب ليست مما من شأنه أن يخضع للطاقة الإنسانية، وأن معانيه ليست مما قد يأتي بمثله الفكر الإنساني.
وأحسب أنني قد أتيت من الحديث عن إعجاز القرآن (على إيجازه) بما يعطي القارئ هذا اليقين ويسلّمه إلى هذه الحقيقة.
أما سائر البحوث الأخرى فقد زدت في كثير منها بالقدر الذي أسعفني الوقت، كما غيّرت في بعض منها بالمقدار الذي يقتضيه التنقيح أو الإصلاح.
وإنني إذ أتقدم بهذه الطبعة الجديدة من كتابي هذا إلى طلابي قسم اللغة العربية، وسائر الإخوة القرّاء، آمل أن يجعله الله في أيديهم مفتاح عناية شاملة بالقرآن، وعكوف جادّ على دراسته واتقان تلاوته، وخضوع جديد تحت حكمه وسلطانه.
والله المستعان في كل هداية وتوفيق.
محمّد سعيد رمضان البوطي دمشق في 15 شوال سنة 1395 20 تشرين أول سنة 1975