المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌التّصوير في القرآن مظهره ورسائله ‌ ‌تمهيد: يقول علماء العربية والبيان: الكلام ينقسم - من روائع القرآن

[محمد سعيد البوطي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌مقدّمة الطبعة الثّالثة

- ‌تمهيد أوّل تعريف بهذا الكتاب وأهمّ ابحاثه

- ‌تمهيد ثان بتعريف أهمّيّة القرآن في الأدب العربيّ ووجوه ذلك

- ‌السبب الأول

- ‌السبب الثاني

- ‌السبب الثالث:

- ‌السبب الرابع:

- ‌تاريخ القرآن

- ‌القرآن تعريفه، وحقيقته

- ‌نزول القرآن منجّما والحكمة في ذلك

- ‌حكمة نزول القرآن منجّما:

- ‌أسباب النّزول

- ‌أولا- حكمة ارتباط الآيات بأسباب النزول:

- ‌ثانيا- أمثلة لأسباب النزول

- ‌ثالثا- أهمية معرفة أسباب النزول:

- ‌رابعا- اهتمام العلماء بالكتابة في «أسباب النزول»

- ‌كيفيّة جمع القرآن وكتابته والأدوار الّتي مرّت على ذلك

- ‌أولا- ترتيب القرآن وكتابته في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ثانيا- ما جدّ من ذلك في عهد أبي بكر:

- ‌ثالثا- ما جدّ من ذلك في خلافة عثمان:

- ‌رسم القرآن والمراحل التحسينية الّتي ندرّج فيها

- ‌فأما الظاهرة الأولى:

- ‌أما الظاهرة الثانية:

- ‌الأحرف السّبعة

- ‌علوم القرآن

- ‌تمهيد

- ‌ ما هي علوم القرآن

- ‌(علوم القرآن) اصطلاح خاص:

- ‌متى ظهر هذا الاصطلاح:

- ‌التّفسير‌‌ حقيقته، نشأته وتطوّره، مذاهبه وشروطه

- ‌ حقيقته

- ‌نشأته وتطوره:

- ‌الطائفة الأولى: وهم أصحاب عبد الله بن عباس، من علماء مكة المكرمة

- ‌الطائفة الثانية: وهم أصحاب عبد الله بن مسعود، من علماء الكوفة

- ‌الطائفة الثالثة: وهم أصحاب أنس بن مالك وغيره

- ‌مذاهبه وشروطه:

- ‌المكّيّ والمدنيّ تعريف كلّ منهما، خصائص كلّ منهما، الفائدة من معرفة ذلك

- ‌تمهيد:

- ‌تعريف المكّي والمدني:

- ‌خصائص كلّ منهما:

- ‌الفائدة من معرفة هذا العلم:

- ‌المبهم والمتشابه في القرآن

- ‌تمهيد:

- ‌المبهم: أنواعه، أمثلة له، الحكمة منه:

- ‌النوع الأول: الأحرف المقطعة التي افتتح بها بعض السور

- ‌النوع الثاني: جمل وألفاظ

- ‌المتشابه: المقصود به، حكمه

- ‌القراءات والقرّاء لمحة دراسيّة سريعة في ذلك

- ‌منشأ القراءات:

- ‌الحكمة من مشروعيتها:

- ‌ما معنى تحديدها بالسبعة ومتى حددت بهذا العدد:

- ‌الضابط العلمي لاعتماد القراءات:

- ‌الفرق بين القراءات المتواترة والشاذة:

- ‌حكم القراءات الشاذة:

- ‌أسلوب القرآن دراسة عامة لخصائصه

- ‌الخاصّة الأولى (جريانه على نسق بديع خارج عن المألوف):

- ‌الخاصّة الثانية (جريانه على مستوى رفيع واحد على الرغم من تنوع المعاني والموضوعات):

- ‌الخاصّة الثالثة (صلاحية صياغته لمخاطبة الناس عامة على اختلاف ثقافاتهم وعصورهم):

- ‌الخاصّة الرابعة (ظاهرة التكرار للألفاظ والمعاني):

- ‌فالنوع الأول منه:

- ‌وأما النوع الثاني منه:

- ‌الخاصّة الخامسة (تداخل بحوثه وموضوعاته):

- ‌إعجاز القرآن تعريفه، وجوهه، دليله، مظاهره

- ‌تمهيد لا بدّ منه:

- ‌تعريف إعجاز القرآن:

- ‌الدليل على ثبوت الإعجاز في كتاب الله في الجملة:

- ‌وجوه الإعجاز القرآني

- ‌أولا: الإعجاز اللفظي أو البلاغي:

- ‌مصدر الإعجاز البلاغي في القرآن:

- ‌المظهر الأول (الكلمة القرآنية):

- ‌المظهر الثاني: الجملة القرآنية:

- ‌أولا: الاتساق اللفظي والإيقاع الداخلي:

- ‌ثانيا: دلالتها بأقصر عبارة على أوسع معنى:

- ‌ثالثا: إخراج المعنى المجرد في مظهر الأمر المحسوس:

- ‌ثانيا: الإعجاز بالغيبيات:

- ‌ثالثا: الإعجاز بالتشريع:

- ‌رابعا: مظهر جلال الربوبية:

- ‌الذين كتبوا في إعجاز القرآن

- ‌موضوعات القرآن وطريقة عرضه لها

- ‌التّصوير في القرآن مظهره ورسائله

- ‌تمهيد:

- ‌الأمثال في القرآن

- ‌القصّة في القرآن أغراضها، خصائصها

- ‌الأمر الأول: إثبات الوحي الإلهي والرسالة النبوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌الأمر الثاني: العبرة والموعظة

- ‌الأمر الثالث: تثبيت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم في مجال الدعوة

- ‌منهج القصة في القرآن:

- ‌ القيمة التاريخية لقصص القرآن:

- ‌المنهج التّربويّ في القرآن

- ‌النّزعة الإنسانيّة في القرآن

- ‌أولا- النزعة الإنسانية في القرآن من حيث الموضوع:

- ‌ثانيا- النزعة الإنسانية في القرآن من حيث الأسلوب:

- ‌فلسفة القرآن عن الكون والإنسان والحياة

- ‌نظرة القرآن إلى الكون:

- ‌نظرة القرآن إلى الإنسان:

- ‌نظرة القرآن إلى الحياة:

- ‌هل من الممكن ترجمة القرآن

- ‌تمهيد

- ‌في الإلهيّات (من سورة الرعد، من آية 8: إلى آية 14)

- ‌تعريف عام بالآيات:

- ‌شرح الآيات:

- ‌في الوصف (من سورة غافر. من آية: 10 إلى آية: 20)

- ‌تعريف عام بالآيات:

- ‌شرح الآيات:

- ‌في المبادئ والإنسانيّات (من سورة الإسراء من آية: 23 إلى آية 29)

- ‌تعريف عام بالآيات:

- ‌شرح الآيات:

- ‌في القصص (من سورة هود، من آية: 35 إلى آية: 49)

- ‌ تعريف عام بالآيات:

- ‌شرح الآيات:

- ‌في الحجاج والنّقاش (من سورة النمل من آية: 59 إلى آية: 66)

- ‌تعريف عام بالآيات:

- ‌شرح الآيات:

- ‌كلمة أخيرة

الفصل: ‌ ‌التّصوير في القرآن مظهره ورسائله ‌ ‌تمهيد: يقول علماء العربية والبيان: الكلام ينقسم

‌التّصوير في القرآن مظهره ورسائله

‌تمهيد:

يقول علماء العربية والبيان: الكلام ينقسم إلى خبر وإنشاء.

والخبر هو- كما تعلم- الحديث عن معنى قد وقع، على سبيل الاطلاع عليه لمن كان جاهلا، أو التذكير به لمن كان ناسيا؛ والإنشاء هو تحصيل معنى عن طريق استفهام أو طلب.

فشأن الكلام- على كل حال- مرتبط بالمعنى، إخبارا به أو استفهاما عنه أو طلبا له، وليس له شأن بما وراء ذلك.

وما هو المعنى؟

إنه عبارة عن كل ما يدركه العقل، فكل ما علمه العقل فهو معنى.

ومن هنا، كانت صلة الكلام بالعقل دائما؛ والمتكلم إنما يخاطب في الناس عقولهم؛ فإذا أدرك العقل واستوعب، حمل إلى مكامن الإحساس والوجدان من ذلك المعنى ما يلائمه من التأثيرات المختلفة. فتفاعل الإحساس بها وتأثر.

غير أن لكلام القرآن طريقة أخرى في الخطاب.

إنه لا يخاطب العقل وحده، على نحو ما نعلم من طبيعة سائر أنواع الكلام. ولكنه يخاطب كلّا من العقل والخيال والشعور معا؛ أو قل إنه يحمل إلى العقل معنى يخاطبه به وينهاه إليه، وينفث في المشاعر والخيال إحساسا

ص: 168

بصورة ذلك وينبههما إلى ما فيه من حركة وحياة.

وكلام القرآن، لا يعثر على هذا السبيل في الخطاب اتفاقا؛ أو بأن يتهيأ له سبيل إلى تشبيه أو استعارة أو مجاز، حتى إذا تجاوز ذلك عاد إلى النسق المألوف والكلام المعتاد. بل هو في القرآن نسق مطّرد، وطريقة متبعة، وسبيل عرفت به وعرف بها؛ سواء كان يأمر وينهى، أو يخبر ويقصّ، أو يعلّم ويشرّع، أو يتحدث عن غيب أو يحذر من عذاب.

وسرّ العجب والإعجاز في ذلك، كلّ من حقيقتين اثنتين:

الأولى: أن المعاني، في حقيقتها، ليست إلا مجردات اعتبارية، يهضمها ويدركها العقل وحده. فتحوّلها إلى صورة مما تألفه العين ويدركه الشعور والخيال، مما لا يقدر عليه الإنسان إلا في حدود ضيقة وبالنسبة لمعان معينة.

الثانية: أن الألفاظ، ليست إلا حروفا صوتية جامدة، فتحولها إلى ريشة تنبع من رأسها الأصباغ والألوان المختلفة المطلوبة لتحيل المعنى إلى صورة في لوحة يتأملها الخيال، بل تكاد أن تدركها العين قبل أن يستوعبها العقل- أمر لا يقوى عليه شيء مما نسمّيه المجاز أو البلاغة والبيان.

ومع ذلك فإن لكلّ من المعنى واللفظ في القرآن شأنا آخر!

فليست المعاني في القرآن مجردات اعتبارية لا يدركها إلا العقل، وإنما هي صورة حيّة تمرّ بخيال القارئ، ويلمسها إحساسه، وتكاد أن تراها عينه.

وليست الألفاظ في القرآن تلك الحروف التي لا تدل إلّا على المعنى، بل هي ينبوع يفيض بالصور والأحاسيس والألوان.

وآية هذا الذي نقول- قبل أن نعرض للدليل التطبيقي- أن تتذكر انطباعاتك النفسية والشعورية تجاه القرآن عند ما كنت تتلوه أو تنصت إليه في زمان طفولتك (إن كنت ممّن أتيح لهم أن يمارسوا تلاوة القرآن في عهد الطفولة)؛ فستتذكر أنه قد كانت لخيالك جولة كبرى ونشاط غريب في آفاق واسعة بعيدة أثناء تلاوته أو الإنصات إليه؛ وستردّك ذاكرتك إلى صور وأشكال وأخيلة غريبة منطبعة في خلدك، كلما قرأت شيئا من آياته.

ص: 169

وإن في خزانة فكري اليوم لنماذج كثيرة من هذه الأخيلة والصور التي انطبعت فيها مما كانت ترسمه الآيات في ذهني أيام كنت منكبّا على دراسة القرآن وتعلمه، وأنا طفل، والكثير منها غريب ومضحك! ..

ولقد كنت أحسب فيما مضى أن مردّ ذلك إلى حالة خاصة بي هي الجهل أو نحوه، ولكن لدى دراسة معاني القرآن وما تيسر من آدابه، علمت أن ذلك هو شأن القرآن وعمله في الأخيلة كلها، ورأيت الكاتب والإنسان الكبير: سيد قطب رحمه الله يذكر هذا المعنى ويصف الصورة التي كانت ترسمها هذه الآية في خياله إذ هو طفل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ، خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (1).

وأهمية الطفولة بالذات، لكشف هذا الجانب من أسلوب القرآن ومنهجه هي أن الطفل بمقدار ما يكون استعداده لتلقي المعاني المجردة ضعيفا، يكون استعداده لتصور الرسوم والتقاط الأشكال قويا؛ فللطفل خيال مشبوب، ومرآة صافية سرعان ما يلتقط بهما صور الأشياء. ومن هنا كانت لهذه الظاهرة قيمة كبرى في كشف معنى «التصوير القرآني» والبرهنة عليه.

فلا يهمنا إذا، أن تثبت هذه الصور في ذهن الطفل مشوّهة أو ناقصة أو غير ذات دلالة، لأن ذلك هو شأن تخيّل الصورة دون إدراك المعنى، ولكن المهم أنه يجد في هذا الكتاب ما يخاطب خياله، وإن لم يجد فيه إلا القليل مما يخاطب عقله، على حين أن ذلك لا يتفق له بالنسبة للكتب الأخرى اللهمّ إلا تلك التي صيغت خصيصا من أجله.

ثم إن التصوير القرآني يتدرج في مظاهر متعددة بوسائل مختلفة، وكثيرا ما تجد هذه المظاهر كلها مجتمعة في نصّ واحد، وقد تجد بعضها متفرقا في نصوص متعددة.

(1) الحج: 11، وانظر مقدمة كتاب التصوير الفني في القرآن لسيد قطب، وهو مرجع ذو أهمية بالغة في هذا الباب.

ص: 170

فأول مظهر للتصوير، هو إخراج مدلول اللفظ من دائرة المعنى المجرد إلى الصورة المحسوسة والتخيلة.

المظهر الثاني: تحويل الصور من شكل صامت إلى منظر متحرك حيّ.

المظهر الثالث: تضخيم المنظر وتجسيمه حينما يكون الجو والمشهد يقتضيان ذلك.

والوسيلة القريبة إلى تحقيق هذه المظاهر، لا تعدو أن تكون استعارة، أو مجازا مرسلا، أو تشبيها وتمثيلا. وهذه الوسائل التي وضع عليها علم البيان إنما هي قواعد استخلصت واستنبطت من التصوير الذي انطوى عليه أسلوب القرآن الكريم؛ فالقرآن هو الأساس لهذه القواعد وليس العكس كما قد يتوهم.

أما الوسيلة البعيدة، فلسنا نملك منها إلا الوصف التقريبي؛ إذ هي سر إعجازه وهي الغاية التي تقف دونها طاقة أئمة البيان. وكل ما نستطيع أن نقول عنها أنها الكيفية اللطيفة الدقيقة التي تتألف الكلمات على وفقها وتتناسق الحروف والحركات وما يتبعها من مدود وشدّات على أساسها، فتخرج الكلمة والجملة في قالب من اللفظ وطريقة الأداء يبث في الإحساس والخيال صورة مجسّمة حيّة للمعنى! ..

ولو ذهبت تفكر، لتقف على القاعدة التي بها يتم تصوير اللفظ للمعنى، كي تتخذ منها دستورا لصياغة الكلام، على نحو ما فعل العلماء في استنباط قواعد الاستعارة والمجاز وغيرهما- لما انتهيت إلى شيء!

كل ما يمكن للفكر أن يعلمه، وكل ما يمكن للحس أن يشعر به، هو أن هذه الألفاظ القرآنية تلصق صورة المعنى وشكله بإحساسك، وإن لتناسق حروفها المعينة وتوالي حركاتها المتنوعة مدخلا وأثرا كبيرا في هذا التصوير.

ثم إنك قد تجد الجملة كلها تحمل إلى خيالك صورة المعنى وتبث فيه الحركة والحياة، وقد تجد كلمة واحدة تؤدي هذه المهمة كلها.

وما أظنك إلا مستعجلا في الانتقال إلى عرض نماذج وأمثلة لكل هذا الذي نقول، فلنكتف بما ذكرناه من التقرير والتعريف النظري، ولنبدأ بذكر

ص: 171

بعض الأمثلة. ونقول، قبل عرض الأمثلة، كما قال المرحوم سيد قطب: إن الأمثلة على هذا الذي نقول هي القرآن كله حيثما تعرض لغرض من الأغراض، وحيثما شاء أن يعبّر عن معنى مجرد أو حالة نفسية، أو صفة معنوية، أو نموذج إنساني، أو حادثة واقعة أو قصة ماضية، أو مشهد من مشاهد يوم القيامة، أو حال من حالات النعيم والعذاب (1).

وإليك الآن هذه النماذج:

1 -

أوضح الله لرسوله أنه لا جدوى من أن يضيق صدره بكفر الكافرين، وإلا فليجهد جهده وليعمل كل ما بوسعه في تقديم آية لهم، إن كان قادرا، يبرهن بها على صدقه ويدخل بها الإيمان في قلوبهم. فالتعبير عن هذا المعنى بمثل هذه الألفاظ أو نحوها مما هو مألوف ومقدور عليه، وهو معنى يخاطب به العقل والفكر مباشرة، ولكن انظر إلى التعبير القرآني:

وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (2).

فقد صوّر أولا التألم من إعراضهم، في صورة شيء قد كبر وضخم حجمه ينوء الرسول صلى الله عليه وسلم تحت ثقله ويضيق ذرعا به. ثم صوّر الجهد الذي لن يأتي منه بطائل إن هو أجهد نفسه به، بصورة من يريد أن يتخلص من كل الثقل العالق به، فهو ينبعث، في قلق وبحث دائبين، نحو كل الجهات، وخلف كل حجاب وستر، ليعثر على ما قد ينشط به من هذا العقال المتشبث به. فأنت ترى الآية قد أخرجت هذا المعنى الفكري في مظهر شيء محسوس، ثم بثّ فيه الحركة والحياة كما قد رأيت، ثم جسّمت الفكرة نفسها في هذه الصورة الحيّة المتحركة وخاطبت بذلك كله الخيال قبل أن تخاطب مجرد الفكر والذهن.

(1) التصوير الفني: 30.

(2)

الأنعام: 35.

ص: 172

2 -

أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم إن هو التقى بجموع الكافرين الذين أصرّوا على عنادهم، أن يشتد في قتالهم حتى تحقيق بهم الهزيمة ويدخل في قلوبهم الرعب. فانظر إلى الأداة التي استعملها في التعبير عن هذا المعنى: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ، فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (1). فقد أخرج معنى التلاقي الذي يكون بين المسلمين وأعدائهم، في صورة من ظل يتربص بشيء حتى ظفر به ووقع عليه وعبّر عن ذلك بقوله: تَثْقَفَنَّهُمْ بمجموع ما تحمله هذه الكلمة من الدلالة ومن الصياغة اللفظية، ومن تناسق السكنات والحركات والتشديد البارز بينها. ثم أخرج معنى إلحاق الهزيمة، في صورة فريدة عجيبة، هي صورة جند أقوياء أشدّاء انقضوا في هجوم صاعق على طلائع أعدائهم أو الصفوف الأولى منهم؛ فأخذ الرعب والفزع منهم كل مأخذ حتى سرى ذلك منهم إلى من خلفهم من بقية الجموع فتبعثروا في كل جهة قبل أن يصل إليهم السوء ويلامسهم.

لا ريب أنك إنما تتسمع إلى هذا الوصف بخيالك وإحساسك، ولا ريب أنك تتصوره الآن منظرا حيّا في فلاة واسعة، أو على مسرح يعجّ بالحركة الصاخبة. وقد استنفد

بيان هذه الصورة بضعة أسطر كما رأيت.

فتأمل كيف صاغها بيان التنزيل في أقل من سطر واحد! ..

3 -

وصف الله المنافقين بالجبن وبيّن أن ما يتظاهرون به من الشجاعة كذب، وأن الرعب سرعان ما يستولي على قلوبهم فينهزمون، لا يلوون على شيء.

فانظر كيف عبّر عن هذا المعنى: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا، لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (2).

فتأمل كيف بسط معنى الهزيمة والجبن على هذه اللوحة التصويرية الرائعة، وأخرج هذا المعنى الفكري في صورة جماعات من الناس تائهة زائغة العين لما سيطر عليها من الرعب، فهي تنقذف هنا وهناك بحثا عن المأمن والمهرب في حركات عجيبة غريبة. وقد يحسب صاحب النظرة

(1) الأنفال: 57.

(2)

التوبة: 57.

ص: 173

العجلى أن هذه الكلمات الثلاث: ملجأ، مغارات، مدّخل، مترادفة المعنى. ولكنها في الحقيقة ليست كذلك، بل كلّ منها تصوّر في الذهن شكلا معينا للملاذ الذي يبحث عنه المنهزم والخائف، بدءا من الشكل الطبيعي المألوف وهو الملجأ العادي من دار أو غرفة أو جماعة من الناس، إلى الشكل الذي لا يألفه ويرضيه إلا من اشتد خوفه وهو المغارة في باطن الأرض أو بطن الجبل، إلى الشكل الذي هو أبعد في القبول والإلف من كليهما وهو: المدّخل، أي المكان الضيق الذي لا يستطيع هذا الخائف أن يقتحمه إلا بجهد ولا يكاد أن يستقر فيه إلا تضاؤلا والتصاقا. وانظر كيف تؤدي كلمة «مدّخلا» هذه الصورة وتجسمها في الحسّ بوزنها وجرسها وشدة الدال فيها، ثم تأمل فيما تصوره في خيالك كلمة: لَوَلَّوْا إِلَيْهِ. ثم فيما تتركه كلمة: يَجْمَحُونَ من الصورة الضاحكة الساخرة، ثم تأمل في صورة هاتين الكلمتين، فمهما شرحت وفصّلت، فلن أبين أكثر مما يبينه خيالك وشعورك وأنت تتأمل جرسهما ووقعهما.

ثم ارجع النظر مرة أخرى إلى الجملة كلها لتبصر الريشة الإلهية العجيبة وهي تصوّر الهزيمة والجبن والقلق النفسي هذا التصوير المتحرك الساخر، وكيف تتجسد الصورة في خيالك حتى لتكاد العين الباصرة تراها واليد اللامسة تتقراها.

4 -

أخبر الله رسوله أن مسئولية كل عمل متلبسة بصاحبه خيرا كان أم شرّا؛ فلا يسأل إنسان عمّا لم يعلم، ولا ينبعث الشر من مصدر طيرة أو شؤم، وإنما ينبعث من فاعله الذي فعله. فتأمل كيف عبّر عن هذا المعنى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (1). إذا تأملت في هذا التعبير، بعد أن علمت أن العرب في الجاهلية كانوا يرون في مظاهر بعض الأنواء والحيوانات والطيور سببا وباعثا للمصائب والشرور، تخيلت صورة إنسان قد تجمعت كل أسباب الشؤم والطيرة المختلفة فالتصقت به وتعلقت بعنقه، ليدل بذلك على أن الذي

(1) الإسراء: 23.

ص: 174

يقوده إلى الشر إنما هو ذاته نفسها، وإذا كان لا بدّ أن هناك مصدر طيرة وشؤم، فإنه على كل حال مصدر متعلق به ولا ينفك عنه.

وإنما أخرج المعنى بهذا المظهر الحسيّ الملموس، ليكون أوقع في النفس وأدلّ على المقصود وليحمل التعبير معنى السخرية بأوهام الجاهلية وسخافتها.

5 -

أخبر الله تعالى أنه جعل من الليل والنهار دليلين على وجود الخالق العظيم ووحدانيته، وأنه جعل الليل لتهدأ فيه الرجل ويستريح الإنسان، وجعل النهار مضيئا ليتهيأ فيه السعي والعمل، ولكنه لم يعبّر عن هذا المعنى بهذه الطريقة وإنما قال: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ (1) وإذا قرأت هذه الآية، أسرع خيالك فتصور حيوانين أو شبحين عظيمين أحدهما يظل مطبقا عينيه لا يفتحهما على النور، والآخر يظل فاتحا عينيه لا يطبقهما على ظلام. فأما الأول فيتجسد فيه ظلام الليل وانطواؤه وهدوؤه، والآخر يتجسد فيه ضياء النهار وحركته والتماعه.

6 -

أخبر الله تعالى عن كراهية أهل الجاهلية للأنثى إذ تولد في دار أحدهم وبيّن أن الكرب يأخذ من أحدهم كل مأخذ إذا ما أخبر بأنثى قد ولدت له، وأنه يراوده فكرة أن يدفنها في التراب حيّة، ولكنه عبّر عن هذا الشعور النفسي بأسلوب تصويري تسجد له البلاغة في أسمى مظاهرها وألوانها. يقول الله عز وجل: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ، أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (2).

فقد صوّر تهكم من حوله به بكلمة بُشِّرَ ثم صوّر شدة الكرب الذي انتابه بقوله: ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، ثم صوّر وقع النبأ

(1) الإسراء: 12.

(2)

النحل: 58.

ص: 175

الذي حمله إليه القوم مبشرين- أي متهكمين ومشفقين- بقوله: يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ، ثم صوّر الحيرة التي تراوده ويطوف بخاطره بقوله: أَيُمْسِكُهُ عَلى

هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ

. وردّد النظر والفكر في هذه الكلمة: يدسّه، لتبصر كيف أنها تشفّ عن الغيظ والعصبية والشدة وقد تلبست بها حالة الرجل وأعضاؤه، وكيف تصور لك الدفع المغتاظ للرحمة في مظهرها الضعيف المتألم المسالم! ..

7 -

أخبر الله الناس أنه ما من خبر من الغيبيات التي أخبر الله بها إلا وسيأتي يوم يتضح فيه صدقه ووقوعه كما أخبر به. فانظر إلى التعبير القرآني عن ذلك:

لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (1)، وأنا فما أذكر أنني قرأت هذه الآية مرة إلا وتخيلت أن في جو السماء شبحا يسبح في أنحائه لا يدري الناس ما هو، والكل رافع رأسه محدق بنظره يتأمله وكلّ منهم يتوهمه حسبما يخيل إليه؛ والجميع ينتظرون ساعة هبوطه واستقراره في الأرض ليعلموا حقيقته وليتخلصوا من أوهامهم وتخيلاتهم فيه. إن الله عز وجل يصوّر الإخبار عن قيام الساعة وما يلوذ بها من الغيبيات، بصورة هذا الشيء الذي ظاف حوله لغو كثير من القول، وأبى كثير من الناس أن يؤمنوا بحقيقته تبعا لما جاء من كلاب رب العالمين، ليقول لهم إن لهذا الشيء مكانا وزمانا يستقر فيهما عيانا أمام أبصاركم، ولسوف تعلمون حينئذ، دون أن يفيدكم العلم.

وتصوّر مثل هذا التصوير كلمة مُرْساها في قوله تعالى:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ

(2) فالساعة في تعبير الآية كالسفينة محجوبة عن الأعيان في غمار بحر عظيم متلاطم، والمنكرون يستعجلون في طلب إرسائها عند الشاطئ ليشاهدوا حقيقتها بأعينهم.

8 -

بيّن الله عز وجل أن الأموات سوف يبعثون من قبورهم وتعود إليهم الحياة

(1) الأنعام: 67.

(2)

الأعراف: 187.

ص: 176

ليواجهوا جزاءهم، وأن ذلك يسير على الله عز وجل، فجاء التعبير القرآني عن ذلك بهذا الشكل: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً، ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (1). ولا ريب أنك إذا قرأت هذه الآية تصورت أمامك أرضا واسعة المدى تتشقق عن أشخاص هنا وهناك يخرجون منها ليسرعوا إلى حيث لا يدرون. أجل، فالآية تترك في ذهن القارئ هذه الصورة الحيّة المتحركة، ليتصور الأمر البعيد واقعا يشاهده أمام عينيه في بساطة ويسر.

9 -

قرّر الله عز وجل أن من سنّته في الكون أن يعرض الأمم للمصائب والمحن، فإن لم يتنبهوا بذلك للخضوع والتوبة والتضرّع إلى الله، غمسهم الله تعالى في أصناف الملذات، حتى إذا فرحوا بذلك واستغرقوا في لهوهم وانشغالهم عن الله أهلكهم الله على حين غرّة، فقال في ذلك: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً، فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (2).

فانظر إلى قوله: فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ لكأن أسباب النعيم والترف واللذائذ ممتلئة في مخازن من وراء أبواب، فما هو إلا أن فتحت هذه الأبواب حتى اندلقت عليهم من كل جانب ومن كل نوع ..

ثم تأمل في قوله: فَأَخَذْناهُمْ وأي تصوير لضئلة شأنهم ونسيانهم أنفسهم أبلغ وأروع من هذه الكلمة: أخذناهم.

ثم انظر كيف يتقارب الزمن الطويل متحركا متنقلا من مشهد إلى آخر في هذه الآية، وذلك بوحي وتصوير تتابع هذه الأحرف والكلمات:

فَلَمَّا

حَتَّى إِذا

بَغْتَةً

فَإِذا هُمْ

مشهد من وراء آخر، ومرحلة تلي ما قبلها، قد تكون الفترة بينهما طويلة، ولكن التعبير القرآني يقارب ما بين هذه المراحل في بضع كلمات، ويصوّرها في ذهن القارئ، وكأنها تاريخ سريع يمرّ من أمامه.

(1) ق: 44.

(2)

الأنعام: 44.

ص: 177

10 -

ومن التصوير الرائع البديع الذي تنفرد به كلمة واحدة قوله تعالى: ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ (1). والمقصود الأصلي هو استنكار تكاسل بعض المسلمين أمام داعي الجهاد في سبيل الله. ولكن انظر إلى الأداة التعبيرية عن ذلك اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ. لقد أخرج معنى الكسل الذي هو من مدركات العقل في صورة جرم ثقيل كلما حاولت أن ترتفع به إلى الأعلى انحطّ بك إلى الأرض، وهو من الثقل بحيث لا ينفك عالقا وملتصقا بكل ما هو دون، من أرض وغيرها. وكما يقول سيد قطب: لو أنك حذفت الشدة من الكلمة فقلت «تثاقلتم» لخفّ الجرس وضاع الأثر المنشود ولتوارت الصورة المطلوبة التي رسمها اللفظ واستقلّ برسمها (2).

11 -

أنبأنا الله تعالى عن دخول هذا الكون كله تحت سلطانه وأنه ليس إلا شيئا ضئيلا بالنسبة لملكه وعظيم قدرته، ولكنه وضع هذا المعنى في صورة مخيّلة محسوسة يمتلئ بها الخيال والحس، ويذوب فيها الشعور. يقول الله عز وجل: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ

(3).

فأنت لست من هذه الآية أمام كلمات الملك والسلطان والعظمة ونحوها مما هو من مفهومات الفكر المتأمل

ولكنك أمام الهول العجيب الذي يذهب له الحس وتخشع له المشاعر: الأرض جميعا شيء صغير في قبضة الله والسموات كلها بأجرامها العظيمة قد طويت كما يطوى البساط أو الصفيحة، فهي ليست إلا جرما صغيرا لا تكاد تدركه

العين مخبوءة في يمين الله عز وجل. وليس هناك من يمين، ولا قبضة، ولا طي بالمعنى الحسي المعروف، ولكنه التخييل والتجسيم للمعنى الذهني، كي يفيض الشعور والخيال إحساسا به.

(1) التوبة: 48.

(2)

انظر التصوير الفني وما ذكره سيد قطب في تحليل هذه الآية: ص 87.

(3)

الزمر: 67.

ص: 178

12 -

وربما اقتضى المشهد في بعض الأحيان أن تمثل الصورة أمام الخيال شاخصة صامتة لا حراك فيها، وذلك كما في قوله تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (1) والمعنى المقصود لفت النظر إلى الأمم التي جاءت ومضت وتركت آثارها من ورائها. ولكنه أقام من هذه اللوحة التصويرية في الآية تعبيرا مجسما له.

وهي صورة صامتة شاخصة، تبصر فيها بيوتا خالية قد سقط بعضها على بعض

وتبصر في جانب منها بئرا متروكة معطلة، وقصرا لا تزال فيه جدران باقية قائمة

ولا والله، ما تلوت هذه الآية مرة إلا ورأيتني أمام لوحة فنية رائعة صوّرتها كلمات هذه الآية في رسم معبّر نادر، يجلله صمت رهيب، تلوح عليه آثار القرون والسنين!!

وبعد، فهذه أمثلة قليلة، قس كلام القرآن كله عليها.

ولن نستطيع أن نفيض في بيان الأمثلة والنماذج؛ فقد التزمنا في هذا الكتاب القصد في البحث، كي يتسع المجال لعرض المسائل والبحوث الأخرى، ولو أردنا أن نستقصي الكلام في تصوير القرآن ومقوّماته ومظاهره، لجفّ المداد ونفد الورق دون أن نوفي البحث حقه: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً.

فإن كنت قد ألقيت السمع إلى ما قلنا وأنت شهيد بعقلك الصافي المتحرر، وقفت على الحق في كل الذي ذكرنا، وأدركت أن نظيره مثله مما لم نقل، وأيقنت أن هذه المعجزة التي تصورت كلاما يتلى ليست مما يصوغه بشر، ولا ينبغي أن تكون مادة كذب كذب بها محمد صلى الله عليه وسلم على الله، بعد أن عاش أربعين عاما يتوقّى الكذب فيها على الناس.

(1) الحج: 45.

ص: 179

أما إن كنت تتسمع إلى ما أقول بأذن يجثم من ورائها عناد متحكم، أو غيظ متغلب، أو غرض مستعبد، أو هوى لا قبل لك به، فليس للمنطق أيّ حيلة مع مثل هذه الأذن وإن بدت أنها صاغية. ولقد جسّد الله عز وجل هذا الغيظ والغرض والهوى، في صورة محسوسة منظورة، إذ قال: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (1).

(1) الحجر: 14 و 15، هذا وإن شئت أن تقف على مزيد من الأمثلة للتصوير الفني في القرآن فارجع إلى كتاب التصوير الفني لسيد قطب، ففيه فيض كبير من الأمثلة. هذا وقد حرصت أن تكون غالب الأمثلة التي أتيت بها مما لم يذكره سيد قطب، وذلك حتى لا يتوهم متوهم أن مدار التصوير في القرآن على طائفة من الآيات المعينة لا مزيد عليها. بل هي كما قلنا الطريقة المتبعة في التعبير القرآني دائما.

ص: 180