الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعريف عام بالآيات:
تعرض هذه الآيات لبيان أحد عشر مبدأ من أهم المبادئ الإنسانية العامة. مبتدأة ومختتمة بمبدإ التوحيد والعبودية لله عز وجل. وتأتي هذه الآيات بعد آيات سابقة تتحدث عن أهمية القرآن في إصلاح حياة الإنسان ودلالته على النهج القويم، وعن حدود المسئوليات ونظامها وقيمة كلّ من الحياتين الدنيوية والأخروية.
فهي تأتي بعد منبهات وحوافز تهيئ كلّا من النفس والذهن لقبول ما تتضمنه هذه الآيات من مبادئ الإنسانية بقبول حسن.
شرح الآيات:
* وقضى ربك ألّا تعبدوا إلا إياه. أي أمر ربك ألّا تعبدوا إلا إيّاه، وقد استهلّ الخطاب بجملة إخبارية للرسول صلى الله عليه وسلم، وهي: وقضى ربك. ثم التفت بالخطاب إلى الناس حينما تحول من الإخبار إلى الإنشاء، فقال: ألّا تعبدوا إلا إياه. وذلك لأن الجملة الأولى حكاية فناسب أن يتجه الخطاب فيها إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وأما الثانية فأمر وتوجيه، فناسب أن يتجه الخطاب فيها إلى عامّة الذين يتجه هذا الأمر إليهم.
فهذا أول مبدأ من المبادئ الأحد عشر، وهو أخطرها وأهمها.
ثم أتبعه بالمبدإ الثاني قائلا: وبالوالدين إحسانا، أي وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا، تقول. أحسنت به وأحسنت إليه. وإنما جعل رتبة برّ الوالدين إثر رتبة توحيد الله وعبادته، لأن الله هو المسبّب الحقيقي لوجود الإنسان وعيشه وارتزاقه، والوالدان هم السبب الجعلي والظاهري لكلّ من الوجود والعيش، فلئن كان المقتضي لعبادة الله أنه الخالق والمنعم الحقيقي، فإن المقتضي لبرّ الوالدين ما قضت به حكمة الله من أن يكون وجود الإنسان بهما ونشأته عن طريق رعايتهما.
ثم شرح المقصود بالإحسان فقال: إمّا يبلغنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما. وأصل الجملة: إن يبلغ
عندك الكبر
…
فركبت إن مع ما التي يسمّونها زائدة لتصوير المبالغة في استقصاء الظروف والأحوال، وأدخل نون التوكيد على الفعل لنفس الغرض أيضا، فأصبحت الجملة تقول لك بكلّ من جرسها ومضمونها: مهما وجدت الشيخوخة قد دبّت إلى أحد من أبويك فليكن موقفك منهما في كل الظروف والأحوال موقف الراحم الشفوق والخادم المحب.
وكان من الممكن لسلامة أصل هذا المعنى أن تستغني الآية عن كلمة «عندك» بأن تقول: إما يبلغنّ الكبر أحدهما أو كلاهما
…
لولا أن «عندك» هذه تثبت في إحساس المخاطب معنى هائلا يثير فيه النزوع إلى الشفقة والرقة والعطف. فالآية تصور بهذه الكلمة كيف أن الكبر والضعف قد وضع كلّا من الوالدين في كنف الابن وتحت رعايته بعد أن كان الابن هو الضعيف الذي يعيش في كنفهما وتحت رعايتهما.
والقصد إلى تصوير هذا المعنى هو الذي اقتضى تقديم لفظ «الكبر» ، وهو مفعول، على لفظ: أحدهما وهو فاعل، ولو اختلف نسق هذه الألفاظ وترتيبها اختلافا ما، لاختفت الصورة وبطل أن يكون في الآية شيء من هذا الإيحاء.
ثم انظر كيف نهتك الآية عن أن تضيق ذرعا بهما في شعورك ونفسك كما نهتك عن إيذائهما في شيء من عملك ومعاملتك، ثم كنّت عن الأول بأقل مظهر له وهو التأفف، وكنّت عن الثاني بأدنى مظهر من مظاهره وهو القسوة أو الانتهار في القول، فنهت عن ذلك بدلالة النص، إذ النهي عن أدنى إفراد الشيء أبلغ نصّ في الدلالة على عموم النهي عن الجنس كله.
* ثم زاد الأمر بالإحسان إلى الوالدين تأكيدا، فصوّر لك ما ينبغي أن تكون عليه حال الولد من والديه دائما، وأخرج معنى الرحمة بهما والإحسان إليهما والتواضع لهما في مظهر شيء متخيل محسوس مبالغة في الإلزام به والدعوة إليه، فقال: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ. فقد صوّر الذلّ المأمور به بطائر خرّ هاويا إلى الأرض ثم صوّر مبالغة وضوح الذلّ والتواضع بنشر هذا الطائر مع ذلك جناحيه يخفضهما نحو الأرض.
بيد أنه استدرك، كي لا تحسب أنه ذلّ الحطّة والصغار، وهو ما ينهى عنه الإسلام ولا يمكن أن يأمر به، فقال: من الرحمة، أي بسبب وبعامل الرحمة بهما، وهو شرف لك وليس بصغار عليك.
ومع ذلك، فلا تقتصر على أن تعاملهما برحمة من عندك، بل ادع الله لهما أيضا على أن يشملهما برحمة من عنده. وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيرا أي رحمة كرحمتهما بي إذ كنت صغيرا، أو في مقابل رحمتهما بي إذ ذاك.
* ولما بالغ هذه المبالغة في الأمر ببرّ الوالدين، حتى إنه لم يرخص في أدنى كلمة قد تفلت من المتضجر، أعقب ذلك ببيان رفع الحرج عمّن أساء ثم أسرع فتاب، ولم يكن قلبه منطويا إلا؟؟ على الخير والبرّ والتزام أمر الله عز وجل، وتأمل في الأسلوب الذي أخرج به هذا المعنى إذ قال: ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان
للأوّابين غفورا. وفيه تقرير بأن التوبة الكاذبة باللسان لا تخدع الله عز وجل لاطّلاعه على ما استقرّ في النفوس، وفيه تأكيد بأن الله يقبل توبة الآئب إليه؟؟ النادم على ما قد كان منه.
* وينتقل البيان القرآني إلى المبدأ الثالث، وهو الوفاء بحق القرابة والرحم خاصة وبحق عموم الفقراء والمساكين عامة؛ وهو مبدأ وثيق الصلة والمناسبة بالذي قبله وهو برّ الوالدين؟؟: وليس الأمر هنا بالإحسان و؟؟ الرفق، ولكنه أمر بإعطائهم الحق الذي لهم؟؟؟ عليه، حتى لا تتصور أن لك بذلك عليهم منّة وأنك تمنحهم من حقك الذي؟؟؟ هو لك
…
وعن هذا المعنى تعبّر صياغة الآية: وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل. أما الأمر بالإحسان إلى الوالدين، فليس فيه مثار لهذا التصور، وذلك لأن الولد مهما بالغ في الإحسان إلى والديه فإنه لن يفي لهما بجزء من حقهما السابق عليه.
ولما كان الوفاء للأقارب والمعوزين بحقوقهم يقتضي حجز المال عن تبديده في الجهات الباطلة نهى الله عن ذلك بقوله: ولا تبذر تبذيرا. والمفعول المطلق لبيان النهي عن التبذير الذي لا مسوغ؟؟ له إلا التبذير المجرد، وذلك لإخراج صور من الإنفاق قد تظهر في مظهر التبذير ولكنها ليست في الحقيقة كذلك إذ يقتضيها مصالح وأسباب مشروعة معينة.
وبالغ في النهي عن هذه العادة بقوله مخبرا: إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا. أي كانوا قرناء للشياطين، وفيه إلماح إلى أن عادة تبذير المال وتبديده إنما تتمكن بتغلب الوساوس الشيطانية لا أكثر، إذ ليس من ورائه أي غاية أن مصلحة يحتاجها الإنسان.
* ولكن أرأيت لو لم يكن الإنسان موسرا بالمال الذي يعطي منه حق القرابة والمحتاجين فأعرض عنهم عجزا عن العون لا استكبارا عن أداء الحق؟
…
لقد عالج البيان الإلهي العظيم هذه الحالة بأسلوب بالغ الروعة إذ قال: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها، فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً: أي مهما اضطررت إلى الإعراض عنهم بسبب الفقر والعوز اللذين تتأمل بهما فرج الله ورحمته، فقل لهم في مكان ذلك كلاما سهلا ليّنا وعدهم وعدا جميلا، فالميسور هنا مفعول بمعنى الفاعل، أي يسر ضرّهم عليهم بكلامك الجميل لهم.
ولما أمر الله عز وجل في الآيات التي ذكرناها بالوفاء بحق الأقارب والمحتاجين ونهى عن تبديد المال فيما لا حاجة إليه، حتى لا يفوت بذلك أداء هذا الحق والقيام به، ناسب أن ينتقل الحديث إلى تقرير مبدأ جديد يتعلق بتنظيم الإنفاق ويضع قانونا عادلا له. والمبدأ الإلهي الذي يخاطب به كافة العباد في ذلك، هو أن يكون الإنفاق قائما على العدل بين التقتير والبخل المعيب من جانب، والإسراف والتبذير المقيت من جانب آخر. ولكن الأسلوب القرآني لا يعبّر عن هذا المعنى بهذه الطريقة المألوفة، وإنما يخرجه في صورة محسوسة متخيلة فيقول: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا. فقد صوّر البخل في مظهر اليد المربوطة إلى العنق فهي لا تكاد تنفك عنه، ومعلوم أن اليد أبعد ما تكون عن الآخرين حينما تكون مقيدة بهذا الشكل الغريب، وصوّر الإسراف بتلك اليد التي تظل ممتدة ومبسوطة لا تكاد ترجع إلى صاحبها أو تنقبض على شيء، ثم هدد من يلتزم بذلك التفريط أو هذا الإفراط بأن سيأتيه يوم يعود من دأبه هذا ليقعد منقطعا عن أسباب العيش والرزق، يتلقى اللوم من الله والناس على ما أفرط أو فرّط.
* وتأتي الآية التي بعدها، واقعة موقع التعليل مما قبلها وهي: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ. إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً. أي فإذا كان مصدر رزقك هو الله عز وجل يبسطه إذا شاء ويضيقه عند ما يريد، فالتزم وصيته في آداب الإنفاق وكيفيته، إذ لا البخل هو الذي يحفظ مالك ويربّيه ولا التبذير والإسراف يمنعانك من أن يعاقبك الله بذلك فيقدر عليك رزقك الذي تتقلب وتمرح فيه. ثم يقول: إنه كان بعباده خبيرا بصيرا، إشعارا بأنه يراقبهم بصدد ما يأمرهم به من هذه المبادئ، هل ينفذونها أم يعرضون عنها؟.
* وتتهيأ المناسبة- مع الحديث عن آداب الإنفاق وتقرير أن الرزاق للعباد هو الله وحده- لعرض مبدأ خامس، وثيق الصلة بكل ما قد مرّ. فيقول الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً أي لا تقتلوهم مخافة فقر تتوهمونه، وأصل أملق بمعنى التصق بالملقات، وهي حجارة رقاق ملساء فكنّي به بعد ذلك عن الفقر والحاجة. ثم علّل النهي بتأكيد ما قد ذكره في الآية السابقة فقال: نحن نرزقهم وإياكم، أي لستم أنتم الذين ترزقون أولادكم حتى تحاروا في أمرهم فتندفعوا بذلك إلى قتلهم؛ بل نحن الذين نرزقهم وإيّاكم جميعا، وبالغ في إظهار هذا المعنى مع شيء من التأديب حينما قدّم ضمير الأطفال في الرزق على الآباء، إذ أشعرهم بذلك بأن رزق أطفالهم مقدّر مهيّأ لهم من قبل رزقهم هم، فلا يتوهموا أن لهم أيّ تأثير في رزقهم حتى ولا التأثير الشكلي الذي يتجلّى في مظهر كونهم وسطاء لهم في الرزق والرعاية.
وحينما نهى الله في سورة الأنعام عن قتلهم أولادهم من أجل وقوع الفقر بهم فعلا قائلا: لا تقتلوا أولادكم من إملاق- لم يقدّم ضمير الأطفال كما فعل هنا، ذلك لأن خوف الآباء هناك إنما هو على أنفسهم وأولادهم معا، أو هو على أنفسهم قبل أولادهم فلا داعي إلى إشعارهم بهذا المعنى على ذلك التقدير.
ومن أجل وضوح كل ذلك، فقد كان قتلهم خطئا كبيرا. وخطء بكسر الخاء مصدر خطئ يخطأ كأثم يأثم وزنا ومعنى، فهو أبلغ وأشد من الخطأ بفتح الخاء والطاء، إذ هو الإتيان بما لا ينبغي من غير قصد.
* ويجرّ الحديث عن الأولاد وحرمة قتلهم إلى الحديث عن أهم وأخطر مبدأ من المبادئ المتعلقة بالأسرة، وهو المبدأ السادس في سلسلة هذه المبادئ الإنسانية فيقول الله
عز وجل: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا والمنهى عنه في الآية إنما هو الزنى، ولكن الآية لا تنهي عن مباشرة ارتكابه فقط كما في الآيات السابقة، وإنما هي تنهى هنا- كما ترى- عن مجرد قربه والدنو إليه؛ ففي الآية تقرير واضح للنهي عن مباشرة أسبابه وذرائعه ومقدماته، كاختلاط وخلوة وتبرج ونحوه، ذلك لأن القرب ليس إلا كناية عن ممارسة هذه الدوافع والأسباب. وفي الآية أيضا تقرير لخطورة هذه الفاحشة وأن عدم مفارقتها لا يكون إلا بالتباعد عن أسبابها وذرائعها القريبة والبعيدة، أما بعد اقتحام الأسباب والذرائع فإن الدوافع البشرية تجمح بصاحبها نحو الشر الذي تعرّض له وهيهات أن يقوى عندئذ على كبحها والتغلّب عليها.
و «فاحشة» في الآية صفة لمحذوف أي كان فعلة فاحشة، وساء سبيلا، أي بئس طريقا طريقه، لما فيه من الخطر على الأسرة والمجتمع ولما فيه من مختلف الشرور الأخرى.
* ومع النهي عن الزنى، تحين المناسبة للنهي عن القتل، فهما جريمتان متقاربتان ومتشابهتان في الخطورة والضرر على المجتمع، وكلّ منهما يشبه الآخر من بعض النواحي، وهو المبدأ السابع فيما توصي به هذه الآيات: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ولا تقتلوا النفس أيّ نفس كانت، ما دامت أنها نفس أي روح
…
إلا أن يكون ذلك لحق يستوجبه ويقتضيه. وهكذا تلك صياغة الآية على أن الأصل في كل روح أن تكون مصونة عن الإزهاق، وما يخالف هذا الأصل إنما يأتي لعارض.
وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً من قتل بدون مسوغ من الحق المذكور فقد جعلنا لمستحق دمه تسلّطا على القاتل في الإرادة والحكم، فإن شاء طالب بالقصاص وإن شاء بالدّية وإن شاء عفا.
فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ، إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً عبّر بهذا النهي عن كل ما قد يقوم به وليّ المقتول من مظاهر الانتقام المختلفة، بأن يقتل في مكان الواحد
اثنين أو ثلاثة كما كانوا يفعلون، أو بأن يمثل بالقاتل أو يزيد إلى القتل سلبا ونهبا، أو بأن يقتل غير قاتله، أو غير ذلك مما يدخل في باب التشفّي ويتجاوز القصاص والحق. عبّر عن النهي عن كل ذلك بهذه الصيغة الجامعة: فلا يسرف في القتل.
والآية لا تنهى وليّ المقتول عن هذا الإسراف إلا وهي تطمئنه إلى أنه واصل إلى حقه، وعبّرت عن ذلك بصيغة الماضي مصدّرة بإن المؤكدة: إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً تأكيدا للوقوع ومزيدا من التطمين لخاطر صاحب النفس الملتاعة المتأثرة.
* وتنتقل الآيات إلى مبدأ ثامن، هو الرأفة باليتيم، والنظر في ماله بالحفظ والصيانة. وهو مبدأ يهتم به القرآن اهتماما كبيرا، لما له من آثار خطيرة في المجتمع سلبا وإيجابا، إذ التفريط من أسوأ مظاهر الظلم والخيانة.
وفي ذلك يقول الله عز وجل: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ. وإنما اقتضت المبالغة في النهي هذا الأسلوب، لأن أكل مال اليتيم له هو الآخر، كالزنا، أسباب وذرائع، إذا تهاون وليّ اليتيم بالوقوع فيها يوشك أن يقع من ورائها في أصل المنهي عنه.
واستثني من عموم النهي أن يعالج له ماله بالحفظ والاستثمار والتجارة التي لا مغامرة فيها، وعبّر عن مثل هذه المعالجات المحمودة بقوله: إلا بالتي هي أحسن من الابتعاد والترك.
وختم هذا الأمر، بتذكير وليّ اليتيم بالعهد الذي قام بينه وبين والده، وبأن عليه الوفاء بالعهد الذي أخذه على نفسه. ويقول بعد ذلك: إن العهد كان مسئولا، أي إن العهد سيسأل عمّا قد فعل به من حفظ أو ضياع له.
أخرج العهد في صورة إنسان تجسدت فيه الأمانة وكلمة الشرف ليوجّه إليه الخطاب والسؤال، وذلك تأكيدا للعدالة الإلهية التي تراقب أعمال الناس ومعاملاتهم لبعض، وتحسيدا لدقة محاسبة كلّ على ما قد فعل. وأسلوب الآية في هذا جار على غرار قوله عز وجل: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ.
* ومع الحديث عن الأمانة وضرورة الوفاء بالعهد يوصى الله عز وجل بمبدإ تاسع، هو من أهم ما يتعلق بالأمانة والعهد فيقول: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي أتموا الكيل ولا تخسروه، حينما تريدون أن تكيلوا للمشترين، فالخطاب هنا للبائعين، إذ هم الذين يكيلون، أما المشتري فإنما هو يكتال، أي يطلب أن يكال له.
ومن أجل ذلك قيّد الأمر بالوفاء عند إرادة الكيل، إذ الكائل هو الذي تراوده نفسه بخسران الكيل. ثم أمر بنحو ذلك عند التعامل بالوزن، ولما كانت طريقة الوزن مختلفة عن طريقة الكيل خالف في التعبير عن الوفاء بكلّ منهما.
وعلّل هذا الأمر بأنه أفضل للبائع، وبأنه أحسن عاقبة. وإنما قال ذلك ليزيل الوهم العالق بأذهان البعض من أن الظاهر المحسوس أن التلاعب بالكيل والوزن خير للبائع إذ هو يزيد في دخله وربحه. فكأنه يقول: إنه وإن خيّل إليكم ذلك في أول الأمر فإن العاقبة تأتي بعكس ما تتخيلون، إذ كل ذلك سرعان ما يتبدد وينمحق، عند ما يعلم شأن هذا المحتال وعادته بين الناس.
* ويأتي المبدأ العاشر نهيا وتحذيرا عن اتّباع أو تبنّي ما لم تعلم حقيقته من الأمور. وهو مبدأ ذو علاقة كبرى بتربية الفرد والمجتمع، وإليه يعود الأمر في معالجة معظم المشاكل والقضايا التي يشكو منها الباحثون والمفكرون في كل عهد وظرف.
ولكن انظر إلى الأسلوب الذي أخرج به البيان الإلهي هذا المعنى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا وتقف بمعنى تتبع من قفا أثره أي اتّبعه. فهو يقول: (لا تكن في اتباعك لما لا تعلم حقيقته من عقيدة أو قول أو فعل مثل من يتبع سبيلا مجهولا لا يدري إلى م سيوصله. فهو يشبّه المجهول الذي
يسارع فيه الإنسان دون علم حقيقي به، بالطريق التائهة التي لا يدري نهايتها إذ يقتحمها السالك ظانّا بمجرد وهمه أنه سيصل منه إلى بعض ما يبتغيه.
ثم يعلّل هذا النهي الخطير، بأن كلّا من السمع والبصر والعقل إنما هو أمانة استودعتها أيّها الإنسان لتستعملها في درك الأمور والتحقّق منها قبل
الخوض فيها، ولا جرم أنك ستسأل عن هذه الأمانة وستحاسب على تضييعها وعدم استرشادك بها.
ثم إن الجملة في دلالتها على هذا المعنى تحتمل أحد تأويلين:
الأول: أن السمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك كان مسئولا عن نفسه يوم القيامة، فاسم كان ضمير عائد إلى كلّ من السمع والبصر والفؤاد. والآية على هذا التأويل جارية على غرار ما قلناه في: إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا وإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ وقد علمت المعنى البلاغي فيه.
الثاني: أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا فاسم كان على هذا ضمير عائد على الإنسان، والمعنى فيه واضح.
وقد نزّل الله عز وجل هذه الأعضاء الثلاثة منزلة العقلاء، بسبب أن قوام عقل الإنسان وفكره بها، فمن أجل ذلك أشار إليها بما يشار به إلى العاقل وهو: أولئك.
* والمبدأ الأخير مبدأ أخلاقي ذو اتصال مباشر بالذي قبله، بل بينهما تلازم في السلب والإيجاب، وهو تحذير الإنسان من أن يسلم نفسه للغرور الذي ينسيه حقيقة ذاته فيتعاظم ويتكبر
…
وكلّ ما حوله من الناس والمخلوقات مما لا موجب للتعاظم عليه. وانظر ما يقول الخطاب الإلهي في ذلك: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا والآية كما ترى تفيض بالصور المختلفة التي تسخر من هذا الذي يمشي متكبرا على الأرض.
فمن ذلك أنه قيد المشي بالأرض، وهو شيء معلوم، إشعارا بأن هذا الذي يمشي على الأرض لا يليق بحاله أن يتكبر من فوقها.
ومن ذلك أنه أخبر بما هو معلوم، وهو قوله: إنك لن تخرق الأرض.
تنزيلا للمتكبّر المتجبّر منزلة من غابت عنه هذه الحقيقة الواضحة، فهو يحتاج إلى من ينبهه إليها! ومن ذلك هذه الصورة الساخرة التي تتركها الجملة في الذهن: إنك لن
تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا. إنها تصوّر لك ما يفعله المتعاظم في سيره إذ يضرب بقدمه الأرض كأنه يفاخرها ويشعرها بشأنه، ويرفع رأسه متطاولا كأنما يريد أن يطاول بهامته ذرى الجبال مع أنه هو هو، ذلك المخلوق الضعيف الذي لن يخرق أرضا ولن يطاول جبلا.
وبعد أن انتهى الحديث عن تفصيل هذه المبادئ الهامة في حياة الإنسان، عاد الخطاب الإلهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيرا إلى كل هذه المبادئ قائلا: ذلك ما أوحى إليك ربك من الحكمة، أي من معرفة الحق؛ فالحكمة، هي اكتشاف الحق الذي قد يخفى على غير ذي البصيرة. وكان الخطاب من قبل ذلك متجها إلى الإنسان عموما، فمرة يخاطبه بصيغة الجماعة كما في قوله:
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، ومرة يخاطب فيه الفرد المتكرر كما في قوله: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ..
ثم يختم هذه المبادئ بما قد بدأ به، وهو مبدأ الإيمان بالله عز وجل ووحدانيته قائلا: ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا، إشعارا بأن ملاك هذه المبادئ كلها وضمان تطبيقها الوحيد هو الإيمان بالله عز وجل إيمانا صادقا. فما لم يوجد الإيمان به فإن هذه المبادئ لن تنفذ كما ينبغي مهما آمن الناس بأنها حق لا مرية فيه. إذ إن مجرد الإيمان بالفضيلة لا يكفي دافعا إلى التمسك بها وكم في الناس من يؤمن بأن الحق حق ومع ذلك فهو لا يقوى على تنفيذه، ويؤمن بأن الباطل باطل ومع ذلك لا يستطيع التخلّص من ظلّه:
والله سبحانه أعلم.
***