الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلسفة القرآن عن الكون والإنسان والحياة
في الوقت الذي يعتبر فيه القرآن معجزة اللغة العربية وبيانها، وكتابا في التشريع والقانون، ومعلّما للفضيلة والأخلاق- فإنه يحمل إلى الناس أسس حضارة إنسانية شاملة، وذلك عن طريق المفهوم الذي يقدمه عن كلّ من الكون والإنسان والحياة ووجه التفاعل والتناسق بينها.
ولن يتسع المجال في هذا المقام لشرح التقرير الذي يضعه القرآن عن كلّ من هذه العناصر الثلاثة للحضارة في كل زمان ومكان، فإن من شأن ذلك أن يبعدنا عن الغرض الذي نحن بصدده؛ ولكنا نتناول من هذا البحث القدر الذي يفي بحاجتنا للتعرّف على هذا الكتاب العظيم، ويكشف لنا أهم خصائصه ومحتوياته.
نظرة القرآن إلى الكون:
القرآن يبصّر الإنسان بالكون الذي حوله على أنه جملة من المظاهر المخلوقة أبدعها الله عز وجل في انتظام وتناسق لغرضين اثنين:
الأول: أن يتأمل الإنسان فيه ويتنبه إلى مدى دقته وتناسق نواحيه وأجزائه، ليتوصل من ذلك إلى الإيمان بالخالق جل جلاله، ثم إلى إدراك ألوهيته وربوبيته المطلقة، ثم إلى إدراك أنه عبد لهذا الإله العظيم. وهو يقول في بيان هذا الأمر الأول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ، وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ
وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (1).
ويقول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (2).
الثاني: أن تكون هذه المظاهر الكونية كلها مسخرة لخدمة الإنسان ومصلحته وحاجاته فوق هذه الأرض، وأن يجد فيها- بمقدار ما يتسع له إدراكه وعلمه- دواء لمصائبه وحلّا لمشكلاته وفائدة لحياته. ومن ثم فإن على الإنسان أن يقبل على الكون تفهما له واستفادة منه. وفي ذلك يقول الله عز وجل في عبارة عامة شاملة: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً (3).
ثم يقول في بيان مفصّل: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (4). وقال: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (5). ومن ثم فإن القرآن يحذّر الإنسان من أن ينظر إلى شيء من مظاهر الكون وفوائده المختلفة على أنه مما يجب الصدود عنه وعدم اشغال الذهن أو الحياة به، رهبة أو تزهدا أو تعبدا، ويقول: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ (6).
وإذا، فجملة ما يقرره القرآن عن الكون أنه خادم أمين مسخّر للإنسان، يستفيد منه الإنسان بمقدار ما يتأمل فيه ويستبطن ظواهره. وكلمة «التسخير»
(1) البقرة: 164.
(2)
آل عمران: 190، 191.
(3)
البقرة: 29.
(4)
إبراهيم: 22 و 23.
(5)
الجاثيه: 12.
(6)
الأعراف: 32.