الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تاريخ القرآن
القرآن تعريفه، وحقيقته
القرآن هو: اللفظ العربي المعجز الموحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم المتعبّد بتلاوته والواصل إلينا عن طريق التواتر.
إذا تأملت في هذا التعريف، وجدت فيه قيودا أربعة، هي:
المعجز، الموحى به، المتعبد بتلاوته، المتواتر.
فلنشرح كلّ واحد منها على حدة، لنتبين حقيقة القرآن الكريم من وراء هذا التعريف، ونقف على ضبطه وحدوده.
أولا- المعجز: ويقصد منه ما اتصف به القرآن من البلاغة والبيان اللذين أعجزا بلغاء العرب كافّة عن الإتيان بأقصر سورة من مثله، رغم التحدي المتكرر، ورغم التطلّع الشديد لدى الكثير منهم إلى معارضته والتفوق على بيانه. وللقرآن وجوه غير هذا الوجه في إعجازه، ولكن الوجه المقصود منها عند التعريف هو هذا. ولن نطيل هنا في شرح معنى الإعجاز القرآني وتحليله، فإن لذلك موضعا خاصا به في هذا الكتاب إن شاء الله.
ثانيا- الموحى به: ومعناه المنزّل عليه من الله عز وجل بواسطة جبريل، وهذا أهم قيد في تعريف القرآن وتحديد ماهيته.
وإذا كان «الوحي» عنصرا هاما في حقيقة القرآن وتعريفه، فلا بدّ من دراسة وافية- وإن كانت موجزة- لهذه الكلمة، وتحليل صادق لحقيقتها. ومن أهم أسباب هذه الضرورة أن دراسات مختلفة حديثة حامت حولها، لا قصدا
لتفهمها، بل بغية مدّ غاشية من الغموض عليها، ثم الوصول بها إلى المعنى الذي يراد ربطها به، وإن لم تكن منه في شيء.
فلنتنبه بفكر موضوعي مجرد وعقل علمي متحرّر، ولنتساءل مع المتسائلين:
ما هو هذا الوحي الذي جاء بهذا القرآن فوضعه بين يدي محمد عليه الصلاة والسلام؟
أهو نوع من الإلهام النفسي أم هو حركة فكرية داخلية؟
أم هو إشراق روحي جاءه عن طريق الكشف التدريجي؟
أم هو ضرب من الصرع والجنون كان ينتابه كما قد قيل؟
أم هو استقبال لحقيقة ذاتية مستقلة عن كيانه يتلقاها من خارج فكره وشعوره؟
ونحن لا نملك سبيلا علمية صحيحة للإجابة على هذه الأسئلة إلّا بالرجوع إلى حقائق التاريخ الثابتة الواصلة إلينا عن طريق النقل الصحيح.
وإذا رجعنا نسأل حقائق التاريخ فإنها تضعنا أمام حديث قصة بدء الوحي الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
والحديث طويل، وحسبنا أن نجتزئ منه في هذا المقام ما يكشف لنا سبيلا صحيحة للإجابة على هذه الأسئلة.
ففي الحديث أن ملكا فاجأه في غار حراء يتعبد، فقال له: اقرأ، فقال:
ما أنا بقارئ، فأخذه الملك فغطّه حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله فقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، وتكرر هذا من الملك والرسول عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات، وفي المرة الثالثة قال الملك:(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم) فكان ذلك أول ما نزل من القرآن.
وفي الحديث أيضا أنه عليه الصلاة والسلام نزل عقب ذلك من الغار
عائدا إلى البيت وإن فؤاده ليرتجف خوفا. وفي الحديث أيضا أن خديجة ذهبت به إلى ورقة بن نوفل، وكان شخا كبيرا قد تنصّر في الجاهلية فأخبره بالأمر، فقال له ورقة: إن هذا هو الناموس (أي الوحي) الذي نزل على موسى، وطمأنه أنه ليس شرّا. وفي الحديث أيضا أن الوحي قد انقطع بعد ذلك مدة طويلة من الزمن، وأن الضيق والألم قد استبدا به صلى الله عليه وسلم من ذلك، خوفا من أن يكون قد أساء فتحول عنه الوحي لذلك. ثم إنه رأى ذلك الملك مرة أخرى، وقد ملأ مظهره ما بين السماء والأرض، قال: فرعبت منه ورجعت فقلت:
زملوني زملوني .. فنزل عليه قوله تعالى يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ إلى قوله وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ثم تتابع الوحي بعد ذلك.
هذه الحقائق الواردة في هذا الحديث لا يمكن أن نتجاهلها أو نردّها بشكل ما، لسبين:
أولهما- أن ظاهرة الوحي التي يتحدث الكاتبون عن حقيقتها إنما وصلت إلينا عن طريق هذا الحديث ونحوه، فإذا ضربت صفحا عن هذه الكلمة نفسها، إذ لا معنى للبحث في شيء غير موجود ولا واقع من أساسه.
ثانيهما- أن الحديث ليس من قبيل هذه الاستنتاجات النظرية أو التاريخية التي يجنح إليها كثير من باحثي هذا العصر ويبنون عليها أحمالا وأثقالا من الأحكام الخطيرة
الهامة، بل هو خبر نقل بواسطة سند متصل من الرواة، خلا أصحابه- بعد الدراسة لتراجمهم وأحوالهم- عن أي تهمة تبعث الشك في كلامهم.
وإذا فرضنا أن يكون الوحي ليس إلا شعورا نفسيا أو إشراقا روحيا أو إلهاما داخليا، ثم عدنا إلى هذا الحديث، وجدناه يناقض هذا الفرض مناقضة صريحة صارخة، لأسباب كثيرة نذكر منها ما يلي:
1 -
إن شيئا من حالات الإلهام أو حديث النفس أو الإشراق الروحي، لا يستدعي الخوف والرعب واصفرار اللون، وليس ثمة أي انسجام بين
التدرّج في التفكير والتأمّل من ناحية، ومفاجأة الخوف والرعب من ناحية أخرى؛ وإلا لاقتضى ذلك أن يعيش عامّة المفكرين والمتأملين والملهمين نهبا لدفعات من الرعب والخوف المفاجئة المتلاحقة! وأنت خبير أن الخوف والرعب ورجفان الجسم وتغيّر اللون- كل ذلك من الانفعالات القسرية التي لا سبيل إلى اصطناعها والتمثيل بها، حتى لو فرضنا إمكان صدور المخادعة والتمثيل منه عليه الصلاة والسلام، وفرضنا المستحيل من انقلاب طباعه المعروفة قبل البعثة إلى عكسها تماما.
إن صاحب الإلهام والإشراق النفسي والروحي، ليس من شأنه أن تتجسد إلهاماته أمام عينيه فجأة فيرتعد منها ثم يحسبها أتيّا من الجنّ.
ولقد فوجئ عليه الصلاة والسلام بالملك يخاطبه ويكلّمه، ولقد ارتجف خوفا منه وذهب في محاولة معرفته كل مذهب، حتى ظن أنه قد يكون من الجان، وذلك معنى قوله لخديجة (لقد خشيت على نفسي).
2"- لقد قضت الحكمة الإلهية أن يحتجب عنه الملك الذي رآه لأول مرة في غار حراء، مدة طويلة؛ ولقد استبدّ به القلق والضجر من أجل ذلك، ثم تحول القلق لديه إلى خوف في نفسه من أن يكون الله عز وجل قد قلاه، بعد أن أراد أن يشرّفه بالوحي والرسالة لسوء قد صدر منه، حتى لقد ضاقت الدنيا عليه، وراحت تحدّثه نفسه كلما وصل إلى ذروة جبل أن يلقي بنفسه منها .. إلى أن رأى بنفسه الملك الذي رآه في حراء وقد ملأ شكله ما بين السماء والأرض: يقول: يا محمد أنت رسول الله إلى الناس.
إن هذه الحالة التي مرّ بها محمد عليه الصلاة والسلام، تجعل مجرد التفكير في كون الوحي إلهاما نفسيا ضربا من الهوس والجنون. إذ من البداهة بمكان أن صاحب الإلهامات النفسية والتأملات الفكرية لا يمكن أن يمرّ إلهامه أو تأملاته بشيء من هذه الأحوال.
وأنت إذا تأملت في هذا الذي ذكرناه، اتضحت أمامك الحكمة الإلهية العليا في أن يولد الوحي وتسير النبوّة في حياة محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الشكل الذي ورد به الحديث.
فقد كان الله عز وجل قادرا على أن يربط على قلب رسوله، ويطمئن نفسه بأن هذا الذي كلّمه ليس إلا جبريل: ملك من ملائكة الله جاء ليخبره أنه رسول الله إلى الناس؛ ولكن الحكمة الإلهية الباهرة تريد إظهار الانفصال التام بين شخصية محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وشخصيته بعدها، وبيان أن شيئا مما قد نزل إليه من هذا الكتاب لم يطبخ في ذهنه مسبقا، ولم يتصور الدعوة إلى شيء منه سلفا.
غير أن هذا وحده لا يكفي جوابا على كل شيء في الموضوع. فقد يسأل سائل: فلماذا كان ينزل عليه صلى الله عليه وسلم الوحي بعد ذلك، وهو بين الكثير من أصحابه، فلا يرى الملك أحد منهم سواه؟
والجواب أنه ليس شرط وجود الموجودات أن ترى بالأبصار، إذ إن قوة الإبصار فينا محدودة بحدّ معين، وإلا لاقتضى ذلك أن يكون الشيء معدوما إذا ابتعد عن البصر بعدا يمنع من رؤيته. على أن من اليسير على الله عز وجل وهو الخالق لهذه العيون المبصرة- أن يزيد في قوة ما شاء منها فيرى ما لا تراه العيون الأخرى. ولعلك تعلم أن هنا لك ألوانا لا تراها كل العيون، وهنالك أيضا- كما يقول مالك بن نبي- مجموعة من الإشعاعات الضوئية دون الضوء الأحمر وفوق البنفسجي لا تراها أعيننا، ولا شيء يثبت علميا أنها كذلك بالنسبة لجميع العيون. فلقد توجد عيون أقل أو أكثر حساسية (1).
ثم إنك لو ذهبت تحلّل الوحي بأنه ظاهرة نفسية داخلية، لامتزج القرآن بالحديث، ولما أمكن أن يكون ثمة أي فرق بينهما، مع أن الفرق بينهما ظاهر واضح، يتمثل في أسلوب كلّ منهما ويتمثل في علاقته صلى الله عليه وسلم بكلّ منهما.
فقد كان يرسل ألفاظ الحديث إرسالا، مكتفيا بأن يستودعه ذاكرة أصحابه، على حين يأمر بتسجيل كل ما يوحى إليه من آي القرآن ويظل يكرره ويعيده خوفا من أن ينساه فلا يذكره.
وكان صلى الله عليه وسلم يسأل عن كثير من الأمور فلا يجيب عليها، وربما مرّ على
(1) انظر الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي.
إمساكه عنها زمن طويل، حتى إذا نزلت آية من القرآن في شأن ذلك السؤال، طلب السائل وتلا عليه ما نزل من القرآن في شأنه، وربما تصرف هو نفسه في بعض الأمور على نحو معيّن، فنزلت آيات من القرآن تصرفه عن ذلك الوجه بل ربما انطوت على شيء واضح من العتب واللوم.
ثم إنه عليه الصلاة والسلام كان يعلن في كل مرة أن القرآن كلام الله، وأنه ليس إلا أمينا على نقله وتبليغه، وأنه يتلقاه من جبريل عليه السلام. ولقد ظل عليه الصلاة والسلام صادقا أربعين سنة مع قومه، حتى كان بينهم مثال الصدق والأمانة. وبدهي أن مثل هذا الإنسان لا بدّ أن يكون قبل كل ذلك صادقا مع نفسه، يتحرى الدقة في كل مشاعره وأقواله وإحساساته.
وبعد ذلك كله، فقد كان- على ما أجمع عليه المؤرخون- أميّا لم يقرأ كتابا ولا خطّه بيمينه، ولم يدرس تشريعا ولا تاريخا ولا شيئا من قصص الرسل والأنبياء السابقين، فمن أيّ نافذة طبيعية يمكن لهذه الإلهامات كلها أن تتنزل عليه، وكيف لها بأن تنبع هكذا من داخل قلبه وعقله؟
لا جرم أن الوحي القرآني إذا، إنما هو استقبال منه صلى الله عليه وسلم لحقيقة ذاتية مستقلة خارجة عن كيانه وشعوره الداخلي؛ وبعيدة عن كسبه أو سلوكه الفكري أو العملي.
أما قول بعض المستشرقين بأنه لم يكن إلا نوعا من الصرع ينتابه بين الحين والآخر، فليس من النظريات العلمية الموضوعية في شيء حتى نضعه تحت مجهر البحث والنقاش، ونضيّع وقتا قصيرا أو طويلا في الكلام عنه.
ونعود بعد هذا إلى شرح القيود المأخوذة في تعريف القرآن الكريم:
ثالثا- التعبّد بتلاوته. والمقصود به أن من خصائص هذا الكتاب الكريم أن مجرد قراءته تكسب القارئ أجرا ومثوبة عند الله، وأن ذلك يعتبر نوعا من العبادة المشروعة، وأن الصلاة لا تصح إلا بقراءة شيء منه ولا يغني عنه غيره من الأذكار أو الأدعية أو الأحاديث.
رابعا- وصوله عن طريق التواتر. ومعناه أن قرآنية آية من القرآن لا
تثبت حتى تصل إلينا بطريق جموع غفيرة لا يمكن اتفاقها على الكذب، ترويها عن جموع مثلها إلى الناقل الأول لها بعد أن تنزلت عليه وحيا من الله عز وجل، وهو سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
فإذا تأملت هذه القيود الأربعة في التعريف تصورت حقيقة القرآن خالية عن شوب أي ليس بالحديث النبوي أو القراءات الشاذّة أو الحديث القدسي أو الترجمة الحرفية أو غير الحرفية للقرآن. إذ الحديث ليس بمعجز والقراءات الشاذّة غير متواترة، والحديث القدسي غير معجز، ذلك لأن اللفظ فيه من الرسول عليه الصلاة والسلام، والترجمة ليست هي اللفظ المنزّل.