الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التشريع والقصص والمواعظ والحجاج والوعد والوعيد، وتلك حقيقة شاقّة بل لقد ظلّت مستحيلة على الزمن لدى جميع من عرفنا وسمعنا بهم من فحول علماء العربية والبيان.
وبيان ذلك، أن المعنى الذي يراد عرضه، كلما كان أكثر عموما وأغنى أمثلة وخصائص، كان التعبير عنه أيسر وكانت الألفاظ إليه أسرع، وكلما ضاق المعنى وتحدد ودقّ وتعمق، كان التعبير عنه أشق وكانت الألفاظ من حوله أقل.
ولذا كان أكثر الميادين الفكرية التي يتسابق فيها أرباب الفصاحة والبيان هي ميادين الفخر والحماسة والموعظة والمدح والهجاء، وكان أقل هذه الميادين اهتماما منهم وحركة بهم ميادين الفلسفة والتشريع ومختلف العلوم، وذلك هو السر في أنك قلّما تجد الشعر يقتحم شيئا من هذه الميادين الخالية الأخرى.
ومهما رأيت بليغا كامل البلاغة والبيان، فإنه لا يمكن أن يتصرف بين مختلف الموضوعات والمعاني على مستوى واحد من البيان الرفيع الذي يملكه، بل يختلف كلامه حسب اختلاف الموضوعات التي يطرقها، فربما جاء بالغاية من البراعة في معنى من المعاني، فإذا انصرف إلى غيره انخذل عن تلك الغاية ووقف دونها.
غير أنك لا تجد هذا التفاوت في كتاب الله تعالى، فأنت تقرأ آيات منه في الوصف، ثم تنتقل إلى آيات أخرى في القصة، وتقرأ بعد ذلك مقطعا في التشريع وأحكام الحلال والحرام، فلا تجد الصياغة خلال ذلك إلا في أوج رفيع عجيب من الإشراق والبيان. وتنظر فتجد المعاني كلها لاحقة بها شامخة إليها.
ودونك فاقرأ ما شئت من هذا الكتاب المبين متنقلا بين مختلف معانيه وموضوعاته لتتأكد من صدق ما أقول ولتلمس برهانه عن تجربة ونظر.
الخاصّة الثالثة (صلاحية صياغته لمخاطبة الناس عامة على اختلاف ثقافاتهم وعصورهم):
وثمة خاصّة ثالثة، لا تستطيع أن تجدها في غير هذا الكتاب العزيز.
وهي أن معانيه مصوغة بحيث يصلح أن يخاطب بها الناس كلهم على
اختلاف مداركهم وثقافتهم وعلى تباعد أزمنتهم وبلدانهم، ومع تطور علومهم واكتشافاتهم.
خذ آية من كتاب الله مما يتعلق بمعنى تتفاوت في مدى فهمه العقول، ثم اقرأها على مسامع خليط من الناس متفاوت في المدارك والثقافة، فستجد أن الآية تعطي كلّا منهم من معناها بقدر ما يفهم، وأن كلّا منهم يستفيد منها معنى وراء الذي انتهى عنده علمه.
ولسنا نقصد أن الآية تحتمل بذلك وجهين متناقضين أو فهمين متعارضين، بل هو معنى واحد على كل حال، ولكن له سطحا وعمقا وجذورا يتضمنها جميعا أسلوب الآية. فالعاميّ من الناس يفهم منه السطح القريب، والمثقف منهم يفهم مدى معينا من عمقه أيضا والباحث المتخصص يفهم منها جذور المعنى كله.
وخذ إن شئت آية أخرى من كتاب الله مما يتعلق بمعنى يتطور مع امتداد الزمن، ثم اعرضها على مسامع الصدر الأول من المسلمين، فإنهم يفهمون منها المعنى المراد كما هو
في طورهم وعصرهم، ثم اعرضها على مسامع من بعدهم فإنهم يفهمون معناها كما تطور في زمنهم، على أن كلا الفهمين من المدلولات القريبة للآية، وليس من قبيل التكلّف أو تحميل اللفظ ما لا يحمل، ولكن الفهم الثاني كان مطويا عن السابقين لعدم وجود ما ينبههم إليه إذ ذاك.
وفي القرآن الكثير من هذا وذاك، فلنعرض أمثلة منه:
من القبيل الأول قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً، فهذه الآية تصف كلّا من الشمس والقمر بمعنيين لهما سطح قريب يفهمه الناس كلهم، ولهما عمق يصل إليه المتأملون والعلماء، ولهما جذور بعيدة يفهمها الباحثون المتخصصون والآية تحمل بصياغتها هذه الدرجات الثلاث للمعنى، فتعطي كلّا حسب طاقته وفهمه دون أن يكون أيّ تعارض بينهما.
فالعاميّ من العرب يفهم منها أن كلّا من الشمس والقمر يبعثان بالضياء
إلى الأرض، وإنما غاير في التعبير بالنسبة لكلّ منهما، تنويعا للفظ. وهو معنى صحيح تدل عليه الآية. والمتأمل من علماء العربية يدرك من وراء ذلك أن الآية تدلّ على أن الشمس تجمع إلى النور الحرارة فلذلك سمّاها سراجا، والقمر يبعث بضياء لا حرارة فيه؛ وهو أيضا معنى صحيح تدل عليه الآية دلالة لغوية واضحة. أما الباحث المتخصص في شئون الفلك فيفهم من الآية إثبات أن القمر جرم مظلم وإنما يضيء بما ينعكس عليه من ضياء الشمس التي شبّهها بالسراج بالنسبة له؛ وهو أيضا معنى صحيح تدل الآية عليه بلغتها وصياغتها، فأنت تقول: غرفة منيرة إذا انعكس عليها الضوء من سراج في وسطها، ولا تقول قبس منير، إذ ينبعث النور من حقيقته وداخله، بل تقول قبس مضيء.
فالآية تتضمن هذه الدلالات الثلاث جملة واحدة، ولكنها- بأسلوبها العجيب- لا تخاطب الناس إلا بما يدركونه منها، كلّا حسب استعداده وطاقته الفكرية، وبذلك تكون الآية خطابا مفيدا لأضراب الناس كلهم.
ومن هذا القبيل أيضا قوله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها، أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها، يقرأ هذه الآية العربي الذي لا يعلم عن الأرض وهيئتها إلا الشكل الذي يراه وهو الامتداد والانبساط، فيفهم من قوله «دحاها» معنى الانبساط والامتداد، وهو فهم صحيح تدل عليه الكلمة بمعناها اللغوي القريب. ثم يقرؤها عالم الفلك أو المثقف العادي في هذا العصر، فيفهم من قوله: دَحاها معنى الاستدارة والتكوير، وهو أيضا فهم صحيح للكلمة، إذ هي تحمل في آن واحد كلّا من معنى الاستدارة والانبساط، وهو أدق ما توصف به الأرض. ولقد استعملت هذه الكلمة بكلا معنييها في هذه الأبيات لابن الرومي:
إن أنس لم أنس خبازا مررت به
…
يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر
ما بين رؤيتها في كفّه كرة
…
وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلا بمقدار ما تنداح دائرة
…
في صفحة الماء يلقى فيه بالحجر (1)
(1) تشترك مادة داح ودحا في الدلالة على الاتساع والعظم والانبساط والاستدارة قال في شرح