الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالغ في تحقيق هذه الوجوه البلاغية في الكلام. غير أنه لا ينبغي أن يذهب بك الوهم إلى أن أيّ تكرار للكلمة أو الجملة يفي بهذا الغرض، وأنها وسيلة قريبة المنال لكل قادر على الكلام. فالتكرار الذي من شأنه أن يرفع بقيمة الكلام إلى الفصاحة والسمو في التعبير، له قيود وحالات معينة لا ينبغي أن يتجاوزها، وليس أي تكرير في الكلام يبعث فيه التهويل أو التجسيم؛ ولو ذهبنا نشرح الصور المحمودة لتكرار الكلام وقيود ذلك- ولو شرحا يسيرا- لطال بنا البحث وخرجنا عمّا نحن بصدده، فارجع إليه إن شئت في مظانه وأماكنه (1).
وإذا سألت عن وجه العلاقة بين التكرار وهذه الصور البلاغية، فإن خير جواب على ذلك أن أضع فكرك وذوقك العربي أمام نماذج لهذا النوع من التكرار في هذا الكتاب المبين.
فمن ذلك قوله تعالى: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ، وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ، كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ ومنه قوله تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ ومنه قوله تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ومن ذلك تكرار كلمة أُولئِكَ في قوله جل جلاله: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ وتكرار ما أَنْتَ في قوله: وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ.
وكلّ ما في القرآن من تكرار الكلمة أو الجملة من هذا القبيل وعلى مثل هذا الإشراق، وما أحسبك سائلي بعد ذلك عن وجه الجمال أو التهويل أو التصوير في هذا التكرار إن كنت على شيء من السليقة العربية وذوقها.
وأما النوع الثاني منه:
وهو تكرار المعنى، كتكرار بعض القصص والأخبار، فهو أيضا ظاهرة بارزة في كتاب الله تعالى؛ ومردّ ذلك إلى غرضين هامين: الغرض الأول إنهاء حقائق الدين ومعاني الوعد والوعيد إلى النفوس بالطريقة التي تألفها وهي تكرار هذه الحقائق في صور وأشكال مختلفة من التعبير
(1) انظر في ذلك مثلا مشكل القرآن لابن قتيبة، وإعجاز القرآن للباقلاني، والبرهان للزركشي.
والأسلوب. وفي بيان هذه الحكمة يقول الله عز وجل: وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (طه: 113). قال الزركشي:
وحقيقته- أي وحقيقة التصريف- إعادة اللفظ أو مرادفه لتقرير معنى، خشية تناسي الأول لطول العهد به (1).
وهي من الطرائق التربوية التي سلكها هذا الكتاب المبين، ولنا إلى الحديث عنها عودة- إن شاء الله- عند الحديث عن خصائصه التربوية.
أما الغرض الثاني فهو إخراج المعنى الواحد في قوالب مختلفة من الألفاظ والعبارة، وبأساليب مختلفة تفصيلا وإجمالا، وتصريف الكلام في ذلك، حتى يتجلى إعجازه ويستبين قصور الطاقة البشرية عن تقليده أو اللحاق بشأوه.
وأنت تعلم أن هذا الكتاب إنما تنزّل لتحقيق أمرين: أولهما إقناع العقلاء من الناس بأنه ليس كلام بشر، ثانيهما إلزامهم بالشريعة التي فيها. فلا بدّ فيه من الوسائل التي تفي بتحقيق السبيل إلى كلا الأمرين.
ومن هنا، كان من المحال أن تعثر في القرآن كله على معنى يتكرر في أسلوب واحد من اللفظ ويدور ضمن قالب واحد من التعبير، بل لا بدّ أن تجده في كل مرة يلبس ثوبا جديدا من الأسلوب وطريقة التصوير والعرض، بل لا بدّ أن تجد التركيز في كل مرة منها على جانب معين من جوانب المعنى أو القصة.
ولنضرب لك مثالا على هذا الذي نقول: اقرأ قصة نوح في سورة هود، وهي ما بين قوله تعالى: ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إنّي لكم نذير مبين- وقوله جل جلاله: تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك
…
الآية، وهي في جملتها اثنتان وعشرون آية، ثم ارجع فاقرأ القصة نفسها في سورة القمر من الآية 9 إلى الآية 15 ثم اقرأها في سورة نوح، ثم تأمل في النصوص الثلاثة وقارن بين أسلوب كلّ منها وطريقته في العرض والتصوير والجانب المعنوي الذي يرتكز عليه التعبير في كلّ منها، فإنك إن تأملت في ذلك جيدا تخيلت أنك إنما تقرأ في
(1) انظر البرهان: 3 - 10.