الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نظرة القرآن إلى الحياة:
القرآن يتحدث عن الحياة الدنيا من جانبين:
الجانب الأول من حيث قيمتها الحقيقة، وعلاقتها بما وراءها، ومركزها من قصة الوجود بأسره والحياة كلها.
الجانب الثاني من حيث ما يجب أن تكون عليه حالة الإنسان تجاهها، ومدى ما ينبغي أن يستفيده منها.
فالحياة الدنيا- من حيث قيمتها الحقيقة- حياة فانية، وظلّ زائل ومعبر إلى الحياة الباقية الأخرى. والقرآن يظل يلحّ على بيان هذه الحقيقة وتجسيدها وتنبيه الناس إليها. فيقول مثلا: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً (1) ويقول: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (2).
أما الحياة الدنيا- من حيث ما ينبغي أن تكون عليه علاقة الإنسان بها- فهي وسيلة إلى تقويم معاشه ومعاده، وسبب لا بدّ من مباشرته لإصلاح أمره وإسعاد نفسه وبني جنسه. ولذلك فالقرآن يأمر الإنسان بالاستفادة من الحياة، على أن لا تكون همّه الأول، وعلى أن يتخذ منها وسيلة للغاية الكبرى التي خلق من أجلها، وسببا يضمن لنفسه به السعادة الآخرة. فهو يقول في هذا الصدد:
وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا (3) ويقول محذرا من معارضة الفطرة الإنسانية بالانقطاع عن متعة الحياة الدنيا وطيباتها:
(1) الحديد: 20.
(2)
آل عمران: 175.
(3)
القصص: 77.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (1) ويقول: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ (2).
وهكذا، يأمر القرآن الإنسان بالإقبال على الحياة الدنيا للتمتع بطيباتها والاستفادة من نعيمها، على أن يقف قبل ذلك على حقيقة هويتها، ويصحو من الاغترار بمظهرها؛ وذلك كي يكون هو المسيطر عليها والمسيّر لها إلى ما تقتضيه مصالحه وسعادته، ولكي لا تكون هي المسيطرة عليه أو المسكرة له فيغرق في نعيمها وينسى أيّ معنى للوجود من ورائها.
فإذا تأملت في هذا التقويم القرآني، لكلّ من الكون والإنسان والحياة، أدركت أن محور المخلوقات كلها في الرتبة والأهمية إنما هو الإنسان، وأن الغاية التي خلق من أجلها أن يكون مظهرا لحكمة الله تعالى وعظمته وعدالته في الأرض بما يلتزمه من منهج العبودية له تعالى، وأن محور الوجود كله إنما هو الدار الآخرة فالدنيا بكل ما فيها والحياة بكل صورها وأشكالها مقدّمة بين يدي تلك الحياة الأبدية الأخرى، تلك الحياة التي لا تكاد تجد صحيفة من القرآن خالية عن التذكير بها والتحذير من جحودها.
فتلك هي أسس الحضارة الإنسانية التي جاء بها القرآن، والتي أرادها للإنسانية دستورا ومنهجا في هذه الحياة (3).
(1) المائدة: 87 و 88.
(2)
البقرة: 189.
(3)
وأخيرا وفّقني الله تعالى لإخراج هذا الفصل الوجيز المكثف، في كتاب شامل عنوانه (منهج الحضارة الإنسانية في القرآن).