الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويتضح لك من هذا الذي ذكرناه أن القرآن وعاه الصدر الأول من الصحابة وبلغوه إلى من بعدهم بطريقتين:
إحداهما: الكتابة التي كانت تتم بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام لأشخاص بأعيانهم وكل إليهم هذا الأمر.
الثانية: حفظه في الصدور عن طريق التلقّي من كبار قرّاء الصحابة وحفّاظهم الذين تلقّوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأقرّهم على كيفية النطق والأداء.
كما يتضح لك أن القرآن رغم ذلك لم يجمع في مصحف على عهده صلى الله عليه وسلم؛ والسبب هو ضيق الوقت بين آخر آية نزلت منه وبين وفاته عليه الصلاة والسلام؛ فقد علمت مما ذكرناه أن الفترة بينهما لم تزد على تسع ليال في أكثر الروايات وأقربها إلى الاعتماد.
ثانيا- ما جدّ من ذلك في عهد أبي بكر:
قلنا إن القرآن كتب كله في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن متفرقا دون أن يجمع في مصحف واحد بين دفتين كما هو اليوم.
فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وتولى الخلافة من بعده أبو بكر رضي الله عنه، ووقعت معركة اليمامة التي قتل فيها كما قلنا عدد كبير من حفظة القرآن أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر رضي الله عنهما بجمع القرآن وحفظه بين دفتين مخافة أن يموت أشياخ القرّاء كأبيّ وابن مسعود فيختلف الناس في قراءته إذ لا يكون عندهم إمام يجمعون عليه.
ولننقل لك نص ما رواه البخاري في ذلك. روى البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة (أي عند ما قتل أهل اليمامة) فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر رضي الله عنه، إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقرّاء القرآن وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمر: هذا
والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأي عمر قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبّع القرآن فاجمعه. فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال، ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن .. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره:«لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم» . فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما (1).
فالجديد الذي أمر به أبو بكر رضي الله عنه، هو جمع ما تفرق من الرقاع والعسب وغيرها، ثم استنساخها منها إلى صفحات مرتبة مجتمعات، تكون محفوظة في دار الخلافة ومرجعا للمسلمين في كيفية القراءة والأداء. ولم يكن عبارة عن مجرد جمع تلك القطع المتناثرة إلى بعضها بخيط، كما قد يتصور بعض الناس ويفهمه من كلمة «جمع القرآن» وقول أبي بكر لزيد «فتتبّع القرآن فاجمعه» . وإنما كانت مهمة زيد التي وكلت إليه هي جمع هذه المتفرقات ثم الكتابة على منوالها من جديد.
يدلّ على ذلك ما رواه ابن أشتة في المصاحف عن الليث بن سعد قال:
أول من جمع القرآن أبو بكر وكتبه زيد. وأكد ذلك الحارث المحاسبي في كتابه فهم السنن. ويؤكد ذلك ما رواه ابن أبي داود من طريق هشام بن عروة عن أبيه أن أبا بكر قال لعمر ولزيد: اقعد على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله، فاكتباه. قال ابن حجر في الفتح: ورجاله ثقات (2).
وإذا وقفت على النهج الذي كان يسير عليه زيد رضي الله عنه في الاستيثاق من الآية عند كتابتها، أدركت مدى الدقة العظيمة التي امتدت مع المراحل التاريخية المختلفة لكتابة القرآن وجمعه. فقد كان لا يكتب من القرآن
(1) البخاري: 6 - 98.
(2)
انظر الإتقان: 1/ 58 وفتح الباري: 9/ 11.