الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأغراض موزّعة على النصوص القصصية في القرآن بحيث ينفرد كل نص منها بغرض، بل المراد هو اجتماع هذه الأغراض، أو الحكم، التي ذكرناها معا في مختلف النصوص القصصية في كتاب الله تعالى.
فهذا القدر الذي ذكرناه، يكفي في بيان أهداف القصة في القرآن.
منهج القصة في القرآن:
للقصة في القرآن منهج فريد، لا يشبه أي أسلوب من الأساليب المعهودة للقصة.
وهي تتبع في ذلك الأغراض التي سيقت من أجلها، مما عرضنا له آنفا باختصار، فقد تبين لك أن القصة في القرآن ليست عملا فنيا مقصودا لذاته، وإنما هي مسوقة لغرض ديني مهما تنوعت أقسامه وتفرعت أشكاله.
غير أنك قد علمت أن القرآن يتخذ من الجمال الفني أداة لتحقيق هذا الغرض، وما الإعجاز في مجموع مظاهره وأنواعه إلا أداة أيضا لتحقيق المقصد الديني. فإن المتأمل إذا أدرك إعجازه آمن بأنه من عند الله، وإذا آمن بذلك اعتصم به وتمسك بما جاء فيه.
وهكذا، فإن المنهج الذي تسير عليه القصة في القرآن أثر من آثار الغرض الذي سيقت من أجله؛ وهو منهج يقوم- في الوقت نفسه- على أروع مظاهر الجمال الفني والإشراق البياني.
ويمكن أن نلخصها في المظاهر التالية:
المظهر الأول: التكرار. فأنت تجد أن القصة الواحدة قد تكررت في القرآن مرات عديدة، كقصة موسى وفرعون، وكقصة نوح، وقصة خلق آدم.
غير أن هذا ليس تعبيرا دقيقا عن هذه الظاهرة. فالذي يحدث، عند تكرار القصة أكثر من مرة في القرآن، ليس هو التكرار بمعناه المعروف. إنما الذي يحدث هو أن القرآن يتناول من القصة الواحدة في كل مرة جانبا معينا
فيها، وهو الجانب الذي تستدعيه المناسبة. وقد يحدث أن يتكرر عرض القصة نفسها أو عرض الجانب الواحد منها، بحسب الظاهر؛ ولكن تلك القصة أو ذلك الجانب منها ينطوي على عبر وعظات متعددة، فيقتضي الغرض الديني أن يعاد ذكرها عند ما تأتي مناسبة كل عبرة من عبرها، فتلبس القصة في كل مرة من الأسلوب والإخراج التصويري ما يناسب المعنى الذي سيقت بصدده، حتى لكأنّك منها أمام قصة جديدة لم تتكرر على مسامعك ولم تعرض أحداثها على خاطرك من قبل. وإذا أردت أن تقف على مثال لهذا فاقرأ سورة هود وأمعن فيما تجد فيها من قصص الأنبياء والأمم الغابرة ثم اقرأ سورة القمر، ففيها عود إلى تلك القصص نفسها، ولكنك تلاحظ من اختلاف الأسلوب والعرض وجرس الألفاظ ما يخيل إليك أنك أمام قصص وأخبار لم تكن تعلم بها، ثم إنك تجد فيها من المعاني والعظات ما لم تكن قد تنبّهت إليه في المرة الأولى.
المظهر الثاني: الاقتصار من حوادث القصة على ما يتعلق به الغرض.
ومن أجل هذا فإنك قلّما تجد القرآن يسرد حوادث القصة سردا تاريخيا، تبعا لسلسلة الوقائع والأحداث. لأن ذلك يبعد القصة عن مقصدها الذي أوضحناه.
ولنعرض أمثلة لذلك، قصّ علينا القرآن في سورة (الكهف) قصة أصحاب الكهف، فبدأها بهذه الآيات.
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً، وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً، هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (1).
فأنت ترى أنه بدأ فوصف أصحاب الكهف بأنهم فتية انفردوا عن أقوامهم بالإيمان بالله عز وجل ووحدانيته مخالفين ما عليه سائرهم من الشرك
(1) الكهف: 13 و 14 و 15.
والكفر، وأنهم من أجل ذلك عزموا على أن يعتزلوهم ويخرجوا من بينهم. ثم تمضي القصة على هذا المنوال.
فمن هم هؤلاء القوم؟ وفي أي بلدة كانوا يسكنون؟ وكم كان عدد هؤلاء الفتية؟ وما هي أسماؤهم؟
هذه أسئلة كان من مقتضى السرد التاريخي أن تجيب القصة عنها، ولكنها لو أوضحت ذلك وسارت في تتمتها على هذه الطريقة لما وفت بالغرض الديني الذي تستهدفه، ولانصرف فكر القارئ إلى تتبّع أحداث تاريخية يريد أن يعرفها، ولغفل بذلك عن العبرة والعظة التي سيقت القصة من أجلهما.
وعند ما يقصّ علينا القرآن قصة خلق آدم، وسكناه في الجنة ثم نزوله إلى الأرض، لا يتحدث عن وصف نزوله إلى الأرض وحياته فيها بأكثر من قوله:
قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (1).
ففي أي مكان من الأرض نزل؟ وكيف كانت معيشته وسكناه إذ ذاك؟
إن الاجابة على مثل هذه الاستيضاحات، وإن كانت مما يتشوف إليه الفكر، من شأنها أن تقصي القارئ عن الانتباه إلى المقصود من سرد القصة. فحسبه، لكي لا يشتّ ذهنه وراء الأحداث التاريخية، أن يعلم من القصة ما يحمله على الانصياع للمقصد الديني الذي تنطوي عليه.
ولكن ربما اقتضى الغرض في بعض الأحيان أن تسرد القصة من أولها إلى آخرها، وأن يسير البيان القرآني في عرضها بأسلوب يتتبع سلسلة الوقائع والأحداث مع التعرّض لبيان كثير من جزئيات القصة التي لا تكاد تنطوي في الظاهر على عبرة أو فائدة توجيهية. وذلك عند ما يكون الغرض الرئيسي هو إثبات الوحي الإلهي وتأكيد نبوّة الرسول عليه الصلاة والسلام، أو عند ما يكون الغرض تصحيح قصة أو حادثة تاريخية وقع فيها خلط أو لغو.
فمن قبيل الأول، قصة يوسف عليه السلام، فقد عرضت عرضا
(1) طه: 123.
تفصيليا تضمن حياة يوسف وتاريخها منذ طفولته إلى وفاته، وإنك لتجد في عرضها كثيرا من الصور الجزئية يتناولها القرآن بالكشف عنها، مما لا تكاد تجده في عرض القصص الأخرى. والمقصود من ذلك تنبيه الأذهان إلى الوحي الذي يؤيّد به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيطلعه على ما لم يكن يعرف من قبل.
ومن قبيل الثاني قصة مريم في سورة آل عمران، وقصة ولادة عيسى عليه الصلاة والسلام في سورة مريم. ففي كلّ من السورتين سرد تفصيلي للقصة وسير طبيعي مع مراحلها الواقعية، وكشف لمختلف الجوانب المتعلقة بها، إذ الغرض من عرض القصتين تصحيح ما ادّعاه بعض أهل الكتاب من بنوّة عيسى بن مريم لله عز وجل، فاقتضى ذلك عرض حقيقة الواقعة عرضا مفصّلا شافيا يزيل الغموض والإشكال ويكشف بطلان ما توهمه بعض الناس.
المظهر الثالث: إقحام النصائح والعظات في ثنايا القصة، وهو مظهر عام يشمل شتى الموضوعات القرآنية كما أوضحنا فيما مضى.
فالقرآن لا يدع القارئ يندمج مع موضوع من مواضيعه وينصرف إليه بكل تفكيره، دون أن يفصل بين أجزائه بفواصل من العظات تنبهه إلى المقصود من كل هذه المباحث، وتربط على قلبه برباط من الخشية والمراقبة الإلهية عند قراءتها والتأمّل فيها.
فمن أجل ذلك لم تكن في القرآن فصول خاصة في التشريع، وفصول خاصة في سرد المغيبات من جنة ونار وما يتعلق بهما. وقد أوضحنا هذا عند الحديث عن خصائص الأسلوب القرآني فارجع إليه إن شئت.
ولنضع أمامك الآن بعض الأمثلة لدمج عبارات الموعظة والتذكير بخشية الله في ثنايا القصة وخلال سردها.
يقول الله تعالى في سورة طه، أثناء عرضه لقصة موسى مع فرعون:
قالَ فَمَنْ- رَبُّكُما يا مُوسى، قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى، قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى، قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى، كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى، مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (1).
فقد تحولت الآيات هنا عن القصة وسردها إلى التذكير بعظمة الله ومظاهر ألوهيته ودلائل وجوده؛ حتى إن ضمير الخطاب فيها تحول عن خطاب موسى لفرعون إلى خطاب الله للناس كلهم كما تجد في سرد الآيات.
وفي سورة الكهف، تتابع الآيات عرض قصة أصحاب الكهف، وفي أثناء ذلك تلتفت عن القصة لتخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين ببعض الأوامر والعظات:
يقول الله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً، وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (2).
فأنت ترى كيف هيّأت الآيات أثناء عرض القصة مناسبة لتوجيه هذه العظات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمعها المسلمون فيتعظوا ويتمسكوا بها، ثم ما هو إلا أن يعود السياق إلى تتميم القصة بعد ذلك.
المظهر الرابع: العرض التصويري، فأسلوب القرآن عند ذكر قصة من القصص، لا يخبرك عنها إخبارا ولكنه يمرّ بشريط حيّ لها على مخيلتك وإحساسك، وقد تحدّثنا عن التصوير في القرآن وعرضنا أمثلة له، فإذا كان ذلك جليّا في عامة بحوث القرآن، فإنه ليزداد جلاء وقوة عند عرض قصة أو مشهد من خبر. ولا نطيل في إيضاح هذا الأمر بعد الذي ذكرناه في الفصل السابق، ولكن ما عليك إذا أردت أن تقف على التصوير القرآني في القصة إلا
(1) طه: 49 - 54.
(2)
الكهف: 22 و 23 و 24.
أن تعود إلى ما كتبه المرحوم سيد قطب في ذلك في كتابه «التصوير الفني في القرآن» .
المظهر الخامس: التنويع في الاستهلال بالقصة ووضع المدخل إليها، وأنت تعلم أن أهم مظاهر التشويق في القصة ينبغي أن يكون متجمعا وبارزا في أولها، حتى يندفع القارئ بذلك إلى المضي في استطلاعها والتأمل في مختلف مراحلها.
فالقصة في القرآن، تبدأ في كثير من الأحيان، بأغرب مشهد يلفت النظر فيها، حتى إذا أثار ذلك انتباه القارئ، انطلق البيان القرآني في عرض سائر مشاهدها المتلاحقة، وقد يكون هذا المشهد الذي أقيم في مدخل القصة، متأخرا من حيث سلسلة الوقائع والأحداث المتلاحقة فيها، فيعمد البيان القرآني العظيم إلى استدراك ما تركه من قبل، ويعرضه خلال القصة بمناسبة ما، وفي إطار يزيد من جمال العرض وروعته.
ولنقرأ- مثالا لذلك- قصة موسى وفرعون في أول سورة طه. انظر إلى هذا المشهد الذي افتتح به مدخلا للقصة:
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (1).
لا ريب أنه كما ترى، مشهد يلفت النظر ويبعث على الانتباه والتطلّع إلى ما وراءه. ولكن البداءة به فوّتت- كما ترى- على القارئ معرفة ما سبق ذلك من الأحداث؛
فيستدركها البيان القرآني في ثنايا العرض ويصوّرها للقارئ وكأنها قصة ضمن قصة.
وانظر كيف حانت المناسبة، وكيف عادت القصة إلى عرض الأحداث من أولها بمناسبة معينة. فعند ما ذهب موسى إلى حيث رأى النار المشتعلة، سمع هناك نداء الله عز وجل يكلّمه ويضعه أمام مسئولية الرسالة التي سيكلف بها،
(1) طه: 7.
فيقول موسى إنه وحده ضعيف عن تحمّل هذه المهمة الشاقة، فليكن أخوه هارون معينا له ومساعدا في ذلك. فيجيبه الله إلى ذلك ويذكره ممتنّا بنعمه التي أسبغها عليه منذ ولادته إلى اليوم، وهكذا تأتي المناسبة وتعود القصة من أولها بهذا الشكل:
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى. وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى، إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى. أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ، وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي، إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ، فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً، فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (1).
ولعلّه لا يخفى عليك أن هذا الأسلوب في عرض القصة يعتبر من أحدث الأساليب الفنية في إخراج الروايات والقصص كتابة وتمثيلا.
غير أن هذا الأسلوب لا يعتبر الطريقة المفضلة دائما، فقد يكون العمل الفني بالنسبة لبعض القصص يحتاج إلى طريقة أخرى في الاستهلال والعرض.
فمن ذلك أن ينتزع أهم مظاهر العبرة من القصة، فتصاغ بشكل خلاصة لها، ثم يوضع تمهيدا ومدخلا إليها. وذلك كالطريقة التي ابتدأت بها قصة أهل الكهف. فقد مهّد لها أولا بهذه الخلاصة عنها:
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً، إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً.
ثم بدأ يعرض تفصيلها قائلا: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً
…
(2) الآيات.
(1) طه: 36 - 4.
(2)
الكهف: 9 - 13.
ومن ذلك أن يمهد لها بعبارات يكشف فيها عن حكمة أحداثها وسبب وقائعها، لتتجسد بذلك العبرة التي ينبغي أن تؤخذ منها، حتى إذا تنبّه فكر القارئ إلى ذلك بدأ يسرد عليه القصة وهو متيقظ لمراميها ومكان الهداية منها وذلك كالأسلوب الذي مهّد به لقصة موسى وفرعون في أول سورة القصص.
فقد ذكر الله جل جلاله بين يدي القصة هذه الآيات الممهدة:
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ، إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (1).
المظهر السادس: العرض التمثيلي الذي يعتمد على إبراز المشاهد جليّة مشرقة أمام الناظر أو المتخيل، ويطوي ما بينها من الروابط البدهية اعتمادا على سير المخيلة وتصورها.
وأنت تعلم أن القصة إذا ما أريد عرضها بأسلوب تمثيلي حيّ، فلا بدّ فيها من طيّ تلك الأحداث التي يقرضها الفكر والخيال بالبداهة، بل إن القيمة الفنية للقصة وحيويتها تقلّ كثيرا إذا ما شغل فكر الناظر أو السامع بالحديث عن تلك الروابط وتبيانها.
والقصة القرآنية قائمة على هذه السمة والنهج دائما مهما كانت القصة أو كان موضوعها. انظر مثلا إلى قصة نوح التي وردت في سورة هود، وانتبه إلى قوله عز وجل فيها: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ، فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ. وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ
…
(2).
فأنت تجد نفسك في أول هذه الآيات أمام الإخبار الإلهي الذي ينزل على
(1) القصص: 3 و 4 و 5.
(2)
هود: 36 - 37 - 38.
نوح بشأن قومه وأمره إياه بأن ينصرف إلى إنشاء سفينة لينجو بها مع القلة من أصحابه المؤمنين فإن قومه مقدمون على هلاك بطوفان. ثم يسدل الستار على هذا المشهد
ليبرز من ورائه مشهد آخر تبصر فيه نوحا عليه السلام وهو منهمك في صنع سفينة. ولا ريب أن بين المشهدين أحداثا طوتها القصة وهي عزم نوح على القيام بهذا الأمر، واستحضار المواد والوسائل لذلك؛ ولكنها أحداث جزئية يستقل بها الخيال فلا ينبغي أن يفسد بذكرها عرض القصة.
وانظر مثلا إلى قصة موسى وفرعون في سورة طه، حينما يأمر الله موسى عليه الصلاة والسلام، وهو واقف في المكان الذي آنس منه النار ليلا، بأن يذهب إلى فرعون فيبلغه أمر الله عز وجل: قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى، قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (1).
فأنت في أول الآيات، أمام مناجاة بين موسى وربه جل جلاله، يأمره الله فيها كما ترى بالذهاب مع أخيه هارون إلى فرعون لتذكيره وتبليغه أمر الله عز وجل، ويطمئنهما بأنه لن يصيبهما منه أي مكروه، ثم ينطوي هذا المشهد.
ويبرز عقبه تماما مشهد آخر تجد فيه كلّا من موسى وفرعون وجها لوجه في مناقشة حول حقيقة الله عز وجل ودلائل وجوده؛ وهو المشهد الذي يبدأ بقوله جل جلاله: قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى.
أمّا ما بين هذين المشهدين، من ذهاب موسى إلى مصر ووسائل ذلك ثم طريقة التوصل إلى فرعون، ثم عرض الدعوة إلى الإسلام عليه، فهو شيء معلوم يستقل بتصويره الحسّ والخيال، وليس من الدقة الفنية في شيء الاهتمام بعرض ذلك وسرده على السامع أو الناظر.
وحسبنا هذا القدر من الحديث عن الخصائص الفنية للقصة في كتاب الله
(1) طه: 46 و 47 و 48.