الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السبب الثاني: أن يكون هذا الأمر المبهم من الغيوب التي استأثر الله تعالى بعلم أزمنتها وآجالها. وأنت تعلم أن حكمة الله تعالى اقتضت أن يخفي عن عباده- لمصلحة عظيمة باهرة- كثيرا من الحقائق المتعلقة بالغيب الذي لم يقع بعد. وأهمها أجل الإنسان الذي تنتهي عنده حياته وأجل الدنيا الذي تقوم عنده الساعة، وما سيجنيه من ربح أو خسران وسعادة أو شقاء.
فكل الآيات التي تتعلق بمثل هذه الأمور، يظل فيها هذا الجانب مبهما، لأن الغرض الديني قد تعلق ببقائه كذلك، ولأن حقيقة العبودية لله عز وجل تقتضي ذلك. فمن هذا القبيل قوله تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، وقوله تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ.
وهكذا، فالحقيقة الدينية في مجموعها قائمة على هذا النوع من الإبهام:
إبهام الأمور الغيبية من حيث عدم كشف أزمنتها وتعيين كيفيتها وآجالها. وذلك ليتلبس الإنسان بحقيقة «الإيمان بالغيب» الذي تعبده الله عز وجل به.
السبب الثالث: كون الأمر المتحدّث عنه لم يقع بعد. ومن شأن الخبر المتحدّث عنه مما لم يقع بعد، ولم يقع له نظير أو مثيل فيما مضى، أن يظل جانب كبير فيه مبهما، لا يكشفه إلا الواقع والحقيقة. وقد أخبرنا الله عز وجل عن أمور غريبة ستقع في المستقبل، وهي مما لم يقع له نظير فيما مضى، كالإخبار عن دابة الأرض ويأجوج ومأجوج في الآيات السابق ذكرها، فمما لا ريب فيه أن الصورة الجليّة لمثل هذه الأمور في الذهن لا تتوفر بمجرد الوصف والإخبار، وإنما تأتي لدى المشاهدة والعيان. فالإيهام في هذه الحالة أمر طبيعي لا إشكال فيه، اقتضاه عدم وقوع المخبر عنه بعد.
المتشابه: المقصود به، حكمه
وإنما نقصد بالمتشابه تلك الجمل التي تنازعها أكثر من معنى واحد، إذ كان اللفظ أو التركيب صالحا للدلالة على كلّ منها دون أن يكون صالحا للدلالة عليها كلها بآن واحد. فيحار المفسّر في المعنى المراد منها، لأن كلها شبيه بها
وقريب. ولقد قيل بعد ذلك لكل ما غمض ودقّ: متشابه، وإن لم تقع الحيرة فيه من جهة شبهه بمعنيين. ولكن الطريقة التي سلكناها من التفريق بين المبهم والمتشابه تقتضينا أن نقصر اسم «المتشابه» على معناه الأساسي الأول في هذا المقام.
والآيات المتشابهة بالمعنى الذي ذكرناه، إنما وقع فيها ذلك من جهة المجاز واستعماله. فبسببه قد يقع الغلط ويكثر التأويل وتختلف المذاهب والأقاويل.
غير أنه ينقسم إلى نوعين: فأما النوع الأول منه فالخطب فيه يسير وأمر التأويل فيه واضح، ووجه المجاز فيه غير خفي.
وهذا النوع ينطبق على عامّة الآيات التي تتجلى فيها البلاغة القرآنية عن طريق التصوير وتجسيم المجردات من المعاني. فلا يكاد يقع في أمرها اشتباه إلا بالنسبة لمن كانت بضاعته في العربية ناقصة وضعيفة.
مثال ذلك قوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (1) وقوله: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (2) وقوله: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (3) وقوله عن بعض الكافرين الذين أهلكوا: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (4).
فلا يشك العربي أن المقصود بالآية الأولى: سنقصد إليكم بعد طول الترك والإهمال، وأن المقصود بالآية الثانية: الكناية عن مدى سعتها، مع عدم أي مانع من أن يكون الأمر على الحقيقة فيسأل الله النار وينطقها بالجواب، تهويلا للأمر وكشفا عن جليل قدرته وتنبيها إلى عدم وجود أي قيمة حقيقية لمعنى الأسباب والمسببات الكونية؛ وأن المقصود بالآية الثالثة: بيان شدة الأمر على الناس إذ ذاك، وأن المقصود بالآية الرابعة: أنه لم يبك عليهم باك ولم يجزع لفقدهم جازع.
(1) الرحمن: 31.
(2)
ق: 30.
(3)
القلم: 42.
(4)
الدخان: 29.
وأما النوع الثاني فهو الذي وقع بصدده الكلام والبحث واختلفت حوله آراء العلماء فيما يبدو. وينطبق هذا النوع على بعض آيات الصفات الإلهية، من مثل قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (1) وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ (2) وقوله: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (3) ومحل الشبهة في مثل هذه الآيات أن ظاهرها يثبت لله تعالى جوارح ومكانا، وهو مخالف لصريح قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (4).
وموقف العلماء والمفسرين من مثل هذه الآيات ينبثق عن سلوك مرحلتين اثنتين:
الأولى منهما يمثل منطلقا متفقا عليه لم يقع بينهم في ذلك خلاف، وهو تفسير المتشابه على ضوء المحكم من الآيات القرآنية. وقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وقوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ من المحكم الذي لا شبهة في معناه. فاتفقوا على أن الله تعالى لا يشبهه شيء من المخلوقات وصفاتهم وأحوالهم.
الثانية منهما محل خلاف في الظاهر، وهو تأويل آيات الصفات إلى المجاز أو تفسيرها على الحقيقة. فالسلف الأول من العلماء والمفسرين آثروا إبقاء اللفظ على الحقيقة مع الإيمان بأن الله تعالى لا مثيل له، وبأنه منزّه عن صفات النقص، ووكلوا تحليل الأمر في ذلك وشرحه إلى الله عز وجل.
ذكر السيوطي عن أمّ سلمة رضي الله عنها أنها سئلت عن قوله تعالى:
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى فقالت: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به من الإيمان والجحود به كفر. وسئل مالك رضي الله عنه عن هذه الآية فقال: الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.
(1) طه: 5.
(2)
الفتح: 10.
(3)
طه: 39.
(4)
الشورى: 11.
وأما الخلف منهم، وهم الذين جاءوا في عصر ازدهار التدوين والعلوم، واتساع حلقات البحث والمناقشات العلمية، فقد آثروا أن يحملوا ألفاظ هذه الآيات على محمل يليق بذات الله تعالى مع التزام الدلالة اللغوية والخضوع لقواعد الأخذ بالحقيقة والمجاز وعدم الخروج عليها أو التكلّف في معالجتها؛ ففسروا الاستواء بتسلط القوة والسلطان، وفسروا اليد بالقدرة، والعين بالعناية والرعاية. وهو تفسير تدل عليه طبيعة الاستعمال اللغوي وجملة الأسلوب القرآني.
وإنما قلنا إن الخلاف في الأمر الثاني خلاف في الظاهر فقط، لأن المآل فيما ذهب إليه كلّ من السلف والخلف واحد، ما دام الجزء الأول من التفسير محل اتفاق وهو أنه عز وجل لا يشبهه شيء من مخلوقاته وأنه منزّه عن جميع صفات النقص. والخلاف شكلي، ينحصر في طريقة تفسير هذه الألفاظ التي تدور بين تركها على حقيقتها مع تنزيه الله تعالى عن الكيف والنقص، وتأويلها على المجاز لتتفق لغويا مع تنزيه الله تعالى عن الكيف والنقص.
ولقد شنّع ابن تيمية رحمه الله كثيرا على طريقة الخلف هذه، وعدّها جانحة جنوحا حقيقيا عن مذهب السلف. وأنكر على سائر علماء الخلف (وهم الذين جاءوا بعد القرن الثالث) استعمال هذه الألفاظ القرآنية في غير حقيقتها، لا سيما المتعلقة بذات الله تعالى وصفاته.
ولكنّا نجزم بأن الخطب في ذلك يسير، والخلاف أهون من أن يكون جنوحا لهؤلاء الأعلام، عن مبادئ العقيدة الإسلامية وأصول التفسير.
والعجيب أن ابن تيمية بعد كل هذا التشنيع يتأول (الوجه) في قوله تعالى:
كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ بالجهة، ويقول: إن معنى الآية كل شيء هالك إلا ما أريد به جهة الله تعالى!
…
(1) فلماذا أخرج الكلمة من حقيقتها إلى المجاز؟ ولماذا يحرّم على علماء الخلف ما يراه مباحا له؟ وليته إذ تأول على خلاف مبدئه ومذهبه، فسّرها بالذات كما فعل جمهور المفسرين بل أصرّ على أن يتأولها بالجهة والمكان!!
…
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية: 2/ 437 وما بعدها.
هذا وليس لنا شأن، بتلك الطوائف التي ضلّت وشذّت، ممّن يقال عنهم المعطلة والمجسمة، إذ لا يقام لهم أيّ حساب فيما يتعلق بكتاب الله تعالى وتفسيره، وليسوا من كتاب الله تعالى: محكمه أو متشابهه في شيء، وإنما هم تصوروا الذات الإلهية كما صوّرته أخيلتهم المجردة، ثم استنهضوا آيات من كتاب الله تعالى إلى تلك الأخيلة
لتصدقها وتؤمن لهم بها، وأنّى لآيات الله الباهرة أن تدلّ إلا على الحق الواضح المنير. فعادوا يعكفون على أصنام لهم أقاموها في رءوسهم بدلا من أن ينصبوها أمام أعينهم.
ويكفي في هذا المقام هذا القدر من الحديث عن مبهم القرآن ومتشابهه والله أعلم.