الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة أخيرة
والآن، وقد انتهينا من هذه السياحة العجلى في رحاب هذا الكتاب العظيم، ووقفنا على خلاصة سريعة من خصائصه ومظاهره ودقائقه- أريدك يا أخي القارئ أن تمحّص الفكر والرويّة والتأمل الحر في قصة هذا الكتاب ومصدره.
ألم تقف في كل ما قد مررت ووقفت عليه من خصائص، على ما يدلك أن هذا الكتاب ما ينبغي أن يكون من صنع بشر؟
ألم تدرك، فيما قد اطّلعت عليه من تاريخه وعلومه ومنهجه، أنه ما ينبغي أن يكون أكذوبة كذّب بها محمد صلى الله عليه وسلم على ربّه، بعد أن غبر من حياته أربعين عاما يتوقى فيها الكذب على الناس؟
ألم تستشعر في كل ما قد تأملته من نصوصه وآياته أنك من هذا الكلام أمام أحاسيس ومشاعر لا يمكن أن تأتي إلى النفس مما يتكلم به سائر البشر؟
ألم تدرك في أعماق وجدانك، حقيقة الإعجاز في هذا الكتاب؟
أسئلة، لا شك أن أيّ متأمل بفكر حر، لا يتردد في الجواب عليها بإيجاب قاطع.
فإذا كان كذلك، أفليس ما يوجبه العقل، ويفرضه كلّ من المصلحة والمنطق أن تتدبر هذا الكتاب وتتهيأ لما قد وضعك في سبيله؟
أما إن هذه الحياة ستطوى عمّا قريب، وإن كل ما ترى من مغرياتها
وملاذها ليوشك أن ينتهي ويزول؛ وقسما بخالق العقل الذي تميز به الإنسان، إن من وراء ذلك لحياة أخرى ستتفتح لها العين ويمتلئ بها الشعور ويفيض بها الإحساس، وما كان القرآن ليكذب على الناس في تأكيد هذه الحقيقة بشتى الأساليب المؤكدة. أفترى أن شيئا من الأغراض أو الأهواء أو المقاصد المستكنّة في نفسك اليوم تغنيك إذ ذاك أو تفيدك فائدة ما؟! تخيل نفسك، وقد ولّى عنها الشباب، وولّت في أعقابها الكهولة، وجاءتك الحقيقة التي لا مردّ لها ولا سلطان في الأرض يستذلّها: حقيقة الموت وسكرته، وسائل نفسك التي بين جنبيك: ماذا عسى أن تجني إذ ذاك من كل هذا الذي تكبل اليوم عقلك به، أيّا كان مظهره وحقيقته ومرماه؟.
إن من الخير لك أن تحتاط
…
وإن من أسمى أغراضك ومصالحك التي يجب أن تأخذ نفسك بها أن تتأهب لذلك اليوم، وإن من أهم ما يجب عليك، أن تقف على هوية نفسك وحقيقة ذاتك القائمة في خضم الكون المائج، فكم من إنسان يمشي مكبّا على وجهه في الحياة، وهو يحسب أنه قد أبصر الحقيقة حيث ضلّ عنها الآخرون وهو إنما ضلّ عن نفسه فلم يقف على شيء من هويتها وحقيقتها، وسوف لا يستفيق إلى ذاته إلا بعد أن يتعثر ويكبو، وحينئذ ينظر بعين جديدة أخرى ويطّلع على حقيقة كانت غائبة عنه، ويتذكر الماضي الأليم، وأنّى له الذكرى؟
ثم فيم الابتعاد يا أخي القارئ عن الحق؟
أفتحسب أنه يحرمك سعادتك التي تحلم بها؟ .. إن ذلك هو الوهم العجيب الذي يظل عالقا برءوس بعض الناس. إن الله عز وجل لم يشرع لعباده هذا المنهج الحق إلا إصلاحا لشأنهم وتحقيقا لسعادتهم. ومما لا شك فيه أن الجاحدين والملحدين في الدنيا يشقون حتى بالنعيم ويختنقون حتى بأسباب السعادة، وانظر تجد مصداق ذلك ماثلا أمامك ومن حولك، وأن المؤمنين يظلون في نعيم السعادة حتى وإن تألبت عليهم الدنيا ونال منهم الضرّ والبلاء.
واسمع قول ربّ العالمين: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
إن خير ما أختم به كتابي هذا، أن أقدّم إليك- وأنت أخي الذي لا والله لا أريد له إلا ما أريده لنفسي- هذه العبرة والنصيحة، فإن قبلتها فذلك حظك من هذا الكتاب وهو حظي من كل ما قدّمت وإن لم تقبل فلا أملك إلا أن أتجه إلى الله العليّ القدير أستمنحه الرحمة لي ولك وأسأله لنا جميعا الهداية إلى الحق والتجافي عن الباطل.
وحسبي الله ونعم الوكيل، وإليه المنقلب والمآب وهو وحده نعم المولى ونعم النصير.
محمّد سعيد رمضان البوطي دمشق في 1 ذي الحجة 1387 هـ الموافق ل 4 كانون الأول 1968 م