الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسلوب القرآن دراسة عامة لخصائصه
سنلخص في هذا الفصل معظم ما سنأتي على تفصيل البحث فيه إن شاء الله. إذ الحديث عن إعجاز القرآن وتصويره وفن القصة فيه وطرائقه التربوية وغير ذلك من فنون هذا الكتاب العظيم، إنما هو في الحقيقة بسط لمنهجه وخصائص أسلوبه.
غير أن علينا- قبل الخوض في كل جانب من هذه الجوانب على انفراد- أن نتصور الأسلوب القرآني في جملته، وأن نستعرض هذا الأسلوب استعراضا سريعا يجلّي في أذهاننا روعته وحدود الفرق بينه وبين أيّ نظم أو كتاب آخر، حتى إذا وقفنا على ذلك، عدنا إليه بالتفصيل وشرح كل جانب منه على حدة.
الخاصّة الأولى (جريانه على نسق بديع خارج عن المألوف):
وأول ما يطالعك من مظاهر أسلوب القرآن لدى النظر فيه، أنه يجري على نسق بديع خارج عن المعروف من نظام جميع كلام العرب، ويقوم في طريقته التعبيرية على أساس مباين للمألوف من طرائقهم، وله أسلوب خاص به لا تجد منه عند أيّ فن من الفنون العربية المعهودة.
ذلك أن جميع الفنون التعبيرية عند العرب لا تعدو أن تكون نظما أو نثرا؛ وللنظم أعاريض وأوزان محددة معروفة، وللنثر طرائق من السجع والإرسال وغيرهما مبيّنة ومعروفة. والقرآن ليس على أعاريض الشعر في رجزه ولا في قصيده، وليس على سنن النثر المعروف في إرساله ولا في تسجيعه، إذ هو لا يلتزم الموازين المعهودة في هذا ولا ذاك، ولكنك مع ذلك تقرأ بضع آيات
منه فتشعر بإيقاع موزون من تتابع آياته، بل يسري في صياغته وتآلف كلماته، وتجد في تركيب حروفه تناسقا عجيبا، بين الرخو منها والشديد، والمجهور والمهموس، والممدود والمقطوع، بحيث يؤلف اجتماعها إلى بعضها لحنا مطربا يفرض نفسه على صوت القارئ العربي كيفما قرأ، إذا كانت قراءته صحيحة.
ومهما طفت بنظرك في جوانب كتاب الله تعالى ومختلف سوره، وجدته مطبوعا على هذا النسق العجيب.
غير أنه إذا كان لا بدّ من مثال نعرضه لاستجلاء هذه الحقيقة فيه، فلنعرض لك تلك الآيات التي تلاها النبي صلى الله عليه وسلم على عتبة بن أبي ربيعة، يوم جاءه رسولا من قبل قريش يعرضون عليه الملك والمال والزعامة على أن يتخلى عن دعوتهم إلى توحيد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم. حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ. قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ.
فحسبك أن تتأمل في صياغة هذه الآيات وكلماتها لتجد فيها مصداق ما ذكرنا، على أنك واجد ذلك في جميع آي القرآن وسوره.
فمن أجل ذلك تحيّر العرب في أمره، إذ عرضوه على موازين الشعر فوجدوه غير خاضع لأحكامه، وقارنوه بفنون النثر فوجدوه غير لاحق بالمعهود من طرائقه، فكان أن انتهى الجاحدون منه إلى أنه السحر واستيقن المنصفون منهم بأنه تنزيل من ربّ العالمين.
ولك أن تسأل هنا: فكيف تقول إن القرآن يختلف عن جميع طرائق النثر المعهودة؛ مع أن فيه كثيرا من السجع، وهو منهج من مناهج النثر العربي؟
والجواب أن السجع ليس مجرد تقفية للجملة أو المقطع من الكلام بقافية