المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الأحرف السّبعة وهذا أيضا بحث من أهم ما يتعلق بتاريخ القرآن - من روائع القرآن

[محمد سعيد البوطي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌مقدّمة الطبعة الثّالثة

- ‌تمهيد أوّل تعريف بهذا الكتاب وأهمّ ابحاثه

- ‌تمهيد ثان بتعريف أهمّيّة القرآن في الأدب العربيّ ووجوه ذلك

- ‌السبب الأول

- ‌السبب الثاني

- ‌السبب الثالث:

- ‌السبب الرابع:

- ‌تاريخ القرآن

- ‌القرآن تعريفه، وحقيقته

- ‌نزول القرآن منجّما والحكمة في ذلك

- ‌حكمة نزول القرآن منجّما:

- ‌أسباب النّزول

- ‌أولا- حكمة ارتباط الآيات بأسباب النزول:

- ‌ثانيا- أمثلة لأسباب النزول

- ‌ثالثا- أهمية معرفة أسباب النزول:

- ‌رابعا- اهتمام العلماء بالكتابة في «أسباب النزول»

- ‌كيفيّة جمع القرآن وكتابته والأدوار الّتي مرّت على ذلك

- ‌أولا- ترتيب القرآن وكتابته في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ثانيا- ما جدّ من ذلك في عهد أبي بكر:

- ‌ثالثا- ما جدّ من ذلك في خلافة عثمان:

- ‌رسم القرآن والمراحل التحسينية الّتي ندرّج فيها

- ‌فأما الظاهرة الأولى:

- ‌أما الظاهرة الثانية:

- ‌الأحرف السّبعة

- ‌علوم القرآن

- ‌تمهيد

- ‌ ما هي علوم القرآن

- ‌(علوم القرآن) اصطلاح خاص:

- ‌متى ظهر هذا الاصطلاح:

- ‌التّفسير‌‌ حقيقته، نشأته وتطوّره، مذاهبه وشروطه

- ‌ حقيقته

- ‌نشأته وتطوره:

- ‌الطائفة الأولى: وهم أصحاب عبد الله بن عباس، من علماء مكة المكرمة

- ‌الطائفة الثانية: وهم أصحاب عبد الله بن مسعود، من علماء الكوفة

- ‌الطائفة الثالثة: وهم أصحاب أنس بن مالك وغيره

- ‌مذاهبه وشروطه:

- ‌المكّيّ والمدنيّ تعريف كلّ منهما، خصائص كلّ منهما، الفائدة من معرفة ذلك

- ‌تمهيد:

- ‌تعريف المكّي والمدني:

- ‌خصائص كلّ منهما:

- ‌الفائدة من معرفة هذا العلم:

- ‌المبهم والمتشابه في القرآن

- ‌تمهيد:

- ‌المبهم: أنواعه، أمثلة له، الحكمة منه:

- ‌النوع الأول: الأحرف المقطعة التي افتتح بها بعض السور

- ‌النوع الثاني: جمل وألفاظ

- ‌المتشابه: المقصود به، حكمه

- ‌القراءات والقرّاء لمحة دراسيّة سريعة في ذلك

- ‌منشأ القراءات:

- ‌الحكمة من مشروعيتها:

- ‌ما معنى تحديدها بالسبعة ومتى حددت بهذا العدد:

- ‌الضابط العلمي لاعتماد القراءات:

- ‌الفرق بين القراءات المتواترة والشاذة:

- ‌حكم القراءات الشاذة:

- ‌أسلوب القرآن دراسة عامة لخصائصه

- ‌الخاصّة الأولى (جريانه على نسق بديع خارج عن المألوف):

- ‌الخاصّة الثانية (جريانه على مستوى رفيع واحد على الرغم من تنوع المعاني والموضوعات):

- ‌الخاصّة الثالثة (صلاحية صياغته لمخاطبة الناس عامة على اختلاف ثقافاتهم وعصورهم):

- ‌الخاصّة الرابعة (ظاهرة التكرار للألفاظ والمعاني):

- ‌فالنوع الأول منه:

- ‌وأما النوع الثاني منه:

- ‌الخاصّة الخامسة (تداخل بحوثه وموضوعاته):

- ‌إعجاز القرآن تعريفه، وجوهه، دليله، مظاهره

- ‌تمهيد لا بدّ منه:

- ‌تعريف إعجاز القرآن:

- ‌الدليل على ثبوت الإعجاز في كتاب الله في الجملة:

- ‌وجوه الإعجاز القرآني

- ‌أولا: الإعجاز اللفظي أو البلاغي:

- ‌مصدر الإعجاز البلاغي في القرآن:

- ‌المظهر الأول (الكلمة القرآنية):

- ‌المظهر الثاني: الجملة القرآنية:

- ‌أولا: الاتساق اللفظي والإيقاع الداخلي:

- ‌ثانيا: دلالتها بأقصر عبارة على أوسع معنى:

- ‌ثالثا: إخراج المعنى المجرد في مظهر الأمر المحسوس:

- ‌ثانيا: الإعجاز بالغيبيات:

- ‌ثالثا: الإعجاز بالتشريع:

- ‌رابعا: مظهر جلال الربوبية:

- ‌الذين كتبوا في إعجاز القرآن

- ‌موضوعات القرآن وطريقة عرضه لها

- ‌التّصوير في القرآن مظهره ورسائله

- ‌تمهيد:

- ‌الأمثال في القرآن

- ‌القصّة في القرآن أغراضها، خصائصها

- ‌الأمر الأول: إثبات الوحي الإلهي والرسالة النبوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌الأمر الثاني: العبرة والموعظة

- ‌الأمر الثالث: تثبيت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم في مجال الدعوة

- ‌منهج القصة في القرآن:

- ‌ القيمة التاريخية لقصص القرآن:

- ‌المنهج التّربويّ في القرآن

- ‌النّزعة الإنسانيّة في القرآن

- ‌أولا- النزعة الإنسانية في القرآن من حيث الموضوع:

- ‌ثانيا- النزعة الإنسانية في القرآن من حيث الأسلوب:

- ‌فلسفة القرآن عن الكون والإنسان والحياة

- ‌نظرة القرآن إلى الكون:

- ‌نظرة القرآن إلى الإنسان:

- ‌نظرة القرآن إلى الحياة:

- ‌هل من الممكن ترجمة القرآن

- ‌تمهيد

- ‌في الإلهيّات (من سورة الرعد، من آية 8: إلى آية 14)

- ‌تعريف عام بالآيات:

- ‌شرح الآيات:

- ‌في الوصف (من سورة غافر. من آية: 10 إلى آية: 20)

- ‌تعريف عام بالآيات:

- ‌شرح الآيات:

- ‌في المبادئ والإنسانيّات (من سورة الإسراء من آية: 23 إلى آية 29)

- ‌تعريف عام بالآيات:

- ‌شرح الآيات:

- ‌في القصص (من سورة هود، من آية: 35 إلى آية: 49)

- ‌ تعريف عام بالآيات:

- ‌شرح الآيات:

- ‌في الحجاج والنّقاش (من سورة النمل من آية: 59 إلى آية: 66)

- ‌تعريف عام بالآيات:

- ‌شرح الآيات:

- ‌كلمة أخيرة

الفصل: ‌ ‌الأحرف السّبعة وهذا أيضا بحث من أهم ما يتعلق بتاريخ القرآن

‌الأحرف السّبعة

وهذا أيضا بحث من أهم ما يتعلق بتاريخ القرآن وكيفية نزوله.

ولنبدأ بما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

روى مسلم عن أبيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار (غدير صغير، بموضع قرب مكة) فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم أتاه ثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف: فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيّما حرف قرءوه عليه فقد أصابوا.

وروى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال:

سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها، فكدت أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم

لبيته بردائه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله ثم قال (اقرأ يا هشام) فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هكذا أنزلت» ثم قال لي اقرأ، فقرأتها، فقال «هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما يتيسر منه» .

ص: 58

وروى الترمذي بسند صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم لقي جبريل فقال: يا جبريل إني بعثت إلى أمة أمية منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لا يقرأ كتابا قطّ، فقال لي يا محمد إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف.

هذا بعض ما ورد من الأحاديث الصحيحة في موضوع الأحرف السبعة.

فما هي الأحرف السبعة: وما معنى أن القرآن أنزل على سبعة أحرف؟.:

هي في الصحيح الذي ذهب إليه الجمهور كمكي بن طالب، وابن عبد البرّ، وابن قتيبة وابن شريح وغيرهم: لغات متفرقة في القرآن مختلفة في السمع، متفقة في المعنى أو مختلفة في السمع وفي المعنى، وزيادة كلمة ونقص أخرى، وزيادة حرف ونقص آخر، وتغيير حركات في موضع حركات أخرى، وتقديم وتأخير، ومدّ وقصر، وشبه ذلك مما يتعلق بجوهر الكلمة أو كيفية أدائها.

وقد يكون هذا الاختلاف مما يخضع لرسم واحد، وقد يكون مما يختلف به الرسم.

فكل وجه من هذه الأوجه المختلفة يسمى حرفا، وأطلق على مجموعها الأحرف السبعة، لأنها- فيما ذكره مكي بن طالب وجمهور من أهل العلم- ترجع إلى أربعة أوجه:

الأول: أن يختلف في مدّ الكلمة وقصرها أو في إعرابها أو في حركات بنائها بما لا يغير معناها، كالبخل والبخل، وميسرة وميسرة.

الثاني: أن يكون الاختلاف في إعراب الكلمة أو في حركات بنائها بما يغير معناها على غير التضاد ولا يزيلها عن صورتها في الخط، كقوله:«ربنا باعد بين أسفارنا» و «ربنا بعّد بين أسفارنا» .

الثالث: أن يكون الاختلاف في تبديل حرف الكلمة دون إعرابها، بما يغيّر المعنى ولا يخرج عن القصد ولا يغيّر صورة الخط نحو: ننشرها، ننشزها.

ص: 59

الرابع: أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يغيّر صورتها في الكتاب ولا يغيّر معناها نحو «إن كانت إلا صيحة واحدة» و «إن كانت إلا زقية واحدة» .

الخامس: أن يكون الاختلاف بما يزيل صورة الكلمة في الخط ويزيل معناها، دون أن يكون بينهما تضاد نحو: الم تنزيل الكتاب، في موضع: الم ذلك الكتاب.

السادس: أن يكون الاختلاف بالتقديم والتأخير كقوله «وجاءت سكرة الحق بالموت» بدلا من «وجاءت سكرة الموت بالحق» .

السابع: أن يكون الاختلاف بالزيادة أو النقص في الحروف والكلم، شريطة أن لا يحدث ذلك حكما لم يقبله أحد نحو «تجري تحتها» بدلا من «تجري من تحتها» (1).

إذا عرفت المعنى المراد بالأحرف السبعة، فلتتساءل عن معنى كون القرآن قد نزل بها.

والجواب أن الله قد أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرئ أمته القرآن على هذه الأوجه المختلفة بالحدود والضوابط التي أجملنا بيانها، وأن لمن شاء من أمته أن يقرأ بما شاء من هذه الأوجه، بعد أن يكون قد سمعها تلقيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبذلك تعلم أن اختلاف القراءة من وجه إلى آخر لم يقع ولا يجوز أن يقع بالتشهي، بأن يغيّر كل قارئ الكلمة إلى مرادفها أو إلى وجه آخر من كيفية النطق بها. بل ذلك- كما قال الزرقاني على الموطأ- مقصور على السماع منه صلى الله عليه وسلم، كما يشير إليه قول كلّ من عمر وهشام، في الحديث السابق ذكره:

أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم (2).

وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: الصحيح أن هذه الأحرف السبعة

(1) انظر الإبانة لمكي بن طالب ص 37 - 42.

(2)

انظر الزرقاني على الموطأ 1 - 363.

ص: 60

ظهرت واستفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضبطها عنه الأمة (1).

ونتساءل بعد هذا عن الحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرف، وهل كان ذلك رخصة منوطة بسبب عارض أم هو عزيمة باقية؟

يتضح لك من الأحاديث التي ذكرناها في أول البحث، أن الحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرف، هي التخفيف على العباد وتسهيل سبيل قراءة القرآن عليهم، إذ فيهم كما قال عليه الصلاة والسلام العجوز والشيخ الكبير والرجل الذي لا يقرأ كتابا.

واستنادا إلى هذا الدليل، ذهب كثير من أهل العلم إلى أن ذلك إنما كان رخصة اقتضاها حال العرب في صدر الإسلام من تفرقهم واختلافهم إلى قبائل شتى يتخالفون ويتفاوتون في كيفية القراءة والنطق. والرخصة هي تحوّل الحكم الشرعي إلى الأسهل لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي (2).

يدل على ذلك إلى جانب دلالة الأحاديث السابقة، أن هذا الإذن من الله عز وجل في القراءة بالأحرف السبعة إنما اقتصر على القراءة فقط، أما كتابة القرآن فإنما كانت بحرف واحد هو حرف قريش، وهو الحرف الذي أشار إليه جبريل بقوله في أول الحديث الذي رواه مسلم عن أبي بن كعب: إن الله يأمرك أن تقرئ القرآن على حرف.

قال مكّي بن طالب: «وكان المصحف قد كتب على لغة قريش، على حرف واحد، ليقلّ الاختلاف بين المسلمين في القراءة

» (3).

وهكذا، فقد كانت كتابة المصحف بحرفه الأصلي الواحد ضمانة لبقائه والرجوع إليه بعد انتهاء العذر الذي اقتضى التخفيف، كما كانت ضمانة لعدم ضياعه وتميّعه في غمار تلك الأحرف الأخرى التي أذن الله عز وجل أن تقرأ بها قبائل العرب تخفيفا وتيسيرا.

(1) انظر شرح النووي صحيح مسلم 6 - 100.

(2)

انظر جمع الجوامع وشرحه 1 - 67.

(3)

الإبانة ص 3.

ص: 61

ولنتساءل إذا: ما هو مصير الأحرف السبعة اليوم؟

والجواب أن مصيرها مصير كل رخصة زال العذر المسبّب لها. وقد علمت أن جواز القراءة بالأحرف الستة الأخرى غير التي كان يكتب بها القرآن، إنما كان رخصة اقتضاها حال العرب في صدر الإسلام لما قد رأيت من اختلاف اللهجات وشيوع الأمية. فلما صهرهم الدين وجمعهم القرآن وتقلصت الأمية، انتهت الرخصة وانحسرت الحاجة إليها، وعاد الحكم فانحصر بالحرف الذي كان يكتب؛ وهو حرف قريش. فاجتمع الناس كلهم على النطق به معتمدين في ذلك على ما وجدوه مكتوبا عندهم من الرسم الصحيح المعتمد للقرآن.

روى القرطبي عن الطحاوي: «إنما كانت السعة للناس في الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم، لأنهم كانوا أميين لا يكتب إلا لقليل منهم، فلما كان يشقّ على كلّ ذي لغة أن يتحول إلى غيرها من اللغات، ولو رام ذلك لم يتهيأ إلّا بمشقة عظيمة، فوسّع لهم في اختلاف الألفاظ إذا كان المعنى متفقا. فكانوا كذلك حتى كثر منهم من يكتب وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدروا بذلك على تحفّظ ألفاظه، فلم يسعهم حينئذ أن يقرءوا بخلافها (1).

وذكر النووي مثل هذا في شرحه على صحيح مسلم (2).

وعزا الزرقاني على الموطأ ذلك إلى أكثر أهل العلم كابن عيينة وابن وهب والطبري وابن عبد البرّ والطحاوي (3).

ولكن كيف سقط العمل بما يخالف خط المصحف، حتى لم تجز القراءة بالأحرف الأخرى وهل كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأمره أم في عهد عثمان وبتوجيهه؟

(1) الجامع لأحكام القرآن: 1 - 42، 43.

(2)

انظر شرح النووي على مسلم: 6 - 11.

(3)

الزرقاني على الموطأ: 1 - 263.

ص: 62

اختلف العلماء في ذلك، ونقل الزرقاني أن أكثرهم على أن ذلك إنما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأمره، فقد قال: «وهل استقرّ ذلك في الزمن النبوي أم بعده؟ الأكثر على الأول واختاره الباقلاني وابن عبد البرّ وابن العربي وغيرهم، لأن ضرورة اختلاف اللغات ومشقة نطقهم بغير لغتهم اقتضت التوسعة عليهم في أول الأمر

حتى انضبط الأمر وتدربت الألسن وتمكن الناس من الاقتصار على لغة واحدة، فعارض جبريل النبي صلى الله عليه وسلم القرآن مرتين في السنة الأخيرة واستقر الأمر على ما هو عليه الآن فنسخ الله تلك القراءة المأذون فيها، بما أوجبه من الاقتصار على هذه القراءة التي تلقاها الناس (1).

وعلى هذا، فقد كان إقدام عثمان رضي الله عنه على جمع الناس على حرف قريش ومنع القراءة بكل حرف آخر سواه مما يخالف خط المصحف المعتمد، وتحريق المصاحف الأخرى المخالفة له- كان كل ذلك منه باستناد إلى هذا الذي رواه الزرقاني عن أكثر أهل العلم من استقرار القرآن كتابة وقراءة، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جزء من الأحرف السبعة، وهو الذي كانت كتابة القرآن به.

وما أجمع الصحابة ومن بعدهم مع عثمان على صنيعه، إلا استنادا إلى أن الأمر كان قد استقر على ذلك في آخر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأمر منه.

ويبقى بعد ذلك السؤال التالي: ولكن جمع عثمان الناس على حرف واحد لم يوحّد القراءات توحيدا تاما، بل بقي الناس مع ذلك يختلفون في القراءة بأوجه من النطق والأداء ضمن ما يتحمله الحرف الواحد المعتمد كتابة، منذ عهد الرسول، والذي أصبح معتمدا في الكتابة والقراءة معا في عهد عثمان!

والجواب أن هذه القراءات المختلفة التي ظل الناس يقرءون بها حتى بعد عهد عثمان، إنما هي جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، وإنما سوغ القراءة بها أنها موافقة لخط عثمان الذي أجمع الصحابة فمن بعدهم عليه (2).

(1) الزرقاني على الموطأ: 1 - 363.

(2)

الإبانة لمكّي بن طالب ص 3.

ص: 63

وبيان ذلك أن الأحرف السبعة تتفاوت في درجة تخالفها وتباعدها عن بعضها، كما مرّ بيانه. فمنها ما يتعلق بكيفية النطق والأداء من قصر ومد ونحوهما دون أن تتغير به صورة الخط، ومنها ما يتغير به صورة الخط والرسم كإبدال كلمة بأخرى

فلما جمع عثمان الصحابة على خط واحد، وهو حرف قريش، ومنع المسلمين من القراءة بما خالفه، وقد كان خط المصحف خاليا- إذ ذاك من النقط والشكل- بقيت الأوجه الخاضعة لذلك الحرف الباقي، معتمدة في القراءة والتعبّد بها، طالما ثبتت روايتها عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالتواتر.

إذ الذي بطلت القراءة به من مجموع الأحرف السبعة، سواء قلنا إن ذلك كان في آخر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في عهد عثمان، إنما هو كل ما خالف حرف قريش ولم يقبله التأويل بحال، فبقي ما كان مندرجا ضمنه على أصله من الاعتماد وصحة القراءة به.

وهذا القدر المتفق مع الخط المعتمد للمصحف، من مجموع الأحرف السبعة، هو الذي سمي فيما بعد بالقراءات.

ص: 64