الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حقيقته كالكلام الذي يحسنه البشر، ولكن الله صرفهم عن مجاراته ومحاكاته، لما وقع كل ذلك ولا شيء منه.
ومع ذلك فإن تفسير إعجاز القرآن، كما يراه النظّام، هو في الحقيقة أقعد في باب الإعجاز وأدعى إلى معرفة أنه كلام الله عز وجل، إذ العجز عن الإتيان بالشيء المستطاع أعجب من العجز عن الإتيان بالأمر الرفيع الذي لا يدرك ولا يستطاع. ولكن المنطق هو الذي يتجافى عن رأيه وتحليله.
الدليل على ثبوت الإعجاز في كتاب الله في الجملة:
ونقصد بكلمة «في الجملة» قطع النظر عن أنواع الإعجاز القرآني، والأدلة التفصيلية الخاصة بكلّ منها. وإنما المراد هنا الوقوف على دليل علمي يصلح أن يكون برهانا على ثبوت المعنى الكلّي للإعجاز في القرآن، والشامل إجمالا للأنواع التي سنتحدث عن كلّ منها بشيء من التفصيل فيما بعد.
واعلم أنك مهما حاولت أن تكشف عن براهين الإعجاز، في القرآن، فلن تقع على برهان أبين وألزم من برهان التجربة والمشاهدة. وهو الذي عناه الخطابي في كتابه «بيان إعجاز القرآن» عند ما قال:
«
…
والأمر في ذلك أبين من أن نحتاج إلى أن ندل عليه بأكثر من الوجود القائم المستمر على وجه الدهر، من لدن عصر نزوله إلى الزمان الراهن الذي نحن فيه» (1).
وبيان ذلك أن العرب بدءوا فسألوا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية تدل على صدق دعوته ورسالته. فأخبرهم الله تعالى بأن القرآن أعظم آية تدل على ما يريدون، وذلك في قوله جل جلاله:
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ. قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (العنكبوت: 50 و 51).
(1) ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ص 21، طبع دار المعارف.
ولكن الكافرين أنكروا أن يكون في شيء من آي القرآن ما يدلّ على صدق محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته، وادّعوا أنه كتاب كغيره ليس فيه ما يعجز عن الإتيان بمثله، وأعرضوا عنه قائلين ما نقله الله عن لسانهم:
…
قَدْ سَمِعْنا، لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا، إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (الأنفال: 31)، وحينئذ تحدّاهم الله- أو قل تحدّاهم القرآن إن شئت- أن يأتوا بسورة من مثله. وأفرغ هذا التحدي في قوالب مختلفة من اللفظ والأسلوب، وأنهضهم إلى الإتيان بمثله أو بمثل أقصر سورة منه، بالتقريع والتحميس ومختلف أشكال التّحدي فقال لهم مرة:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا- وَلَنْ تَفْعَلُوا- فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ
(البقرة: 23 و 24).
وقال لهم مرة أخرى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (الإسراء:
88).
وقال لهم مهيجا ومقرعا: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ، بَلْ لا يُؤْمِنُونَ. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (الطور: 23 و 24).
وقد كان من مقتضى قولهم: لو نشاء لقلنا مثل هذا، وما سمعوه من هذا التقريع والتحدي وما كان يعتلج في صدورهم من الحقد والكراهية لهذا الذي جاءهم، النبي صلى الله عليه وسلم، وما كانوا منصرفين إليه من البحث الدائب عن أيّ وسيلة يمكن الاعتماد عليها، لإفساد أمره عليه ومنع دعوته من السير في طريق النجاح- نقول: كان من مقتضى ذلك كله أن ينهضوا لمعارضته ومجاراته بفصول من كلامهم البليغ، ليقطعوا بذلك خطره عنهم وليعلنوا بذلك لمن قد يتحدث بهذا الذي يأتيهم به من القرآن، أنهم قد جاءوا بمثله وخير منه.
ولكنهم- على الرغم من كل هذا- لم يفعلوا شيئا، ولم يستجيبوا لتحدي القرآن الكريم في محاولة ما، غير أنهم تحولوا عن قولهم السابق: لو نشاء لقلنا
مثل هذا، إلى زعم أن محمدا إنما يأتيهم بسحر
…
أو كهانة
…
أو شعر فريد في بابه، كما قال الله تعالى عنهم: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (الزخرف: 30).
ثم إن آيات التحدي هذه ظلت مسجلة في كتاب الله تعالى تقرع آذان العلماء والأدباء والشعراء والبلغاء على اختلاف نحلهم ومذاهبهم في كل عصر وقرن. فما استطاع واحد فيهم أن يسجّل إلى جانب هذا التحدي عملا ما يصلح أن يقال إنه قد عارض به القرآن فأتى بشيء حسن.
فهذا الواقع، من أجلى أدلة التجربة والمشاهدة على ثبوت صنعة الإعجاز للقرآن. إذ هو دلالة الواقع نفسه خلال التاريخ والقرون.
على أننا ندعم هذا البرهان بميزان الاستقراء التام الدّال على أن القرآن لا يمكن أن يكون كلام غير الله عز وجل فنقول:
إن عجز العرب كلهم عن الإتيان بمثل القرآن، دليل جليّ على أنه لا يمكن أن يكون من تأليف أحد منهم كورقة بن نوفل، وبحيرا الراهب، أو غيرهما
…
إذ إن الاحتمال مخالف لبرهان العجز الذي دلّت عليه التجربة المشاهدة، على أن القرآن فيه تعليق على أحداث وقعت بعد موت ورقة وبحيرة، فكيف يكون مع ذلك من إيحائهما أو تأليفهما.
ونمضي في الاستقراء والبحث، فنفرض أنه موحى به إليه صلى الله عليه وسلم من قبل الجن ما دام أن الدليل قام على أنه ليس من كلام البشر.
غير أن هذا الفرض أيضا يستلزم نتائج باطلة تكشف عن بطلانه.
فالجان الذي يفرض أنه أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الألفاظ، لا يوحي بها إليه إلا وهي مما يقدر الجن على إيجاد مثله. وليس ممكنا أبدا أن لا يقوم في وجه هذا المخلوق الجنّي أحد من أمثاله، يوحي بقرآن مثله حلال هذه القرون كلها إلى واحد من هؤلاء الناس الذين يشتهون أن يؤلفوا مثله، فلا يستطيعون هذا مع العلم بأن الله تعالى، كما تحدى بالقرآن الإنس، تحدى به الجن أيضا، فقال عز وجل:
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (الشعراء: 212).
وكما يوجد في الإنس من يحقدون على الحق مع العلم بأنه الحق، فيتمنّون لو أمكنهم إفساد صفة الإعجاز في القرآن بأيّ وسيلة ممكنة، كذلك يوجد في الجن من يحقدون مثل هذا الحقد، ويتمنّون مثل هذا التمنّي.
فلما لم نر إنسانا أوحى إليه من قبل أحد الجان بمثل القرآن، أو بمثل بعض منه، علمنا بدليل الواقع المشاهد أنه ليس من تأليف الجان ولا من إيحائهم.
وهكذا يتكامل دليل الاستقراء التام على أن هذا القرآن الذي تنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ليس من تأليف أحد من الناس الذين كانوا في عصره، وليس من تأليف جني نفثه في روعه أو ألقى به إليه.
فانحصر العقل عند ضرورة الإيمان بما يقوله ويقرره هذا القرآن نفسه، من أنه ليس إلا كلام الله عز وجل نزل به الروح الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم ليكون خاتمة المنذرين إلى العالم كله وهو ما يؤكده البيان الإلهي بقوله عز وجل:
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (هود: 14).
ثم إن من أهم ما يزيد هذا البرهان التجريبي المحسوس والمشاهد، جلاء ويقينا، ما قد تعلمه من أن قلة من الناس حاولوا فعلا أن يأتوا بشيء من مثل القرآن في بلاغته ومضمونه، فقد كانوا يأنسون في أنفسهم من القدرة ما يجعلهم أهلا لهذه المغامرة. لكنهم ما إن أقدموا على ذلك حتى نزلوا عن المستوى الذي كانوا يقدرون عليه، وجاءوا بكلام بارد مضحك يسخر بعضه من بعض.
فمنهم مسيلمة بن حبيب الكذاب الذي تنبأ باليمامة في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم فقد زعم أن له قرآنا آخر يوحى به إليه. وقد نقلوا له من قرآنه هذا كلاما سخيفا في كلّ من مبناه ومعناه.
وقد كان مسيلمة من فصحاء العرب، وكان إذا تكلم على سجيته جاء بكلام جيد، لا يوزن بشيء من السخف الذي انحطّ إليه عند ما حاول تقليد القرآن ومعارضته.
ومنهم آخرون، جاءوا مع فترات متقطعة من التاريخ، توفر لديهم حبّ المغامرة، وآنسوا في ملكاتهم القدرة على معارضة القرآن. ولكنهم حذروا الفضيحة والسخرية- على ما يبدو- وخافوا أن ينتهي أمرهم إلى مثل ما انتهى إليه أمر مسيلمة. فأخذوا يعارضون بعضا من سور القرآن على تكتم وفي نجوة من الناس، ثم إنهم لما عادوا إليه بالنظر والتأمل، فوجدوه غثاء لا قيمة له، وكلاما لا طعم فيه رأوا أن يخرجوا به على الناس بعد أن يلصقوه بمن خطر في بالهم من مشاهير الأدباء والكاتبين.
من هذا القبيل ما نسب إلى ابن المقفع من أنه اشتغل بمعارضة القرآن مدة ثم أقصر عن ذلك وتركه. وأغلب الظن أن الأمر إنما ألصق به إلصاقا على النحو الذي ذكرت.
ويقول الرافعي رحمه الله، معللا اختيار هؤلاء المجهولين لابن المقفع دون غيره:«وإنما نسبت المعارضة لابن المقفع دون غيره من بلغاء الناس، لأن فتنة الفرق الملحدة إنما كانت من بعده وكان البلغاء كافة لا يمترون في إعجاز القرآن وإن اختلفوا في وجه إعجازه، ثم كان ابن المقفع متهما عند الناس في دينه، فدفع بعض ذلك إلى بعض وتهيأت النسبة من الجملة» (1).
ومن هذا القبيل أيضا كلمات نسبت إلى أبي العلاء المعري، قيل إنه عارض بها القرآن. ونسبوا إليه من ذلك فيما نسبوا قوله:
(أقسم بخالق الخيل، والريح الهابّة بليل، إن الكافر لطويل الويل، وإن العمر لمكفوف الذيل، تعدّ مدارج السيل، وطالع التوبة من قبيل، تنج وما إخالك بناج).
(1) تاريخ آداب العرب لمصطفى صادق الرافعي 2/ 183.
قالوا: ولما أن قيل له: إن كلامك هذا لا يبدو فيه شيء من رواء القرآن وإشراقه، أجابهم: دعوه تصقله الألسن في المحاريب أربعمائة سنة، ثم انظروا كيف يكون.
وما من باحث، بل ما من متأمل عاقل، إلا ويدرك براءة المعري من هذا الهراء، ومن هذه الطريقة الغبية في الدفاع عن هذا الكلام، لأسباب من أهمها:
أولا: إن المعري لم يكن من الجهل بالواقع والتاريخ إلى حيث جعله يتوهم بأن الذين سجدوا لبلاغة القرآن، من العرب المشركين والمسلمين، لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن صقلت تلك الآيات أسماعهم أربعمائة سنة
…
ثانيا: إن الرجل عرض في كتابه، رسالة الغفران، لسخف جاء به ابن الراوندي في كتاب له سمّاه «التاج» وهو سخف يشبه هذا الذي ألصقوه بأبي العلاء مما نحن في معرض حديثه، فتناول تاجه هذا، ومزقه بلسانه وقلمه شرّ ممزّق ثم تحدّث عن القرن حديث العاقل الذي يكرم نفسه من حيث يوقفها عند حدّها. ويؤكد أن لا مطمع لأي معارضة أو تقليد لهذا الكتاب، لأي إنسان مهما سما في قدراته وطاقاته العلمية والبلاغية. وهذا كلامه عن ذلك في رسالة الغفران:
( .. وأما ابن الراوندي، فلم يكن إلى المصلحة بمهدي، وأما «تاجه» فلا يصلح أن يكون نعلا، ولم يجد من عذاب وعلا (أي ملجأ) .. ويجوز أن ينظم تاجه عقارب، فما كان المحسن ولا المقارب .. وهل تاجه إلا كما قالت الكاهنة:
أف وتف، وجورب وخوف. قيل وما جورب وخف؟؟ .. قالت: واديان في جهنم) إلى أن قال: (وأجمع ملحد ومهتد وناكب عن المحجة ومقتد، أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كتاب بهر بالإعجاز، ولقي عدوه بالإرجاز، ما حذي على مقال، ولا أشبه غريب الأمثال، ما هو من القصيد الموزون ولا الرجز
من سهل وحزون، ولا شاكل خطابة العرب، ولا سجع الكهنة دوي الإرب، وجاء كالشمس اللائحة نورا للمسرّة البائحة وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. وإن الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون، فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق، والزهرة البادية في جدوب ذات نسق فتبارك الله أحسن الخالقين» (1).
أفيمكن، فيما قد يتصوره عقل عاقل، أن يجرد المعري هذه السياط الملهبة على ظهر ابن الراوندي، ثم يعمد فيضع هو أيضا ظهره تحت لهيبها؟
لا شك أن الأمر في حقيقته كما قلنا، أن مجهولين غامروا، فخابت جهودهم، فألصقوا خيبتهم بمن قد أحبّوا أن يلصقوها به من مشاهير العلماء أو الأدباء.
فهذا هو الدليل المادي الملموس على أن هذا القرآن قد أعجز البشر أن يأتوا بمثله .. إذ قد تبين أن الناس- منذ نزول القرآن إلى هذا اليوم- فريقان اثنان:
فريق أعلن عجزه عن إمكان الإتيان بمثله أو بما يدانيه، دون سابق تجربة ومحاولة وفريق جرّب وحاول، وبذل كل ما يملك من جهد، فلم يأت من عمله بشيء.
ومن خلال موقف كلا هذين الفريقين اللذين انقسم إليهما جميع الناس إلى هذا اليوم، يتكامل الدليل العملي على ثبوت صفة الإعجاز في القرآن.
وإنما يعرف الدليل على إعجازه من هذا الوجه فقط، سواء عرفت وجوهه وأسبابه أو لم تعرف.
إلا أننا سنحاول الآن ترسيخ هذا الدليل، عن طريق تحليل هذه الظاهرة
(1) رسالة الغفران: 479 و 480.