الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عزّ وجلّ، وإن كان الحديث في ذلك يطول، ولكن كتابنا هذا مبني كما قلنا على إعطاء فكرة موجزة عن كل ما يتعلق بالقرآن.
تلك هي المظاهر الفنية لمنهج القصة في القرآن. وهي كما رأيت وليد الغرض أو الهدف التربوي الذي تدور القصة القرآنية على محوره.
أي فالعمل الفني في القرآن ليس هدفا ذاتيا، كما هي الصورة في أذهان كثير ممّن يتحدثون عن الفن أو يمارسونه بشكل أو بآخر
…
وإنما القيمة الفنية في القرآن عموما وفي موضوع القصة خصوصا، خادم لتحقيق الهدف التربوي، وإدخال المضمون القرآني من أيسر طريق إلى مقر اليقين من العقل ومكمن الوجدان من القلب.
…
القيمة التاريخية لقصص القرآن:
هل يحتاج هذا العنوان إلى بحث؟
إنك لو علمت أن النظر في كل موضوع أو بحث، إنما يتم عن طريق المنطق والعقل المتجرد الحر، لأدركت أن هذا العنوان كلام غريب، وأن كتابة صحيفة أو صحيفتين تحته تضييع للوقت ومعابثة للبديهيات.
ولكنك تعذرني في أن أكتب في البدهيات، حينما تعلم أن كثيرا من البدهيات أصبحت في عصرنا نظريات قابلة للجدل والبحث.
إن العقل البشري لم يمرّ بمحنة كتلك التي يمرّ بها في هذا العصر، وحسبك مظهرا من مظاهرها أن تقام فرضيّة ما طبق غرض معين أو شهوة نفسية أو حقد مستحكم، ثم يساق إليها العقل سوقا، فيراد على تأييد الفرضية ودعمها ولو بزيف من الأدلة والبراهين، ثم يراد على تفنيد ما يخالفها ولو بزيف من الأدلة والبراهين أيضا.
وكم من فرق بين أن ينطلق الإنسان من نقطة الصفر، ليسير من وراء ما يهديه إليه عقله المتجرد الحر، وبين أن يخطّ بغريزته السبيل التي يشتهيها ثم
يعمد فيقود عقله فيها، مكبّلا بالأغلال مسيّرا تحت لهيب السياط!
…
ومع هذا، فلم أكن أتصور أني بحاجة إلى أن أبحث شيئا ما تحت عنوان: القيمة التاريخية لقصص القرآن، أو أن أنفق أيّ قدر من الوقت في البدهيات، إلى أن اطّلعت على كلام في منتهى الغرابة والعجب جاء في كتاب:
الأدب العربي الحديث، من مقررات طلاب البكالوريا الأدبية (1).
يقول الكاتب في صفحة: 302 تحت عنوان نماذج قصصية:
(إن مكتبتنا العربية تتدفق بعباب زاخر من قصص وأحاديث ومحاورات وأسمار وخرافات يتجلّى بها وجه المجتمع العربي وتتوضح فيها سماته، وتختلج روحه وحيويته. فالقرآن الكريم أشار إلى كثير من القصص إشارات خاطفة ليبيّن مواضع العبرة منها. ولا شك أن إشارات القرآن الكريم إلى هذه القصص دليل على أنها كانت من القصص الشعبي السائر الذي يتداوله الناس في جزيرة العرب)!! ..
دعك من الطريقة المقصودة إلى إيهام أن منبع القصص القرآني إنما هو ما كان يفيض به المجتمع العربي من خرافات ومحاورات وأسمار. ولكني أريد أن أعلم: في أيّ مصدر تاريخي أو أدبي أو ديني أو جغرافي أو فلسفي، ثبت أو أشير إلى أن ما جاء به القرآن من قصص عاد وثمود ونوح وفرعون ويوسف وأهل الكهف، إنما كان من القصص الشعبي السائر الذي كان الناس يتداولونه في أسمارهم ونواديهم ومحاوراتهم؟! .. بل حسبي أن أعلم اسم واحد فقط من العرب وقف أو جلس في ناد من نوادي العرب يتحدث بكلمة واحدة من أيّ قصة جاء بها القرآن من بعد
…
حسبي ذلك لألمح بارقة لرائحة دليل علمي، لكي أسرع فأقول إن بالإمكان أن يكون هذا صحيحا!!.
يا عجبا!! .. أيكون القرآن كاذبا من حيث صدق الكاتب؟!.
القرآن يقول:
(1) مما نحمد الله عليه أن هذا الكتاب ألغي أخيرا واستبدل به غيره، واختفى منه هذا الغشاء، إلا أنه لا يزال مغروسا في بعض الأذهان.
تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا، فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (1).
أما الكاتب فيقول: لا شك أن إشارات القرآن إلى هذه القصص، دليل على أنها كانت من القصص الشعبي السائر الذي يتداوله الناس في نواديهم (2).
أفكان في العرب من يسكت على قوله تعالى:
…
ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ
…
لو أنها كانت حقّا من القصص الشعبي الذي يتداوله العرب في أسمارهم؟
أو ما كانوا يتخذون من هذه الآية، إذا، راية يرفعونها ويتشبثون بها، ليعلنوا عن افتئات الرسول عليهم، وليشوهوا بها سمعته عند كل من يعرفه من الناس؟.
فأين هم الذين أنكروا عليه هذه الآية؟. وأين هم الذين قالوا له: بل نحن نعرف هذه القصص قبل أن تحدّثنا عنها. وإنها من الأساطير التي تفيض بها مجالسنا ونوادينا؟.
أين الذي قال هذا الكلام للرسول صلى الله عليه وسلم؟ وليكن واحدا فقط من جميع العرب، وليكن من خصومه الألدّاء، بل وليكن، إذا شاء هذا الكاتب، كاذبا مثله.
فنحن نكتفي بأي كلمة، من أي عربي عاش في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، تصلنا بأيّ سند صحيح أو ضعيف تكذّب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية وتثبت عكسها من أن العرب كانوا يعلمون هذه القصص وأنها كانت من فكاهات أسمارهم ونواديهم.
(1) هود: 40.
(2)
محل إنكارنا على هؤلاء، دعواهم أن العرب كانوا على علم بتفاصيل هذه القصص كما جاء بها القرآن. فلو قالوا: إنهم كانوا قد سمعوا من قبل بعناوينها أو بأبرز أحداثها على وجه الإجمال، كسماعهم باسم الطوفان، وعاد، وثمود، والفراعنة، لما كان في ذلك ما يستعظم ويدعونا إلى الإنكار.
وإلى أن يأتينا الكاتب بأيّ ثبت أو صورة ثبت من أي مصدر علمي يستر به سوأة كلمته العارية هذه، نقول له: لعلّك يا هذا نمت نومة ثقيلة صعد فيها إلى دماغك سحاب مركوم من أبخرة معدتك أو أحقاد نفسك، فحلمت أنك تسمر في مجلس المتنبي مسيلمة الكذاب وعن يمينه النبيّة الأخرى سجاح. وأخذت تسمع القرآن كلّ منهما، حتى استفزك الطرب وتملكتك النشوة من جمال ما تسمع، فصحوت وقد انطبع قرآنهما الكريم في خيالك!
…
فعن ذلك القرآن جئت تقول هذا الذي تقول. ونعوذ بالله من أبخرة تستقر من الرأس في مكان العقل، فتجعل الرجل يفكر بالسمادير والأوهام بدلا من أن يفكر بالمنطق المشرق الصافي.
…
وبعد، فما هي الوثائق التاريخية التي تعرف بها أحداث الجزيرة العربية وأوضاعها في صدر الإسلام؟
يجمع كل الباحثين على أن القرآن هو أول وثيقة في هذا الصدد. وما من باحث يدرس أحوال الجزيرة العربية في صدر الإسلام إلا ويضع القرآن أول مستند لدراسته وجمع معلوماته، مهما كانت عقيدة هذا الباحث في مصدر القرآن وجوهره.
إذا
…
كيف يجمّع الباحث المؤرّخ معلوماته عن الجزيرة على ضوء القرآن وأبحاثه وطابعه؛ حتى إذا وقف أمام أخباره عن الأمم الماضية وأحداثها ناقض نفسه قائلا: إن هذه الأخبار يعوزها السند التاريخي والميزان العلمي الصحيح؟!.
سل جميع مؤرخي الشرق والغرب عن أول مصدر يعتمدون عليه في ما لهم من معلومات عن المسيح عليه الصلاة والسلام وعن موسى وخروجه من مصر واجتيازه (تيه سيناء) إلى فلسطين، يجيبوك إنه: الكتب المقدسة.
أفتكون هذه الكتب مصدرا تاريخيا علميا نزيها، ثم لا يكون القرآن واحدا من هذه المصادر على الأقل؟! ..
إن الأمر في هذا يعود إلى واحدة من اثنتين:
إمّا أن تؤمن بأن القرآن ليس أكذوبة سجّلها محمد صلى الله عليه وسلم على ربّه عز وجل وإنما هو كلام الله ووحيه إليه، بلّغه إلى الناس بصدق وأمانة. وعندئذ فإن التاريخ هو الذي يستمدّ من حديث القرآن وأخباره، وليس العكس، وليس لك من سبيل إلى الشك بأي حرف منه.
وإما أنك لا تؤمن به كلاما من عند الله عز وجل، مهما قامت أمامك الأدلة والبراهين، وعندئذ نقول لك: لقد دلّ التاريخ بعمومه ودلّت السيرة النبوية بخصوصها، على أن ما جاء به القرآن من أخبار الأمم البائدة كان شيئا يجهله العرب جهلا تامّا، وإنما كان يعلم بعضا منه أهل الكتاب الذين درسوا التوراة والإنجيل. وقد كان اليهود هم الذين يساكنون العرب في جزيرتهم، وكانوا- كما هو معلوم- ضنينين بما عندهم من هذه المعلومات، ولم يكونوا يبوحون بها إلى غيرهم بأيّ شكل ولأي سبب.
وهذه الحقيقة التي لا ينكرها أيّ مثقف منصف، هي التي كوّنت معنى الإعجاز في القصص القرآني، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أميّا لم يقرأ كتابا ولا خطّه بيمينه ولم يدرس أو يتردد على واحد من أهل الكتاب، وكانوا كما قلت ضنينين بكل ما عندهم.
وقد تجلى هذا الإعجاز أول ما تجلّى لهؤلاء الكتابيّين الذين عاصروا بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث رأوا فيه أبرز برهان على صدق نبوّته ورسالته.
روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال: بعث قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة ليسألوهم عن محمد، فخرجا حتى أتيا المدينة،
فسألا أحبارها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفا لهم أمره وبعض قوله. فقالوا لهما: سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهنّ فهو نبي مرسل، وإلا فرجل متقوّل: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإنهم قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طوّال بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فرجعا إلى قريش وأخبراهم بقول الأحبار، فجاءوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسئلة الثلاثة فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبركم غدا عمّا سألتم، ولم يقل: إن شاء الله. فتلبث الوحي
خمسة عشر يوما، وأحزن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءه جبريل بسورة الكهف، وفيها عتاب له على حزنه وفيها يقول الله عز وجل: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وفيها قصّ الله خبر أصحاب الكهف، والرجل الطوّاف وهو ذو القرنين، وأنزل معها قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (1).
فهذا الخبر يدلك على أن ما تضمنه القرآن من قصص الأمم الغابرة، حقائق تاريخية تعتمد على وثائق ومستندات لا تقل أهمية عن تلك المستندات التي يعتمدها الكافرون بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وأن المشركين لم يكونوا على علم بها.
فإن كنت تجحد بكل بحث تاريخي يعود إلى عصر الجاهلية وصدر الإسلام وتكذّب كل مرجع أو مستند فيه فلك شأنك ولنقاش ذلك مجال آخر، أما إن كنت تجحد بالقرآن وحده، من حيث تعتمد على روايات الشعر الجاهلي وفحواه واستنتاجاته، فإن من العبث العجيب والتناقض المضحك أن تعتمد على دلائل استنتاجية لا تقوم إلا على محض الخيال والوهم، ثم تلوي الرأس متشككا فيما يحدّثك عنه القرآن ويخبرك به.
ولا ينبغي أن تلتبس عليك حقيقة القصة القرآنية بالأمثلة التي يضربها على سبيل التقريب والتشبيه. فلكلّ منهما أسلوبه المتميز، وليس في الناس من يجهل الفرق بين مثل يضرب به، وقصة تروى وتنقل. نقول هذا ونحن نعلم أن في الناس من يتجاهلون الفرق ويغمضون أعينهم عمدا، ثم يذهبون يقررون أن القصة في القرآن ليست أكثر من أمثلة تضرب.
وبدهي أن أيّ عاقل لا يمكن أن يصل به الغباء واللّبس إلى درجة أن يتوهم أن قصة مريم وعيسى وهود ونوح وقصة موسى وفرعون، وأصحاب الكهف كلّ ذلك أمثلة تضرب.
والخلاصة، أن من آمن بأن القرآن وحي من عند الله، علم بذلك أن
(1) انظر سيرة ابن هشام: 1/ 295، وتفسير ابن كثير وابن جرير الطبري في أول سورة الكهف.
القصة القرآنية هي في موضع القطع الذي لا يلحقه أيّ ريب. ومن لم يؤمن بذلك، أدرك هذه الحقيقة نفسها إذا ما تأمل في مصادر السيرة والتاريخ وعلاقة القرآن بالكتب السماوية السابقة.
أما من اشتهى أن لا يدرك هذه الحقيقة، فليس أمامه إلى ذلك إلا سبيل واحد، هو أن يدّعي أن القرآن يكذب!
…
وذلك لأن القرآن يقول عن كل ما رواه من الأخبار والقصص:
ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (يوسف: 111).
أما نحن فنقول: صدق ربّ العالمين.