الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موضوعات القرآن وطريقة عرضه لها
تدور بحوث القرآن كلها على غرض رئيسي واحد، هو دعوة الناس كلهم إلى أن يكونوا عبيدا لله عز وجل بالفكر والاختيار كما خلقهم عبيدا له بالجبر والاضطرار (1).
وتلك هي خلاصة ما ينطوي عليه الدين الحق الذي ألزم الله به عباده منذ أن خلق آدم عليه الصلاة والسلام إلى أن بعث خاتم الأنبياء محمدا صلى الله عليه وسلم.
وكلّ ما في القرآن من موضوعات، متفرع عن هذا المقصد الرئيسي الأسمى.
إذ كان لا بدّ، لكي يدين الناس بالعبودية لله وحده من أن يطّلعوا على دلائل وجوده ووحدانيته وأن يستيقنوا قيام الناس لرب العالمين من بعد الموت، وأن الذي ينتظرهم إذ ذاك إما سعادة عظيمة في جنات الخلد أو شقاء وبيل في نار تتلظى. فكان لا بدّ من أن يعرض القرآن لموضوع العقيدة وكلياتها، وضرورة إيمان كل إنسان عاقل لها.
فهذا هو الموضوع الأول، وطريقة عرض القرآن له تقرير كليات العقيدة التي لا بدّ من الاعتقاد بها، من وحدانية الله عز وجل وبعث الناس بأرواحهم وأجسادهم يوم القيامة، والحساب والصراط والجنة والنار وما إلى ذلك، ثم عرض الأدلة على هذه الكليات، وأهمها وجود الله ووحدانيته بأسلوب يشترك في
(1) انظر ص 120 من هذا الكتاب.
فهمه سائر أصناف الناس وطبقاتهم، ولذلك تراه ينبّه الناس إلى أدلة الكون وما يشيع فيه من دقة النظام وروعة الخلق وجمال التنسيق، دون أن يعرض لشيء من الأدلة المنطقية الفلسفية أو العلمية التي تختصّ بفهمها فئات معينة من الناس، اللهمّ إلا أن تدل الآية على شيء من ذلك من وراء دلالتها على القدر المشترك الذي يفهمه الناس كلهم، ففي القرآن من ذلك كثير وقد مرّ بيانه فيما مضى.
وإذا تأملت في معالجة القرآن لموضوع العقيدة، فإنك قلّما تجده يعرض للدليل على أصل وجود الله عز وجل، وإنما هو يقرر وحدانيته وينبّه العقول إلى الأدلة المختلفة على ذلك. والسبب هو أن وجود الله عز وجل أمر مفروغ منه لا نزاع ولا حاجة إلى البحث فيه، وإنكار وجوده أو الشك فيه شيء لا يتصوره عقل عاقل. فهذا ما أراد القرآن أن يوحي به عند ما لم يعرض للاستدلال على أصل وجود الخالق عز وجل إلا في آيات قليلة. والحقيقة أن نزعة الحديث عن وجود الله والشك فيه أو فرض عدم وجوده، شيء لم يعرف إلا في القرون الأخيرة، أما فيما مضى فقد كان الإيمان بوجود الخالق جل جلاله أمرا مفروغا منه، أما مظاهر الضلال فإنما كانت تحوم حول تفسير هذا الخالق أو توهم تعدده ووجود شركاء له، أو توهم حلوله في الأفلاك العشرة أو العقول العشرة كما كان يتخيل بعض فلاسفة اليونان.
ثم كان لا بدّ من عرض العبر والآيات المختلفة التي مرّت مع التاريخ كي يستنير بها العقل في مجال اعتباره واستدلاله، وكي تتجلى مظاهر عظمة الله عز وجل وقدرته فيما سجله الزمن من واقع وأحداث. فمن أجل ذلك عرض القرآن لموضوع آخر هو: القصص، قصص الأمم الخالية وما آل إليه أمرها من الهلاك والدمار، وقصص كثير من
الأنبياء الذي تعاقبوا على الدعوة إلى دين واحد، وكرروا إبلاغ الناس حقيقة واحدة لم يختلفوا عليها ولم يتفرعوا عنها في طرائق متعددة أو متباينة. ولا نطيل الحديث عن القصة وكيفية عرض القرآن لها، فإن لذلك فصلا خاصا به سيأتي إن شاء الله.
ثم كان لا بدّ أن تقوم حياة الناس في دنياهم على نظام معين يضمن لهم
مصالحهم وأسباب عيشهم، ويجمعهم على صراط من التحابب والتعاون، فكان من مقتضى ذلك أن يعرض لموضوع ثالث، هو: التشريع، وقد أوضح القرآن في عرضه لهذا الموضوع الأحكام المتعلقة بسائر المعاملات المدنية المختلفة، حيث قرر الأحكام المتعلقة بالبيوع والإيجار والشركات وعامة العقود المالية وغيرها، وقرر الأحكام المتعلقة بمختلف الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وميراث وسائر ما يتعلق بذلك من أحكام الأسرة، وتحدّث عن الجنايات والجرائم المختلفة وعقوباتها، وعمّا ينبغي أن تكون عليه علاقة المسلمين، كدولة، بالدول والجماعات الأخرى. والحاصل أن القرآن قد عرض لعامة ما يسمى اليوم بالقوانين المدنية الجنائية، والنظم الدستورية والإدارية، والقانون الدولي.
غير أن طريقة عرض القرآن لهذه النظم والأحكام، اختلفت إلى ثلاث طرق وذلك حسب اختلاف متعلقات تلك الأحكام.
فمنها ما نصّ القرآن على حكمه بعبارات حاسمة واضحة منفصلة لا تعليق فيها ولا إبهام أو إجمال، وذلك مثل فريضة الميراث وحقوق كلّ من الورثة في مال الموروث، ومثل عقوبات بعض الجرائم كالزنا والسرقة والقذف وجريمة القتل وقطع الطرق؛ ومثل كثير من مسائل الأحوال الشخصية.
ومنها ما اكتفى ببيان حكمه من وجوب أو حرمة أو إباحة
…
وعرّف بها إجمالا، ثم وكل إيضاح الشروط والصفات وكيفية التطبيق إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك مثل عامّة العبادات من صلاة وصيام وحج وزكاة، ومثل كثير من أحكام المعاملات.
ومنها ما وضع فيه المبادئ الأساسية وقرر بحقه الأحكام الكلية ثم أناط تعيين الاحتمالات ووجوه التطبيق فيه بأعراف الناس وتطورات الزمن والأحوال.
ثم كان لا بدّ، لتقوم حياة الناس على مبدأ قويم ونظام صالح، ولتتوفر ضمانات تطبيق ما وضعه أمامهم من الأحكام التشريعية- من أن يحيا القلب الإنساني بمراقبة الله عز وجل في كل الظروف والأحوال وأن تقوم بين الناس
وشائج من الأخلاق الفاضلة والمحبة والإيثار وما إلى ذلك. فمن أجل ذلك عرض القرآن لموضوع رابع وهو: الأخلاقيات، فعني به عناية كبرى، وجعله من الثمرات الأولى للإيمان بالله عز وجل، وأوضح أن هناك تلازما شديدا بين عبودية الإنسان لله عز وجل والسلوك الأخلاقي الفاضل في المجتمع.
والطريقة القرآنية لعرض هذا الموضوع، أنه يربط بين مبادئ العقيدة والإيمان بالله عز وجل، والمبادئ السلوكية في الحياة، ويكشف عن التلازم الذي بينهما، وأن الثانية دائما نتيجة وثمرة للأولى.
فهو يوضح لك الرابطة المتينة بين اعتقادك بأنك عبد لله عز وجل، والتواضع ولين الجانب لإخوانك من الناس، ويأمرك بالثاني من حيث أمرك وألزمك بالأول فهو يقول مثلا: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (1).
وهو يوضح لك التلازم بين اعتقادك بأن الرزق إنما يأتي من عند الله عز وجل وبتقديره، وبأن المال هو مال الله جعل الناس خلفاء فيه، وبين ما ينبغي أن تلتزمه بصدد الإنفاق، من القصد في ذلك وعدم الإقتار ولا الإسراف، ويوضح لك أن الثاني نتيجة للأول دائما. فهو يقول: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (2) ثم يوضح أساس هذا الأمر قائلا: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (3).
أي فالقرآن يقوّم المعايير الأخلاقية تقويما دينيا، ويجعل وجه ضرورة الالتزام بها الإيمان بالله عز وجل بكل ما يستلزمه من توابع ومتممات، بل إنه ليهدد أولئك الذين يفضلون العثوّ والفساد في الأرض بأخلاقهم السيئة، بأن أفئدتهم وعقولهم لن تتفتح لفهم الحقائق وأنها ستظل منصرفة عن أن تعي شيئا
(1) الفرقان: 63.
(2)
الإسراء: 29.
(3)
الإسراء: 30.
من دلائل الإيمان بالله، فهو يقول مثلا: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها
…
(1).
فهذه جملة الموضوعات التي يتناولها القرآن بالبحث وتلك هي طريقة عرضه لها ذكرناها بسرعة واختصار، وهي كما قلت لك فروع عن المقصد الأول الذي خاطب القرآن من أجله البشر، ألا وهو أن يدخل الناس في العبودية لله بالإيمان والعبادة طوعا كما أدخلهم فيها بالفطرة والطبع كرها.
(1) الأعراف: 146.