الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدّمة الطبعة الثّالثة
الحمد لله وليّ كل نعمة، يمنّ بالتوفيق ثم يثيب عليه، ويلهم الحمد ثم يجزي به! .. وأشهد أن لا إله إلّا الله تفرّد بالربوبية المطلقة فلا ربّ ولا معبود ولا حاكم سواه. ظهر في آثاره وبديع مخلوقاته، فلو رأته العين لم يزدد برؤيتها له ظهورا، وخفي في كنهه وحقيقته، فمهما تأمله العقل وانساح وراء تصوره الخيال لم يبلغ العقل ولا الخيال منه شيئا.
والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وأسأله سبحانه وتعالى أن يمتّعني بتوفيق من لدنه، وأن يهبني من نعمة الإخلاص لوجهه الكريم ما يقيني من حظوظ نفسي ويعتقني من سلطان كل مادح أو قادح.
وبعد: فقد شاء الله تعالى- وهو المتفضّل الكريم- أن أقدّم إلى القرّاء طبعة ثالثة من هذا الكتاب، بعد أن وفّقني سبحانه وتعالى، فأدخلت عليه تهذيبا تناول متفرقات كثيرة من جمله وألفاظه، وألهمني فزدت فيه بحثا من أهم ما يتعلق بآداب القرآن وعلومه، وهو: الأمثال في القرآن.
ولئن كان في ذلك ما يدلّ على أن الكتاب قد سار خطوة أخرى نحو الكمال، فإنه لدليل في الوقت ذاته على أنه كان ولا يزال يتّسم بالنقصان. وإنه لمن أجلى مظاهر الضعف والقصور في الإنسان أن يشعر
بالنقص في كل شئونه مع تصوره الكمال المطلق بعقله، فيشتدّ بها نحو غاية الكمال. وكلما ارتقى بها إلى درجة من درجاته اكتشف مزيدا من البعد بينه وبين غايته، فهو لا يزال يفرّ من النقصان لأن حبّ الكمال مغروس في كيانه، ولا يزال الكمال من فوقه لأنه من خصائص الخالق وهو مخلوق، ولأنه من صفات الربّ جل جلاله وهو عبد ضعيف!.
فلئن وجدت أيّها القارئ في الكتاب- بعد هذا التهذيب الذي ذكرت- بقايا من مظاهر القصور والنقص- ولعلّك تجد منها الكثير- فذلك لأني لم أستطع أن أتحرر عن سمة النقص في ذاتي، وما دان لي ذلك، وليس لي من مطمع فيه. ولئن عثرت فيه على مظاهر التقدّم نحو الكمال، فذلك من فضل الله عليّ وتوفيقه. ولقد رأيت أن العبد كلما ازداد بصيرة بضعفه وركونا إلى عبوديته زاده الله جل جلاله قربا إليه وتفضلا وإحسانا، وكلما ازداد نسيانا لضعفه وتعاظما في نفسه، زاده الله تعالى بعدا عنه ووكله إلى نفسه وشأنه فلم يأت منهما بطائل.
وإني إذ أشكر الله تعالى على أن ستر نقصي بتوفيقه، فإني لأشكر سائر الإخوة القرّاء الذين كانوا ولا يزالون يمنّون عليّ بملاحظاتهم واستدراكاتهم، ومن لم يشكر النّاس الذين ألهمهم الله تعالى تذكيره، لم يشكر الله الذي وفّقه للاستفادة من ذلك التذكير! ..
وليس العيب أن يعترف العبد بقصوره فيتلقّى بيد الشكر نصيحة الناصحين، وإنما العيب كل العيب ما قد يتلبس به أحد رجلين: رجل يستكبر عن قبول الحق فهو يتباهى بين الناس بالباطل الذي ألصقه فيه كبره، وآخر يلتقط مظاهر النقص في الآخرين فيشهرها بين الناس على رماح من ضغينته وحقده. ينبش السيئة من القبر الذي دفنت فيه وإن محاها ألف حسنة وراءها، ويدسّ الحسنات في التراب مهما كان للناس خير في تجليتها وظهورها! ..
فأنا أضرع إلى الله عز وجل أن لا يجعلني واحدا من هذين الرجلين، وأن يحشرني إليه بقلب سليم قد أخلص لله في دينه، وأخلص مع الناس في أخوّته لهم وصدقه معهم.
وأسأله سبحانه أن يمتّعني بمرضاته والإخلاص لوجهه، وأن يختم لي بصالح الأعمال إنه أرحم الراحمين وإنه وليّ كل فضل وتوفيق.
محمّد سعيد رمضان البوطي