الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والحركات في مقدار، وأن ذلك إنما قدّر تقديرا بعلم اللطيف الخبير، وهيهات للمقاييس البشرية أن تقرى على ضبط الكلام بهذه القوالب الدقيقة.
وعلى الرغم من أن القرآن لا ينضبط بشيء من أعاريض النظم وأوزانه المعروفة، إلا أنك تشعر مع ذلك بتوقيع موزون من تتابع كلماته، بحيث يؤلّف اجتماعها إلى بعضها لحنا مطربا يفرض نفسه على صوت القارئ العربي كيفما قرأ، إذا كانت قراءته صحيحة. كما تلاحظ لدى قراءتك لهذه الآيات.
ولعلّ من أبرز آثار هذه الظاهرة، أن حفظ القرآن غيبا أيسر على الإنسان من حفظ سائر أنواع النثر. ذلك لأنه منضبط بأوزان وإيقاعات خاصّة به، فيسهل بذلك حفظه والتنبّه إلى الخطأ الذي قد يقع القارئ فيه عند ما يقرؤه غيبا. بل المعروف لدى من مارس حفظ القرآن أن الخطأ قلّما يقع في حفظه وضبطه إلا من وجه واحد، هو ما قد يكون بين الآيات من تشابه، فيأتي الخطأ من خلط آية بأخرى والوقوع في اللبس بينهما.
ثانيا: دلالتها بأقصر عبارة على أوسع معنى:
وهذه ظاهرة جليّة تستطيع أن تتبينها في طريقة التعبير القرآني، مهما اختلفت بحوثه وموضوعاته لا تجد في الجملة القرآنية كلمة زائدة يصلح المعنى مع الاستغناء عنها، ولا تستطيع أن تترجم معناها بألفاظ عربية من عندك إلا في عدد من الجمل مهما حاولت الإيجاز والاختصار.
ولنستعرض طائفة من الأمثلة على ذلك، والقرآن كله، كما قلنا، مثال على هذه الحقيقة. حدّثنا القرآن عن الضمانات التي أعطاها لآدم بعد خلقه، مما يحتاجه الإنسان في حياته من كل ما يدخل في مقوّمات بقائه وعيشه. لقد وضع البيان الإلهي هذه الاحتياجات كلها في جملتين فقط وهما قوله عز وجل خطابا لآدم:
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (طه: 118 و 119)، فتأمل في هاتين الجملتين، وألفاظهما وكيفية صياغتهما وكيف أنهما جمعتا أصول معايش الإنسان كلها من طعام وشراب وملبس
ومأوى. وانظر كيف عبّر عن تأمين حاجته إلى المسكن والمأوى بقوله: ولا تضحى
…
أي لك أن لا تصيبك شمس الضحى أو يؤذيك لفحها بما نهيئه لك من المسكن الذي يؤويك (1).
وانظر إلى هذه الآية وقد تضمنت حكما من الأحكام الشرعية المهمة.
وهي قوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (الأنفال: 58). تأمل صياغة هذه الآية وطريقة دلالتها على المعنى الذي تعبّر عنه، تجد نفسك أمام أسلوب فريد ليس من دأب الإنسان أن يتأتى له التعبير بمثله.
وإليك ما يقوله ابن قتيبة وهو يحاول التعبير عن معنى هذه الآية بألفاظ عربية من عنده:
(ألا ترى أنك لو أردت أن تنقل قوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ
…
الآية، لم تستطيع أن تأتي بهذه الألفاظ مؤدية عن المعنى الذي أودعته حتى تبسط مجموعها، وتصل مقطوعها، وتظهر مستورها فتقول: إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد فخفت منهم خيانة ونقضا فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطت عليهم وآذانهم بالحرب، لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على استواء) (2).
وحسبك أن تعلم أن الآيات المتضمنة لأحكام التشريع، قد لا تزيد على ثلاثمائة آية، إلا شيئا يسيرا وهي لا تبلغ معشار النصوص الفقهية التي دوّنها الفقهاء فيما بعد، ولكن قد ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن من أبرز مظاهر الإعجاز في هذه الآيات أن الطريقة الفريدة في صياغة وتراكب جملها، تجعلها متسعة للدلالة على ذخر من المعاني الكثيرة التي لا يمكن التعبير عنها بطريقتنا المألوفة، إلا بواسطة مجلدات
…
خذ على سبيل المثال هذه الآية:
(1) هذا إن اعتبرنا أنه كانت في الجنة شمس حينما أسكن الله آدم فيها، أما إن قلنا لم يكن ثمة شمس ولا ظل إذ ذاك، فقوله: ولا تضحى مجرد بيان بأنه لن يصيبه أذى من حرّ لافح.
(2)
تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة: 16.