الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كل مرة خبرا جديدا يشوقك أمره وتفجئك أحداثه، وشعرت أن النفس بحاجة إلى أن يعرض عليها هذا الخبر من كلا الجانبين وبكلا الأسلوبين.
على أن هذا الغرض يعود إلى يعود إلى ما ذكرناه من كون القرآن خطابا للناس كلهم، ذلك أن في الناس من لا يكفيه الموجز من القول والخلاصة في الحديث، حتى ينصت إلى الأمر مفصلا مطنبا، وفي الناس من تكفيه الخلاصة ويقنعه الإيجاز، فاقتضى الأمر أن تتصرف المعاني القرآنية في طرائق مختلفة من التعبير والبيان. وقد اهتم الجاحظ بهذه الحكمة في التكرار القرآني أكثر من غيرها (1).
الخاصّة الخامسة (تداخل بحوثه وموضوعاته):
فأنت لا تجد فيه ما تجده في عامّة المؤلفات والكتب الأخرى من التنسيق والتبويب حسب الموضوعات، وتصنيف البحوث مستقلة عن بعضها. وإنما تجد عامّة موضوعاته وأبحاثه لاحقة ببعضها دونما فاصل بينها، وقد تجدها متمازجة متداخلة في بعضها في كثير من السور والآيات.
وقد حسب بعض محترفي الغزو الفكري أن هذه الخاصّة القرآنية ثلمة يمكن الدخول منها إلى اصطناع نقد أو محاولة تهديم أو بثّ تشكيك، فأخذوا يتساءلون عن موجب هذا التداخل والتمازج في معاني القرآن، ثم راحوا يجيبون عن تساؤلهم هذا بأنها البدائية والبساطة في منهج البحث
…
وفيه إلماح- كما ترى- إلى أنه لا يعدو كونه مجموعة أفكار منتثرة أنتجها فكر إنسان!
…
والحقيقة، أن هذه الخاصّة في القرآن، إنما هي مظهر من مظاهر تفرده واستقلاله عن كل ما هو مألوف ومعروف من طرائق البحث والتأليف
…
وواضح لكل ذي عينين أن هذا الكتاب- وهو كتاب عربي مبين- نسق غير معهود في منهجه وأسلوبه وتعبيره؛ ويدلّك على ذلك كل هذه الخصائص الذي ذكرناها وشرحنا طرفا منها.
(1) انظر البرهان للزركشي: 3 - 12، وإعجاز القرآن للرافعي: 221، وإعجاز القرآن للباقلاني:
ص 106 و 107.
هذا شيء
…
وشيء آخر، هو أن من الخطأ في أصل النقد والبحث أن نحاكم القرآن في منهجه وأسلوبه، إلى ما تواضع عليه الناس اليوم، أو قبل هذا اليوم، أو إلى ما سيتواضعون عليه مع تطور الزمن- من طرائق البحث والتأليف وتنسيق المعايير.
فهذا الذي يتوافق عليه الكاتبون من تقسيم كتبهم إلى أبواب وفصول، ثم تضمين كل فصل منها لجملة معينة من الأبحاث والمعاني، ليس مردّه إلى أمر إلزامي أو مثل أعلى يفرض عليهم ذلك، وإنما الأمر فيه تابع للأغراض المتعلقة به، وهو في جملته عرف يعتادونه وطور يمرون عليه ويجتازونه بعد حين إلى غيره.
فما هي الحقيقة الثابتة التي تلزم كتاب الله تعالى بأن يسير في منهجه على طور من أطوار هؤلاء العباد وأن يتبع تنسيقهم الذي يضعون، أو أن تصنّف أبحاثه ومعانيه حسب المنهج الذي يشاءون؟!. هذا إلى أن المناهج- كما قلنا- تتناسخ والأساليب تتطور.
على أن الخاصّة تابع لحكمة عليا يدور معها المعنى القرآني كله، ذلك أن جملة ما في القرآن من مختلف المواضيع والمعاني الجزئية، إنما يدور جميعه على معنى كلّي واحد، هو دعوة الناس إلى أن يكونوا عبيد الله بالفكر والاختيار كما خلقهم عبيدا له بالجبر والاضطرار، وأن يدركوا أن أمامهم حياة ثانية بعد حياتهم هذه، وأن يستيقنوا ضالة هذه الحياة بالنسبة لتلك، في كلّ من خيرها وشرّها وسعادتها وشقائها.
فالقرآن شأنه أن يبثّ هذا المعنى الكلي الخطير من خلال جميع ما يعرضه من الأبحاث والموضوعات المختلفة من تشريع ووعد ووعيد وقصة وأمثلة ووصف؛ وإنما يتحقق ذلك بهذا النسق الذي جرى عليه من التداخل والتمازج في المعاني.
فهو حينما يبدأ بعرض قصة، لا يدعك تنسى- ولو في مرحلة من مراحلها- ذلك المعنى الكلّي الذي ذكرناه، فهو يمزجها بما ليس منها من تهديد أو وعد ووعيد أو نصيحة ووعظ، تحقيقا للغرض الذي من أجله تساق القصة،
وحفظا للفكر أن يتشتت مع أجوائها وأحداثها فينسى مساقها الأصلي.
وهو حينما يشرح لك أحكاما في العبادات أو المعاملات أو غيرها، يسلك بك أيضا المنهج ذاته، فهو يحاذر أن تستغرق في التأمل بهذه الأحكام من حيث هي علم أو فن برأسه، كما قد يحصل مع من ينكبّ على دراسة هذه الأحكام في الكتب العلمية الخاصّة بها، فيوصلها بآيات ليست منها، فيها وعد أو وعيد أو حديث عن الآخرة أو دليل على وجود الله وعظمته، ليتنبّه الفكر، ويظلل مستيقظا للحقيقة الكلية الكبرى التي تطوف بها جميع المعاني الأبحاث.
ولو أن القرآن اتبع في عرض معانيه، هذا الذي يسلكه الناس في تآليفهم وبحوثهم، فأفرد فصولا خاصة لعرض الأحكام والتشريع، ثم ميّز فصلا آخر للقصص، وجاء بفصل ثالث في وصف المغيبات كالجنة والنار، وهكذا
…
-
نقول: لو درج القرآن على ذلك لفات تحقيق هذا الغرض الذي ذكرناه، ولما أمكن أن تكون هذه الفصول المتناثرة انعكاسا لمعنى كلي واحد تشترك كلها في بثّه والتوجيه إليه. ولئن أمكن أن يتذكر القارئ ذلك في تمهيد أو فصل من الفصول، فلسرعان ما ينساه عند ما يستغرق في قراءة أو دراسة الفصول الأخرى.
وإن هذا الذي نقول، ليس من الحقائق المستعصية أو الخافية على من يصدق التأمل والنظر في كتاب الله تعالى، ولكن في الناس من يقود عقله وراء غرض ما
…
فيمضي يصطنع مشكلة، وهو بعقله الحرّ يعلم أنها ليست بمشكلة، ولكن الغرض الذي يسعى إليه لا يدعه يحرّر عقله من الأسر فيمضي متوكلا على الشيطان ليزعم أن الأبيض أسود، والموجود معدوم والشمس مظلمة.
هؤلاء الناس هم محترفو الغزو الفكري من المبشرين والمستشرقين أولا، ثم هم أذنابهم وذيولهم الذين ينعقون بما لا يفقهون ثانيا.
وبعد، فهذه جملة خصائص الأسلوب القرآني، عرضناها عرضا سريعا، ابتغاء تصورها في إطار عام شامل. ولنا عود- إن شاء الله- بالتفصيل إلى كثير مما قد أجملناه
خلال البحوث التالية.