الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نظرة وتحليل
مقارنة بين الجيشين المسلم واليهودى:
إذا كانت معركة الأحزاب من وجهة النظر المصيرية هي أهم وأخطر معركة خاضها المسلمون في العهد النبوى .. لأن الغزو كان يستهدف الكيان الإِسلامي واقتلاعه من الجذور .. فاعتبر نجاح المسلمين في صد عدوان الأحزاب (بالنسبة لحماية الكيان من الانهيار) أعظم نصر يحققه المسلمون. لأن به رسخ الكيان الإِسلامي وضرب بجذوره بعيدًا في أعماق الوجود. بعد أن كان يهتز في مهب العاصفة مائلًا نحو العدم
…
إذا كان انتصار المسلمين في معركة الأحزاب هكذا كانت منزلته فإن انتصارهم على اليهود في معركة خيبر، هو (في حساب المقاييس الحربية) أعظم من أيّ انتصار حققه المسلمون في العهد النبوى.
فالمسلمون في معركة الأحزاب إذا كانوا قد انتصروا بعد العدوان. فإنهم فعلوا ذلك وهم يمتازون على ما كانوا عليه في معركة خيبر بما يلي:
1 -
كانوا يحتمون وراء خندق طويل واسع عميق. ومثل هذا الخندق الذي حُفِرَ في أهمّ الواقع الصالحة لعبور جيوش الأحزاب، يعتبر (بين خطط الدفاع الحربية) أكبر عامل من عوامل الصمود، وأخطر عائق يواجهه العدو ذو القوات الكثيفة الغامرة الذي وضع خطته على أساس
القيام بحرب خاطفة تقوم بها أكثرية ساحقة ضد قلة قليلة كما هي خطة قادة عدوان الأحزاب الثلاثى الفاشل .. فقد اعترف قادة جيوش الأحزاب أن أكبر سبب مادى أحبط خططهم لاحتلال المدينة هو الخندق الذي فوجئوا به حتى قالوا -هم يقفون على مشارفه مدهوشين-: "مكيدة والله ما كان العرب يعرفونها".
2 -
كانت قوات الأحزاب هي المهاجمة .. وكان المسلمون هم المدافعين .. وعادةً يكون المهاجم أكثر كُلْفة .. أما المدافع المتحصن فتكون كُلْفته أقل بكثير من كلفة المهاجم. حتى وإن كانت قواته أقل من قوات المهاجم .. هذا شيء معروف في حساب الموازين الحربية في كل عصر وزمان.
3 -
ومع كون الأحزاب هم المهاجمين فقد كانت نسبة قوات أعدائهم المسلمين المدافعين إلى قواتهم واحدًا لعشرة. بينما كانت نسبتهم إلى اليهود في خيبر واحدًا لخمسة عشر.
4 -
كانت قوات الأحزاب الغازية لفيفًا من الأعراب أكثر هم مرتزقة، ليسوا في مقام الدفاع عن النفس والأهل والولد. كما أنه ليس لهم باعث عقائدى حتى يستبسلوا في القتال. وإنما جاؤوا وشاركوا في هذا الغزو ليحصلوا على المغنم دون أن يتعرَّضوا لأى مغنم يذكر. لذلك رأوا أن ما سيحصلون عليه من غنائم - فيما لو اقتحموا الخندق عنوةً واحتلوا المدينة - لن يساوى شيئًا بالنسبة لما سيفقدون من القتلى بسيوف المسلمين على مشارف الخندق قبل أن يقتحموه. تقاعسوا عن الهجوم على المدينة واكتفوا من الغنيمة بالإِياب.
5 -
أمَّا المسلمون الذين يربضون وراء الخندق. فقد كانوا في قتالهم ينطلقون من مفهوم عقائدى، وهو ما يسمَّى بلغة هذا العصر (بالأيديولوجية) .. فقد كانوا يدافعون (بالإضافة إلى الدفاع عن الحرمات والأعراض والأموال والأرواح) عن كيان وليد .. قيامه وبقاؤه، أعزّ عليهم (في قرارة أنفسهم) من أرواحهم وأبنائهم وأموالهم وهو كيان الإِسلام .. ولذلك (مع احتمائهم بالخندق الحصين) قاتلوا الغزاة بشراسة
وضراوة أبطلت عامل التفوّق العددى الذي كانت قوات الأحزاب تمتاز به.
أمَّا الحالة في معركة خيبر فقد كانت عكسًا، حيث لم يكن هناك (من وجهة النظر العسكرية المجرّدة) أي عامل مادى يتفوق به المسلمون على اليهود. بل كان يبدو واضحًا أن اليهود في خيبر كانوا في وضع حربى ممتاز، يمكن القول معه - وحسب المقاييس العسكرية المادية المجرّدة - أن لديهم كل العوامل والأسباب التي يحتاجونها للانتصار على المسلمين. وأهم هذه العوامل والأسباب هي:
1 -
التفوّق العددى .. فقد كان عدد قوات اليهود عشرة آلاف مقاتل، يساندهم حوالي خمسة آلاف من حلفائهم غطفان ظلوا لهم كالاحتياطى ضد المسلمين حتى انتهت معركة خيبر، بل وحاولوا ضرب المسلمين من الخلف لحساب حلفائهم اليهود.
2 -
إزاء هذا العدد الهائل، كانت قوات المسلمين لا تزيد على ألف وأربعمائة مقاتل .. وهذا يعني أن نسبة المسلمين لليهود وحلفائهم في هذه المعركة، أحد لخمسة عشر. وهو تفوّق عددى هائل لا يشك عسكرى خبير- يتوقع نتائج المعارك حسب المقاييس المعتادة - في أن الانتصار الحاسم سيكون لليهود على المسلمين.
3 -
التفوّق الساحق في العتاد والسلاح .. فقد كان اليهود مع كثرتهم العددية الغامرة يتفوقون على المسلمين في ذلك تفوّقًا ساحقًا. حيث كان اليهود على غاية من جودة التسليح واستكمال عدة الحرب الدفاعية والهجومية .. وذلك لما تحت أيديهم من ثروات هائلة تمكنّهم من الحصول على أي نوج من أنواع السلاح والعتاد.
4 -
الاستراتيجية المتازة التي كان يتمتع بها المحارب اليهودى في خيبر .. فقد كان اليهود - مع تفوّقهم العددى الساحق - ووفرة العتاد لديهم وجودة التسليح بينهم - متحصنين داخل حصون وقلاع كبيرة منيعة، بنيت على قمم جبال وتلال حسب تحطيط حربى مدروس، بحيث يكاد يكون من المستحيل الإِقدام على مهاجمتها فضلًا عن اقتحامها وافتتاحها لأن هذه
القلاع والحصون تقع في مرتفعات عالية وبها أبراج يكشف المرابطون فيها كلّ ما حواليها ويتمكنون بسهولة من أن يصبّوا سهامهم القاتلة على كل من يقترب منها.
5 -
وفرة المواد الغذائية .. فقد خزن اليهود في قلاعهم وحصونهم (استعدادًا للقتال) كميات هائلة من المواد الغذائية المختلفة، تكفى تموينهم عدة سنوات، كما دلّ على ذلك إحصاء الغنائم التي غنمها المسلمون عند استيلائهم على هذه الحصون والقلاع. أما الماء فقد كان متوفرًا في جميع الحصون والقلاع بصفة دائمة، الأمر الذي يمكنهم من الاستمرار في القتال سنوات عديدة.
6 -
الشجاعة .. كان يهود خيبر (وهذا يعترف لهم به التاريخ) أشجع يهود الجزيرة العربية على الإِطلاق .. فلم تكن الشجاعة تنقصهم وهم يحاربون المسلمين .. أثبت ذلك سير المعارك الضارية التى خاضوها وهم يدافعون عن حصونهم وقلاعهم حيث يمكن القول: أنهم لم يتخلّوا للمسلمين عن حصن أو قلعة إلا بعد أن دافعوا دفاعًا شرسًا عن كل شبر نها .. وخاصة قلاع وحصون الشطر الأول من مدينة خيبر .. ولا أدلَّ على هذه الحقيقة من أن جميع قادتهم - مثل مرحب وياسر وأسير والحارث وعامر - قتلوا وبأيديهم السيوف في ساحة الوغى.
7 -
الدفاع عن الدين .. كان لليهود دين عريق في القدم .. وهو وإن كان دينًا مدخولًا أصابه الشيء الكثير من التحريف والتبديل .. إلا أنهم ظلّوا متمسكين به ومتعصبّين له إلى درجة أنهم يفضّلون التضحية بكل شيء على التخلى عنه ومفارقته .. وتعصب اليهود الشديد لدينهم، يؤكده واقعهم المشهود في كل عمر وزمان .. وزاد اليهود تعصبًا لدينهم أنه دين عنصرى يعتبر بني إسرائيل وحدهم شعب الله المختار. وهو أمر يجعلهم لا يحتملون وجود أي دين إلى جانب دينهم.
فيهود خيبر إذن لهم عقيدة يتعصبون لها أشد التعصب .. وانطلاق المحارب من مفهوم عميدة راسخة (حتى وإن كانت غير صحيحة) يجعله شديد العناد والضراوة في قتاله، وخاصة إذا توهّم أن خطرًا يهدد دينه
وعقيدته .. وهذا هو الذي فعله محاربو اليهود في خيبر.
8 -
عامل الحفاظ على المال والزوجة والولد والجاه والسلطان .. فقد كان يهود خيبر يقاتلون وبينهم نساؤهم وأطفالهم وهم أعز ما يحافظ عليه الإِنسان .. كذلك كان اليهود ذوي ثروات طائلة وأموال عظيمة منقولة وغير منقولة .. كما أنهم ذوي عزة وسلطان مطلقين في منطقة خيبر لا ينازعهم فيها منازع .. وكل هذه الأمور العزيزة لديهم يعلمون حق العلم أنهم (بموجب شرعة الحرب العمول بها عالميًا في ذلك العصر) سيفقدونها إذا ما تغلَّب عليهم المسلمون واحتلوا مدينتهم .. لهذا كان من البدهى أن يكون قتال اليهود (تحت تأثير عوامل الحفاظ على كل هذه الأمور) قتالًا عنيدًا شرسًا لا هوادة فيه ولا تساهل .. وهو أمر يجعل وجعل (بالفعل) مهمة المسلمين المهاجمين شاقة إلى أبعد الحدود حيث واجه الجيش الإِسلامي من يهود خيبر نوعًا من القتال لم يشهد مثله في الضراوة والشراسة في أية معركة خاضها مع الأعداء في العهد النبوى، اللهم إلا معركة حنين.
9 -
كان الجيش الإِسلامي هو المهاجم .. وكان الجيش اليهودى هو الدافع. ومن المعلوم (عسكريًا) أن مهمة المهاجم هي أشق من مهمة الدافع. كما يتوجب - بدهيًا - على من يريد القيام بهجوم في حرب شاملة أن تكون قواته أكثر عددًا من قوات عدوه. وإذا علمنا أن اليهود يتحصنون خلف أسوار وأبراج وحصون وقلاع منيعة وأن عددهم عشرة آلاف مقاتل وأن عدد المسلمين المهاجمين لا يزيد على ألف وأربعمائة مقاتل أدركنا مدى الصعوبة العظيمة التي واجهها الجيش الإِسلامي وهو يهاجم اليهود في حصونهم وقلاعهم.
وأمام كل هذا التفوق الشامل لدى اليهود في العدد والعتاد والسلاح والاستراتيجية والتمتع بالمواقع الدفاعية الحصينة الممتازة. وتوفر كل العوامل المادية التي يحتاجونها لتحقيق النصر على المسلمين. كان المسلمون ينقصهم كل شيء مادى.
فقد كان الجيش الإِسلامي - بالإِضافة إلى قلة عدده - ليس لديه أية أسلحة وقائية كبيرة كالدروع الضخمة، وهي صفائح كبيرة من الحديد تبلغ عدة أمتار وتسمى في ذلك العصر بـ (الدبابات) لأن الجنود يحتمون بها ويدبون خلفها وهم يهاجمون القلاع والحصون.
بل إن أغلبية الجيش النبوى ليس لديهم الدروع العادية التي يلبسها المحارب العادى ساعة القتال حيث كان أكثرهم حاسرًا. وكانوا مع ذلك يقومون بالهجوم وهم مكشوفون أمام حصون اليهود وقلاعهما.
كذلك ليس لدى الجيش النبوى الصغير أي شيء من الأسلحة التدميرية الثقيلة التي لا بد من توفّرها لدى من يريد مهاجمة مثل حصون اليهود في خيبر .. كالمنجنيقات القاذفات بالنار والراجمات بما يخرّب الحصون. وهي أسلحة معروفة في ذلك العصر وخاصة لدى الرومان والفرس. وكان لدى اليهود أنفسهم كميات منها استولى عليها الجيش الإِسلامي، ثم استخدموها لضرب بعض الحصون التي كانت آخر ما فتح في خيبر.
وهكذا فقد كان كل شيء (حسب المقاييس المادية والتقديرات العسكرية المجرّدة) يشير إلى أن يهود خيبر سيتمكنون - بكل سهولة - من دحر المسلمين والتغلب عليهم، عندما يقومون بالهجوم.
لأن كل الأسباب والوسائل المادية وغير المادية التي يحتاجها المحارب أحصسب النصر كانت متوفرة (تمامًا) لدى هؤلاء اليهود.
ولكن الذي حدث هو العكس وهو انتصار المسلمين القلة القليلة التي ينقصها كل شيء مادى علي الكثرة اليهودية الغامرة التي توفرت لديها كل الإِمكانات المادية لكسب النصر.
فكان ذلك مفاجأة مذهلة أبطلت المقاييس العسكرية التقليدية. وأثبتت (عمليًّا) أن القوة الحربية (مهما عظمت) ليست وحدها كافية لسب الصر في المعارك.
كما أثبتت انتصار المسلمين على اليهود في خيبر أن النقص في السلاح والعتاد، والقلة في عدد الرجال لا يكونان - دائما وفي كل الأحوال -