الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النصر للمسلمين تلمع في الأفق، وبدأت الصفوة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ترى وعد الله لها بالنصر يظهر جليًّا في صور شتى وهو يكاد يتجسد، فقويت نفوسهم (وهي القوية أصلًا) وازدادوا عزمًا على عزم، وصار لديهم اليقين الذي لا يخالطه أي شك أن قوات أعدائهم المحيطة بهم من جانب والتي لا تقل عن خمسة عشر ألف مقاتل لا تلبث أن يهزمها الله وينزل الرعب في قلوبها فتنداح أمامهم ساعة الروع كما ينداح الورق اليابس أمام العاصفةِ في فصل الخريف.
غطفان ترجع هاربة إلى بلادها قبل نشوب القتال:
لقد جاء في الحديث النبوى الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نُصِرتُ بالرعب".
وهذا هو الذي حدث بالفعل للقوات الرئيسية من قبائل غطفان وهي القوات انتى بلغت أربعة آلاف مقاتل، وخرجت من ديارهم تسير خلف المسلمين وهم سائرون إلى خيبر وتتعقبهم قاطعة عليهم خط الرجعة ومقررة الهجوم عليهم من الخلف لإرباكهم وجعلهم بينها وبين حلفائها من يهود خيبر الهدف الرئيسى لتحركات الجيش النبوى.
فقد ذكر المؤرخون أن هذه القوات النجدية الوثنية الضاربة بينما كانت تتحرك في إثر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لتضربهم من الخلف لحساب يهود خيبر حلفائها إذا بقادة هذه القوات يسمعون صريخ من خلفهم يصيح فيهم منذرًا إياهم بأن كتائب من المسلمين قد خلفوهم وأغاروا على ديارهم ومضاربهم وأنهم على وشك استياق أموالهم وسبى نسائهم وذراريهم.
قال ابن إسحاق: بلغني أن غطفان لما سمعت بمنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر جمعوا له، ثم خرجوا، ليظاهروا (1) يهود عليه، حتى إذا ساروا منقلة (أي مرحلة) سمعوا خلفهم في أموالهم، ظنوا أن القوم (أي المسلمين) قد خالفوا إليهم، فرجعوا على أعقابهم، فأقاموا في أهليهم وأموالهم، وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر (2). كما سمع الذين مع
(1) ظاهر عليه، أعان عليه.
(2)
سيرة ابن هشام ج 2 ص 330.
اليهود في حصونهم صوت نفس الصائح فانسحبوا وتركوا اليهود وحدهم.
وأعطى الإمام الواقدي تفصيلات أوسع عن هذه القصة فقال: (بعد أن ذكر كيف رفض عيينة بن حصن قائد غطفان العرض الذي بموجبه تعهد النبي صلى الله عليه وسلم إعطاءهم تمر خيبر لسنة إن هم خلّوا بينه وبين اليهود): إن غطفان سمعوا صائحًا يصيح لا يدرون من السماء أو من الأرض: يا معشر غظفان أهلكم أهلكم، الغوث، الغوث بحيفاء -صيحَ ثلاث مراث- لا تربة ولا مال، قال: فخرجت غطفان على الصعب والذلول، وكان أمرًا صنعه الله عز وجل لنبيه. فلما أصبحوا أُخبر كنانة بن أبي الحقيق (سيد خيبر) وهو في الكتيبة (1) بانصرافهم فسُقِطَ في يديه، وذل، وأيقن بالهلكة وقال: كنا من هؤلاء الأعراب في باطل، إنَّا سرنا فيهم فوعدونا النصر وغرونا، ولعمرى لولا ما وعدونا من نصرهم ما نابذنا محمدًا بالحرب، ولم نحفظ كلام سلام بن أبي الحقيق (2) إذ قال: لا تستنصروا بهؤلاء الأعراب (يعني غطفان) أبدًا، فإنا قد بلوناهم، وجلباهم لنصر بني قريظة ثم غروهم. فلم نر عندهم وفاء لنا، وقد سار فيهم حُييّ بن أخطب وجعلوا يطلبون الصلح من محمد، ثم زحف محمد إلى بني قريظة وانكشفت غطفان راجعة إلى أهلها (3).
ثم يستمر الواقدي في سرد قصة انسحاب غطفان مرعوبين فيقول: فلما انتهى الغطفانيون إلى أهلهم بحيفاء وجدوا أهلهم على حالهم فقالوا: هل راعكم شيء؟ قالوا: لا والله، فقالوا (أي أهلهم): لقد ظننا أنكم قد غنمتم، فما نرى معكم غنيمة ولا خيرًا! ! فقال عيينة بن حصن لأصحابه: هذا والله من مكائد محمد وأصحابه، خدعنا والله! فقال له الحارث بن عوف المرّى (4): بأي شيء؟ قال عيينة: إنا في حصن النطاة
(1) الكتيبة: منطقة في خيبر بها حصون لهم.
(2)
سلام بن أبي الحقيق هو أبو رافع اليهودى ملك خيبر الذي قتله الفدائيون المسلمون الخمسة قبل غزوة خيبر كما تقدم.
(3)
مغازى الواقدي ج 2 ص 651.
(4)
كان الحارث هذا قائد أحد الأجنحة الأربعة في حرب الأحزاب ضد المسلمين عام 4 من الهجرة.
بعد هدْأة (الهَدْأة أول الليل) إذ سمعنا صائحًا يصيح، لا ندرى من السماء أو من الأرض: أهليكم أهليكم بحيفاء -صيح ثلاثة- فلا تربة ولا مال، فقال الحارث بن عوف: يا عيينة والله لقد غَبِرت (أي بقيت) إن انتفعت. والله إن الذي سمعت لمن السماء، والله ليظهرنّ محمد على من ناوأه حتى لو ناوأته الجبال لأدرك منها ما أراد. فأقام عيينة أيامًا في أهله ثم دعا أصحابه للخروج إلى نصر اليهود، فجاءه الحارث بن عوف فقال: يا عيينة أطعنى وأقم في منزلك ودع نصر اليهود، مع أنى لا أراك ترجع إلى خيبر إلا وقد فتحها محمد، ولا آمن عليك.
فأبى عيينة أن يقبل قوله وقال: (لا أسلم حلفائى لشئ)(1). ثم تحرك عيينة بمن أطاعه من غطفان محاولًا إمداد يهود خيبر ومساندتهم ضد المسلمين، إلا أنه لم يصل خيبر حتى وجد النبي صلى الله عليه وسلم قد استولى عليها كلها كما سيأتي تفصيله إن شاء الله.
(1) مغازى الواقدي ج 2 ص 652.